4 – 5 حزيران، يوم اجبر الطاغية في اليمن على الفرار هو في سياق الثورة العارمة في الشرق الأوسط يوم بدأت اللحظة الدستورية في اليمن. إلا أن الانتقال إلى الديموقراطية يتطلب الإجابة عن عدد من الأسئلة الصعبة...
في اليمن المدخل الدستوري صعب ومعقّد، ففيما ينهار النظام السابق أمام المدّ الثوري العارم، لا وجود في اليمن لضوابط دستوريّة ثابتة يحتذى بها بداهةً. بالرغم من أنّ علي عبد الله صالح غير مهيأ لإعلان استقالته رسمياً، يبدو دستور عام 1990 بدايةً حتميّة لتحاشي الفوضى، لكنّ الأجوبة التي يقدّمها هزيلة، تتصدّرها في الحالة الراهنة مادّته الـ116: "في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجـزه الدائم عن العمل يتولى مهام الرئاسة مؤقتاً نائب الرئيس لمدة لا تزيد عن ستين يوماً من تاريخ خلو منصب الرئيس يتم خلالها إجراء انتخابات جديـدة للرئيس".
ليس مفيداً نظراً الى حجم التضحيات اليمنية الإمعان في هذا النص العرضي المبتذل، فالكلّ يدري هزال منصب نائب الرئيس في الأنظمة العربية الدكتاتورية، يعيّنه الرئيس قبل كلّ شيء لأنّه لا يمثّل خطراً عليه. ولن يُغَرَّ امرؤٌ بحكمة إجراء انتخابات رئاسية في ستين يوماً، إبّان انتصار أعظم ثورة في تاريخ اليمن الحديث على استبداد أطبق على يوميات الحياة السياسية زهاء نصف قرن.
وبعد، يتطلّب الانتقال إلى الديموقراطية الإجابة على عدد من الأسئلة الصعبة.
أوّلاً - ما مصير الدستور؟
الدستور اليمني غير قابل لإعادة التأهيل في حالته الحاضرة، وقد أُفرغ من جميع محتوياته الديموقراطية على مرّ السنين. ففي عام 1990، لمّا أُقرَّ تتويجاً لوحدة طوعيّة سلميّة بين الشمال والجنوب، كان الدستور يتحلّى بمجلس للنوّاب حيّ وحيويّ، وبسلطة قضائية فعّالة، وبحدّ زمني للولاية الرئاسية. وقد حوّله نمط الحكم "الجملكي" إلى حبرٍ على ورق، فغدا غطاءً قانونياً مؤسفاً لتكريس الرئيس حاكماً بأمره طول الحياة، وتنصيبه أولَ سلالة وراثية ترسِّخها تعيينات الأبناء وأبناء الأخوة في المراكز الأمنية المحورية في النظام العاتي.
لذا فاليمن بحاجة إلى إصلاح جذري لا يقلّ عن دستور جديد تضعه جمعيّة تأسيسية. وللوصول إلى مثل هذه الجمعيّة تحتاج البلاد إلى محطّة مرحليّة إضافية تحت عنوان "التأسيس الدستوري" لاستحالة القيام الفوري بانتخابات تعطي الجمعيّة الدستورية التأسيسية، أو أيّة هيئة منتخبة، ما يكفي من الاستقرار والشفافيّة لاكتمال الشرعيّة التي تحتاج إليها في خطّ المستقبل القانوني السليم في البلاد.
ثانياً - ما العمل بالرئيس المخلوع؟
إن رحم الله اليمنيين فقد انتهى حكم صالح إلى ما لا عودة، وما خلّفه حالةُ فوضى لا تلقي الضوء عليها سوى مادّةٍ دستوريّة مبتورة نصّبت نائب رئيس هيولياً، وعددٍ من النصوص الدستوريّة العرجاء، ومنها التي تعالج الانتقال بالسلطة، إضافةً إلى المواد الخاصة بالتعديل الدستوري، وجميعها قاصرة في المقام الديموقراطي الذي تحتاج الثورة له. وفي الدستور مادّة يتيمة قد تصلح لمعالجة الوضع الخاصّ برئيس كانت ميزةُ حكمه الأخيرة الأمر بإطلاق عنان العنف على المتظاهرين العزّل أربعة أشهر متواصلة. تنصّ المادّة 128 على أن "يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بخرق الدستور أو بأي عمل يمس استقلال وسيادة البلاد بناء على طلـب من نصـف أعضاء مجلـس النـواب".
