الأربعاء، 10 أغسطس 2011

معركة أنتيتم حوّلت الحقول الخضر أنهاراً من الدماء لكنها رسمت تاريخاً جديداً وصنعت الولايات المتحدة

معركة أنتيتم Battle of Antietam‏
كنيسة دانكر.
جسر برونسايد. (ناديا ملحم)
أحيا الأميركيون أول من أمس الذكرى السنوية لمعركة أنتيتم (Battle of Antietam‏) في 17 أيلول 1862. ففوق الحقول المترامية باسترخاء والمزارع الجميلة والتلال الوديعة الخضراء وعلى ضفاف نهر أنتيتم النحيل والكسول، شهدت الولايات المتحدة "اليوم الأكثر دموية" في تاريخها. وهكذا تحولت معركة أنتيتم التي غطت مساحة صغيرة في محيط بلدة شاربسبيرغ في غرب ميريلاند مواجهة مفصلية في الحرب الأهلية الأميركية بين الاتحاد الشمالي الفيديرالي والجنوب الكونفيديرالي وصارت إلى الأبد منقوشة بعنف صارخ في الذاكرة الجماعية للأميركيين. وعندما صمتت المدافع الخمسمئة التي استخدمت في القتال، ولم تعد البنادق صالحة لإطلاق النار لكثرة استخدامها، وبعدما استنفدت الذخائر والحراب التي استخدمت في المواجهات الشرسة بالسلاح الأبيض، بلغ عدد الخسائر بين الأخوة المتحاربين 23 ألفا بين قتيل وجريح ومفقود.
وللمقارنة، زاد عدد القتلى الأميركيين في العراق منذ غزوه في 2003 عن 4400 قتيل ونحو 32 ألف جريح، فيما بلغ عدد القتلى الأميركيين في أفغانستان منذ غزوها في 2001 أكثر من 1270، فضلاً عن 7800 جريح.
في مثل هذا اليوم قبل 148 سنة، وكما روى أحد الشهود، تحول اللون الأخضر للحقول والمزارع إلى الأحمر بعدما أهرقت فوقها دماء آلاف الشباب، إذ زاد عدد القتلى الأميركيين أربعة أضعاف عن عددهم خلال الإنزال الأميركي على سواحل النورماندي في فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
ويعتبر موقع معركة أنتيتم، وهو اليوم متنزه وطني مرصّع بتماثيل الجنود والجنرالات الذين سقطوا في المعركة والمسلات والمدافع وبعد إصلاح معالمه التاريخية التي دار حولها القتال مثل كنيسة دانكر وجسر بيرنسايد وغيرها، من أجمل مواقع معارك الحرب الأهلية وأكثرها رهبة. أنتيتم هو الموقع الذي زرته أكثر من أي موقع آخر لساحات معارك الحرب الأهلية. وفي كل مرة أعود وأمشي على ضفاف النهر أو في "الطريق المغمورة" وهي طريق ترابية لا يزيد طولها عن سبعمئة متر وكانت مسرحاً لقتال وحشي حوّل اسمها إلى "الطريق الدموي"، أغمض عيني وأتخيل أرتال المشاة من الجيش الفيديرالي الشمالي ببذاتهم الزرق يمشون ثم يركضون باتجاه " المتمردين" الجنوبيين ببذاتهم الرمادية الذين اختبأوا في الطريق المغمورة والتي تحولت خندقاً