الأحد، 12 يونيو 2011

الجامعات الأولى في التاريخ من تأسيس الموحدين الدروز

بالرغم من أن الطائفة لم تمتاز بالشكل البارز في الحقل الجامعي الأكاديمي، لكننا يسعدنا هنا، أن نصرح بفخر واعتزاز، أن الحقل الجامعي الأكاديمي، ليس غريبا عن الموحدين الدروز من خلال تاريخهم العريق، وإنما بدأ التاريخ الأكاديمي من ربوعهم وبمبادرتهم، وتشجيعا من أقطابهم، واتخذ له مساره الحديث بعد أن كانت الأسس راسخة ومثبتة من خلال تاريخهم الطويل.
يحظى الفيلسوف الإغريقي الكبير، أفلاطون بقداسة وبمكانة سامية عند الموحدين الدروز، وهم يعتبرونه من مبشّري التوحيد ومن الدعائم الأساسية لتوحيد الخالق، ومن الذين أوحوا وبشروا بظهور دين التوحيد علانية. وقد أسس الفيلسوف أفلاطون معهدا علميا في أثينا كان يدرّس فيه آراءه وأفكاره ونظرياته سُمي "أكاديميا" وأصبح هذا الاصطلاح قاعدة للتعليم الجامعي فيما بعد حيث عُرفت أكاديميا أفلاطون بالبحث الدقيق، والجدل المنطقي، والخطابة الصريحة، والكتابة النزيهة، والتفكير السليم. وهذه هي أسس التعليم الجامعي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وقد شارك في أكاديميا أفلاطون عدد كبير من الطلاب من العالم الذي كان متفتحا في ذلك الوقت في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، ومن هناك انتقلت الأصول الأكاديمية إلى هذه البلدان عن طريق الطلاب الذين شاركوا في الدراسة في أكاديميا أفلاطون. هكذا ظهر فلاسفة وعلماء وباحثون في أوروبا وفي صور وصيدا في الإسكندرية، في بلاد الرافدين وفي أماكن أخرى من العالم. وتطورت مؤسسات تعليم وتثقيف وتوعية اتخذت مسارا علميا وتبنّت طرق البحث والتدقيق وابتعدت عن الخرافات والأوهام والمواد الخيالية التي كان يزخر بها العالم في تلك الأيام. ومن بعد أكاديميا أفلاطون تحوّل هذا النمط من البحث والتدقيق إلى فروع أخرى من فروع العلم، فظهر الحكيم أبقراط، أبو الطب وأسس علم الطب على أساس الدراية والتعمّق وفهم مبنى الجسم ومعرفة وظائف الأعضاء وبالتالي المعالجة وإيجاد الدواء. وفي نفس الفترة ظهر المؤرخ الكبير هيرودوتس الذي حوّل التاريخ من مجموعة من الخرافات والأساطير إلى منهج مرتب منظم مبني على الحقائق والمشاهدات والمعلومات الصحيحة. وجاء بعد العلماء الإغريق، علماء رومانيون وبيزنطيون وآخرون، استمرّوا في هذا النهج وبنوا هنا وهناك مؤسسات أكاديمية كان لها تأثير كبير في تطور التعليم الجامعي فيما بعد.

وعندما ظهرت دعوة التوحيد في مصر في القاهرة المعزية في أوائل القرن الحادي عشر في عهد الحاكم بأمر الله، بادر الخليفة المتنوّر إلى تأسيس مؤسسة جامعية تٌعتبر أول مؤسسة أكاديمية في العالم، تضم عدة أنواع ونواح من المعرفة الإنسانية والعلوم العقلية، وهي دار الحكمة التي كانت في الدرجة الأولى مكتبة غنية بالكتب والمراجع، حيث ذكر المؤرخون أن الحاكم بأمر الله، جمع فيها معظم كنوز المعرفة التي كانت في متناول يده في ذلك الوقت، فقد زاد عدد المراجع والكتب فيها عن أكثر من ستمائة ألف مرجع. ونحن نعلم أن الكتب في ذلك الوقت لم تكن تُطبع، وإنما كانت تُنسخ باليد، لذلك يمكننا تقدير الجهد العظيم الذي بذله الحاكم بأمر الله ومعاونوه، من أجل جمع هذه الكمية الهائلة من المراجع والكتب من البلدان الإسلامية ووضعها في دار الحكمة في القاهرة تحت متناول أيادي العلماء والباحثين. وذكر المؤرخون أن عددا كبيرا من أقطاب العلوم المختلفة، قدموا إلى القاهرة، ولاقوا كل الترحيب والتأهيل من قِبل الحاكم بأمر الله، وفُتحت أمامهم كل الأبواب، وتوفرت لديهم كل وسائل الراحة، لكي يبحثوا ويحققوا ويتعلموا ويعلّموا. وكان في مقدمة هؤلاء، عالم البصريات الكبير ابن الهيثم، وعالم الفلك ابن يونس، وغيرهم من أقطاب العلم، الذين لاقوا في دار الحكمة كافة التسهيلات ووسائل المعرفة، ليقوموا ببحوثهم وتجاربهم. وقد دعا الحاكم بأمر الله الشاعر التنوخي الكبير، أبا العلاء المعري، ليعيش في القاهرة، لكن الشاعر الفيلسوف، فضّل لأسباب صحية، أن يظل في بيته في معرة النعمان، على أن يتحمل مشقة السفر من حلب إلى القاهرة. لكنه يقال إنه آمن بالدعوة وتقبّلها، وظلت أشعاره الخالدة، شهادة دامغة للأفكار الجريئة التي نبعت من دار الحكمة في ذلك الوقت.

وقام المشرفون على الدعوة بتأهيل الدعاة في دار الحكمة، حيث تم تدريسهم الفلسفة والمنطق والتاريخ والعلوم، وبعد أن استوفوا كل علومهم، أُرسلوا في مهمات الدعوة إلى البلدان الأخرى. وبجانب دار الحكمة أقيم مرصد فلكي، كان من أوائل هذه المؤسسات في العالم، حيث كان الحاكم بأمر الله، شغوفا بشؤون الفلك وحركات الكواكب وكل ما يتعلق بهذا الكون الواسع الكبير. وقد برز في عهد الحاكم بأمر الله، عدد من العلماء والشعراء والكتاب والباحثين والفلاسفة والأطباء والقضاة، تعلموا وتفقهوا في دار الحكمة، التي كانت أيامها قصيرة، حيث قام الخلفاء الذين أتوا بعد الحاكم بإغلاقها، والتخلص من الكتب والمراجع. وذكر المقريزي ومؤرخون آخرون، أن الجنود الجهلة، استخدموا جلود الكتب لنعالهم، ورموا أوراق الكتب في النيل لكثرتها، فأدى ذلك إلى انسداد النيل العظيم وفيضانه.

وجدير بالذكر، أن دار الحكمة، كانت معهدا علميا أكاديميا ثقافيا حضاريا، في حين كانت أوروبا ترضخ تحت ظلم الإقطاع الغاشم، وتحت وطأة التخلف والاستعباد، وفي غياهب القرون الوسطى المظلمة، التي تُعتبر نكسة كبيرة في تاريخ أوروبا والعالم المتحضر. في حين كان في تلك الفترة العلم يتألق ويزدهر ويتلألأ في مدينة القاهرة، في عهد الخليفة الكبير الحاكم بأمر الله. ولا يمكن أن نربط هذا الإنجاز العلمي الكبير بالخلفاء الفاطميين، الذين حاربوا دعوة التوحيد، لأنهم ليس فقط لم يستمروا في تطوير الرسالة الجامعية الأكاديمية من وراء إقامة دار الحكمة، وإنما قضوا عليها. لهذا يمكن اعتبار فكرة دار الحكمة، فكرة توحيدية، نابعة من أسس دين التوحيد، المبنية على العقل والفكر والعلم. ولو استمرت دعوة التوحيد في ازدهارها، لنتجت عن ذلك تطورات إيجابية كثيرة، لكن الموحدين واجهوا محنا وعقوبات وملاحقات دموية، فانكفأوا في معاقلهم في رؤوس الجبال، وكانوا مشغولين طوال ألف سنة، في الحفاظ على أنفسهم والدفاع عن كيانهم والاستمرار في عقائدهم والمحافظة على تراثهم.

15 أكتوبر 2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق