الأربعاء، 24 أغسطس 2011

العلمانية لها أيضا قيم أخلاقية

درجت العادة بين الناس، القول بأن فلاناً أحسن أهله تربيته لأنه يسير وفق عادات المجتمع وتقاليده. وآخر ينعتونه باللا أخلاقي كونه يسير بعكس المفاهيم الاجتماعية السائدة.
من ناحية أخرى فإن رجال الدين لا ينفكون عن الدعوة إلى الأخلاق كونها إرادة إلهية، مستشهدين تارة بالكتب المقدسة وطوراً مستنرين بالعقل والمنطق.
والسؤال المطروح هو: إلى أي مدى ترتبط التربية بالأخلاق وإلى أي مدى تكون الأخلاق فعلا امتدادا للدين أو رديفة له؟ وإذا كانت الأخلاق من الدين فهل يعتبر غير المتدين لا أخلاقيا؟ وهل شرعة حقوق الإنسان وصية إلهية، علماً أن أصحابها لم يؤسسوها على الإيمان بالله بل اكتفوا بالإيمان بالإنسان؟
التربية هي نمط جماعة معينة اكتسبت مجموعة تصرفات اعتبرتها ضرورية لاستمراريتها، تشمل الأكل والشرب واللباس والكلام والتصرف والعلاقات. ومع الأيام صارت تقليداً وتراثاً وعادات. وعلى هذا، فالتربية تتعلق بتعليم أفراد المجتمع من الجيل الجديد كيف يسلكون في المواقف الاجتماعية المختلفة، على أساس ما يتوقعه منهم المجتمع الذي ينشأون فيه. وبالتالي، على نقل المهارات والمعتقدات والاتجاهات وأنماط السلوك المختلفة التي تجعل من عناصر الجيل الجديد مواطنين صالحين متكيفين مع الجماعة التي يعيشون في ما بينها. وبالتالي، فإن التربية عمل إنساني ومادتها الأشخاص الطبيعيون وحدهم دون غيرهم من الكائنات الحية. فتدريب الحيوان مثلا، ليس تربية. وليست التربية أيضا شيئا يمتلكه الأفراد، إنما هي عملية لها مراحلها وأهدافها.
وبقدر ما يتمكن الفرد من اللحاق بالمراحل بقدر ما يشعر بقدرة أكبر على التأقلم. التأقلم سر السعادة والنجاح. كل تجاوز للتأقلم ورفض له مثار ألم ووجع.
أما تحقيق الهدف التربوي فهو الانصهار في البوتقة الاجتماعية. في حين أن مجموعة أهداف رديفة تقوم بها مؤسسات غايتها ربط الفرد بها كتابع. وهنا تطال العملية التربوية العمق الذهني للفرد.
يمكن تفصيل العملية التربوية إلى تدريب تربوي وترتيب بنية تربوية في الفرد. التدريب يطال مجموعة التصرفات تجاه الذات والآخرين في مختلف نشاطات الحياة اليومية وهذه تنشأ من المحيط ذاته، بعضها يقوم به الأقربون ـ عادة الأم في مجتمعاتنا الحالية ـ قوامها الترغيب والترهيب بما فيه العقاب الجسدي والمعنوي. أما ترتيب البنية الداخلية فهو يبدأ من الأقربين إلا أنه يأخذ منحى أكثر تعقيداً يدخل فيه عنصر السيطرة الثقافية الدينية والسياسية.
عندما يرتهن الفرد في أعماقه لأفكار معينة وتصورات معينة ويقتنع ـ وهنا الاقناع ليس بالضرورة عملية عقلية ومنطقية بل قد تكون رضوخاً للسيد أو للجماعة لسبب الضعف في المقاومة أو خوفاً من العقاب ـ فإنه عندها يصبح جاهزا للتبشير بما اقتنع به ويوضع في مصاف العناصر الاجتماعية الصالح لاستعمال أصحاب السلطة.
هذا البقاء والحفاظ على التدريب والترتيب يجعل من الفرد المحافظ أخلاقيا. وبالتالي، فالأخلاق هي الحفاظ على الخط التربوي المقرر وكل التصرفات تصب في خانة الضرورة العليا لخير المجتمع وبطبيعة الحال لخير الأفراد. لقد جعل رجال الدين من الضرورة الاجتماعية العليا رغبة إلهية وجعلوا أنفسهم أوصياء على تنفيذها بحيث صار الدين أخلاقا.
وصارت وصايا الناس هي وصايا الله. والناس هنا، هم المختصرون في مجموعة المتسلطين من رجال الدين يرون تحقيق سلطتهم ورغباتهم من خلال رغبات الله المسقطة عليهم. أما المنفذون لرغباتهم فهم طبقة رجال الدين البسطاء أو أصحاب المرتبة الدنيا الذين تقوم وظيفتهم على إضفاء هالة القداسة والأهمية على رؤسائهم. والناس العاديون البسطاء الذين ينتمون إليهم.
إن عملية الترتيب الذهني تجعل من الفرد يربط بين الحادثة اليومية والرغبة الإلهية بحيث يصير كله كتلة ارتهان، ومجرد دمية تحركه رغبة رجل الدين المتسلط.
بطبيعة الحال، الأهداف البعيدة لرجال الدين ـ وغايتها حكماً تمتين سلطتهم ووضعها في إطار الاستمرارية ـ تندرج تحت إطار القيم. وعندما تصبح الأخلاق شعار السير نحو اتجاهات المجتمع ومَن يحكمه من متنفذين في السياسة والدين، فإن القيم تتجاوز الأخلاق لتصل إلى الأهداف البعيدة التي يؤمن بها الفرد من أجل أن يعيش سعيدا، حتى وإن قدّم حياته من أجلها.
والقيم هذه قد تكون فردية وجماعية. وارتباطها عميق بالإيمان أكثر منه بالدين. بل بالمحتوى أكثر منه بالمؤسسات الراعية لها.
لطالما كانت القيم بمثابة خوف لدى رجال الدين، ومن أجل هذا يعتمدون على المثقفين والانتلجنسيا من أجل إقامة حلف توافقي بين القيم والمادة الدينية والأخلاقية المقدمة من قِبلهم.
مع ذلك، القيم شهدت تحررا كبيرا من رجال الدين، لا بل من الدين نفسه واعتُبرت «الحرية والمساواة والأخوة» قيماً أساسية في الثورة الفرنسية لاغية حدود الدين فيها.
الإيمان ليس كلمة دينية بل قيمية، والقيم مطلقة، لذا، فهي ثابتة يتأرجح فيها إيمان الإنسان النسبي منه والمتغير، أما القيم فلا تتغير.
وعلى رغم أن ثباتها لا يعني شيئا، إلا أن هناك إجماعاً على مطلقيتها، فالحق، والخير، والجمال، قيم مطلقة عند كل شعوب الأرض وعبر كل الأزمنة. والأخلاق تجسيد لتلك القيم بمفاهيم اجتماعية متغيرة ومتغايرة، لذا نراها متبدلة، لأنها التعبير الواقعي والنسبي للمطلق. إنها متغيرة في الزمان، متغايرة في المكان، فما هو أخلاقي عند جماعة ما يختلف عما هو أخلاقي عند جماعة أخرى، لكن القيم واحدة.
من هذا المنطلق تصبح التربية مختلفة تماما من منطقة إلى أخرى ومن زمان إلى آخر، ولا تحكمها إلا طبيعة تغير تعامل الإنسان مع ذاته. والجدير ذكره ان الاختراعات غيّرت في مفاهيم تربوية كثيرة. فالمفاهيم الاستهلاكية في عالم اليوم جعلت الإنسان يعتبر الآخر عابراً في حياته، وبالتالي، فلقاؤه معه هو لقاء مصلحة آنية، أما الوفاء فشيء من الماضي. والضيافة صارت من أجل الاستفادة... هذه كلها مفاهيم أخلاقية نتجت عن متغيرات تربوية وهي مختلفة عن الماضي وستكون مختلفة عن المستقبل.
في كثير من الأحاديث والمحاضرات نسمع بعض المربين يصرون على أن الأخلاق هي وجه الدين. ولذلك فهم يتأسفون على الواقع الحاضر لأن الشبيبة اليوم قد ابتعدت عن الدين وبالتالي فقدت أخلاقها. وبالمعنى نفسه، فشبيبة اليوم تفتقد للأخلاق لأنها ابتعدت عن الدين. في كتابه «حياة الحقائق» يقول «لوبون»: «ان الشعور الديني هو وجه من الروح الدينية في الإنسان، أما الشعور الخلقي فهو ملاءمة لمقتضيات البيئة. المنطق الديني هو الذي يهيمن على الديانة، أما المنطق العاطفي فهو الذي يهيمن على الأخلاق. إذاً ليس للشعور الديني الذي هو مظهر من مظاهر الروح الدينية أية صلة بالأخلاق التي هي من مصدر عاطفي.
والروح الدينية لا تحدث الأديان فقط، بل تحدث أيضا الروحانية والمعتقد صاحب الصيغ السياسية والمعجزات والمظاهر الأخرى. أما استقلال الدين أو الأخلاق فله عدة براهين. فعلماء القانون الجزائي لاحظوا منذ زمن طويل وجود جناة قساة وأتقياء معا. والمزاج النفسي لهولاء مماثل لنفسية «أولئك اللصوص الذين يشحذون خناجرهم وهم يستمعون إلى بعض الأدعية حول هياكل بعض القديسين طمعا في نيل عونهم».