طبيعياً ليحصدوهم بالعشرات والمئات. لدى سيطرة البزات الزرق على "الطريق الدموي" كانت مكدسة بجثث القتلى التي خلّدها بعض المصورين والرسامين. الصور المروعة لضحايا أنتيتم، أذهلت الأميركيين وخصوصا في الشمال وأوصلت إليهم بعد سنة ونصف سنة على بدء الحرب الأهلية فظاعات هذه الحرب وكلفتها الرهيبة. أكاد اسمع أصوات ما وصفه احد الجنود بـ"جحيم المدفعية" التي كانت تطلق من مسافات قريبة. انظر أو امشي فوق جسر بيرنسايد، وهو اليوم هادئ ومهجور ويدعوك إلى التسكع فوقه، كما كان في فجر 17 أيلول 1862، ثم أتخيل كيف تحول هدفاً لقصف مدفعي لا يكل ولأكثر من هجوم وهجوم مضاد، وكيف اختلطت فوقه الحركة الفوضوية للجنود الفيديراليين وصراخهم وعويلهم بصهيل جيادهم وهم يتعرضون لرصاص القناصة الجنوبيين الذين اختبأوا وراء الصخور في الضفة الجنوبية العالية.
هذه المرة زرت أنتيتم بصحبة ثلاثة أصدقاء أميركيين يجمعنا حبنا للتاريخ عموما والعسكري خصوصا وولع عميق بالحرب الأهلية الأميركية وشخصياتها السياسية والعسكرية. هذه الحرب هي الحدث الأهم في تاريخ أميركا لأن الولايات الأميركية صارت متحدة بالمعنى الفيديرالي المتعارف عليه اليوم، فقط بعد حرب أهلية مخيفة أدت إلى مقتل 617000 أميركي، ولا تزال بعض جروحها مفتوحة ولم تلتئم حتى الآن، كما تبين لي عندما غطيت عمليات إحياء معارك الحرب الأهلية واستعادتها التي يشارك فيها عشرات الآلاف من الأميركيين (وحتى الأجانب) كل سنة. مشاعر الهزيمة والذكريات المؤلمة للحرب لا تزال أثارها ملموسة ومعاشة في الولايات الجنوبية حتى اليوم. البعض وخصوصا في الجنوب يعيش ويختبر هذه المعارك والهزائم وكأنها حدثت خلال حياته أو حياة آبائه، وليس قبل قرن ونصف قرن.
الخلافات الجذرية التي أدت إلى الحرب، مثل علاقة السلطة الفيديرالية في واشنطن بالولايات، ومن بينها آنذاك إصرار الولايات الجنوبية على ممارسة صلاحيات "سيادية" ورفض إعطاء واشنطن سلطات واسعة يمكن أن تؤدي مثلا إلى تحريم أو إلغاء العبودية في هذه الولايات بعدما ألغيت في ولايات الشمال، والتي أدت إلى بروز تفسيرات مختلفة للحرب (صون الاتحاد وعتق العبيد كما يقول الشماليون) و (صون حقوق الولايات كما يقول الجنوبيون)، لا تزال تتردد أصداؤها حتى الآن. وهذا ما يعكسه السجال السياسي الراهن في البلاد على سبيل المثال بين الذين يؤيدون سلطة فيديرالية أقوى، وأولئك الذين يقولون أن الولايات هي التي يجب أن تقرر قانونية أو عدم قانونية مسائل مثل الإجهاض أو زواج مثليي الجنس وغيرها من القضايا.

المعركة

في أنتيتم كانت المواجهة بين جنرالين وجيشين غير متوازيين. عديد الجيش الشمالي كان أكثر من 75 ألفا، بينما كان عديد الجيش الجنوبي أقل من 40 ألفا. لكن نوعية القيادة العسكرية والحنكة التكتيكية المتفوقة للجنرال روبرت أي لي قائد "جيش شمال فيرجينيا"، وهو الجيش الجنوبي الأبرز، وشجاعته الميدانية وقدرته على استغلال تردد وحذر وبطء خصمه الجنرال جورج ماكليلان، هي التي حيّدت التفوق العددي والعتادي الشمالي، وحرمت الشمال إلحاق هزيمة ساحقة بجيوش الجنوب أو تنفيذ أوامر الرئيس أبراهام لينكولن للجنرال ماكليلان: "دمّر التمرد الجنوبي، إذا أمكن". قبل المعركة بأيام وقعت أوامر الجنرال لي في أيدي الشماليين، إلا أن تردد ماكليلان في استغلال هذا الاختراق الاستخباراتي الكبير لأكثر من 18 ساعة سمح للجنرال لي بأخذ الاحتياطات لحرمان الشماليين تحقيق أي مكسب تكتيكي.
جاءت معركة أنتيتم بعد سلسلة من الانتصارات التي حققها الجنرال لي وضباطه الكبار في ولاية فيرجينيا الجنوبية المحورية وغيرها، وهي انتصارات خلقت حالاً من الإحباط لدى الرئيس لينكولن وحكومته وجيوشه. الجنرال لي كان يدرك أن الجنوب الزراعي بموارده البشرية والمادية المحدودة لا يستطيع الاستمرار في حرب طويلة مع الشمال المتقدم أكثر صناعيا والأكبر ديموغرافيا، إلا إذا نقل القتال إلى أرض الشمال وحقق انتصارا استراتيجيا يرغم الشمال على التفاوض، ويؤدي إلى اعتراف بريطانيا وفرنسا بالكيان الجنوبي الكونفيديرالي كدولة مستقلة مقدمة للحصول على مساعدات منها. ولذلك قرر عبور نهر البوتوماك الذي يفصل ولاية فيرجينيا عن ولاية ميريلاند وغزو الشمال للمرة الأولى، واستغلال انحسار معنويات "جيش البوتوماك" الشمالي. في المقابل كان الرئيس لينكولن يتوق إلى تحقيق انتصار كاسح ضد التمرد الجنوبي يسمح له بإعلان عزمه على إعتاق العبيد، بحيث يصير هذا الهدف هو الثاني للحرب بعد الهدف الأول أي صون الاتحاد الفيديرالي.
معركة أنتيتم هي في الواقع ثلاثة هجمات شنها الجنرال ماكليلان ضد القوات الجنوبية التي كانت قد انتشرت في أنتيتم في مواقع دفاعية قبل يومين من وصول القوات الشمالية لصدها. بدأ القتال في الساعة الخامسة والنصف صباحا قبل انقشاع الضباب بقصف مدفعي كثيف ضد الجنوبيين المنتشرين في حقول الذرة العالية وقرب كنيسة دانكر (التي أسستها رعية من أصل ألماني تنبذ العنف) وعقب ذلك الهجوم الثاني ضد الطريق المغمورة. وبعد الظهر بدأ الجنرال الشمالي أمبروز بيرنسايد الهجوم الثالث ضد الجسر الذي أطلق عليه اسمه لاحقا. لكن إخفاق ماكليلان في تنسيق هذه الهجمات، أو حتى إعطاء جنرالاته صورة شاملة عن تصوره لإدارة المعركة، سمح للجنرال لي بنقل قواته من موقع إلى آخر للتعامل مع المتغيرات الميدانية. وبينما كان لي في مسرح القتال على رغم إصابته بجروح في يديه بعد وقوعه عن حصانه قبل أيام من المعركة، يدير القتال ويصدر الأوامر الميدانية، كان الجنرال ماكليلان في مقر قيادته الذي يبعد أكثر من ميل من موقع القتال.
الخسائر التي تكبدتها بعض الكتائب والوحدات كانت رهيبة، ووصلت إلى أقصاها في الكتيبة الثانية عشرة من ولاية ماساتشوستس الشمالية التي خسرت 67 في المئة من جنودها. كتيبة "النمور" من ولاية لويزيانا الجنوبية خسرت 323 جندياً من أصل 500. لدى سؤال الجنرال الجنوبي جون هود عن مكان انتشار فرقته المؤلفة من 2300 جندي بعد القتال الصباحي الذي أوقع فيها خسائر وصلت إلى 60 في المئة، أجاب أنها "ميتة في الحقول". بعض المواقع مثل حقل للذرة حيث بدأ القتال الذي تبادله الطرفان 15 مرة خلال النهار. أحد الجنود الشماليين وصف القتال الوحشي في حقل الذرة قائلا: "كان ممتلئا بالجثث بحيث يمكن الإنسان أن يمشي فيه دون أن تطأ قدماه الأرض".

ما بعد المعركة

تكتيكياً، انتهت المعركة بالتعادل، وإن كان عدد القتلى الشماليين أكثر قليلا من القتلى الجنوبيين. استراتيجياً، يعتبر معظم المؤرخين أن أنتيتم، على رغم الأداء المتميز للجنرال لي وضباطه، كانت انتصاراً استراتيجياً للشمال، لأنها حرمت الجنرال لي تحقيق هدفه بغزو أراضي الشمال وإلحاق هزيمة استراتيجية بالشماليين ترغمهم على الدخول في مفاوضات وتضمن اعتراف بريطانيا وفرنسا. المضاعفات السياسية لمعركة أنتيتم كانت ضخمة. خيبة الرئيس لينكولن بالجنرال ماكليلان لأنه فوّت فرصة ذهبية لتدمير التمرد الجنوبي، تحولت غضباً أكبر عندما رفض ماكليلان تعقب الجنرال لي إلى فيرجينيا بعد انسحابه إليها، فأقال ماكليلان من منصبه في الفخري. وبعد المعركة بأربعة أيام أصدر لينكولن إعلانه التاريخي بإعتاق العبيد، وأدخل عنصرا سياسيا جديداً في الحرب. والأهم من ذلك أن المعركة أقنعت بريطانيا بعدم الاعتراف بالكونفيديرالية الجنوبية، حيث كان الجنوبيون يعتقدون أن بريطانيا التي كانت تستورد كميات كبيرة من القطن الذي ينتجه الجنوب ستتحرك انطلاقا من مصالحها الاقتصادية.
تعتبر الحرب الأهلية الأميركية استثناء مهما في الحروب الأهلية في العصر الحديث، وهي ربما الحرب الوحيدة التي حسمت من القوى المتصارعة فيها فقط، لأن التدخل الخارجي فيها كان محدوداً للغاية، فهي محاطة بمحيطين واسعين وبدولتين، كندا والمكسيك أضعف منها. وفي المقابل فإن الحرب الأهلية الاسبانية (1936-1939) وهي من بين الحروب الأهلية المهمة في القرن العشرين، كانت النقيض، حيث تحولت إسبانيا ساحة اقتتال لمختلف القوى الأوروبية إذ وقفت ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية مع القوى اليمينية والمحافظة، بينما وقف الاتحاد السوفييتي و45 ألف متطوع يساري من العالم من بينهم 3500 أميركي إلى جانب القوات الجمهورية اليسارية. والحرب الأهلية في لبنان، هي نموذج مصغر للحرب الإسبانية لأن "جيران" لبنان القريبين والبعيدين تدخلوا عسكرياً وسياسياً ومالياً في هذه الحرب وما تلاها من نزاعات لم تنته حتى الآن.
استمرت الحرب الأهلية الأميركية حتى نيسان 1865، بعدما أحرز الشمال انتصارات استراتيجية كان أبرزها في معركة غيتيسبيرغ (حين غزا الجنرال لي ولاية بنسلفانيا الشمالية مرة ثانية) وبعد تقسيم الولايات الجنوبية بعد معركة فيكسبيرغ، وبعد احتلال مدينة أتلانتا في نهاية حملة "أرض محروقة" لترهيب سكان الجنوب شنها الجنرال الشمالي وليم تاكومسا شيرمان. ويرى المؤرخون أن كل هذه الانتصارات الشمالية لم تكن لتحدث لو لم يتم وقف زحف الجنرال لي في أنتيتم، في اليوم الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة.

أنتيتم (ولاية ميريلاند الأميركية) من هشام ملحم: النهار - 19 سبتمبر 2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق