الأربعاء، 24 أغسطس 2011

اللبـنانيـون وخطـاب الحـرب: غيـاب السياسـة وحضـور الشتيمـة

يفترض فاعلو السياسة اللبنانية والمنفعلون بها، أن حملات التحريض والتعبئة المتبادلة. تقع على الخصم مقتلا واقتناصا من صفوفه، ويكاد انتظار المتغيرات والمتحولات في حشود المتنازعين والمتصارعين، يقارب استدرار الماء من سراب الصحراء، ولا أحد يدري لغاية اللحظة والآن، ما السر الكامن وراء قناعة «أهل القمة» بإمكانية إحداث خروقات أو اختراقات في هذا الاصطفاف المليوني أو ذاك.
بعد سنوات ثلاث من خروج اللبنانيين عن جادة السلم الأهلي (دَعكَ من زخارف القول ومحاسنه) ونزولهم إلى حرب غير تقليدية، يستمر «علية القوم» ومَن تحتهم من حواش و«آذان صاغية»، في استعمال مختلف أنواع الأسلحة اللغوية، وبصورة يغدو معها الجمهور مثقلا بفائض الغرائز والعصبيات والأحقاد، فلا يجد (الجمهور) سوى الشارع ملاذا لخفض منسوب شحن النفوس وشحذ الهمم، وربما يغيب عن بال القادة المتنازعين والمتنابذين. إن خطابا من هنا، يرفع وتيرة الكراهية تجاه الطرف الآخر، في حين أن الخطاب نفسه، يرفع حدة الحقد في الطرف المقابل، وبمعنى أكثر وضوحا، فإن خطابا لأي من الطرفين، له خاصية مزدوجة، إذ يوسع القاعدة الشعبية للخطيب بين جمهوره ويملأها كراهية، وفي المقابل، يوسع الخطاب نفسه جمهور الخصم ويدفعه نحو مزيد من الحقد المستطير.

وعلى ما تقدم، ليس من السهولة على الإطلاق، اصطياد الطرائد المذهبية في لبنان في هذه الآونة. وفي حال حدث ذلك، فالأمر لا يخرج عن دائرة الأفراد الذين لا يغنون ولا يسمنون من جوع، ذلك أن انقطاع السياسة وضمورها واضمحلالها في الخطاب السائد، أفسح المجال لعاملين:

1ـ لغة الشتيمة.

2ـ ثقافة الشارع.

في لغة الشتيمة، لا يبقى للتأمل والتعقل والتفكر مكان. فالكل هنا، تأخذه رياح السموم نحو قاع اللغة. حتى يصار إلى استحضار الحجم الأوسع والأضخم من مفردات البذاءة لرمي الطرف الآخر بها، ولذلك يكاد من المستحيل أن يقف المرء راهنا، أمام قول سياسي مأثور، ينطق به أحد عباقرة السياسة في خطاب أو موقف، وكذلك، قد يكون مسا من خيال، أن ينتظر اللبنانيون حكمة من «فيلسوف سياسي» محلي في هذه الأيام البهيمة، وبالطبع، قد يكون صرحا من رمال، إذا انتظر مساكين هذا الوطن المنكوب. قولا يهذب النفس ويؤدب الروح ويهدئ الشياطين المتناطحة للتناحر بين «جماهير» السلم الأهلي.

وفي هذه اللغة أيضا، أي لغة الشتيمة، يتم استدعاء الشعر ليس بوصفه شعرا وجنسا من أجناس علم الجمال، بل بوصفه بوقا، لاذعا، ودعوة للخراب، وهذا ما يمكن سحبه على فيض الاستعانة بالأمثلة الشعبية المجردة بالأساس من التنازع السياسي، ليصار إلى تحويلها سهاما ونبالا، مع الإصرار على اختيار الأكثر قرفا من هذه الأمثلة، وليغدو القرف مشهدا لبنانيا عاما.

