الأربعاء، 24 أغسطس 2011

زعامة الطائفة: من الزبائنية الأهلية إلى الزبائنية الإقليمية والدولية

كان تشكُّلّ الدولة اللبنانية حصيلة لسياقين تاريخيين هما:

1ـ انهيار الأمبراطورية العثمانية التي اعتمدت في تحصيل مواردها المالية والعسكرية من الولايات على تلزيم اقتطاع الريوع الزراعية والتجنيد للأقدر بين أمراء الملة السنية. وغالباً ما كان يجر هذا التمييز للأقدر بين الملل وزعاماتها قهراً كامناً لدى الملل الأقلوية الأخرى تتقبله مستترة بالمألوف السياسي والفقهي لدولة الخلافة العثمانية إلى أن تبلور الحضور السياسي للدول الأوروبية الضاربة في فرض الشراكة معها في تأسيس الكيان منذ ما يزيد على قرن ونصف.
2ـ توافق فرنسا وانكلترا، أو دولتي الاستعمار الحديث المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى، على توزيع الولايات في المشرق العربي على كيانات انتدبتا عليها لتؤسسا فيها دولاً تضمن الإدارة السياسية المحدثة فيها وفق تشريعات مقتبسة، الهيمنة المتوارثة للرساميل الثقافية التقليدية لدى عوام الطوائف، ولا سيما المحمدية منها، المنفعلة على ثقافة الغرب، هذا الغرب الذي ظل يمثل لها تحدياً في حضارتيه المسيحية والعلمانية وكانت القيادات السياسية والدينية في الجماعات الطائفية غير المحظية في زمن الإمبراطورية العثمانية هي الأكثر تحفزاً، على الصعيدين الإيديولوجي والسياسي، للالتزام بالإدارة التوافقية للكيان اللبناني وفق نظام سياسي تعددي يعترف ميثاقه التأسيسي لكل طائفة بموقع زعامتها ونخبها بما يتناسب وحضورها الكمي و/أو النوعي في إدارة السلطة والأسواق، وبما يتيح للزعامات ونخب التجار استمرار امتيازاتها في أدوارتفرضها التبعية السياسية والوساطة التجارية التي تؤديها على الصعيد الإقليمي.

الحداثة في الوساطة والتقليد في السياسة

لقد ترسخت هذه الادوار بفعل ما أُتيح من فرص تعليم متطور وفرتها لأبناء الفئات العليا والمتوسطة إرساليات أجنبية ذات نزعات مركانتيلية. هذه الفئات المعروفة بحرصها على حصر استثماراتها العائلية في تعليم ابنائها تعزيزاً لتركاتها وتحصيناً لرساميلها الثقافية المحافظة. وقد ربطت صيانة رساميلها الطبقية المميزة بما توارثته في محيطاتها الطائفية من شبكات العلاقات الزبائنية الملائمة لممارسة مهنها الحرة داخل جماعاتها المحلية. وكان من الطبيعي أن تسود في أوساط تلك النخب الغنية قيم وأنماط عيش متغربة على أصعدة الاستهلاك والميول النفسية ـ الثقافية تمييزاً لموقعها الطبقي داخل طوائفها.

واللافت في سلوكيات هذه النخب المُهجّنة ثقافياً كان مراسُها في ربطها اليومي بين اعتماد القوانين الليبرالية الموصلة الى السلطة والى المحافظة على امتيازاتها في الحكم والعيش من جهة وبين استمرار تبنيها للمفاهيم والقيم التقليدية المحافظة وحرصها على التعامل مع عوامها من خلال أهل الجاه الممسكين بالسلطة المحلية والمتوزعين عادة في تحزبات وولاءات متوارثة في الحواضر والارياف للزعامات السياسية المتواجهة داخل الطوائف والمناطق من جهة ثانية.

وهكذا تُشكل الزبائنية في العلاقات السلطوية داخل الجماعات المحلية الطائفية في المناطق اللبنانية نظاماً يضمن استمرار تبعية الزعامة السياسية في كل طائفة إلى دولة عربية أو أجنبية تُدخل لبنان في استراتيجيتها الإقليمية. وتعمل كل من الدول الحليفة خارج لبنان على تعزيز تبعية الزعماء المتحالفين معها في الداخل من خلال الدعم السياسي والإعلامي والمالي وحتى العسكري بغية تمكينهم من فرض أنفسهم في محاصصة الحكم وتوزيع الدخل والخدمات بغية تحصين حضورهم في الإدارة الزبائنية لقواعد طوائفهم والعكس بالعكس.
التمّيز و التمييز في الكيان التعدُّدي

شكل التعدد الطائفي في تكوين الكيان اللبناني وما نجم عنه من تعدد في المناهج المتطورة للتعليم الإرسالي والخاص الجامعي وغير الجامعي شرطين ملائمين للنمو الاقتصادي والثقافي الذي تميّزت بـه الليبرالية اللبنانية السياسية والاقتصادية المفرطة في المشرق العربي. وقد ساهم هذان الشرطان، منذ مطلع الخمسينيات، في توفير جذب الخبرات والاستثمارات إلى الأسواق اللبنانية الهاربة من الأنظمة العربية المشرقية المتوترة سواء بفعل مواجهاتها مع إسرائيل أو المتعثرة بفعل توجهاتها الاقتصادية المدولنة.

