الماركسية هي أول نظرية علمية بحتة في تاريخ تطور الفكر الإنساني. فقد جرى تطور العلوم عبر التاريخ تحت غطاء فلسفي بحيث أن هيغل نفسه، وهو الضليع في علوم زمانه، كان بحاجة إلى فلسفته المثالية. أما الماركسية فلم تكن بحاجة إلى فلسفة إذ أن ما يسمى بالفلسفة الماركسية، المادية الديالكتيكية، أصبحت علما خالصا من كل أنواع الفلسفة بحيث أن إنجلز اسماها نهاية الفلسفة.
فالماركسية إذن علم بحت بل إن المادية الديالكتيكية باعتبارها علم الحركة هي علم العلوم كما اسماها لينين. فإن العلوم كلها تعالج أنواعا مختلفة من حركة المادة الحية وغير الحية ولذا فإن قوانين المادية الديالكتيكية تصح وتعمل على كل هذه العلوم وان العالم في كل العصور قبل اكتشاف قوانين المادية الديالكتيكية أو بعدها مادي ديالكتيكي في بحوثه العلمية وفي مختبره بصرف النظر عن معتقداته الفلسفية والدينية. وهذا ما جعل إنجلز يؤلف كتابه ديالكتيك الطبيعة للبرهنة على أن علم الديالكتيك يفعل وينطبق على كافة علوم زمانه.
وكون الماركسية علم بحت يعني أنها لا تؤمن بأية قوة خارجة عن الطبيعة تسيطر على حركة الطبيعة أو تسيرها وفقا لهواها بل تعتبر الطبيعة، الكون، مادة في حركة تسير وتتطور وفقا لقوانين معينة توصل الإنسان إلى اكتشاف بعضها وما زال يجهل الكثير منها وأن الإنسان يكتشف خلال تطوره المزيد من القوانين التي تسير الطبيعة وتحدد شكلها في حركتها وتطورها وتغيرها. ولكن الماركسية لم يكن من الممكن التوصل إلى اكتشافها أو معرفتها إلا في مرحلة معينة من مراحل التطور الفكري للمجتمع البشري. فلم تكتشف الماركسية بسبب ذكاء كارل ماركس فقط، ولم يكن بإمكان ظهور كارل ماركس أو أي شخص آخر يكتشف الماركسية قبل قرون، بل ظهر كارل ماركس لان تطور الفكر الإنساني بلغ مرحلة معينة تجعل بالإمكان ظهور من يكتشف الماركسية. فظهور الماركسية كان ضرورة تاريخية حتمية لو لم يكتشفها كارل ماركس لاكتشفها عالم آخر غيره.
والماركسية تعتبر الأديان كلها مرحلة من مراحل تطور الفكر الإنساني. فقد جابه الإنسان لدى خروجه عن نطاق الأحياء الأخرى طبيعة قاسية كان من الصعب عليه التغلب عليها فكان يطلب المساعدة من قوى تصور أنها قادرة على مساعدته أو أنها سبب معاناته. فعبد كفه مثلا لان كفه كانت وسيلته الكبرى للحصول على طعامه وعبد الحيوان الذي كان يعيش على اصطياده وفي مراحل أكثر تقدما عبد الشمس أو القمر أو النجوم وفقا لما أوحاه له تفكيره البدائي حول الطبيعة والقوى المسيرة لها.
كان التفكير بوجود الآلهة بأشكالها وأنواعها مرحلة عالية من تطور الفكر البشري بلغت أقصاها في التفكير بوجود إله واحد هو الخالق للعالم والمسيطر عليه ومسيره وفقا لهواه ورغباته. ففي مراحل تطور المجتمع البشري كانت فترات لم يكن بالإمكان دفع الجماهير للعمل بدون الطابع الديني. ولكن الأنبياء مثلا لم يكن بمستطاعهم أن يجتذبوا الجماهير لتأييد دينهم لو أنهم اقتصروا في دعواتهم على الدعوة لدينهم الجديد لو لم يعالجوا في الوقت ذاته المشاكل الاجتماعية التي كان المجتمع يعاني منها. فإذا أخذنا النبي موسى كليم الله مثلا نرى انه استطاع أن يقود الجماهير لأنه وعدهم بالخلاص من العبودية الفرعونية. انه لم يفكر بالثورة على الفراعنة كما فعل سبارتاكوس مثلا وإنما اتخذ طريقة الخروج من مصر للتخلص من العبودية. والمفروض حسب الأسطورة أن موسى كان يهودي المولد ولكن أمه رمت به إلى النيل لإنقاذه من القتل فأنقذته ابنة الفرعون ونشأ وتربى وتثقف في قصور الفراعنة كأي فرعوني آخر ولو بقي مواليا لهم لأصبح فرعونا أو أميرا. والمفروض انه أنقذ اليهود من العبودية. واصل الأسطورة أن أولاد يعقوب سافروا إلى مصر بسبب المجاعة والتقوا بأخيهم يوسف الذي أرادوا قتله فرموه في الجب وبقوا في مصر وتكاثروا وأصبحوا شعبا مستعبدا من قبل الفراعنة. ولكن هل كان الخارجون من مصر وراء موسى يهودا يعبدون الله فعلا؟ أن الأسطورة نفسها تفيد أن هؤلاء الخارجين استغلوا أول فرصة غاب موسى عنهم لدى اعتكافه في جبل سيناء فصنعوا عجلا ذهبيا واخذوا يمارسون عبادته ولم يستطع اخو موسى هارون الكاهن الأعظم منعهم عن ذلك مما اغضب موسى بحيث انه رمى الحجرين اللذين نحت عليهما وصاياه العشر. فالناس، إذا صحت الأسطورة، قبلوا دعوة موسى إلى الهروب من مصر لأنهم شعروا أن في ذلك خلاصهم من عسف الفراعنة وعبوديتهم. ثم أن موسى في مستوى تطوره الفكري لم يكن يستطيع أن يتصور الناس أحرارا من كل عبودية. فلم يكن بإمكانه أن يتصور الله سوى بصورة فرعون كبير أو مالك عبيد أكبر من الفرعون. وبذلك حول الناس من عبيد لفرعون إلى عبيد لله. وما زال اليهود إلى يومنا هذا يعتبرون أنفسهم عبيدا لله يجب أن يصلوا له ثلاث مرات يوميا ويصوموا عيد الغفران لكي يغفر لهم الله آثامهم التي يقترفونها خلال السنة إضافة إلى الكثير من القيود والشروط التي أضافها إلى اليهودية على مر القرون كهنة الدين ولا علاقة لها بديانة موسى الأصلية.
نرى من هذا أن ديانة النبي موسى كانت حركة ملائمة لظروف مجتمع العبيد في مصر في فترة ظهورها. ونرى أن النبي موسى قدم للناس في أيامه حلولا لمشاكلهم وخلاصا من عذابهم بالصورة التي استطاع التوصل إليها. ونفس الشيء يصح على كافة الديانات لأنها كانت تقدم للناس حلولا لمشاكلهم وخلاصا من عذابهم في فترة ظهورها.
ولكن الديانات التي تبدأ كحركة تلبي بعض حاجات المجتمع في حينها سرعان ما تنسجم مع التكوين الطبقي للمجتمع. فكما أن المجتمع في كافة المراحل يتكون من طبقات مستغلة وطبقات مستغلة تصبح الديانات أيضا جزءا من هذا التركيب الطبقي. فتتألف فئات دينية تشكل جزءا من الطبقات المستغلة وجزءا لا يتجزأ من دكتاتورية الدولة القائمة بينما تتحول الأغلبية الساحقة من أتباع تلك الديانات إلى جزء من الطبقات المستغَلة.
وبذلك تتحول الديانة إلى أدوات استغلال لتابعيها ولأتباع الديانات الأخرى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا على حد سواء. ويقوم رجال الدين وكلاء الآلهة بتفسير الدين بالصورة التي تضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية. وتنشأ نتيجة لذلك فروع وفئات مختلفة حتى في الديانة الواحدة. والتاريخ كله سلسلة من هذه الانقسامات الدينية حتى في الدين الواحد والحروب الدينية لمختلف الديانات وحتى بين أتباع الديانة الواحدة. وأصبحت الدول طوال تاريخ القرون السابقة إما دولا دينية أو دولا دنيوية تعتمد الدين وتستخدمه وسيلة لتحقيق سياساتها. واستمر هذا الوضع حتى يومنا هذا. فنرى الديانات المسيحية المتناقضة بالمئات وكذلك المدارس الإسلامية العديدة والمدارس اليهودية المختلفة والصراع بينها والمظالم والمجازر التي تجري باسم هذه الديانة أو تلك. بل حتى بوش ادعى انه ينفذ إرادة الله في حربه على أفغانستان والعراق.
ظهرت الماركسية في نظام رأسمالي تستغل فيه الطبقة الرأسمالية الشعب الكادح كذلك ظهرت في مجتمعات تسودها شتى أنواع الديانات السماوية وغير السماوية. والماركسية هي نظرية الطبقة العاملة التي توجهها وترشدها إلى الطريق الصحيح لنضالها من اجل تحرير نفسها والشعوب الكادحة من كل أنواع الاستغلال. وكان على الأحزاب التي تسترشد بالماركسية في مسرى نضالها أن تحدد موقفها من الديانات كما تحدد موقفها من كل الظواهر السياسية والاجتماعية الأخرى.
ولذلك بدأ البيان الشيوعي بعبارته الشهيرة "هناك شبح يجول في أوروبا – هو شبح الشيوعية. وقد اتحدت قوى أوروبا العجوز في حلف مقدس لملاحقته والتضييق عليه؛ من البابا والقيصر إلى مترنيخ وغيزو، ومن الراديكاليين في فرنسا إلى رجال الشرطة في ألمانيا."
هناك مرحلتان مختلفتان في نضال الأحزاب الماركسية وتحديد مواقفها من الدين تتحدد وفقا للمرحلتين في نضالها ضد الرأسمالية. ففي المرحلة الأولى تجابه الأحزاب الماركسية السلطة الرأسمالية وكذلك السيطرة الدينية وعليها أن تحدد مواقفها طبقا لذلك. وفي المرحلة الثانية، بعد الثورة الاشتراكية، عليها أن تحدد مواقفها بصفتها سلطة ودولة تجاه مختلف القضايا ومنها الديانات. وفي كلا المرحلتين تحدد الأحزاب الماركسية موقفها وفقا للطابع الطبقي للمجتمع أي أنها تميز بين الديانات بصفتها سلطة ووسيلة استغلال للكادحين وبين الديانات كتقاليد راسخة في أذهان الناس البسطاء والكادحين عن إيمان واعتقاد. فهي تفضح بشدة سيطرة الدولة والمؤسسات الدينية على جماهير الشعب واستغلالها وتكافح ضد كل أنواع التمييز الديني واضطهاد الديانة الرسمية للديانات الأخرى واستخدامها وسائل لخلق العنعنات والتصادمات التي تبعد الكادحين عن وحدتهم في النضال ضد الطبقات المستغلة دينية كانت أم دنيوية. ومن الناحية الثانية تستخدم التثقيف والإقناع بين الجماهير الكادحة لإبعادها عن التعصب وعن التصادمات بين الديانات المختلفة والتيارات المختلفة في ديانة واحدة.
وفي الوقت الذي تكافح ضد كل أنواع الاستغلال الديني تراعي الناس البسطاء في معتقداتهم ولا تبدي عداء لهم بسبب تدينهم. واهم من كل ذلك يجب أن يكون موقفها مرنا تجاه أناس ما زالوا مؤمنين بدياناتهم رغم أنهم مناضلون أشداء ومخلصون ضد الاستغلال ومستعدون حتى للانضمام إلى الأحزاب الماركسية بدون أن يجبروا على التخلي عن معتقدهم كشرط لقبولهم في الحركة وجعل الإخلاص للحركة والنضال والتمسك ببرنامج الحزب أساسا والإيمان الديني أمرا فرعيا في تحديد الموقف من مثل هؤلاء المناضلين.
وهذا الأمر يتخذ المزيد من الأهمية في عراق اليوم مثلا حين تكون مقاومة الاحتلال على رأس مهام الماركسيين وحين ينضم إلى المقاومة كل إنسان يشعر بظلم المحتلين الأنجلو أميركان وحلفائهم. وأكثر من ذلك هو أن القيادات الدينية تستغل وطنية هؤلاء المتدينين لقيادتهم بطريقتها ووفقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية بينما تدعو الضرورة الماركسيين إلى اجتذاب الكثير من هؤلاء المتدينين المخدوعين للانضمام تحت لوائهم وقيادتهم في الصراع من اجل تحرير البلاد من المستعمرين وأعوانهم.