وفي ظل هذه اللغة، يضمر تماما احتمال التأثير الإيجابي بالآخر، إذ أن الطريقة المفترضة، تصيبها شظايا الشتيمة في «أناها»، حين يكون رمزها مستهدفا، فسيصبح «طوفانها» حول الرمز، أكثر اندفاعا مما قبل الشتيمة، ولعل كل هذا، ما يفسر كل تلك الاحتشادات اللبنانية، وتلك الاحتقانات، فهتك الرموز بالتشاتم أيقظ «النوائم» من العصبيات والحساسيات، ومع ذلك، يغالب الظن أهل السياسة، بأن شتائمهم تصيب جمهور أخصامهم بالنضوب، وما عادوا يدركون أن الأمر بات صولة وجولة بين الملل والنحل. وأما العامل الثاني، أي ثقافة الشارع، فالطامة الكبرى، تكمن في الاختلاط المريع بين القمة والقاع، فالقمة المفترض أن ترفع الشارع نحوها، أنزلها نحوه؟ وبدلا من أن ينطوي خطاب أهل القمة على رفعة ومقام وشأن وشأو، بدت استعارة ثقافة «الزاروب» و«الزقاق» منيرة لأصحاب المنابر، والكارثة، إنه كلما تدحرج أهل القمة إلى القاع، صار القاع بلا قاع، وبذلك، تحولت ألفاظ من مثل «الدعوسة» و«الكرسحة»، و«الهروسة» و«الهيجان» و«الأخضر واليابس»، إلى ألفاظ سائدة وشائعة في الوسط السياسي، يتداولها «المثقف العضوي» و«بواب» البناية، ولا أحد يعلم إذا ما دارت الأيام واستمرت على دورانها اللبناني، أن يتبادل الطرفان، الأدوار والوظائف!!!

إذاً، وفي خضم شيوع ثقافة الشارع، أي رهان يبقى على تحولات ومتحولات؟ إنه رهان (حديث) خرافة، فللشارع وسائله التعبوية الخاصة. يتغذى من عصبيته، ويتعيش من مصله. وليس بالضرورة، أن يركن دائما لدعوات قيادييه، فامتلاؤه العصبوي يفرخ حراكا في الشارع (اسمه شارع) وثقافته (ماذا؟!) لا تقوم على حساب، ولا تلوي على احتمال وإمكان، فعصبيته يقين، وغريزته كرامة، وانفعاله عنفوان، وحين يكون لديه هذا الفائض من الاحتقان، تغدو عملية البحث عن انفجاره وانتحاره، مهمة «رسالية»، يزخرفها يقين تحقيق الذات، بالموت.

أليست هذه هي حال «الشوارع» اللبنانية؟

الإجابة ليست خارج المتناول، فالناظر إلى نبض «الشوارع»، لا تعوزه ملاحظة الشرر في العيون، والحقد في القلوب، وحالات الطوارئ بين الطوائف والمذاهب، فحين تتحول منطقة الضاحية الجنوبية إلى «منطقة حرام» بالنسبة إلى أهالي بيروت من المسلمين السنة، وتوازيها منطقة الطريق الجديدة وإقليما الخروب والشوف بالنسبة للمسلمين الشيعة، لا يعود الكلام عن الوحدة الوطنية والسلم الأهلي سوى أضغاث معان، ذلك أن الجمهور الذي تغذى من عصبيته، بات لواما لقائده عندما ينزع نحو مفردات غير «حربجية» أو يدعو إلى الاستكانة والسكينة، فالجمهور مشتعل، و«الجماهير» ملتهبة، والناس هائجون، وأكثرهم راح ينتقد زعيمه لعدم السماح لهم بحمل السلاح واستئصال «الخنازير» في الأطراف المتقابلة، ومع ذلك، ثمة من يراهن على انقلاب المواقف بالشتائم والسباب.

لا شك في أن الجمهور، بات متجاوزا قيادته بالانقسام، وغدت صورة الآخر في الذهنيات المتقابلة، إما وحشا يتهيأ للافتراس وإما طريدة يجب جز رقبتها. وما بين هذه الصور والذهنيات، تتطاير الشتائم ويحط السباب على مختلف الأمكنة، فيما السياسة، المفترض أنها ضابط للنزاعات والصراعات في الأوطان المتحضرة، أصبحت أثرا بعد لسان شتّام، وطللا بعد لسان سبّاب، والجمهور يرقص على إيقاع البذاءة، أسوة بالطير الذي يرقص مذبوحا من الألم. قديما، كان يقال إن فلانا «ابن عائلة»، يعني إنه على أدب وذوق. وكان يقال إن فلانا «ابن بيت»، يعني أنه على أخلاق وسمو.

وكان يقال إن فلانا «نظيف اللسان» أو «عفيف اللسان»، والمعنى في قلب النص.

وبناء عليه، هل غدت السياسة نقيضة لأبناء العائلات والبيوت، وغدت حكرا على من دونهم، أم أن السياسة أصبحت فعلا ماضيا، وما نشاهده ونشهده اليوم... شيئا آخر... أخر تماما.؟؟!!

توفيق شومان ([) كاتب لبناني - السفير - 19/02/2008

0 تعليقات::

إرسال تعليق