ومساءلة الرئيس على خرقه أبسط المسلّمات الدستورية عملية مستحيلة في اليمن نظراً إلى سيطرته وأعوانه على مجلسي النواب والشورى، إضافةً إلى الغالبية المضاعفة التي تطلبها المحاكمة في الفقرة التالية، "فلا يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية ثلثي أعضائـه (مجلس النواب) ويبين القانون إجراءات محاكمتـه". ولا سابقة تذكر ولا قانون تطبيقي، لذا تقتضي الثورة اليمنية ابتكار نهج قانوني جديد يسمح بتقديم الديكتاتور إلى محاكمة عادلة . وقد تكون الإحالة على المحكمة الجنائية الدولية أسهل السبل لمساءلة الرئيس الفارّ، وقد يكون إنشاء محكمة مختلطة أو وطنية أفضل إذا تسنّت إقامتها بالضوابط الدولية المناسبة والسرعة اللازمة داخل اليمن.
ثالثاً- ما العمل بالحزب الحاكم وبالبطانة الرئاسية وأزلامها ؟
شأنه شان "الجمالك" العربية الأخرى، يمثل الحزب الحاكم أداة القمع الأولى بعد العائلة المقرّبة، وحزب المؤتمر الشعبي العام يملك في اليمن عدداً غفيراً من المقرات المفطورة على الزوال أمام المدّ الثوري، لكنّه يتمتّع أيضاُ بمجموعات من المتعاطفين والوشاة والمسؤولين الحكوميين في مناصب مختلفة من الدولة ليس من السهل البتّ بمصيرهم. وفي ضوء إخفاق تجربة استئصال فلول حزب البعث في العراق ما بعد صدّام، لا تزال ثورة اللا عنف في الشرق الأوسط تبحث عن منهج فعّال وإنساني للتعامل مع الحرس القديم وجلاوزة الأنظمة الزائلة.
فالكثيرون في بطانة الرئيس المنفي قد ارتدوا عليه في الآونة الأخيرة، وهم الذين كانوا مفطورين على تبجيله ليلاً نهاراً خوفاً واسترضاءً. من المفيد لمثل هؤلاء، كما للمستمرّين في الانتماء للحزب المخلوع، أن يدركوا أن اليمن الجديد لا يتحمّل وجودهم في الصدارة السياسية، وأنه من الأفضل أن ينأوا عن الساحة العامة أقلّه لفترة نقاهة تمتصّ غضب الناس المشروع تجاههم.
رابعاً -كيف الوصول إلى الجمعية الدستورية؟
عدا ثبات الشارع الثائر في فرض المسافة المطلوبة من العمل الحكومي لرموز النظام المخلوع وأزلامه في الأجهزة القمعية، ما عسى المواطنين اليمنيين تحقيقه في انتقالهم العسير إلى الديموقراطية؟ وإذا كانت الجمعية الدستورية حاجة ملحة، فإن أي جهد في هذا الصدد يتطلّب مساراً متأنياً يشمل أهل الخبرة كما المشاركة المواطنية الواسعة في وضعه. لنجاح الدستور ليس كافياً أن يتولى الخبراء وضعه. على الناس أن يضمّوا أصواتهم إلى واضعيه، ولا يكون ذلك بمجرد التصويت عليه في استفتاء طيّ إقراره.