ويتابع «لوبون»: لم تؤثر مبادئ ما بعد الطبيعة التي جعلتها الفلسفة دعامة للأخلاق في سلوك الناس فقط. فليس الخوف من جهنم ولا الطمع في السماء يمكن أن يكون دليل أخلاقيات معينة. لأن هذه تدخل في مجموعة مفاهيم لاهوتية قد تكون متناقضة طبقا لرجال الدين الذين يعلمونها. فهناك مدارس في اللاهوت ومدارس في التعليم، وبالتالي فإن الأسس اللاهوتية التي نعتبرها أساساً للأخلاق قد تكون متناقضة، وكم من مجموعات طائفية في أوروبا نتج عن جموحها قتل وانتحار وكل ما يمكن أن يكون لا أخلاقيا في المجتمع.
لقد درجت الحكومات على الاعتماد على المؤسسات الدينية في تثبيت ركائز حكمها. من خلال نشر قوانين ذات إسناد ديني كي تبرر وجودها وسلطتها التي غالبا ما تكون قمعية. وكون هذه القوانين والمفاهيم التي يضعها رجال الدين ليجعلوا منها أخلاقيات معينة، مرتبطة بأخلاقية الحكومة، يصبح من غير الأخلاقي الثورة على الدولة، خصوصا أن السلطة تستمد كينونتها من الله، فالملك لا يأخذ حكمه من الناس بل من الله بحسب مفهوم بولس مثلا. كذلك، فإن الخليفة هو ظل الله.
إذا اعتبرت ان أخلاقيتي خاضعة لمجموعة مفاهيم اجتماعية، فهذا يعني أنني بقدر ما أنتمي إلى الجماعة وبقدر ما أعمل لها أشعر بنفسي أخلاقياً، أما إذا اعتبرت أن أخلاقيتي ناتجة عن ديني فهذا يعني أني لا أنتمي إلى الجماعة الخارجة عن الدين، بل أخلاقيتي هي في موقع ديني.
من ناحية أخرى إذا كانت أخلاقيتي دينية فإن رجل الدين هو الذي ينمّي أخلاقيتي، وأي تغير في كلامه يعني تغيراً في أخلاقيته، هو الوصي عليّ، أما أنا فلست مواطناً، ولا منتمياً إلى دولة. أما إذا كانت أخلاقيتي اجتماعية فهذا يعني أن قمة أخلاقيتي هي شعوري بانتمائي إلى الدولة.
إن فصل الأخلاق عن الدين هو ضرورة للالتحاق بالدولة وبالمواطنية. وقد شعر رجال الدين بهذا، لذلك، قالوا بالدولة الدينية، كي يربطوا بين الانتماءين السياسي والديني. وهذا ليس جديداً، فالدولة الدينية حاولت أن تقف على قدميها عبر التاريخ، منذ عهد الفراعنة ومنذ عهد ما قبل الرومان ومع الرومان وفي الدولة اليهودية والدولة المسيحية والدولة الإسلامية، ولكن دائما كان الواقع يناقض الدولة الدينية، لأن الإنسان بطبعه يعيش تطوراً دائماً، والتطور الديني بطيء جدا لأن ديمومته أساس وجوده. إن تطور الجماعات البشرية، يجعل الواقعية في تبدل الأخلاق، وبالتالي، فإن التحررية هي عدم ربط الدين بالأخلاق، وضرورة صيرورة المجتمع تعني ضرورة تطور الفعل الحضاري للإنسان.
إن حقوق الإنسان ليست حقوقاً دينية حتى وإن اعتبرت الأديان نفسها أنها صاحبتها. إن مَن نأدى بها، أناس لا يعترفون بالدين ولا الدين يعترف بهم. إنهم مجموعة من المفكرين الثائرين الماسونيين. وحقوق الإنسان اليوم هي شرعة دولية، وكل محاولة إيقاف لها أو تجييرها إنما هي ساقطة بفعل تاريخيتها.
لذا، فقد كانت الجهود منصبة على العملية التربوية من خلال المؤسسات التربوية لوضع الأسس (التعبوية) في نفوس الصغار قبل نضجهم.
وهكذا عندما ظهرت المؤسسات التربوية وعلى الأخص المدرسة، كانت أساسا لتكريس التبعية للمؤسسات مباشرة، ولخدمة أصحابها ذوي السلطة الدينية والمدنية. لكن المدرسة سرعان ما أضحت «خصماً» للعائلة، ونتج عنها تغاير في الخط البنوي للذهنية الفردية.
فمن طبيعة تربية الأهل أن يربوا أولادهم كما تربوا هم، أي تربية تقليدية تطال تصرفاتهم اليومية وتحكم نظرتهم إلى الأمور، وهذه النظرة لا تنفك عن المفاهيم الدينية الموروثة ولا عن الأخلاقيات الموروثة. من هذا المنطلق لا تكون لديهم ملكة العقل هي الحاكمة بل الارتباط العاطفي الذي يجمع بين الانتماء للأهل والاحترام للأهل والخوف من الأهل والتصرفات اليومية بكاملها.
المدرسة تناقض هذه النظرة، فهي تربي الولد على محاكاة عقلية وذهنية ذات أساس علمي مما يدعوه لتحكيم العقل على باطن معرفته ويدفعه بالتالي إلى نقد التصرفات واختيار المناسب. إضافة إلى أن الذهنية العملية تجعله يدخل في مرحلة الرفض المبكر لأمور تتعارض مع هذا العقل، عندها يعيش صراعاً بين المدرسة والبيت. ينتقل هذا الصراع إلى البيت نفسه والى المدرسة نفسها، فالأهل الذين يرون أولادهم يرفضون ويحللون ويمتنعون عن الاستجابة البريئة التي كانت لهم تجعلهم ثورون على أولادهم ويلعنون المدرسة التي علّمتهم. في حين أن المدرسة تجد صعوبة في تأقلم تلاميذها مع المفاهيم العلمية التي تطغى على المنهاج.
وبقدر ما تكون السلطة في البيت قائمة على وصية الاكرام للأهل بقدر ما يكون الولد مدعواً للتكرار وقتل ملكة الابداع لديه، هذا تكرره المدارس أيضا فتحاول أن تكون مناهجها تكراراً وحفظاً كي تتشارك مع الأهل في قتل ملكة الابداع لدى التلاميذ. المدارس الحديثة بدأت تخطو خطوات مختلفة تجعل لدى شخصية التلميذ إمكانية الرفض وبالتالي إمكانية للإبداع.
وفي الواقع، فالأهل بمجرد قبولهم إرسال أولادهم إلى المدرسة فقد قبلوا ضمناً تغايراً محتملاً واعترفوا بإمكانية التغيير ولو على مضض. ولجان الأهل تحاول جاهدة الحفاظ على مكتسبات الأهل التقليدية في المدرسة لكن المدرسة هي انعتاق من التقليد نحو خطوات التغيير والحداثة.
بين البيت والمدرسة ينمو المراهق محتاراً ممزقاً يرفض المدرسة ويرفض البيت، يريد الانعتاق نحو المجهول. الأخلاق في هذا كله هي مجرد شعارات يرفعها الأهل ضمن إطار تربيتهم وترفعها المدرسة بغية الحفاظ على النظام ملوحين بالسلطة التي لديهم لقمع أية مخألفات. عندما تتداخل الأخلاق في التربية إلى هذا الحد تبتعد كثيراً عن حدود الدين وسلطته، لذا، فقد كان الحل باعتماد المدارس الدينية لترسيخ النظم التربوية الدينية وبالتالي الأخلاقية الدينية.
وإذا كانت المدرسة الرسمية هي في معزل عن هذا كله، فإنها أمل كبير في تحرير عقول التلامذة من ربط أخلاقيتهم بالسلفيات شرط أن تكون المدرسة واقعا مدنيا لا تكرارا لـ6 و6 مكرر وإعادة التوافق الطوائفي على مستوى التلامذة.
الدين ثابت في أساسه الإيماني لأن مرتكزاته هي الله، وبالتالي لا يمكنه أن يتبدل بتبدل المجتمعات وتطورها. أشكال الممارسة الإيمانية، التعاليم التفسيرية، الشروحات، القوانين التطبيقية، هذه كلها تتجانس وتتفاعل وتســـاير التغيرات الاجتماعية.
حتى وعي الألوهة نفسه يمكن أن يتطور بتطور النظرة العقلية والعلمية، أي حتى التعاليم الدينية المنبثقة عن أناس متصوفين أو أولياء يمكنها أن تقدم بأشكال مختلفة عبر العصور المختلفة.
الأخلاقيات هي مجموعة قوانين ورؤى وتفاسير ونظم لخير المجتمعات التي لا يمكن أن تتوقف في مرحلة من التاريخ. إن صيرورتها دائمة. والتغيرات الحاصلة فيها مستمرة.
من هنا، فإن ربط الدين بالأخلاق ليس من طبيعة الدين الايمانية، وهو مسيء للإنسان لأن الإنسان غير المتدين يمكن أن يكون أيضا أخلاقيا.

ميشال سبع / السفير  - حرر في: Jun 2 2007, 09:43 AM

0 تعليقات::

إرسال تعليق