الأربعاء، 24 أغسطس 2011

اللا طائفية البرتقالية ونصاعة العلمانية

للدولة اللبنانية الدينية الطائفية خصوصيات هجينة متعددة. فبعد تاريخ سياسي هيأت له ثقافة المقاطعجية الخادمة للإحتلال العثماني والمستقوية على الناس، وما أنتجته من إقطاع عائلي لطالما استسهل المذابح الطائفية وسيلة لتثبيت مواقعه أو تحسينها. وبعد أن وضب المحتل الفرنسي في الربع الثاني من القرن الماضي لبنانَ والشام دولتين دينيتين على ما كتب جبران خليل جبران في رسالة إلى ماري هاسكل: سيقسمون سورية إلى سورية مسيحية وأخرى مسلمة، وسيولون فيصل على سورية المسلمة ويرضى المسلمون لأنه من سلالة النبي! وبعد أن برع اللبنانيون في إرساء التفتت السياسي ــ الإجتماعي من خلال “الميثاق الوطني” ونظام الأحوال الشخصية الطائفي، وبعد أن ثبّت التحالف الأميركي ــ السعودي ــ البعثي العسكري الشامي في الطائف عام 1989 ما كان أعرافاً في توزيع الحصص الطائفية؛ بعد كل هذا، وصل النظام اللبناني إلى ما نحن عليه من بدعة تكعى على علم السياسة وما فيه من نظريات: نظامُ فصلِ سلطات ولكنه في الآن نفسه دمج سلطات من الطراز الأول، ونظامٌ مركزي ولكنه فعلياً فيديرالي طائفي بأشرس ما تكون الفيديرالية التقسيمية؛ ونظامٌ بدأ بمضمون رئاسي ثم تدريجًا تحول إلى مجلسي وزاري وظل في الوقت ذاته مجلسيا نيابيا برلمانيا؛ ونظام “جمهوري” لاديني لكنه في الواقع إقطاعي ديني - طائفي.
دولة دينية ونظام طائفي يضمنان التأزم والإقتتال، وإنْ من ازدهار فدومًا من كيس الحرمان وعلى شفير القلق والهاوية. غير أنهما في السياق، يقومان على مشاركة الطوائفيين واسترضائهم وتهميش العلمانيين واستثنائهم. لا بل تعلن الدولة الدينية بنظامها الطائفي الحرب على العلمانية من زوايا عدة:

أولاً، يفشل النظام الإنتخابي في إظهار القوة الشعبية للأحزاب العلمانية ويسيء إلى ترجمة وجودها سياسيًا.

ثانيًا، يساهم نظام الدولة في خنق الأحزاب العلمانية. فإن قررت الأحزاب العلمانية الإنخراط في العملية السياسية، أسقطها النظام الإنتخابي أولاً، أو أبعدها بالتزوير. وانتخابات 1947 مثال لا تمحوه السنون.

وأما إذا ارتأت الأحزاب العمل من خارج النظام فلها خياران: إن ظلت ضعيفة تبقى لافاعليتها مسموحة، ولكن إن قويت بما يهدد النظام بإقطاعه وعائلاته الدينية المذهبية، فعلى غرار كل أنظمة الفساد والأوليغارشيات والدكتاتوريات المنافقة، يفبرك النظام لها اتهامات تزجها في السجون وتفتح لها أبواب التنكيل. والمثل الأبرز لثانيًا ما حدث في تمّوز 1949 حين انقضّت تشكيلات النظام الطائفية الميليشيوية والرسمية الداعمة لها على أنطون سعاده وحزبه ودفعت به لإعلان ثورة مُرتَجَلة ثم اغتالته على أثرها إعدامًا، فمهدت بذلك لدورة القبض على الحزب سياسيًا كان آخرها قبضة استخبارات البعث العسكري الشامي.

وثالثا، لا يكتفي النظام الطائفي بأولاً وثانيًا، بل يصد كل محاولة علمانية أو رغبة فيها مهما كانت أولية ويجبر حاملها على نبذها عمليًا.

ومثال ثالثًا ما يحدث حاليًا بالتيار الوطني الحر. إذ دأب الجنرال ميشال عون على إضفاء صفة العلمانية على نفسه والتيار الذي أَلهَم. فمنذ إطلالاته الإعلامية الشحيحة من باريس إلى طلاته الغزيرة من الرابية، جهد الجنرال في استخدام مفاهيم الدولة القومية العلمانية سياسيًا ومصطلحاتها. وإذ ليس ما يوحي بأن الحجة العلمانية مصطنعة ومتكلفة، فإن نقضها يأتي من الجنرال وتياره وقياداته أنفسهم: فمثلا، كلام قادة التيار ونوابه البارزين بصفة علمانية يمحوه كلامهم هم أنفسهم حين يكررون “نحن” بمعنى “المسيحيين”. ومثلاً، تقديم التيار على الورق وفي المنشورات على أنه علماني ينسفه الإصرار الدائم في النقاشات والحوارات واللقاءات والتصاريح على تثبيت تمثيل التيار للشارع المسيحي بنسبة 70 في المئة من أصوات الناخبين، وبناء كل ما يلي من حق المشاركة في الحكومة بوزراء مسيحيين على هذا الأساس التمثيلي الطائفي. ومثلاً خطاب الجنرال المحضّر والمدروس لرجل دولة ومرشح الجمهورية في مناسبة 13 ت1 لا تدعمه في مقابلات النقل المباشر محاصرةُ ممثلي التيار لأنفسهم في زاوية التنافس على التمثيل المسيحي مع ميليشيا طائفية وقوات مرتكِبة.