أما دور الماركسية تجاه الدين بعد انتصار الثورة الاشتراكية وتولي البروليتاريا الحكم فيختلف كثيرا عن دور الماركسية بصدد الدين قبل الثورة. ففي جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يصبح سلوك الماركسيين خاضعا لطبيعة دكتاتورية البروليتاريا. لذا يصبح السؤال هنا ما هو موقف دكتاتورية البروليتاريا من الدين؟ والجواب هو كما هو الأمر في جميع الميادين يتحدد موقف دكتاتورية البروليتاريا من الدين حسب الطبيعة المزدوجة لدكتاتورية البروليتاريا أي الدكتاتورية والديمقراطية.
فالدكتاتورية تعامل كل أنواع الاستغلال الديني القائمة في المجتمعات الرأسمالية وغير الرأسمالية كمعاملتها لشتى أنواع الاستغلال الأخرى. معروف أن المؤسسات الدينية أصبحت في الدول الرأسمالية مؤسسات رأسمالية كبرى تستغل العمال والكادحين متدينين كانوا أم غير متدينين. ولذلك فعلى دكتاتورية البروليتاريا أن تمارس ضد المؤسسات الدينية الرأسمالية نفس الأساليب الدكتاتورية التي تمارسها ضد المؤسسات الرأسمالية الأخرى. فكما تؤمم دكتاتورية البروليتاريا البنوك والمصانع عليها أن تؤمم أملاك وأموال المؤسسات الدينية لمنعها من استغلال العمال وسائر الكادحين.
ومعروف أن في الدول الرأسمالية يوجد اتحاد وتضامن تام بين سلطات الدولة والسلطات الدينية. ولذلك على دكتاتورية البروليتاريا أن تقمع الترابط بين سلطات الدولة والسلطات الدينية. وأول واجب من هذا النوع هو فصل الدين عن الدولة. فلا تبقى ثمة علاقة بين الدولة والسلطات الدينية. وهذا يعني انه لا تبقى ديانة رسمية للدولة ولا ديانة سائدة وديانات ثانوية. والدولة هي دولة علمانية تعامل الناس بصفتهم مواطنين بصرف النظر عن صفاتهم الدينية. وهذا من شأنه أن يزيل كافة العنعنات والنزاعات الدينية وما يرافقها من مجازر واضطهادات وتمييز الأشخاص وفقا لدياناتهم.
صفة أخرى من صفات الدكتاتورية تجاه الدين هي فصل الدين عن الثقافة العامة. فلا يسمح بالتثقيف الديني في المدارس بل يقتصر تثقيف الأجيال الجديدة على الثقافة العلمية البحتة. وإيقاف أية إعانات مالية لمؤسسات دينية أيا كان شكلها. والخلاصة هي أن على الدكتاتورية أن تمنع أية وسيلة من وسائل الاستغلال على أساس ديني.
ولكن هناك مهام ديمقراطية بصدد موقف الماركسية من الدين. فالصفات الديمقراطية لدكتاتورية البروليتاريا تجاه الدين هي إعلان حق كل إنسان بأن يعتنق دينا أو أن لا يعتنق أي دين. فدولة دكتاتورية البروليتاريا تمنح لكل شخص الحق في أن يعتنق الدين الذي يؤمن به ولا تضطهد أو تميز شخصا في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية بسبب ممارسته تقاليده الدينية أو بسبب عدم تدينه. فالأشخاص متساوون في حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بصرف النظر عن تدينهم أو عدم تدينهم ولا توجد في بطاقات هوية أي شخص إشارة إلى الدين الذي ينتمي إليه ولا يحق لأي مسؤول أن يسأل عن ديانة شخص أثناء توجهه للدولة من اجل أية قضية أو أي استخدام.
ولكن على الماركسيين أن يحذروا أشد الحذر من الانزلاق وراء اتجاهات انتهازية تتظاهر بالإيمان أو الاعتقاد بديانة معينة رغبة في اجتذاب جماهير تلك الديانات. فالماركسية تعتبر أن الديانات كانت ضرورة في مراحل نشوئها ولكنها لم تعد تخدم المجتمع في تطوره الحالي وأصبحت رجعية في تطبيقها تعيد المجتمع إلى مراحل فات أوانها. وهذا ما شاهدناه على سبيل المثال في أفغانستان وإيران الخميني وباكستان والسعودية بحجة التمسك بالإسلام وما نراه في إسرائيل بحجة التمسك باليهودية وما رأيناه في محاكم التفتيش والحروب الصليبية بحجة التمسك بالمسيحية وغيرها. فالماركسيون يجب أن يعربوا بصراحة عن عدم اعتقادهم بأي من هذه الديانات صراحة بدون تورية أو رياء. فكما أن الماركسيين لا يضطهدون شخصا بسبب معتقده الديني يطلبون من الآخرين ألا يضطهدوهم بسبب عدم اعتقادهم بأي دين. ويجب ألا يؤدي الاضطهاد الديني والفتاوى ضد الشيوعية والماركسية بالماركسيين إلى التظاهر بالتدين أو الاعتقاد بدين معين للتخلص من الاضطهاد الديني بل يجب أن يفضحوا رجال الدين في ريائهم واضطهادهم للماركسية والشيوعية بالضبط كما يفضحون الدعايات السياسية الموجهة ضد الشيوعية من قبل القوى الرأسمالية والقوى الموالية لها.
فالماركسية تريد أن تتخلص من الدين بصفته مرحلة قديمة لم يعد لها دور إيجابي في تطور المجتمع ولكنها لا تستطيع ذلك بفرضه بالقوة على الجماهير المتدينة بل تتوصل إليه بالإقناع والتثقيف والبرهنة على أن القيادات الدينية لا تعمل لمصلحة الكادحين بل تعمل لمصالحها الخاصة التي تعني استغلال الكادحين شأنها في ذلك شأن القوى الرأسمالية. على الماركسيين أن يميزوا كل التمييز بين معاداة الدين والمتدينين وهو لا علاقة له بالماركسية وبين الرياء والتملق للدين وهو الأخر لا يمت إلى الماركسية بصلة. الماركسية لا تؤمن بدين ولكنها لا تضطهد المتدين بسبب تدينه. ولكنها تضطهد الاستغلال الديني بكل ما أوتيت من قوة.
حسقيل قوجمان - الحوار المتمدن - العدد: 957 - 2004 / 9 / 15
الماركسية والدين
ينظر معظم مؤيدي الماركسية وخصومها إلى عبارة" الدين أفيون الشعوب " الشهيرة على إنها خلاصة المفهوم الماركسي عن الظاهرة الدينية. على أننا يجب أن نتذكر بادئ ذي بدء أن هذا التعبير ليس ماركسيا بشكل خاص، فالعبارة نفسها يمكننا العثور عليها، في سياقات مختلفة، في كتابات كانط وهيردر وفيورباخ وبرونو باور وهاينريش هاينه...
إن من شأن قراءة متأنية لمجمل فقرة ماركس التي يظهر فيها تعبير " الدين أفيون الشعوب " أن تبين أن كاتبها أكثر إدراكا لدرجات الألوان مما هو شائع عنه. فهو يأخذ في اعتباره الطابع المزدوج للدين: "إن الهم الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي واحتجاج علي هم واقعي. إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضع بلا روح. إنه أفيون الشعب ".
وإذا ما قرأنا مجمل البحث الذي ترد فيه هذه الفقرة - والذي يحمل عنوان " نحو نقد لفلسفة الحق الهيجلية " والمكتوب في عام 1844 - فسوف يتكشف لنا بوضوح أن رأى ماركس يدين للهيجلية الجديدة اليسارية، التي اعتبرت الدين اغترابا للجوهر الإنساني، بأكثر مما يدين لفلسفة التنوير التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والتي أدانت الدين بوصفه مؤامرة إكليركية لا أكثر ولا اقل.
والواقع أن ماركس عندما كتب الفقرة الأنفة كان لا يزال تلميذا لفيورباخ، هيج يليا جديدا. ومن ثم فإن تحليله للدين كان " قبل ماركسي " لا يتميز بأية إحالة طبقية على انه مع ذلك جدليا لأنه قد استوعب الطابع المتناقض للظاهرة الدينية: فهي في بعض الأحيان تمثل إضفاء للشرعية على المجتمع القائم وهي في بعض الأحيان تمثل احتجاجا عليه. ولم تبدأ الدراسة الماركسية المحددة للدين بوصفه علاقة اجتماعية وتاريخية إلا فيما بعد - خاصة مع مخطوط " الأيديولوجية الألمانية (1846).
وقد تضمنت تلك الدراسة تحليلا للدين بوصفه أحد الأشكال الكثيرة للإيديولوجية، الإنتاج الروحي لشعب ما،إنتاج الأفكار والتمثيلات والوعي - والتي تعتبر كلها بالضرورة مشروطة بالإنتاج المادي والعلاقات الاجتماعية المتناسبة معه، على أن ماركس، منذ تلك اللحظة فصاعدا، لم يول اهتماما كبيرا للدين بصفته هذه، أي بصفته كونا ثقافيا /أيديولوجيا نوعيا للمعني.
..... وإنجلز أبدي فرديريك اهتماما بالظاهرة الدينية وبدورها التاريخي يفوق اهتمام ماركس بهما بكثير. وتتمثل مساهمة انجلز الرئيسية التي قدمها إلى الدراسة الماركسية للأديان في تحليله لعلاقة التمثيلات الدينية بالصراع الطبقي.
وفيما وراء المناظرة الفلسفية (المادية ضد المثالية) حاول فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان. فالمسيحية لم تبدو في نظره (مثلما كانت تبدو في نظر فيورباخ) بوصفها "جوهرا " منفصلا عن الزمن، بل هي تبدو بوصفها شكلا ثقافيا يتعرض لتحولات في العصور التاريخية المختلفة: فهي تبدو في البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجية ملائمة للهيراركية الإقطاعية واخيرا بوصفها أيديولوجية تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي.
وهي تظهر من ثم بوصفها فضاء رمزيا تتنازع عليه قوي اجتماعية متناحرة: اللاهوت الإقطاعي والبروتستانتية البورجوازية والهرطقات الشعبية. وفي بعض الأحيان كان تحليله يزل في اتجاه تفسير نفعي، ذرائعي، بشكل ضيق للحركات الدينية: ".... وان كل طبقة من الطبقات المختلفة تستخدم الدين الملائم لها... ولا أهمية تذكر لما إذا كان هؤلاء السادة يؤمنون بالأديان التي يتبناها كل منهم أم لا " ويبدو أن انجلز لا يري في صور الإيمان المختلفة غير" الستار الديني" للمصالح الطبقية.
لكن إنجلز بفضل منهجه الذي يؤكد علي الصراع الطبقي ن قد أدرك - خلافا لفلاسفة التنوير - أن النزاع بين المادية والدين لا يتطابق دائما مع الصراع بين الثورة والرجعية. فنحن نجد، على سبيل المثال، في إنجلترا في القرن الثامن عشر، أن المادية ممثلة في شخص هوبز قد دافعت عن الملكية المطلقة في حين أن الشيع البروتستانتية قد استخدمت الدين كراية لها في النضال الثوري ضد آل ستيوارت.
وبالشكل نفسه، بدلا من اعتبار الكنيسة كلا متجانسا من الناحية الاجتماعية نقدم تحليلا رائعا يبين كيف أن الكنيسة قد انقسمت في بعض المنعطفات التاريخية بحسب تركيبها الطبقي.
وهكذا فخلال زمن الإصلاح،كان على أحد الجانبين كبار رجال الدين، القمة الإقطاعية للهيراركية، وكان على الجانب الآخر صغار رجال الدين، الذين جاء من بين صفوفهم إيديولوجيو الإصلاح وإيديولوجيو الحركة الفلاحية الثورية ز ومع كون انجلز ماديا " ملحدا " وعدوا لدودا للدين، فانه قد أدرك، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب، الطابع المزدوج للظاهرة الدينية: دورها في إضفاء الشرعية علي النظام القائم، ولكن أيضا، تبعا للظروف الاجتماعية، دورها الإنتقادي والاحتجاجي، بل والثوري.
وعلاوة على ذلك فإن معظم الدراسات الملموسة التي كتبها قد ركزت علي هذا الجانب الثاني: حيث تركزت، بالدرجة الأولي، على المسيحية البدائية، ديانة الفقراء والمنبوذين والمهانين والمضطهدين والمقهورين.
---------------------
فقد جاء المسيحيون الأوائل من أدنى مستويات المجتمع: العبيد، الأحرار الذين حرموا من حقوقهم، وصغار الفلاحين الذين نزحوا تحت نير الديون بل إن إنجلز قد مضي إلى حد رسم تواز مثير بين هذه المسيحية البدائية والاشتراكية الحديثة.
أ- إن الحركتين الكبيرتين ليستا من عمل زعماء وأنبياء- مع أن الأنبياء ليسوا بالمرة قليلين في أي منهما -بل هما حركتان جماهيريتان.
ب - إن كليهما حركات مضطهدين، يعانون من القهر والمنتمون إليهما يتعرضون للتشريد والملاحقة من جانب السلطات الحاكمة.