ساهمت الموارد والظروف الإقليمية المتوترة في تعزيز الأدوار اللبنانية والإقليمية في مجالات الاقتصاد والسياسة والإعلام وفي تحقق الازدهار الملحوظ خلال الربع الثالث من القرن العشرين. وكان هذا التفاوت المفرط في توزع الازدهار الاقتصادي بين منطقة لبنان الأوسط (بيروت + قسم كبير من جبل لبنان + زحلة) وبين المناطق والأرياف اللبنانية البعيدة عن العاصمة قد بلغ في دراسة بعثة (IRFED) عام 1960 ـ 1961 (1) مؤشرات كانت بمثابة إنذارات مبكرة.

لقد شكل هذا التفاوت في النمو بين المناطق محركاً لوعي إصلاحي اجتماعي ـ اقتصادي لا طائفي للاختلالات التي رسختها الليبرالية المفرطة بين المناطق يختلف عن الوعي الطائفي الزائف لهذه الاختلالات. هذا الوعي الذي ظلّ يختزل أسباب الاختلالات بتفاوت حصص الطوائف في الحكم والقرار وخدمات الإدارة الحكومية. وقد نجحت الزعامات الطائفية الإسلامية في تكريس هيمنة هذا الوعي الطائفي على الوعي الإصلاحي بسبب قصور القيادات اليسارية وارتهاناتها المتفاوته للزعامات الإسلامية المعارضة والحلفاء خارجيين ودوليين وإقليميين.

التـأزم الداخـلي والتأزيم الخارجي لنظام الوساطة

لقد أتاح بلوغ التأزم داخل النظام بين القوى السياسية المحافظة داخل اقتصاد الوساطة الخدماتية من جهة وبين القوى السياسية التي مالت الى تطييف الإصلاح بفعل رجحان وعيها الإيديولوجي الطائفي من جهة أخرى، فرصاً واسعة أمام تدخل أطراف إقليمية متواجهة في الصراع العربي الإسرائيلي: فوجد بعض هذه الأطراف القوموية ( الفلسطينية، السورية وغيرها) استعداداً نفسياً ـ سياسياً وعسكرياً لدى القوى الإصلاحية واليسارية في المناطق الإسلامية للتحالف معها في مواجهة تحالف مضاد بين بعض الأطراف العربية المحافظة التي وجدت لدى بعض القوى الكنسية والسياسية المحافظة في المناطق المسيحية في المقابل استعداداً نفسياً ـ سياسياً وعسكرياً لحسم التناقض السياسي الداخلي ـ الخارجي الذي استحكم في تأزم النظام وشرّع الابواب امام تدخلات الأطراف الدولية والإقليمية كافة. لقد تدرجت هذه التدخلات إلى حد العدوان الإسرائيلي الذي وصل إلى بيروت ثم انكفأ إلى احتلال الجنوب طيلة 24 سنة مقابل تدخلات أخرى تدرجت إلى حد الشرعنة الدولية والعربية والقبول الإسرائيلي للدخول السوري الذي استمر يتحكم بإدارة الحكم في البلاد قرابة 3 عقود.

لقد فرضت الأطراف الخارجية المؤثرة داخل الطوائف وبينها حصر تحالفاتها وتوكيلاتها السياسية في المواجهات اللبنانية بين زعماء تقليديين أو قادة سابقين لميليشيات طائفية. وهذا ما عزّز الولاءات الزبائنية لهم بعد الحرب عبر مفاتيحهم على حساب الولاء المدني للدولة. وأدى هذا التوسع في حضور الأطراف الخارجية إلى انتقال العصبيات من واقع التعدد في زعامتها ذات القدرات والنفوذ المحلي المحدودين إلى واقع يغلب فيه شبه التفرد في الزعامة بقدرات وإمدادات خارجية ظرفية لا حدود لها. وبهذا ظلّت وتظل السلطة في لبنان سلطة تقليدية متوارثة زمنياً في بيوتاتها الطائفية أو متجددة في قيادة ميليشياتها وفي من تتوفر فيهم خاصة المزايا الكاريزماتية.

إنها السلطة التي حال ويحول منطق الزبائنية في أدائها الداخلي ومنطق التبعية في أدائها الخارجي دون التحول إلى ما سمّي في أوروبا بـ«دولة الأمة» ودون التدرج الذي أشار إليه ماكس قيبر في الانتقال التاريخي من السلطة التقليدية إلى السلطة الشرعية في الدول القومية الرأسمالية الصناعية ، أي الانتقال إلى سيادة الدولة المتجردة التشريعية التي تفوق السلطات الدينية.

ويجدر التذكير هنا بأن نموذج هذه الدولة يقوم على التمثيل البرلماني الذي تحد مجالس الشيوخ ومؤسسات المجالس الاقتصادية والمجالس الدستورية والمحاكم العليا من شطط الأكثريات البرلمانية في التشريع والمراقبة بفعل ظروف انتخابها التي تتحكم فيها أحياناً كثيرة وفي البلدان الغنية حملات إعلامية فاعلة في تعبئة جماهير الناخبين وتوجيهها. فإلى أي حدود يصل تحكمها وتوجيهها في بلد يتوسع فيه الفقر (2) وتتنصل فيه الدولة عن مسؤوليات التشريع للإفقار تاركة الزرّاع والصنّاع والأجيال الطموحة للبطالة او الهجرة.
المغالاة المتبادلة في تطييف البيئة

كما ويلاحظ في السلطات الأهلية القائمة في الطوائف غير المسيحية على عصبية الاعتقاد الديني أو التمذهب أن القيادات التقليدية الوارثة أو المستجدة المعتمدة حصرياً من الخارج تميل، بوعي أو بدون وعي، إلى تعظيم أدائها ومهابتها . وتسعى دائما إلى تجسيد روح الطائفة نائية في خطابها التعبوي الوحداني عن منطق التسوية والمساومة التعددي السائد في ثقافة التعددية المدنية. هذا المنطق الذي يخلخل العصبيات المتعنصرة أحياناً كثيرة في تمذهبها. هذا التمذهب الذي لا يقتصر فقط على المغالاة في معتقداتها وفي الأداء الصاخب لشعائرها بل يصل إلى حد مذهبة البيئة وشوارع المدن والضواحي حيث تحرص الفروع الحزبية المحلية وتجار الأحياء ومفاتيح السلطة الأهلية فيها على إعلان المبايعات في يافطات وجداريات تُذيّل بتواقيع صحيحة أو وهمية يرفعها المنتفعون من الأتباع أو التجار المنتفعين بمهابة الزعماء النافذين وخدماتهم. انه الإعلان الذي لا يُخفي تحدي جماهير العصبيات الطائفية الأخرى وهو يصادر بل يغتصب المجال العام والساحات العامة في داخل المدن والبلاد بتشجيع من المجالس البلدية المتواطئة وذلك للمجاهرة بولاءات يُعجب كل لبناني متوازن نفسياً وكل قادم الى لبنان كيف لا يمقتها الزعماء المبجلون فيها وهي تحطُّ احياناً كثيرة ممن يُباهون به من إنجازاتهم وبطولاتهم؟

إن بروز الإيحاءات الاستفزازية في إعلان الولاءات من قبل الفروع الحزبية لزعمائها في مختلف المناطق اللبنانية لا يعني غير الميل إلى القطع مع أخلاق الجيرة والجوار ومع ما يُسمى بـ »العيش المشترك«. وإن الخطاب التعبوي الذي يغتصب المناسبات الدينية والاجتماعية للجماعات المحلية ويُذاع أحياناً على مدار ساعات في الليل والنهار في تلفزيونات الفضائيات لا يقلّ استفزازاً ومقتاً عن اليافطات والجداريات المبجّلة. وهو خطاب وحداني لا يكلف الدعاة من أصحابه عناء تجاوز بداهاتهم العصبوية فلا يضيفون، والحال هذه، على إيمان المؤمنين بهم إلاّ المزيد من التذاكي الإعلامي في استخباث نوايا أقرانهم السياسيين الآخرين في الجماعات الأخرى، ومن الإحباط حيال مقولة العيش المشترك في مفهوم الزعامات الطائفية المتوافقة على تحاصص السلطة والثروة وخدمات الإدارة.

1ـ انظر تقرير بعثة إيرفد 1960 _ ,1961 الجزء الثاني، صفحة 77 . حيث نقرأ أن» 5 ؟ فقط من الوحدات الريفية في لبنان الأوسط وحدات غير نامية أو متدنية النمو مقابل 35 ؟ من الوحدات في محافظة البقاع. وأن 70 ؟ من الوحدات الريفية في لبنان الأوسط هي وحدات نامية أو تشــهد إقلاعــاً في النمــو مقابل 23 ؟ من الوحدات الريفية في محافظة الشمال«.

2ـ راجع « الوضــع الاجتماعي الاقتصادي في لبنان واقع وآفــاق» الصــادر عام 2004 عن وزارة الشــؤون الاجتــماعية وبرنامــج الأمم المتحدة الإنمــائي في بيروت. حيــث ورد نص حول الفقر المتوسع في تدهور متوســط مداخيل الأسر منذ صدور دراسة بعثة إيرفد عام 1961 في منطقة بيروت الكبرى على سبيل المثال التي كان يعيش فيها عام 1997 حوالى 3/1 سكان لبنان وورد في النص المشار اليه انه » لدى القيام بتحويل أرقام المداخيل لعام 1966 واستناداً إلى تطور مؤشر أسعار الاستهلاك خلال الحقبة الممتدة بين عامي 1966 و1997 تبين أن دخل الأسر بالأسعار الثابتة قد انخفض عام 1997 في حدود 62 ؟ عمّا كان عليه عام .1966 علماً أن لهذه النتيجة دلالة نوعية وتأشيرية بغض النظر عن دقة الرقم نفسه«.

أحمد بعلبكي - جريدة السفير – لبنان – 15/10/2007

0 تعليقات::

إرسال تعليق