طبعًا، ثمّة مَن يعتقد أن الإشكالية تُحَل بحشر كلمة “مبدئيًا” حين التطرق استثناء إلى علمانية التيار، وإضافة “عمليًا” في شرح “مسيحية” تمثيل التيار وسياسته ومواقفه. إلا أن التاريخ يعلم أن ما تم فصلٌ بين المبدئي والعملي إلا وكان سقوط المبدئي على حساب سيطرة العملي محتمًا، أو سقوط المبدئي والعملي معًا، ولم يكن يومًا للمبدئي نصر في ظل الفصل. وفي الحركة اليسوعية برهان قديم على خسارتها يسوع منذ لحظة ربحها مؤسسة الكنيسة، كما في الحركة القومية الإجتماعية برهان جديد على خسارتها نهج سعاده ثائرًا مهاجمًا “الحزبيات الدينية والإقطاع المتحكم بالفلاحين والرأسمالية الفردية الطاغية والعقليات المتحجرة المتجمدة والنظرة الفردية والذين يأتون ليجتاحوا بلادنا بغية القضاء علينا” منذ لحظة مهادنة حزب سعاده لكل تلك في تعليلات مرحلية إستغلالية متنقلة وفي استظلال كنف الأنظمة والمنظمات ومغاراتها.

ولكن إذا كان صلب اليسوعية واغتيال القومية الإجتماعية يتطلبان انتظار الإستغلاليين الداخليين استشهاد المؤسسَين، فباكرًا، وباكرًا جدًا ينحو التيار، وبقيادة الجنرال نفسه، منحى الإنفصام بين المبدئي والعملي، بين الفكري والسياسي، وبين النظري والتطبيقي.

ليس من دليل على أن الجنرال وتياره (أو التيار وجنراله) يدعيان العلمانية زوراً ويفتعلانها. ولكن بعيدًا عن سوء الظن، فإنه، وإن كانت اللاطائفية من ضرورات الماضي العسكري والمؤسسة العسكرية، وإن ظاهريًا (لم يستطع المتابع لتفاصيل العدوان اليهوديّ في 12 تمّوز ألاّ يلاحظ “دينوغرافيا” شهداء الجيش الذين سقطوا بفعل القصف والغارات، وبالتالي علاقة الألوية بالمناطق بالطوائف)، فليست اللاطائفية هي ذاتها العلمانية! واللاطائفية، بروحيتها، سلبية منفعلة ساكنة وسطية إنسحابية مستسلمة مذعِنة، وأما العلمانية الناصعة فإيجابية فاعلة متحركة منحازة هجومية مقاوِمة متمردة.

إنّ الإستحقاقات اللبنانيّة جمّة: من محكمة دولية وباريس-3 والفصل السابع الآتي إلى تعيينات إدارية وقضائية وعيديات، وما أكثر أعياد لبنان وتواليها. القوى الطائفية مستشرسة، والحروب الطائفية تهدر وتنفث أضغانها من بواطن الماضي اللبناني العريق إلى حواضر العراق المُفَدرَل، ما يزيد من أهميّة كل قوة علمانية، خصوصاً متى كانت جديدة وناشطة.

إذا كان طموح البرتقاليين دولة في لبنان مدنية لا دينية، ونظاما علمانيا لا طائفيًا، وإن كان الإيمان حقًا علمانيًا، فعلى صورته يكون الخطاب والسياسة.

فمثلاً، نسبة الـ70 في المئة المولودين مسيحيين الذين يمثلهم التيار إضافة إلى المجهول في المئة المولودين مسلمين الذين يمثلهم قد يساوي 30 في المئة من مواطني لبنان ومواطناته. فليكن إصرار الجنرال على المشاركة في الحكومة وفي لعب دور سياسي بحجم موقعه الوطني على أساس الـ30 في المئة من اللبنانيين وليس على أساس الـ70 في المئة من المسيحيين!

إذذاك، تتناسق القناعة والخطاب، ويستوي التفكير والتعبير وعيًا ولاوعيًا، وتكون الخطوة الأولى.

يبقى الألف ميل إلا خطوة!

نديم محسن - البلد (26 10 2006)

0 تعليقات::

إرسال تعليق