ج- أن كليهما يدعوان إلى تحرر وشيك من العبودية والبؤس.
وسعيا إلى زخرفة مقارنته، نجد أن إنجلز يتجه، بشكل مثير إلى حد ما، إلي الاستشهاد بقول مأثور للمؤرخ الفرنسي رينان: " إذا أردتم تكوين فكرة عما كانت عليه حال الجماعات المسيحية الأولي، انظروا إلى شعبة محلية لرابطة العمال الأممية " ويري انجلز أن الفارق بين الحركتين يتمثل في أن المسيحيين الأوائل قد نقلوا الخلاص إلى الآخرة بينما تتصوره الاشتراكية في هذا العالم الدنيوي. ولكن هل يعتبر هذا الفارق واضحا بالدرجة التي يبدو بها للوهلة الأولي ؟
يبدو أنه قد أصبح مطموسا في دراسة إنجلز للحركة المسيحية الكبرى الثانية - " حرب الفلاحين في ألمانيا " - فتوماس مونزر، لاهوتي وقائد الفلاحين الثوريين والعوام الهراطقة في القرن السادس عشر كان يريد تجسيدا فوريا على الأرض لمملكة الرب، مملكة الأنبياء الألفية السعيدة. ويري انجلز أن مملكة الرب كانت بالنسبة لمونزر مجتمعا لا يعرف الفوارق الطبقية ولا الملكية الخاصة ولا سلطة دولة مستقلة عن أفراد ذلك المجتمع وغريبة عنه.
على أن انجلز كان ما يزال ميالا إلى اختزال الدين إلى مستوي حيلة: فقد تحدث عن "صيغ " مونزر " الكلامية " المسيحية وعن " ستاره " الإنجيلي ويبدو انه قد غاب عن باله البعد الديني المحدد للنزعة الألفية المونزرية، قوتها الروحية والأدبية، وعمقها الصوفي المعيش معايشة صادقة. وأيا كان الأمر، فإن انجلز، بتحليله الظاهرة الدينية من منظور الصراع الطبقي، قد ابرز القوة الاحتجاجية للدين وشق الطريق لنهج جديد - متميز عن كل من الفلسفة التنويرية التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والهيجلية الجديدة الألمانية - لتناول العلاقة بين الدين والمجتمع.
ومعظم الدراسات الماركسية في القرن العشرين عن الدين تقتصر إما على تفسير أو تطوير للأفكار التي عرضها ماركس وانجلز أو على تطبيقها على واقع محدد.
كاوتسكي ولينين ولوكسمبورج تلك هي الحالة مثلا مع دراسات كارل كاو تسكي التاريخية عن المسيحية البدائية، والهرطقات التي عرفتها العصور الوسطي، وعن توماس مور وتوماس مونزر. وبينما يقدم لنا كاوتسكي نظرات ثاقبة وتفصيلات مهمة عن الأسس الاجتماعية والاقتصادية لهذه الحركات وعن طموحاتها المشاعية، فإنه عادة ما يختزل معتقداتها الدينية إلى مستوي مجرد " قشرة " أو"حلة " " تخفي" محتواها الاجتماعي. وفي كتابه عن الإصلاح الألماني، لا يبدد أي وقت في تناول البعد الديني للنزاع بين الكاثوليك واللوثريين والقائلين بتجديد العماد: واحتقارا منه ل " المشاجرات اللاهوتية " بين هذه الحركة الدينية، يري أنالمهمة الوحيدة للمؤرخ هي " إرجاع نزاعات تلك الأزمنة إلى تناقضات المصالح المادية ". وكان كثيرون من الماركسيين في الحركة العمالية الأوربية معادين بشكل جذري للدين لكنهم كانوا يرون أن المعركة الإلحادية ضد الأيديولوجية الدينية يجب أن تخضع للضرورات الملموسة للنظام الطبقي، الذي يتطلب الوحدة بين العمال الذين يؤمنون بالرب وأولئك الذين لا يؤمنون به.
------------
ولينين نفسه - الذي غالبا ما شجب الدين باعتباره " ضبابا صوفيا "- يؤكد في مقالة الذي يحمل عنوان "الاشتراكية والدين" (1905) على أن الإلحاد لا يجب أن يكون جزء من برنامج الحزب لأن " الوحدة " في النضال الثوري الذي تخوضه الطبقة المقهورة من اجل خلق فردوس على الأرض أهم بالنسبة لنا بكثير من وحدة الرأي البروليتاري حول الموقف من فكرة الفردوس في السماء.
وقد تقاسمت روزا لوكسمبورج هذا الرأي، لكنها طورت نهجا مختلفا واكثر مرونة فعلى الرغم من أنها كانت هي نفسها ملحدة، فقد هاجمت في كتاباتها السياسة الرجعية للكنيسة - باسم تراثها - بأكثر مما هاجمت الدين. وفي بحث كتب في عام 1905، (الكنيسة والاشتراكية) قالت أن الاشتراكيين الجدد اكثر إخلاصا للمبادئ الأصلية للمسيحية من رجال الدين المحافظين المعاصرين.
وبما أن الاشتراكيين يناضلون من اجل نظام اجتماعي يتميز بالمساواة والحرية والإخاء، فإن القساوسة، إذا كانوا يريدون مخلصين أن يطبقوا في حياة البشرية المبدأ المسيحي الذي يدعو إلي أن يحب المرء جاره حبه لنفسه، يجب أن يرحبوا بالحركة الاشتراكية.
فعندما يؤيد رجال الدين الأغنياء، الذين يستغلون ويضطهدون الفقراء، فانهم يكونون في تناقض سافر مع التعاليم المسيحية: إنهم يخدمون العجل الذهبي لا المسيح. وكان رسل المسيحية الأوائل مشاعيين متحمسين وقد حجب آباء الكنيسة (مثل بازيل الأكبر ويوحنا كريسوستوم) الظلم الاجتماعي وهذه القضية تتولاها اليوم الحركة الاشتراكية التي تحمل إلى الفقراء إنجيل الإخاء والمساواة، وتدعو الشعب إلى إنشاء مملكة الحرية وحب الجار علي الأرض. وبدلا من خوض معركة فلسفية باسم المادية، تحاول روزا لوكسمبورج استنقاذ البعد الاجتماعي للتراث المسيحي لحساب الحركة العمالية. وكان الماركسيون النمساويون، اوتو باور وماكس أدلر، الخ، اقل عداوة للدين بكثير من زملائهم الألمان والروس. ويبدو انهم قد اعتبروا الماركسية متمشية مع شكل ما للدين، لكن ذلك يشير أساسا إلى الدين بوصفه " عقيدة فلسفية " (ذات إلهام قانطي جديد) وليس إلى تقاليد دينية تاريخية ملموسة.
الأممية الشيوعية لم يول اهتمام كبير للدين في الأممية الشيوعية. وقد انضم عدد هام من المسيحيين إلى لحركة، وخلال العشرينات، نجد أن قسا بروتستانتيا سويسرا سابقا، هو جول أمبير - دروز، قد أصبح واحدا من قادة الكومنترن (الأممية الشيوعية) الرئيسيين. وكانت الفكرة السائدة بين الماركسيين آنذاك هي أن المسيحي الذي صار اشتراكيا أو شيوعيا إنما يعتبر بالضرورة متخليا عن معتقداته الدينية "اللاعلمية" و"المثالية " السابقة.
وعمل برتولد بريشت المسرحي الجميل الذي يحمل عنوان " جان الجزارات " (1932 )هو مثال جيد لهذا النوع من التناول التبسيطي لتحول المسيحيين إلى النضال من اجل التحرر البروليتاري. ويصف بريشت بشكل بالغ الذكاء العملية التي تكتشف عبرها جان، هي قائدة لجيش الخلاص، حقيقة الاستغلال والظلم الاجتماعي وتموت متنكرة لمعتقداتها السابقة. إلا أنه لابد من أن توجد بالنسبة له قطيعة مطلقة وكاملة بين إيمانها المسيحي السابق وإيمانها الجديد بالنضال الثوري.
وقبيل موتها مباشرة تقول جان للشعب: " إن جاءكم أحدا يوم ما ليقول أن هناك ربا، وإن كانت لا تدركه الأبصار، يمكنكم انتظار عونه، ارجموه بحجر على رأسه دون رحمه إلى أن يموت ".
وفي هذا النوع من المنظورات " المادية " الفجة - وغير المتسامحة بالمرة - ضاعت بصيرة روزا لوكسمبورج النافذة، التي رأت أن بوسع المرء النضال من اجل القيم الحقيقية للمسيحية الأصلية.
والواقع أنه قد ظهرت في فرنسا (1936 - 1938 )، بعد سنوات قليلة من كتابة بريشت لهذه المسرحية، حركة للمسحيين الثوريين تجمع عدة آلاف من المناضلين الذين ساندوا الحركة العمالية بنشاط، خاصة جناحها الأكثر جذرية (جناح الاشتراكيين اليساريين الذين تزعمهم مارس بيفير ). وكان شعارهم الرئيسي " نحن اشتراكيون لأننا مسيحيون".
----------------
جرامشي
من بين زعماء ومفكري الحركة الشيوعية، من الأرجح أن جرامشي هو الوحيد الذي أبدى الاهتمام الأكبر بالمسائل الدينية.
كما أنه أحد الماركسيين الأوائل الذين حاولوا فهم الدور المعاصر للكنيسة الكاثوليكية وثقل الثقافة الدينية بين الجماهير الشعبية وملاحظاته عن الدين التي سجلها في " دفاتر السجن " ذات طابع متناثر ومبعثر وتلميحي، لكنها في الوقت نفسه جد نافذة.
والواقع أن نقده الحاد الساخر لأشكال الدين المحافظة - خاصة النوع اليسوعي من الكاثوليكية، الذي كان يمقته من صميم فؤاده - لم يحل بينه وبين أن يدرك أيضا البعد الطوباوي للأفكار الدينية ".... أن الدين هو اضخم " ميتافيزيقيا " عرفها التاريخ حتى الآن، لأنه اضخم محاولة للتوفيق، في شكل ميثولوجي، بين التناقضات الفعلية للحياة التاريخية. فالواقع أنه يؤكد أن البشرية لها " طبيعة " واحدة، أن الإنسان... بقدر ما أنه قد خلقه الرب، ابن الرب، هو من ثم أخو للبشر الآخرين ومثلهم...، لكنه يؤكد أيضا أ، ذلك كله لا ينتمي إلي هذا العالم، بل إلي عالم آخر (اليوتوبيا ). وهكذا فإن أفكار المساواة والإخاء، والحرية تنبجس بين البشر... وهكذا فإن هذه المطالب قد طرحت دائما في كل تحرك جذري للجماهير، على نحو آخر، بأشكال خاصة وبايديوجيات خاصة " كما أكد على التمايزات الداخلية للكنيسة وفقا للتوجهات الإيديولوجية - تيارات ليبرالية ويسوعية وأصولية داخل الثقافة الكاثوليكية - ووفقا للطبقات الاجتماعية المختلفة:
"إن كل دين... هو في الواقع عديد من الأديان المختلفة والمتناقضة غالبا: فهناك كاثوليكية للفلاحين وكاثوليكية للبرجوازية الصغيرة وعمال المدن وكاثوليكية للمرأة وكاثوليكية للمثقفين.... " وتتصل معظم ملاحظاته بتاريخ ودور الكنيسة الكاثوليكية الحالي في إيطاليا: تعبيرها الاجتماعي والسياسي من خلال جماعة العمل الكاثوليكي وحزب الشعب، وعلاقتها بالدولة وبالطبقات التابعة، الخ. وقد اهتم على نحو خاص بأسلوب تجنيد المثقفين التقليديين واستخدامهم كأدوات للهيمنة من جانب الكنيسة: " مع أنها قد نظمت آلية مثيرة للاختيار " الديمقراطي " لمثقفيها، فإنهم قد اختيروا كأفراد فرادى وليس كتعبير تمثيلي عن الجماعات الشعبية ".
------------
بلوخ
إن تحليلات جرامشي ثرية ومحركة للتأمل، لكنها، في التحليل الأخير، لا تجدد في منهج تناول الدين. وأرنست بلوخ هو الكاتب الماركسي الأول الذي غير الإطار النظري جذريا دون أن يتخلى عن المنظور الماركسي والثوري.
وبأسلوب مماثل لأسلوب أنجلز، ميز بين تيارين متعارضين من الناحية الاجتماعية: من جهة، دين الكنائس الرسمية الثيوقراطي، أفيون الشعب، جهاز تضليلي يخدم الأقوياء، ومن الجهة الأخرى، الدين السري، الهدام والخارج الذي عرفه الألبيجينسيون (شعبة دينية ظهرت في فرنسا بين عامي 1029- 1250، وترضت للقمع بتهمة الهرطقة - المترجم) والهوسيون (اتباع يان هوس (1369- 1415) المصلح الديني في بوهيميا، والذي احرق بتهمة الهرطقة) ويواقيم الفلوري وتوماس مونزر وفرانتس فون بادر، وفيلهيلم فايتلينج وليو تولستوي.
على أن بلوخ، خلافا لإنجلز، رفض اعتبار الدين مجرد " ستار " لمصالح طبقية - وقد انتقد هذا المفهوم بشكل صريح، وإن كان قد رده إلى كاوتسكي وحده... فالدين في أشكاله الاحتجاجية والمتمردة هو أحد أهم أشكال الوعي الطوباوي، أحد اغنى التعبيرات عن مبدأ الأمل.
واللاهوت اليهودي - المسيحي عن الموت والخلود - الكون الديني الأثير لدى بلوخ - أنما يرمز، من خلال قدرته علي التوقع الإبداعي، إلي الفضاء الخيالي لما لم يأتي بعد.
واستنادا إلي هذه التصورات، يطور بلوخ تفسيرا غير أرثوذكسي وخارجا علي الأعراف التقليدية للكتاب المقدس - بعهديه القديم والجديد - مقدما إنجيل الفقراء، الذي يدين الفراعنة ويدعو الجميع إلي الاختيار بين قيصر والمسيح. والواقع أن بلوخ وهو ملحد ديني - إنه يري أن الملحد هو وحده الذي يمكنه أن يصبح مسيحيا صالحا وأن المسيحي الصالح وحده هو الذي يمكنه أن يصبح ملحدا - ولاهوتي للثورة، لم يقدم مجرد قراءة ماركسية للنزعة الألفية (مقتفيا اثر أنجلز في ذلك) بل قدم أيضا - وهذا هو الجديد، تفسيرا ألفيا للماركسية، حيث يجرى اعتبار النضال الاشتراكي من أجل مملكة الحرية وريثا مباشرا لهرطقات الماضي الأخروية والجماعية.
وبطبيعة الحال فإن بلوخ، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب الذي كتب فقرة 1844 الشهيرة، وقد ميز الطابع المزدوج للظاهرة الدينية، جانبها القهري وكذلك قدرتها على التمرد.
ويتطلب الجانب الأول استخدام ما يسميه ب " تيار الماركسية البارد ": التحليل المادي الذي لا يكل للأيديولوجيات والأوثان والوثنيات.
على أن الجانب الثاني يتطلب " تيار الماركسية الدافق " الذي بسعي إلى استنقاذ الفائض الثقافي الطوباوي في الدين، قوته الانتقادية والتوقعية. وبعيدا عن أي "حوار " كان بلوخ يحلم باتحاد حقيقي بين المسيحية والثورة مثلما حدث في حرب الفلاحين في القرن السادس عشر. وإلى حد ما، كان بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت يتقاسمون أراء بلوخ. فقد رأى ماكس هوركهايمر أن " الدين هو سجل رغبات وأشواق واحتجاجات اجيال لا حصر لها " وفي كتابه " عقيدة المسيح (1930 )، استخدم ***يك فروم الماركسية والتحليل النفسي لتوضيح جوهر المسيحية البدائية الخلاصي والشعبي والمساواتي والمعادي للتسلط، وقد حاول فالتر بنيامين أن يؤلف، في تركيب فريد وأصيل، بين اللاهوت والماركسية، بين الخلاصية اليهودية والمادية التاريخية.
----------------------------
جولدمان
ويعتبر عمل لو سيان جولدمان محاولة رائدة أخرى لتجديد التناول الماركسي للدين ومع أن مصادر إلهام جولدمان تختلف اختلافا بينا عن مصادر الهام بلوخ، إلا أنه قد اهتم هو إيضاح برد الاعتبار إلى القيمة الأخلاقية والإنسانية للتراث الديني.
وقد طور في كتابه " الرب المحتجب " (1955) تحليلا سوسيولوجيا جد مرهف ومبتكر للهرطقة اليانسنية (بما في ذلك مسرح راسين وفلسفة باسكال) بوصفها فلسفة مأساوية، تعبر عن الوضع الخاص لشريحة اجتماعية (نبلاء الرداء) في فرنسا في القرن السابع عشر.
على أن الجزء الأكثر إثارة للدهشة والأكثر أصالة في هذا العمل هو المحاولة الرامية إلى المقارنة بين الإيمان الديني والأيمان الماركسي - دون دمجهما:
فكلاهما يرفضان النزعة الفردية الخالصة (العقلانية أو التجريبية) وكلاهما يؤمنان بقيم فوق فردية - الرب بالنسبة للدين والجماعة الإنسانية بالنسبة للاشتراكية.
ويوجد تناظر مماثل بين الرهان الباسكالي على وجود الرب والرهان الماركسي على تحرر الإنسانية: إن كليهما يفترضان المجازفة، وخطر الفشل وأمل النجاح.
وكليهما ينطويان على إيمان أساسي معين لا يمكن إثباته على مستوي الأحكام الواقعية وحده. وبطبيعة الحال فإن ما يفصل بينهما هو الطابع فوق الطبيعي أو فوق التاريخي للتسامي الديني ودون أن يهدف بآية حال " إضفاء طابع مسيحي على الماركسية " ادخل جولدمان أسلوبا جديدا للنظر إلى العلاقة الصراعية بين الأيمان الديني والإلحاد الماركسي.
لقد رأى ماركس وانجلز أن الدور الانتقادي الذي لعبة الدين هو شيء ينتمي إلى الماضي، لم تعد له أية أهمية في عصر الصراع الطبقي الحديث.
وقد تأكد هذا التوقع من الناحية التاريخية إلى هذا الحد أو ذاك على مدار قرن - فيما عدا استثناءات هامة قليلة (خاصة في فرنسا ): حركة الاشتراكيين المسيحيين في الثلاثينيات، حركة القساوسة العمال في الأربعينيات، يسار النقابات المسيحية الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين في الخمسينيات، الخ. آلا أنه لفهم ما كان يحدث خلال السنوات الثلاثين الماضية في أمريكا اللاتينية - وفي الفلبين أيضا وبدرجة اقل في قارات أخري - فإننا بحاجة إلي أن ندمج في تحليلنا رؤى بلوخ (وجولمان) الثاقبة حول الطاقة الطوباوية للتراث اليهودي – المسيحي.
مايكل لوفي - ترجمة : بشير السباعي - مجلة القاهرة - العدد 134 - يناير 1994
هل قال ماركس: الدين أفيون الشعوب؟
في خمسينيات القرن الماضي، شاع مصطلح «الدولة اليهودية» في الوسطين السياسي والثقافي. كان يقال آنذاك: إن هرتزل، الصحافي اليهودي النمساوي، هو أول من رسم صورة تفصيلية للدولة التي تريدها الحركة الصهيونية في فلسطين، وإنه كتب كتابا عنوانه «الدولة اليهودية» ما لبث مؤتمر بال عام 1897 أن وافق على مضمونه وتبني فكرته. بعد هزيمة حزيران، كتب الأستاذ فائز الصايغ في مجلة الدراسات الفلسطينية مقالة عرج فيها على الكتاب، وقال إن عنوانه ليس «الدولة اليهودية» بل «دولة اليهود» (بالألمانية يودنشتات judenstaat)، وشرح لماذا كانت ترجمة الكتاب مجافية للعلم، فالعقل الأوروبي الحديث يرفض أن ينسب صفة دينية إلى دولة خاض هو نفسه نضالا فكريا وسياسيا امتد لقرون من أجل فصل الدين عنها، دولة يمكن لمواطنيها أن يكونوا مسيحيين أو مسلمين أو يهودا، دون أن تكون هي نفسها مسيحية أو مسلمة أو يهودية.
قبل فترة قرأت حوارا مع صديق عزيز يعد علما من أعلام الماركسية والتجديد الفكري في وطننا العربي، كما قرأت مقالة في جريدة «السفير» للأستاذ صقر أبو فخر، وهو من هو في عالم التوثيق وسعة المعرفة والاطلاع، فوجدت الأستاذين الكريمين يستشهدان بجملة لماركس تقول «الدين أفيون الشعوب». وكنت قد أخبرت قبل أيام صديقا يعمل أستاذا للفلسفة في إحدى الجامعات العربية بأن صديقا مشتركا لنا قال على لسان ماركس إن الدين أفيون الشعوب، فإذا بالصديق يتساءل باستغراب: وأين الخطأ في هذا؟ أخيرا، قيل لي إن الصديق العزيز هاشم صالح كرر القول ذاته .
هنا، نحن أمام خطأ شائع يشبه خطأ «الدولة اليهودية»، الذي ما زلنا نجده بين حين وآخر في كتابات بعض متابعي تاريخ القضية الفلسطينية. والحقيقة ان ماركس لم يقل يوما «الدين أفيون الشعوب»، بل قال: «الدين أفيون الشعب». والفارق نوعي بين الشعوب، التي يشكل مجموعها ما نسميه البشرية، وبين الشعب، الذي كان الأب سييس قد أسهم في اكتشافه وتحديد معناه من خلال كتاب وضعه قبل الثورة الفرنسية بقليل، جعل عنوانه «ما هي الطبقة الثالثة؟». الشعب عند ماركس هو هذه الطبقة الثالثة، التي هي عند سييس الشعب، وتضم العمال والفلاحين والحرفيين والبرجوازيين الصغار وبعض فئات الرأسماليين، ولا يخرج منها أساسا غير الإقطاعيين وأمراء الكنيسة. كان ماركس يدرس الطبقات في فرنسا، ويتابع علاقات الكنيسة مع الفلاحين، حين رأى رسما في إحدى الصحف يصور فلاحا هزيلا وفقيرا يتضور جوعا وراهبا سمينا تكاد تقتله التخمة، وقد كتب الرسام تحته: كلما كان الدير أقرب، كان الفقر والجوع أشد. في ما بعد، كتب ماركس نصا عن الدين قال فيه: «الدين أفيون الشعب»، أي العامة، وهو يفعل فيهم فعل الأفيون، لأنه، التعبير عن استلابه الدنيوي، الذي يجعل منه «النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية ومنطقه في صيغته الشعبية، والتحقق الخيالي لكينونة الإنسان لأن كينونته لم تتحقق في الواقع »، فـ«الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي و... احتجاج عليه... الدين زفرة الإنسان المقموع، قلب عالم لا قلب له، وهو روح شروط اجتماعية لا روح فيها ... إنه أفيون الشعب» (نقلا عن مقالة الأستاذ صقر أبو فخر في جريدة السفير يوم 2 أيلول بعنوان: التقليد أفيون العرب).
لم يكن ماركس يتحدث عن الشعوب، أو عن الدين والشعوب، بل كان يراقب أحوال الكنيسة وعلاقاتها مع الشعب، الطبقة الثالثة. وفي هذه الواقعة المحددة مع الفلاحين، فقال كلاما يصف حالة واقعية بلغة فلسفية تأملية تلخص نظرته إلى التحرر الإنساني باعتباره تحرر الإنسان المشخص، كاسم نوع مجرد وكمواطن مشخص، في واقعه الملموس، الدنيوي، ومنه حالته في الريف الفرنسي، الذي كان يدرسه .هذا ما قاله ماركس. الدين أفيون الشعب : (Religion ist opium des volkes).
يؤكد كتاب ومفكرون كثيرون موقف ماركس والماركسية من الدين عندما يستشهدون بعبارة «الدين أفيون الشعوب»، التي تقلب الشعب بالمعنى الذي بلوره سييس إلى الشعوب، وتعمم حالة محددة بان تضفي عليها صفة مجردة ومطلقة، فلا هي تعبر عن موقف ماركس، الذي لو كان مؤمنا بأن الدين أفيون الشعوب لقال ذلك دون مراوغة، وهو الذي لم يتردد في قول ما كان يراه، وقال ما هو أشد وأكثر راديكالية من هذه الجملة، ولا هي تخدم النقاش حول الماركسية ـ أو الفلسفة عموما ـ والدين، الذي قد يكون فقد بعض أهميته في أوروبا، لكنه يبقى جزءا تكوينيا ورئيسيا من حواراتنا ومكونات فكرنا، نحن الذين يحوم عقلنا منذ زمن طويل حول الفكر الديني، أي قراءات هذه الجهة أو تلك للدين، ونتفادى في مواقفنا مبدأ وضعه ماركس يقول: «نقد الدين هو رأس كل نقد»، ولم ننجح بعد في بلورة موقف من الدين ومسائله تشاطرنا إياه قطاعات واسعة من مجتمعنا، ونفتقر إلى نظرة تستعيد الإنسان من عالم الغيب إلى عالم الواقع، وتحرر إنسانيته من استلاباتها المتنوعة والمركبة، فتعينه على تحرير نفسه بيده، وتحوله إلى حامل مشروع تحرر ذاتي لا ينوب عنه فيه أحد، دولة كان أم حزبا أم جماعة؛ نظرة ترى الدين بدلالة الإنسان، وتقوم على رؤية معرفية / فلسفية للعالم يمكن ترجمتها إلى مواقف عملية تغطي حقول الدولة والمجتمع والمواطن/ الفرد، باعتبارها حقولا للإنسان وللحرية، وللإيمان بالإنسان وبالحرية.
ميشيل كيلو - السفير 04/10/2010
فالماركسية إذن علم بحت بل إن المادية الديالكتيكية باعتبارها علم الحركة هي علم العلوم كما اسماها لينين. فإن العلوم كلها تعالج أنواعا مختلفة من حركة المادة الحية وغير الحية ولذا فإن قوانين المادية الديالكتيكية تصح وتعمل على كل هذه العلوم وان العالم في كل العصور قبل اكتشاف قوانين المادية الديالكتيكية أو بعدها مادي ديالكتيكي في بحوثه العلمية وفي مختبره بصرف النظر عن معتقداته الفلسفية والدينية. وهذا ما جعل إنجلز يؤلف كتابه ديالكتيك الطبيعة للبرهنة على أن علم الديالكتيك يفعل وينطبق على كافة علوم زمانه.
وكون الماركسية علم بحت يعني أنها لا تؤمن بأية قوة خارجة عن الطبيعة تسيطر على حركة الطبيعة أو تسيرها وفقا لهواها بل تعتبر الطبيعة، الكون، مادة في حركة تسير وتتطور وفقا لقوانين معينة توصل الإنسان إلى اكتشاف بعضها وما زال يجهل الكثير منها وأن الإنسان يكتشف خلال تطوره المزيد من القوانين التي تسير الطبيعة وتحدد شكلها في حركتها وتطورها وتغيرها. ولكن الماركسية لم يكن من الممكن التوصل إلى اكتشافها أو معرفتها إلا في مرحلة معينة من مراحل التطور الفكري للمجتمع البشري. فلم تكتشف الماركسية بسبب ذكاء كارل ماركس فقط، ولم يكن بإمكان ظهور كارل ماركس أو أي شخص آخر يكتشف الماركسية قبل قرون، بل ظهر كارل ماركس لان تطور الفكر الإنساني بلغ مرحلة معينة تجعل بالإمكان ظهور من يكتشف الماركسية. فظهور الماركسية كان ضرورة تاريخية حتمية لو لم يكتشفها كارل ماركس لاكتشفها عالم آخر غيره.
والماركسية تعتبر الأديان كلها مرحلة من مراحل تطور الفكر الإنساني. فقد جابه الإنسان لدى خروجه عن نطاق الأحياء الأخرى طبيعة قاسية كان من الصعب عليه التغلب عليها فكان يطلب المساعدة من قوى تصور أنها قادرة على مساعدته أو أنها سبب معاناته. فعبد كفه مثلا لان كفه كانت وسيلته الكبرى للحصول على طعامه وعبد الحيوان الذي كان يعيش على اصطياده وفي مراحل أكثر تقدما عبد الشمس أو القمر أو النجوم وفقا لما أوحاه له تفكيره البدائي حول الطبيعة والقوى المسيرة لها.
كان التفكير بوجود الآلهة بأشكالها وأنواعها مرحلة عالية من تطور الفكر البشري بلغت أقصاها في التفكير بوجود إله واحد هو الخالق للعالم والمسيطر عليه ومسيره وفقا لهواه ورغباته. ففي مراحل تطور المجتمع البشري كانت فترات لم يكن بالإمكان دفع الجماهير للعمل بدون الطابع الديني. ولكن الأنبياء مثلا لم يكن بمستطاعهم أن يجتذبوا الجماهير لتأييد دينهم لو أنهم اقتصروا في دعواتهم على الدعوة لدينهم الجديد لو لم يعالجوا في الوقت ذاته المشاكل الاجتماعية التي كان المجتمع يعاني منها. فإذا أخذنا النبي موسى كليم الله مثلا نرى انه استطاع أن يقود الجماهير لأنه وعدهم بالخلاص من العبودية الفرعونية. انه لم يفكر بالثورة على الفراعنة كما فعل سبارتاكوس مثلا وإنما اتخذ طريقة الخروج من مصر للتخلص من العبودية. والمفروض حسب الأسطورة أن موسى كان يهودي المولد ولكن أمه رمت به إلى النيل لإنقاذه من القتل فأنقذته ابنة الفرعون ونشأ وتربى وتثقف في قصور الفراعنة كأي فرعوني آخر ولو بقي مواليا لهم لأصبح فرعونا أو أميرا. والمفروض انه أنقذ اليهود من العبودية. واصل الأسطورة أن أولاد يعقوب سافروا إلى مصر بسبب المجاعة والتقوا بأخيهم يوسف الذي أرادوا قتله فرموه في الجب وبقوا في مصر وتكاثروا وأصبحوا شعبا مستعبدا من قبل الفراعنة. ولكن هل كان الخارجون من مصر وراء موسى يهودا يعبدون الله فعلا؟ أن الأسطورة نفسها تفيد أن هؤلاء الخارجين استغلوا أول فرصة غاب موسى عنهم لدى اعتكافه في جبل سيناء فصنعوا عجلا ذهبيا واخذوا يمارسون عبادته ولم يستطع اخو موسى هارون الكاهن الأعظم منعهم عن ذلك مما اغضب موسى بحيث انه رمى الحجرين اللذين نحت عليهما وصاياه العشر. فالناس، إذا صحت الأسطورة، قبلوا دعوة موسى إلى الهروب من مصر لأنهم شعروا أن في ذلك خلاصهم من عسف الفراعنة وعبوديتهم. ثم أن موسى في مستوى تطوره الفكري لم يكن يستطيع أن يتصور الناس أحرارا من كل عبودية. فلم يكن بإمكانه أن يتصور الله سوى بصورة فرعون كبير أو مالك عبيد أكبر من الفرعون. وبذلك حول الناس من عبيد لفرعون إلى عبيد لله. وما زال اليهود إلى يومنا هذا يعتبرون أنفسهم عبيدا لله يجب أن يصلوا له ثلاث مرات يوميا ويصوموا عيد الغفران لكي يغفر لهم الله آثامهم التي يقترفونها خلال السنة إضافة إلى الكثير من القيود والشروط التي أضافها إلى اليهودية على مر القرون كهنة الدين ولا علاقة لها بديانة موسى الأصلية.
نرى من هذا أن ديانة النبي موسى كانت حركة ملائمة لظروف مجتمع العبيد في مصر في فترة ظهورها. ونرى أن النبي موسى قدم للناس في أيامه حلولا لمشاكلهم وخلاصا من عذابهم بالصورة التي استطاع التوصل إليها. ونفس الشيء يصح على كافة الديانات لأنها كانت تقدم للناس حلولا لمشاكلهم وخلاصا من عذابهم في فترة ظهورها.
ولكن الديانات التي تبدأ كحركة تلبي بعض حاجات المجتمع في حينها سرعان ما تنسجم مع التكوين الطبقي للمجتمع. فكما أن المجتمع في كافة المراحل يتكون من طبقات مستغلة وطبقات مستغلة تصبح الديانات أيضا جزءا من هذا التركيب الطبقي. فتتألف فئات دينية تشكل جزءا من الطبقات المستغلة وجزءا لا يتجزأ من دكتاتورية الدولة القائمة بينما تتحول الأغلبية الساحقة من أتباع تلك الديانات إلى جزء من الطبقات المستغَلة.
وبذلك تتحول الديانة إلى أدوات استغلال لتابعيها ولأتباع الديانات الأخرى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا على حد سواء. ويقوم رجال الدين وكلاء الآلهة بتفسير الدين بالصورة التي تضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية. وتنشأ نتيجة لذلك فروع وفئات مختلفة حتى في الديانة الواحدة. والتاريخ كله سلسلة من هذه الانقسامات الدينية حتى في الدين الواحد والحروب الدينية لمختلف الديانات وحتى بين أتباع الديانة الواحدة. وأصبحت الدول طوال تاريخ القرون السابقة إما دولا دينية أو دولا دنيوية تعتمد الدين وتستخدمه وسيلة لتحقيق سياساتها. واستمر هذا الوضع حتى يومنا هذا. فنرى الديانات المسيحية المتناقضة بالمئات وكذلك المدارس الإسلامية العديدة والمدارس اليهودية المختلفة والصراع بينها والمظالم والمجازر التي تجري باسم هذه الديانة أو تلك. بل حتى بوش ادعى انه ينفذ إرادة الله في حربه على أفغانستان والعراق.
ظهرت الماركسية في نظام رأسمالي تستغل فيه الطبقة الرأسمالية الشعب الكادح كذلك ظهرت في مجتمعات تسودها شتى أنواع الديانات السماوية وغير السماوية. والماركسية هي نظرية الطبقة العاملة التي توجهها وترشدها إلى الطريق الصحيح لنضالها من اجل تحرير نفسها والشعوب الكادحة من كل أنواع الاستغلال. وكان على الأحزاب التي تسترشد بالماركسية في مسرى نضالها أن تحدد موقفها من الديانات كما تحدد موقفها من كل الظواهر السياسية والاجتماعية الأخرى.
ولذلك بدأ البيان الشيوعي بعبارته الشهيرة "هناك شبح يجول في أوروبا – هو شبح الشيوعية. وقد اتحدت قوى أوروبا العجوز في حلف مقدس لملاحقته والتضييق عليه؛ من البابا والقيصر إلى مترنيخ وغيزو، ومن الراديكاليين في فرنسا إلى رجال الشرطة في ألمانيا."
هناك مرحلتان مختلفتان في نضال الأحزاب الماركسية وتحديد مواقفها من الدين تتحدد وفقا للمرحلتين في نضالها ضد الرأسمالية. ففي المرحلة الأولى تجابه الأحزاب الماركسية السلطة الرأسمالية وكذلك السيطرة الدينية وعليها أن تحدد مواقفها طبقا لذلك. وفي المرحلة الثانية، بعد الثورة الاشتراكية، عليها أن تحدد مواقفها بصفتها سلطة ودولة تجاه مختلف القضايا ومنها الديانات. وفي كلا المرحلتين تحدد الأحزاب الماركسية موقفها وفقا للطابع الطبقي للمجتمع أي أنها تميز بين الديانات بصفتها سلطة ووسيلة استغلال للكادحين وبين الديانات كتقاليد راسخة في أذهان الناس البسطاء والكادحين عن إيمان واعتقاد. فهي تفضح بشدة سيطرة الدولة والمؤسسات الدينية على جماهير الشعب واستغلالها وتكافح ضد كل أنواع التمييز الديني واضطهاد الديانة الرسمية للديانات الأخرى واستخدامها وسائل لخلق العنعنات والتصادمات التي تبعد الكادحين عن وحدتهم في النضال ضد الطبقات المستغلة دينية كانت أم دنيوية. ومن الناحية الثانية تستخدم التثقيف والإقناع بين الجماهير الكادحة لإبعادها عن التعصب وعن التصادمات بين الديانات المختلفة والتيارات المختلفة في ديانة واحدة.
وفي الوقت الذي تكافح ضد كل أنواع الاستغلال الديني تراعي الناس البسطاء في معتقداتهم ولا تبدي عداء لهم بسبب تدينهم. واهم من كل ذلك يجب أن يكون موقفها مرنا تجاه أناس ما زالوا مؤمنين بدياناتهم رغم أنهم مناضلون أشداء ومخلصون ضد الاستغلال ومستعدون حتى للانضمام إلى الأحزاب الماركسية بدون أن يجبروا على التخلي عن معتقدهم كشرط لقبولهم في الحركة وجعل الإخلاص للحركة والنضال والتمسك ببرنامج الحزب أساسا والإيمان الديني أمرا فرعيا في تحديد الموقف من مثل هؤلاء المناضلين.
وهذا الأمر يتخذ المزيد من الأهمية في عراق اليوم مثلا حين تكون مقاومة الاحتلال على رأس مهام الماركسيين وحين ينضم إلى المقاومة كل إنسان يشعر بظلم المحتلين الأنجلو أميركان وحلفائهم. وأكثر من ذلك هو أن القيادات الدينية تستغل وطنية هؤلاء المتدينين لقيادتهم بطريقتها ووفقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية بينما تدعو الضرورة الماركسيين إلى اجتذاب الكثير من هؤلاء المتدينين المخدوعين للانضمام تحت لوائهم وقيادتهم في الصراع من اجل تحرير البلاد من المستعمرين وأعوانهم.
أما دور الماركسية تجاه الدين بعد انتصار الثورة الاشتراكية وتولي البروليتاريا الحكم فيختلف كثيرا عن دور الماركسية بصدد الدين قبل الثورة. ففي جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يصبح سلوك الماركسيين خاضعا لطبيعة دكتاتورية البروليتاريا. لذا يصبح السؤال هنا ما هو موقف دكتاتورية البروليتاريا من الدين؟ والجواب هو كما هو الأمر في جميع الميادين يتحدد موقف دكتاتورية البروليتاريا من الدين حسب الطبيعة المزدوجة لدكتاتورية البروليتاريا أي الدكتاتورية والديمقراطية.
فالدكتاتورية تعامل كل أنواع الاستغلال الديني القائمة في المجتمعات الرأسمالية وغير الرأسمالية كمعاملتها لشتى أنواع الاستغلال الأخرى. معروف أن المؤسسات الدينية أصبحت في الدول الرأسمالية مؤسسات رأسمالية كبرى تستغل العمال والكادحين متدينين كانوا أم غير متدينين. ولذلك فعلى دكتاتورية البروليتاريا أن تمارس ضد المؤسسات الدينية الرأسمالية نفس الأساليب الدكتاتورية التي تمارسها ضد المؤسسات الرأسمالية الأخرى. فكما تؤمم دكتاتورية البروليتاريا البنوك والمصانع عليها أن تؤمم أملاك وأموال المؤسسات الدينية لمنعها من استغلال العمال وسائر الكادحين.
ومعروف أن في الدول الرأسمالية يوجد اتحاد وتضامن تام بين سلطات الدولة والسلطات الدينية. ولذلك على دكتاتورية البروليتاريا أن تقمع الترابط بين سلطات الدولة والسلطات الدينية. وأول واجب من هذا النوع هو فصل الدين عن الدولة. فلا تبقى ثمة علاقة بين الدولة والسلطات الدينية. وهذا يعني انه لا تبقى ديانة رسمية للدولة ولا ديانة سائدة وديانات ثانوية. والدولة هي دولة علمانية تعامل الناس بصفتهم مواطنين بصرف النظر عن صفاتهم الدينية. وهذا من شأنه أن يزيل كافة العنعنات والنزاعات الدينية وما يرافقها من مجازر واضطهادات وتمييز الأشخاص وفقا لدياناتهم.
صفة أخرى من صفات الدكتاتورية تجاه الدين هي فصل الدين عن الثقافة العامة. فلا يسمح بالتثقيف الديني في المدارس بل يقتصر تثقيف الأجيال الجديدة على الثقافة العلمية البحتة. وإيقاف أية إعانات مالية لمؤسسات دينية أيا كان شكلها. والخلاصة هي أن على الدكتاتورية أن تمنع أية وسيلة من وسائل الاستغلال على أساس ديني.
ولكن هناك مهام ديمقراطية بصدد موقف الماركسية من الدين. فالصفات الديمقراطية لدكتاتورية البروليتاريا تجاه الدين هي إعلان حق كل إنسان بأن يعتنق دينا أو أن لا يعتنق أي دين. فدولة دكتاتورية البروليتاريا تمنح لكل شخص الحق في أن يعتنق الدين الذي يؤمن به ولا تضطهد أو تميز شخصا في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية بسبب ممارسته تقاليده الدينية أو بسبب عدم تدينه. فالأشخاص متساوون في حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بصرف النظر عن تدينهم أو عدم تدينهم ولا توجد في بطاقات هوية أي شخص إشارة إلى الدين الذي ينتمي إليه ولا يحق لأي مسؤول أن يسأل عن ديانة شخص أثناء توجهه للدولة من اجل أية قضية أو أي استخدام.
ولكن على الماركسيين أن يحذروا أشد الحذر من الانزلاق وراء اتجاهات انتهازية تتظاهر بالإيمان أو الاعتقاد بديانة معينة رغبة في اجتذاب جماهير تلك الديانات. فالماركسية تعتبر أن الديانات كانت ضرورة في مراحل نشوئها ولكنها لم تعد تخدم المجتمع في تطوره الحالي وأصبحت رجعية في تطبيقها تعيد المجتمع إلى مراحل فات أوانها. وهذا ما شاهدناه على سبيل المثال في أفغانستان وإيران الخميني وباكستان والسعودية بحجة التمسك بالإسلام وما نراه في إسرائيل بحجة التمسك باليهودية وما رأيناه في محاكم التفتيش والحروب الصليبية بحجة التمسك بالمسيحية وغيرها. فالماركسيون يجب أن يعربوا بصراحة عن عدم اعتقادهم بأي من هذه الديانات صراحة بدون تورية أو رياء. فكما أن الماركسيين لا يضطهدون شخصا بسبب معتقده الديني يطلبون من الآخرين ألا يضطهدوهم بسبب عدم اعتقادهم بأي دين. ويجب ألا يؤدي الاضطهاد الديني والفتاوى ضد الشيوعية والماركسية بالماركسيين إلى التظاهر بالتدين أو الاعتقاد بدين معين للتخلص من الاضطهاد الديني بل يجب أن يفضحوا رجال الدين في ريائهم واضطهادهم للماركسية والشيوعية بالضبط كما يفضحون الدعايات السياسية الموجهة ضد الشيوعية من قبل القوى الرأسمالية والقوى الموالية لها.
فالماركسية تريد أن تتخلص من الدين بصفته مرحلة قديمة لم يعد لها دور إيجابي في تطور المجتمع ولكنها لا تستطيع ذلك بفرضه بالقوة على الجماهير المتدينة بل تتوصل إليه بالإقناع والتثقيف والبرهنة على أن القيادات الدينية لا تعمل لمصلحة الكادحين بل تعمل لمصالحها الخاصة التي تعني استغلال الكادحين شأنها في ذلك شأن القوى الرأسمالية. على الماركسيين أن يميزوا كل التمييز بين معاداة الدين والمتدينين وهو لا علاقة له بالماركسية وبين الرياء والتملق للدين وهو الأخر لا يمت إلى الماركسية بصلة. الماركسية لا تؤمن بدين ولكنها لا تضطهد المتدين بسبب تدينه. ولكنها تضطهد الاستغلال الديني بكل ما أوتيت من قوة.
حسقيل قوجمان - الحوار المتمدن - العدد: 957 - 2004 / 9 / 15
الماركسية والدين
ينظر معظم مؤيدي الماركسية وخصومها إلى عبارة" الدين أفيون الشعوب " الشهيرة على إنها خلاصة المفهوم الماركسي عن الظاهرة الدينية. على أننا يجب أن نتذكر بادئ ذي بدء أن هذا التعبير ليس ماركسيا بشكل خاص، فالعبارة نفسها يمكننا العثور عليها، في سياقات مختلفة، في كتابات كانط وهيردر وفيورباخ وبرونو باور وهاينريش هاينه...
إن من شأن قراءة متأنية لمجمل فقرة ماركس التي يظهر فيها تعبير " الدين أفيون الشعوب " أن تبين أن كاتبها أكثر إدراكا لدرجات الألوان مما هو شائع عنه. فهو يأخذ في اعتباره الطابع المزدوج للدين: "إن الهم الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي واحتجاج علي هم واقعي. إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضع بلا روح. إنه أفيون الشعب ".
وإذا ما قرأنا مجمل البحث الذي ترد فيه هذه الفقرة - والذي يحمل عنوان " نحو نقد لفلسفة الحق الهيجلية " والمكتوب في عام 1844 - فسوف يتكشف لنا بوضوح أن رأى ماركس يدين للهيجلية الجديدة اليسارية، التي اعتبرت الدين اغترابا للجوهر الإنساني، بأكثر مما يدين لفلسفة التنوير التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والتي أدانت الدين بوصفه مؤامرة إكليركية لا أكثر ولا اقل.
والواقع أن ماركس عندما كتب الفقرة الأنفة كان لا يزال تلميذا لفيورباخ، هيج يليا جديدا. ومن ثم فإن تحليله للدين كان " قبل ماركسي " لا يتميز بأية إحالة طبقية على انه مع ذلك جدليا لأنه قد استوعب الطابع المتناقض للظاهرة الدينية: فهي في بعض الأحيان تمثل إضفاء للشرعية على المجتمع القائم وهي في بعض الأحيان تمثل احتجاجا عليه. ولم تبدأ الدراسة الماركسية المحددة للدين بوصفه علاقة اجتماعية وتاريخية إلا فيما بعد - خاصة مع مخطوط " الأيديولوجية الألمانية (1846).
وقد تضمنت تلك الدراسة تحليلا للدين بوصفه أحد الأشكال الكثيرة للإيديولوجية، الإنتاج الروحي لشعب ما،إنتاج الأفكار والتمثيلات والوعي - والتي تعتبر كلها بالضرورة مشروطة بالإنتاج المادي والعلاقات الاجتماعية المتناسبة معه، على أن ماركس، منذ تلك اللحظة فصاعدا، لم يول اهتماما كبيرا للدين بصفته هذه، أي بصفته كونا ثقافيا /أيديولوجيا نوعيا للمعني.
..... وإنجلز أبدي فرديريك اهتماما بالظاهرة الدينية وبدورها التاريخي يفوق اهتمام ماركس بهما بكثير. وتتمثل مساهمة انجلز الرئيسية التي قدمها إلى الدراسة الماركسية للأديان في تحليله لعلاقة التمثيلات الدينية بالصراع الطبقي.
وفيما وراء المناظرة الفلسفية (المادية ضد المثالية) حاول فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان. فالمسيحية لم تبدو في نظره (مثلما كانت تبدو في نظر فيورباخ) بوصفها "جوهرا " منفصلا عن الزمن، بل هي تبدو بوصفها شكلا ثقافيا يتعرض لتحولات في العصور التاريخية المختلفة: فهي تبدو في البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجية ملائمة للهيراركية الإقطاعية واخيرا بوصفها أيديولوجية تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي.
وهي تظهر من ثم بوصفها فضاء رمزيا تتنازع عليه قوي اجتماعية متناحرة: اللاهوت الإقطاعي والبروتستانتية البورجوازية والهرطقات الشعبية. وفي بعض الأحيان كان تحليله يزل في اتجاه تفسير نفعي، ذرائعي، بشكل ضيق للحركات الدينية: ".... وان كل طبقة من الطبقات المختلفة تستخدم الدين الملائم لها... ولا أهمية تذكر لما إذا كان هؤلاء السادة يؤمنون بالأديان التي يتبناها كل منهم أم لا " ويبدو أن انجلز لا يري في صور الإيمان المختلفة غير" الستار الديني" للمصالح الطبقية.
لكن إنجلز بفضل منهجه الذي يؤكد علي الصراع الطبقي ن قد أدرك - خلافا لفلاسفة التنوير - أن النزاع بين المادية والدين لا يتطابق دائما مع الصراع بين الثورة والرجعية. فنحن نجد، على سبيل المثال، في إنجلترا في القرن الثامن عشر، أن المادية ممثلة في شخص هوبز قد دافعت عن الملكية المطلقة في حين أن الشيع البروتستانتية قد استخدمت الدين كراية لها في النضال الثوري ضد آل ستيوارت.
وبالشكل نفسه، بدلا من اعتبار الكنيسة كلا متجانسا من الناحية الاجتماعية نقدم تحليلا رائعا يبين كيف أن الكنيسة قد انقسمت في بعض المنعطفات التاريخية بحسب تركيبها الطبقي.
وهكذا فخلال زمن الإصلاح،كان على أحد الجانبين كبار رجال الدين، القمة الإقطاعية للهيراركية، وكان على الجانب الآخر صغار رجال الدين، الذين جاء من بين صفوفهم إيديولوجيو الإصلاح وإيديولوجيو الحركة الفلاحية الثورية ز ومع كون انجلز ماديا " ملحدا " وعدوا لدودا للدين، فانه قد أدرك، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب، الطابع المزدوج للظاهرة الدينية: دورها في إضفاء الشرعية علي النظام القائم، ولكن أيضا، تبعا للظروف الاجتماعية، دورها الإنتقادي والاحتجاجي، بل والثوري.
وعلاوة على ذلك فإن معظم الدراسات الملموسة التي كتبها قد ركزت علي هذا الجانب الثاني: حيث تركزت، بالدرجة الأولي، على المسيحية البدائية، ديانة الفقراء والمنبوذين والمهانين والمضطهدين والمقهورين.
---------------------
فقد جاء المسيحيون الأوائل من أدنى مستويات المجتمع: العبيد، الأحرار الذين حرموا من حقوقهم، وصغار الفلاحين الذين نزحوا تحت نير الديون بل إن إنجلز قد مضي إلى حد رسم تواز مثير بين هذه المسيحية البدائية والاشتراكية الحديثة.
أ- إن الحركتين الكبيرتين ليستا من عمل زعماء وأنبياء- مع أن الأنبياء ليسوا بالمرة قليلين في أي منهما -بل هما حركتان جماهيريتان.
ب - إن كليهما حركات مضطهدين، يعانون من القهر والمنتمون إليهما يتعرضون للتشريد والملاحقة من جانب السلطات الحاكمة.
ج- أن كليهما يدعوان إلى تحرر وشيك من العبودية والبؤس.
وسعيا إلى زخرفة مقارنته، نجد أن إنجلز يتجه، بشكل مثير إلى حد ما، إلي الاستشهاد بقول مأثور للمؤرخ الفرنسي رينان: " إذا أردتم تكوين فكرة عما كانت عليه حال الجماعات المسيحية الأولي، انظروا إلى شعبة محلية لرابطة العمال الأممية " ويري انجلز أن الفارق بين الحركتين يتمثل في أن المسيحيين الأوائل قد نقلوا الخلاص إلى الآخرة بينما تتصوره الاشتراكية في هذا العالم الدنيوي. ولكن هل يعتبر هذا الفارق واضحا بالدرجة التي يبدو بها للوهلة الأولي ؟
يبدو أنه قد أصبح مطموسا في دراسة إنجلز للحركة المسيحية الكبرى الثانية - " حرب الفلاحين في ألمانيا " - فتوماس مونزر، لاهوتي وقائد الفلاحين الثوريين والعوام الهراطقة في القرن السادس عشر كان يريد تجسيدا فوريا على الأرض لمملكة الرب، مملكة الأنبياء الألفية السعيدة. ويري انجلز أن مملكة الرب كانت بالنسبة لمونزر مجتمعا لا يعرف الفوارق الطبقية ولا الملكية الخاصة ولا سلطة دولة مستقلة عن أفراد ذلك المجتمع وغريبة عنه.
على أن انجلز كان ما يزال ميالا إلى اختزال الدين إلى مستوي حيلة: فقد تحدث عن "صيغ " مونزر " الكلامية " المسيحية وعن " ستاره " الإنجيلي ويبدو انه قد غاب عن باله البعد الديني المحدد للنزعة الألفية المونزرية، قوتها الروحية والأدبية، وعمقها الصوفي المعيش معايشة صادقة. وأيا كان الأمر، فإن انجلز، بتحليله الظاهرة الدينية من منظور الصراع الطبقي، قد ابرز القوة الاحتجاجية للدين وشق الطريق لنهج جديد - متميز عن كل من الفلسفة التنويرية التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والهيجلية الجديدة الألمانية - لتناول العلاقة بين الدين والمجتمع.
ومعظم الدراسات الماركسية في القرن العشرين عن الدين تقتصر إما على تفسير أو تطوير للأفكار التي عرضها ماركس وانجلز أو على تطبيقها على واقع محدد.
كاوتسكي ولينين ولوكسمبورج تلك هي الحالة مثلا مع دراسات كارل كاو تسكي التاريخية عن المسيحية البدائية، والهرطقات التي عرفتها العصور الوسطي، وعن توماس مور وتوماس مونزر. وبينما يقدم لنا كاوتسكي نظرات ثاقبة وتفصيلات مهمة عن الأسس الاجتماعية والاقتصادية لهذه الحركات وعن طموحاتها المشاعية، فإنه عادة ما يختزل معتقداتها الدينية إلى مستوي مجرد " قشرة " أو"حلة " " تخفي" محتواها الاجتماعي. وفي كتابه عن الإصلاح الألماني، لا يبدد أي وقت في تناول البعد الديني للنزاع بين الكاثوليك واللوثريين والقائلين بتجديد العماد: واحتقارا منه ل " المشاجرات اللاهوتية " بين هذه الحركة الدينية، يري أنالمهمة الوحيدة للمؤرخ هي " إرجاع نزاعات تلك الأزمنة إلى تناقضات المصالح المادية ". وكان كثيرون من الماركسيين في الحركة العمالية الأوربية معادين بشكل جذري للدين لكنهم كانوا يرون أن المعركة الإلحادية ضد الأيديولوجية الدينية يجب أن تخضع للضرورات الملموسة للنظام الطبقي، الذي يتطلب الوحدة بين العمال الذين يؤمنون بالرب وأولئك الذين لا يؤمنون به.
------------
ولينين نفسه - الذي غالبا ما شجب الدين باعتباره " ضبابا صوفيا "- يؤكد في مقالة الذي يحمل عنوان "الاشتراكية والدين" (1905) على أن الإلحاد لا يجب أن يكون جزء من برنامج الحزب لأن " الوحدة " في النضال الثوري الذي تخوضه الطبقة المقهورة من اجل خلق فردوس على الأرض أهم بالنسبة لنا بكثير من وحدة الرأي البروليتاري حول الموقف من فكرة الفردوس في السماء.
وقد تقاسمت روزا لوكسمبورج هذا الرأي، لكنها طورت نهجا مختلفا واكثر مرونة فعلى الرغم من أنها كانت هي نفسها ملحدة، فقد هاجمت في كتاباتها السياسة الرجعية للكنيسة - باسم تراثها - بأكثر مما هاجمت الدين. وفي بحث كتب في عام 1905، (الكنيسة والاشتراكية) قالت أن الاشتراكيين الجدد اكثر إخلاصا للمبادئ الأصلية للمسيحية من رجال الدين المحافظين المعاصرين.
وبما أن الاشتراكيين يناضلون من اجل نظام اجتماعي يتميز بالمساواة والحرية والإخاء، فإن القساوسة، إذا كانوا يريدون مخلصين أن يطبقوا في حياة البشرية المبدأ المسيحي الذي يدعو إلي أن يحب المرء جاره حبه لنفسه، يجب أن يرحبوا بالحركة الاشتراكية.
فعندما يؤيد رجال الدين الأغنياء، الذين يستغلون ويضطهدون الفقراء، فانهم يكونون في تناقض سافر مع التعاليم المسيحية: إنهم يخدمون العجل الذهبي لا المسيح. وكان رسل المسيحية الأوائل مشاعيين متحمسين وقد حجب آباء الكنيسة (مثل بازيل الأكبر ويوحنا كريسوستوم) الظلم الاجتماعي وهذه القضية تتولاها اليوم الحركة الاشتراكية التي تحمل إلى الفقراء إنجيل الإخاء والمساواة، وتدعو الشعب إلى إنشاء مملكة الحرية وحب الجار علي الأرض. وبدلا من خوض معركة فلسفية باسم المادية، تحاول روزا لوكسمبورج استنقاذ البعد الاجتماعي للتراث المسيحي لحساب الحركة العمالية. وكان الماركسيون النمساويون، اوتو باور وماكس أدلر، الخ، اقل عداوة للدين بكثير من زملائهم الألمان والروس. ويبدو انهم قد اعتبروا الماركسية متمشية مع شكل ما للدين، لكن ذلك يشير أساسا إلى الدين بوصفه " عقيدة فلسفية " (ذات إلهام قانطي جديد) وليس إلى تقاليد دينية تاريخية ملموسة.
الأممية الشيوعية لم يول اهتمام كبير للدين في الأممية الشيوعية. وقد انضم عدد هام من المسيحيين إلى لحركة، وخلال العشرينات، نجد أن قسا بروتستانتيا سويسرا سابقا، هو جول أمبير - دروز، قد أصبح واحدا من قادة الكومنترن (الأممية الشيوعية) الرئيسيين. وكانت الفكرة السائدة بين الماركسيين آنذاك هي أن المسيحي الذي صار اشتراكيا أو شيوعيا إنما يعتبر بالضرورة متخليا عن معتقداته الدينية "اللاعلمية" و"المثالية " السابقة.
وعمل برتولد بريشت المسرحي الجميل الذي يحمل عنوان " جان الجزارات " (1932 )هو مثال جيد لهذا النوع من التناول التبسيطي لتحول المسيحيين إلى النضال من اجل التحرر البروليتاري. ويصف بريشت بشكل بالغ الذكاء العملية التي تكتشف عبرها جان، هي قائدة لجيش الخلاص، حقيقة الاستغلال والظلم الاجتماعي وتموت متنكرة لمعتقداتها السابقة. إلا أنه لابد من أن توجد بالنسبة له قطيعة مطلقة وكاملة بين إيمانها المسيحي السابق وإيمانها الجديد بالنضال الثوري.
وقبيل موتها مباشرة تقول جان للشعب: " إن جاءكم أحدا يوم ما ليقول أن هناك ربا، وإن كانت لا تدركه الأبصار، يمكنكم انتظار عونه، ارجموه بحجر على رأسه دون رحمه إلى أن يموت ".
وفي هذا النوع من المنظورات " المادية " الفجة - وغير المتسامحة بالمرة - ضاعت بصيرة روزا لوكسمبورج النافذة، التي رأت أن بوسع المرء النضال من اجل القيم الحقيقية للمسيحية الأصلية.
والواقع أنه قد ظهرت في فرنسا (1936 - 1938 )، بعد سنوات قليلة من كتابة بريشت لهذه المسرحية، حركة للمسحيين الثوريين تجمع عدة آلاف من المناضلين الذين ساندوا الحركة العمالية بنشاط، خاصة جناحها الأكثر جذرية (جناح الاشتراكيين اليساريين الذين تزعمهم مارس بيفير ). وكان شعارهم الرئيسي " نحن اشتراكيون لأننا مسيحيون".
----------------
جرامشي
من بين زعماء ومفكري الحركة الشيوعية، من الأرجح أن جرامشي هو الوحيد الذي أبدى الاهتمام الأكبر بالمسائل الدينية.
كما أنه أحد الماركسيين الأوائل الذين حاولوا فهم الدور المعاصر للكنيسة الكاثوليكية وثقل الثقافة الدينية بين الجماهير الشعبية وملاحظاته عن الدين التي سجلها في " دفاتر السجن " ذات طابع متناثر ومبعثر وتلميحي، لكنها في الوقت نفسه جد نافذة.
والواقع أن نقده الحاد الساخر لأشكال الدين المحافظة - خاصة النوع اليسوعي من الكاثوليكية، الذي كان يمقته من صميم فؤاده - لم يحل بينه وبين أن يدرك أيضا البعد الطوباوي للأفكار الدينية ".... أن الدين هو اضخم " ميتافيزيقيا " عرفها التاريخ حتى الآن، لأنه اضخم محاولة للتوفيق، في شكل ميثولوجي، بين التناقضات الفعلية للحياة التاريخية. فالواقع أنه يؤكد أن البشرية لها " طبيعة " واحدة، أن الإنسان... بقدر ما أنه قد خلقه الرب، ابن الرب، هو من ثم أخو للبشر الآخرين ومثلهم...، لكنه يؤكد أيضا أ، ذلك كله لا ينتمي إلي هذا العالم، بل إلي عالم آخر (اليوتوبيا ). وهكذا فإن أفكار المساواة والإخاء، والحرية تنبجس بين البشر... وهكذا فإن هذه المطالب قد طرحت دائما في كل تحرك جذري للجماهير، على نحو آخر، بأشكال خاصة وبايديوجيات خاصة " كما أكد على التمايزات الداخلية للكنيسة وفقا للتوجهات الإيديولوجية - تيارات ليبرالية ويسوعية وأصولية داخل الثقافة الكاثوليكية - ووفقا للطبقات الاجتماعية المختلفة:
"إن كل دين... هو في الواقع عديد من الأديان المختلفة والمتناقضة غالبا: فهناك كاثوليكية للفلاحين وكاثوليكية للبرجوازية الصغيرة وعمال المدن وكاثوليكية للمرأة وكاثوليكية للمثقفين.... " وتتصل معظم ملاحظاته بتاريخ ودور الكنيسة الكاثوليكية الحالي في إيطاليا: تعبيرها الاجتماعي والسياسي من خلال جماعة العمل الكاثوليكي وحزب الشعب، وعلاقتها بالدولة وبالطبقات التابعة، الخ. وقد اهتم على نحو خاص بأسلوب تجنيد المثقفين التقليديين واستخدامهم كأدوات للهيمنة من جانب الكنيسة: " مع أنها قد نظمت آلية مثيرة للاختيار " الديمقراطي " لمثقفيها، فإنهم قد اختيروا كأفراد فرادى وليس كتعبير تمثيلي عن الجماعات الشعبية ".
------------
بلوخ
إن تحليلات جرامشي ثرية ومحركة للتأمل، لكنها، في التحليل الأخير، لا تجدد في منهج تناول الدين. وأرنست بلوخ هو الكاتب الماركسي الأول الذي غير الإطار النظري جذريا دون أن يتخلى عن المنظور الماركسي والثوري.
وبأسلوب مماثل لأسلوب أنجلز، ميز بين تيارين متعارضين من الناحية الاجتماعية: من جهة، دين الكنائس الرسمية الثيوقراطي، أفيون الشعب، جهاز تضليلي يخدم الأقوياء، ومن الجهة الأخرى، الدين السري، الهدام والخارج الذي عرفه الألبيجينسيون (شعبة دينية ظهرت في فرنسا بين عامي 1029- 1250، وترضت للقمع بتهمة الهرطقة - المترجم) والهوسيون (اتباع يان هوس (1369- 1415) المصلح الديني في بوهيميا، والذي احرق بتهمة الهرطقة) ويواقيم الفلوري وتوماس مونزر وفرانتس فون بادر، وفيلهيلم فايتلينج وليو تولستوي.
على أن بلوخ، خلافا لإنجلز، رفض اعتبار الدين مجرد " ستار " لمصالح طبقية - وقد انتقد هذا المفهوم بشكل صريح، وإن كان قد رده إلى كاوتسكي وحده... فالدين في أشكاله الاحتجاجية والمتمردة هو أحد أهم أشكال الوعي الطوباوي، أحد اغنى التعبيرات عن مبدأ الأمل.
واللاهوت اليهودي - المسيحي عن الموت والخلود - الكون الديني الأثير لدى بلوخ - أنما يرمز، من خلال قدرته علي التوقع الإبداعي، إلي الفضاء الخيالي لما لم يأتي بعد.
واستنادا إلي هذه التصورات، يطور بلوخ تفسيرا غير أرثوذكسي وخارجا علي الأعراف التقليدية للكتاب المقدس - بعهديه القديم والجديد - مقدما إنجيل الفقراء، الذي يدين الفراعنة ويدعو الجميع إلي الاختيار بين قيصر والمسيح. والواقع أن بلوخ وهو ملحد ديني - إنه يري أن الملحد هو وحده الذي يمكنه أن يصبح مسيحيا صالحا وأن المسيحي الصالح وحده هو الذي يمكنه أن يصبح ملحدا - ولاهوتي للثورة، لم يقدم مجرد قراءة ماركسية للنزعة الألفية (مقتفيا اثر أنجلز في ذلك) بل قدم أيضا - وهذا هو الجديد، تفسيرا ألفيا للماركسية، حيث يجرى اعتبار النضال الاشتراكي من أجل مملكة الحرية وريثا مباشرا لهرطقات الماضي الأخروية والجماعية.
وبطبيعة الحال فإن بلوخ، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب الذي كتب فقرة 1844 الشهيرة، وقد ميز الطابع المزدوج للظاهرة الدينية، جانبها القهري وكذلك قدرتها على التمرد.
ويتطلب الجانب الأول استخدام ما يسميه ب " تيار الماركسية البارد ": التحليل المادي الذي لا يكل للأيديولوجيات والأوثان والوثنيات.
على أن الجانب الثاني يتطلب " تيار الماركسية الدافق " الذي بسعي إلى استنقاذ الفائض الثقافي الطوباوي في الدين، قوته الانتقادية والتوقعية. وبعيدا عن أي "حوار " كان بلوخ يحلم باتحاد حقيقي بين المسيحية والثورة مثلما حدث في حرب الفلاحين في القرن السادس عشر. وإلى حد ما، كان بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت يتقاسمون أراء بلوخ. فقد رأى ماكس هوركهايمر أن " الدين هو سجل رغبات وأشواق واحتجاجات اجيال لا حصر لها " وفي كتابه " عقيدة المسيح (1930 )، استخدم ***يك فروم الماركسية والتحليل النفسي لتوضيح جوهر المسيحية البدائية الخلاصي والشعبي والمساواتي والمعادي للتسلط، وقد حاول فالتر بنيامين أن يؤلف، في تركيب فريد وأصيل، بين اللاهوت والماركسية، بين الخلاصية اليهودية والمادية التاريخية.
----------------------------
جولدمان
ويعتبر عمل لو سيان جولدمان محاولة رائدة أخرى لتجديد التناول الماركسي للدين ومع أن مصادر إلهام جولدمان تختلف اختلافا بينا عن مصادر الهام بلوخ، إلا أنه قد اهتم هو إيضاح برد الاعتبار إلى القيمة الأخلاقية والإنسانية للتراث الديني.
وقد طور في كتابه " الرب المحتجب " (1955) تحليلا سوسيولوجيا جد مرهف ومبتكر للهرطقة اليانسنية (بما في ذلك مسرح راسين وفلسفة باسكال) بوصفها فلسفة مأساوية، تعبر عن الوضع الخاص لشريحة اجتماعية (نبلاء الرداء) في فرنسا في القرن السابع عشر.
على أن الجزء الأكثر إثارة للدهشة والأكثر أصالة في هذا العمل هو المحاولة الرامية إلى المقارنة بين الإيمان الديني والأيمان الماركسي - دون دمجهما:
فكلاهما يرفضان النزعة الفردية الخالصة (العقلانية أو التجريبية) وكلاهما يؤمنان بقيم فوق فردية - الرب بالنسبة للدين والجماعة الإنسانية بالنسبة للاشتراكية.
ويوجد تناظر مماثل بين الرهان الباسكالي على وجود الرب والرهان الماركسي على تحرر الإنسانية: إن كليهما يفترضان المجازفة، وخطر الفشل وأمل النجاح.
وكليهما ينطويان على إيمان أساسي معين لا يمكن إثباته على مستوي الأحكام الواقعية وحده. وبطبيعة الحال فإن ما يفصل بينهما هو الطابع فوق الطبيعي أو فوق التاريخي للتسامي الديني ودون أن يهدف بآية حال " إضفاء طابع مسيحي على الماركسية " ادخل جولدمان أسلوبا جديدا للنظر إلى العلاقة الصراعية بين الأيمان الديني والإلحاد الماركسي.
لقد رأى ماركس وانجلز أن الدور الانتقادي الذي لعبة الدين هو شيء ينتمي إلى الماضي، لم تعد له أية أهمية في عصر الصراع الطبقي الحديث.
وقد تأكد هذا التوقع من الناحية التاريخية إلى هذا الحد أو ذاك على مدار قرن - فيما عدا استثناءات هامة قليلة (خاصة في فرنسا ): حركة الاشتراكيين المسيحيين في الثلاثينيات، حركة القساوسة العمال في الأربعينيات، يسار النقابات المسيحية الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين في الخمسينيات، الخ. آلا أنه لفهم ما كان يحدث خلال السنوات الثلاثين الماضية في أمريكا اللاتينية - وفي الفلبين أيضا وبدرجة اقل في قارات أخري - فإننا بحاجة إلي أن ندمج في تحليلنا رؤى بلوخ (وجولمان) الثاقبة حول الطاقة الطوباوية للتراث اليهودي – المسيحي.
مايكل لوفي - ترجمة : بشير السباعي - مجلة القاهرة - العدد 134 - يناير 1994
هل قال ماركس: الدين أفيون الشعوب؟
في خمسينيات القرن الماضي، شاع مصطلح «الدولة اليهودية» في الوسطين السياسي والثقافي. كان يقال آنذاك: إن هرتزل، الصحافي اليهودي النمساوي، هو أول من رسم صورة تفصيلية للدولة التي تريدها الحركة الصهيونية في فلسطين، وإنه كتب كتابا عنوانه «الدولة اليهودية» ما لبث مؤتمر بال عام 1897 أن وافق على مضمونه وتبني فكرته. بعد هزيمة حزيران، كتب الأستاذ فائز الصايغ في مجلة الدراسات الفلسطينية مقالة عرج فيها على الكتاب، وقال إن عنوانه ليس «الدولة اليهودية» بل «دولة اليهود» (بالألمانية يودنشتات judenstaat)، وشرح لماذا كانت ترجمة الكتاب مجافية للعلم، فالعقل الأوروبي الحديث يرفض أن ينسب صفة دينية إلى دولة خاض هو نفسه نضالا فكريا وسياسيا امتد لقرون من أجل فصل الدين عنها، دولة يمكن لمواطنيها أن يكونوا مسيحيين أو مسلمين أو يهودا، دون أن تكون هي نفسها مسيحية أو مسلمة أو يهودية.
قبل فترة قرأت حوارا مع صديق عزيز يعد علما من أعلام الماركسية والتجديد الفكري في وطننا العربي، كما قرأت مقالة في جريدة «السفير» للأستاذ صقر أبو فخر، وهو من هو في عالم التوثيق وسعة المعرفة والاطلاع، فوجدت الأستاذين الكريمين يستشهدان بجملة لماركس تقول «الدين أفيون الشعوب». وكنت قد أخبرت قبل أيام صديقا يعمل أستاذا للفلسفة في إحدى الجامعات العربية بأن صديقا مشتركا لنا قال على لسان ماركس إن الدين أفيون الشعوب، فإذا بالصديق يتساءل باستغراب: وأين الخطأ في هذا؟ أخيرا، قيل لي إن الصديق العزيز هاشم صالح كرر القول ذاته .
هنا، نحن أمام خطأ شائع يشبه خطأ «الدولة اليهودية»، الذي ما زلنا نجده بين حين وآخر في كتابات بعض متابعي تاريخ القضية الفلسطينية. والحقيقة ان ماركس لم يقل يوما «الدين أفيون الشعوب»، بل قال: «الدين أفيون الشعب». والفارق نوعي بين الشعوب، التي يشكل مجموعها ما نسميه البشرية، وبين الشعب، الذي كان الأب سييس قد أسهم في اكتشافه وتحديد معناه من خلال كتاب وضعه قبل الثورة الفرنسية بقليل، جعل عنوانه «ما هي الطبقة الثالثة؟». الشعب عند ماركس هو هذه الطبقة الثالثة، التي هي عند سييس الشعب، وتضم العمال والفلاحين والحرفيين والبرجوازيين الصغار وبعض فئات الرأسماليين، ولا يخرج منها أساسا غير الإقطاعيين وأمراء الكنيسة. كان ماركس يدرس الطبقات في فرنسا، ويتابع علاقات الكنيسة مع الفلاحين، حين رأى رسما في إحدى الصحف يصور فلاحا هزيلا وفقيرا يتضور جوعا وراهبا سمينا تكاد تقتله التخمة، وقد كتب الرسام تحته: كلما كان الدير أقرب، كان الفقر والجوع أشد. في ما بعد، كتب ماركس نصا عن الدين قال فيه: «الدين أفيون الشعب»، أي العامة، وهو يفعل فيهم فعل الأفيون، لأنه، التعبير عن استلابه الدنيوي، الذي يجعل منه «النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية ومنطقه في صيغته الشعبية، والتحقق الخيالي لكينونة الإنسان لأن كينونته لم تتحقق في الواقع »، فـ«الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي و... احتجاج عليه... الدين زفرة الإنسان المقموع، قلب عالم لا قلب له، وهو روح شروط اجتماعية لا روح فيها ... إنه أفيون الشعب» (نقلا عن مقالة الأستاذ صقر أبو فخر في جريدة السفير يوم 2 أيلول بعنوان: التقليد أفيون العرب).
لم يكن ماركس يتحدث عن الشعوب، أو عن الدين والشعوب، بل كان يراقب أحوال الكنيسة وعلاقاتها مع الشعب، الطبقة الثالثة. وفي هذه الواقعة المحددة مع الفلاحين، فقال كلاما يصف حالة واقعية بلغة فلسفية تأملية تلخص نظرته إلى التحرر الإنساني باعتباره تحرر الإنسان المشخص، كاسم نوع مجرد وكمواطن مشخص، في واقعه الملموس، الدنيوي، ومنه حالته في الريف الفرنسي، الذي كان يدرسه .هذا ما قاله ماركس. الدين أفيون الشعب : (Religion ist opium des volkes).
يؤكد كتاب ومفكرون كثيرون موقف ماركس والماركسية من الدين عندما يستشهدون بعبارة «الدين أفيون الشعوب»، التي تقلب الشعب بالمعنى الذي بلوره سييس إلى الشعوب، وتعمم حالة محددة بان تضفي عليها صفة مجردة ومطلقة، فلا هي تعبر عن موقف ماركس، الذي لو كان مؤمنا بأن الدين أفيون الشعوب لقال ذلك دون مراوغة، وهو الذي لم يتردد في قول ما كان يراه، وقال ما هو أشد وأكثر راديكالية من هذه الجملة، ولا هي تخدم النقاش حول الماركسية ـ أو الفلسفة عموما ـ والدين، الذي قد يكون فقد بعض أهميته في أوروبا، لكنه يبقى جزءا تكوينيا ورئيسيا من حواراتنا ومكونات فكرنا، نحن الذين يحوم عقلنا منذ زمن طويل حول الفكر الديني، أي قراءات هذه الجهة أو تلك للدين، ونتفادى في مواقفنا مبدأ وضعه ماركس يقول: «نقد الدين هو رأس كل نقد»، ولم ننجح بعد في بلورة موقف من الدين ومسائله تشاطرنا إياه قطاعات واسعة من مجتمعنا، ونفتقر إلى نظرة تستعيد الإنسان من عالم الغيب إلى عالم الواقع، وتحرر إنسانيته من استلاباتها المتنوعة والمركبة، فتعينه على تحرير نفسه بيده، وتحوله إلى حامل مشروع تحرر ذاتي لا ينوب عنه فيه أحد، دولة كان أم حزبا أم جماعة؛ نظرة ترى الدين بدلالة الإنسان، وتقوم على رؤية معرفية / فلسفية للعالم يمكن ترجمتها إلى مواقف عملية تغطي حقول الدولة والمجتمع والمواطن/ الفرد، باعتبارها حقولا للإنسان وللحرية، وللإيمان بالإنسان وبالحرية.
ميشيل كيلو - السفير 04/10/2010
0 تعليقات::
إرسال تعليق