ولم تبدُ بعد في الثورة الشرق الأوسطية اللا عنفية التي نعيشها منذ عام 2005 سابقة دستورية يحتذى بها في اليمن. ففي مصر، تمّ التعديل الدستوري بقيادة قانوني محترم، الدكتور طارق البشري. لكن العملية فقدت الكثير من شرعيّتها جراء ضعف تمثيل المجلس الأعلى للقوات المسلّحة، الذي استفاد من ثورة شعبية عارمة لينصب نفسه في الحكم من خلال انقلاب عسكري أزاح حسني مبارك لما زحف الشعب المصري على قصره في 11 شباط 2011. ولا يعتد لمجلس عسكري انقلابي في قيادة العملية الانتقالية بحسب أبسط المعايير الديموقراطية. ففي مصر لا تزال مجموعتان مرتبطتان بالنظام السابق في صدارة سياسية مقلقة: المجلس العسكري الأعلى، ورجال مبارك في الشرطة وفي الأجهزة الأمنية. هذا يعني أيضاً ضرورة التروّي قبل الإقدام على انتخابات تشريعية ورئاسية كما تبلورت جراء التعديلات الدستورية، والبحث في سبل استمرار وحدة الثورة وترسيخ مُثُلِها في الحياة اليومية قبل المضي في التشرذم المحتّم في الملأ الانتخابي المعجّل.
وفي تونس يمثل تعيين "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي" (كان اسمها سابقاً "لجنة الإصلاح السياسي") برئاسة الأستاذ عياض بن عاشور، وهو قانوني أيضاً رفيع المقام، طريقاً أكثر أملاً على درب الديموقراطية، إلا أنّ استمرار عدد واسع من رموز الحكم السابق في السلطة مدعاة للقلق. وكانت فكرة قد نشأت بُعَيد إقصاء بن علي في 15 كانون الثاني 2011 تقضي بالالتزام بتدبير بسيط يقضي بضرورة عزوف كلِّ من جلس مع الرئيس السابق في السنة التي سبقت فراره من التعاطي بالشأن العام، إلا إذا كان قادراً على إبراز البيّنة المقنعة على عكس ما يوحي به مثل هذا اللقاء الخاص.
المسار التونسي باعث للأمل، رغم استمرار عدد من المسؤولين السابقين في الحكم، خلافاً للمشهد المصري الذي حافظ في المجلس الأعلى للقوات المسلحة كما في الحكومة وفي الجامعة العربية على الوجوه التقليدية من عهد حسني مبارك. يبقى أن التعديلات الدستورية في مصر أسندت مسؤوليات حقيقية للهيئات القضائية يحتذى بها في التجارب الانتقالية، واليمن جدير بالاستفادة من السلبيات كما الايجابيات التونسية والمصرية لخطّ نهجه الخاص بقيادة مجلس دستوري للمرحلة الانتقالية.
هل من حاجة إلى دور مضاعف للقضاء؟
لذا فالدرس المشترك يختصر بمجموعة من "المؤسسين الانتقاليين" في المرحلة الأولى، تهيئ اللجوء إلى جمعية دستورية تأسيسية منتخبة أو معينة من مجلس منتخب، مع الابتعاد قدر الإمكان للمؤسسين عن دور سياسي مباشر بحيث يسهرون في عملهم على بقاء المسافة حيّةً بين السياسة الصرف والمحافظة على روح الثورة اللا عنفية.
ودور المجموعة الأساسي التحضير للجمعية الدستورية، كما يمكن الركون إليها أيضاً للإشراف على مهمة لا تقل محورية في الفترة الانتقالية، هي التأكد من أن المحافظة على اللا عنف وعلى احترام المبادئ العالمية التي يشترك فيها جميع من انخرط في الثورة السلمية هما معيار العمل لأية حكومة انتقالية في البلد.
هذه المهمة أيضاً تلقي الضوء على طبيعة مثل هذه المجموعة. فالقضاء في مصر يتألّق عبر تاريخه المعاصر في التصدّي للتدابير التعسّفيّة التي اتخذها مبارك وسلفاه، أنور السادات وجمال عبد الناصر، وتونس عرفت مواقف مماثلة في شخص القاضي مختار اليحياوي على سبيل المثال. هذا تراث مديد يذكره الناس في اللحظات المميّزة التي أدّت الى استقالة القضاة الأشراف أو تنحيتهم أو إجبارهم الحاكم المتعسّف على التراجع.
هؤلاء هم رجال ونساء القانون ممّن تحتاج إليهم الثورة لقيادة المرحلة القانونية الانتقالية، وهم المؤسسون الدستوريون الطبيعيون لثورة اللا عنف في بلادنا. فلأنّهم لا يتمتّعون بأي دور في السلطة التنفيذية، من الطبيعي أن يُركَنَ إليهم للحؤول دون تمادي أهل السلطة في التعسّف، مثلاً في مصر في وجه التوقيف المستمر للمواطنين الذين يعبّرون عن اشمئزازهم من دور العسكر في السياسة، أو الإجراءات المهينة تجاه الفتيات المتظاهرات، أو الاستمرار في استعمال الغاز والرصاص في التظاهرات المسالمة. كما أن مثل هذه المجموعة قادرة على مساءلة أهل الشرطة والجيش متى تلكؤا في توقيف العنف الطائفي وحرق الكنائس. هذا هو الدور الطبيعي للقضاء في أي بلد ديموقراطي، أن يمنع العنف ضد المواطن أياً كان مصدره، في جهاز الدولة أو في الجماعات المتطرّفة من المجتمع المدني. وكان الحكام المخلوعون دائبين على رصّ صفوف القضاء بأزلامهم المطواعين، و بالالتفاف على السلك القضائي المهني بإنشاء المحاكم الخاصة والعسكرية. هذا كلّه يحتاج إلى البقاء في ماضي بلادنا المحرّرة من الاستبداد.
ويتمتع اليمن بسلك قضائي مهني محترم يجدر أن يكون في صدارة المجلس التأسيسي الانتقالي مع ممثلين من الثورة لا سيما من بين الشباب والنساء، شرط أن يكون جلياً لأي عضو فيه أن الحفاظ على طهارة الثورة يلزمه، قبل الانضمام إليه، عدم العمل السياسي معيّناً أو منتخباً في السّلطتين التنفيذية والتشريعية، أن يمرّ الزمن المحدّد الكافي على تخلّيه عن منصبه في المجلس التأسيسي الدستوري.
بقلم شبلي ملاّط (محام وأستاذ في القانون) - النهار 13 حزيران 2011
في اليمن المدخل الدستوري صعب ومعقّد، ففيما ينهار النظام السابق أمام المدّ الثوري العارم، لا وجود في اليمن لضوابط دستوريّة ثابتة يحتذى بها بداهةً. بالرغم من أنّ علي عبد الله صالح غير مهيأ لإعلان استقالته رسمياً، يبدو دستور عام 1990 بدايةً حتميّة لتحاشي الفوضى، لكنّ الأجوبة التي يقدّمها هزيلة، تتصدّرها في الحالة الراهنة مادّته الـ116: "في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجـزه الدائم عن العمل يتولى مهام الرئاسة مؤقتاً نائب الرئيس لمدة لا تزيد عن ستين يوماً من تاريخ خلو منصب الرئيس يتم خلالها إجراء انتخابات جديـدة للرئيس".
ليس مفيداً نظراً الى حجم التضحيات اليمنية الإمعان في هذا النص العرضي المبتذل، فالكلّ يدري هزال منصب نائب الرئيس في الأنظمة العربية الدكتاتورية، يعيّنه الرئيس قبل كلّ شيء لأنّه لا يمثّل خطراً عليه. ولن يُغَرَّ امرؤٌ بحكمة إجراء انتخابات رئاسية في ستين يوماً، إبّان انتصار أعظم ثورة في تاريخ اليمن الحديث على استبداد أطبق على يوميات الحياة السياسية زهاء نصف قرن.
وبعد، يتطلّب الانتقال إلى الديموقراطية الإجابة على عدد من الأسئلة الصعبة.
أوّلاً - ما مصير الدستور؟
الدستور اليمني غير قابل لإعادة التأهيل في حالته الحاضرة، وقد أُفرغ من جميع محتوياته الديموقراطية على مرّ السنين. ففي عام 1990، لمّا أُقرَّ تتويجاً لوحدة طوعيّة سلميّة بين الشمال والجنوب، كان الدستور يتحلّى بمجلس للنوّاب حيّ وحيويّ، وبسلطة قضائية فعّالة، وبحدّ زمني للولاية الرئاسية. وقد حوّله نمط الحكم "الجملكي" إلى حبرٍ على ورق، فغدا غطاءً قانونياً مؤسفاً لتكريس الرئيس حاكماً بأمره طول الحياة، وتنصيبه أولَ سلالة وراثية ترسِّخها تعيينات الأبناء وأبناء الأخوة في المراكز الأمنية المحورية في النظام العاتي.
لذا فاليمن بحاجة إلى إصلاح جذري لا يقلّ عن دستور جديد تضعه جمعيّة تأسيسية. وللوصول إلى مثل هذه الجمعيّة تحتاج البلاد إلى محطّة مرحليّة إضافية تحت عنوان "التأسيس الدستوري" لاستحالة القيام الفوري بانتخابات تعطي الجمعيّة الدستورية التأسيسية، أو أيّة هيئة منتخبة، ما يكفي من الاستقرار والشفافيّة لاكتمال الشرعيّة التي تحتاج إليها في خطّ المستقبل القانوني السليم في البلاد.
ثانياً - ما العمل بالرئيس المخلوع؟
إن رحم الله اليمنيين فقد انتهى حكم صالح إلى ما لا عودة، وما خلّفه حالةُ فوضى لا تلقي الضوء عليها سوى مادّةٍ دستوريّة مبتورة نصّبت نائب رئيس هيولياً، وعددٍ من النصوص الدستوريّة العرجاء، ومنها التي تعالج الانتقال بالسلطة، إضافةً إلى المواد الخاصة بالتعديل الدستوري، وجميعها قاصرة في المقام الديموقراطي الذي تحتاج الثورة له. وفي الدستور مادّة يتيمة قد تصلح لمعالجة الوضع الخاصّ برئيس كانت ميزةُ حكمه الأخيرة الأمر بإطلاق عنان العنف على المتظاهرين العزّل أربعة أشهر متواصلة. تنصّ المادّة 128 على أن "يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بخرق الدستور أو بأي عمل يمس استقلال وسيادة البلاد بناء على طلـب من نصـف أعضاء مجلـس النـواب".
ومساءلة الرئيس على خرقه أبسط المسلّمات الدستورية عملية مستحيلة في اليمن نظراً إلى سيطرته وأعوانه على مجلسي النواب والشورى، إضافةً إلى الغالبية المضاعفة التي تطلبها المحاكمة في الفقرة التالية، "فلا يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية ثلثي أعضائـه (مجلس النواب) ويبين القانون إجراءات محاكمتـه". ولا سابقة تذكر ولا قانون تطبيقي، لذا تقتضي الثورة اليمنية ابتكار نهج قانوني جديد يسمح بتقديم الديكتاتور إلى محاكمة عادلة . وقد تكون الإحالة على المحكمة الجنائية الدولية أسهل السبل لمساءلة الرئيس الفارّ، وقد يكون إنشاء محكمة مختلطة أو وطنية أفضل إذا تسنّت إقامتها بالضوابط الدولية المناسبة والسرعة اللازمة داخل اليمن.
ثالثاً- ما العمل بالحزب الحاكم وبالبطانة الرئاسية وأزلامها ؟
شأنه شان "الجمالك" العربية الأخرى، يمثل الحزب الحاكم أداة القمع الأولى بعد العائلة المقرّبة، وحزب المؤتمر الشعبي العام يملك في اليمن عدداً غفيراً من المقرات المفطورة على الزوال أمام المدّ الثوري، لكنّه يتمتّع أيضاُ بمجموعات من المتعاطفين والوشاة والمسؤولين الحكوميين في مناصب مختلفة من الدولة ليس من السهل البتّ بمصيرهم. وفي ضوء إخفاق تجربة استئصال فلول حزب البعث في العراق ما بعد صدّام، لا تزال ثورة اللا عنف في الشرق الأوسط تبحث عن منهج فعّال وإنساني للتعامل مع الحرس القديم وجلاوزة الأنظمة الزائلة.
فالكثيرون في بطانة الرئيس المنفي قد ارتدوا عليه في الآونة الأخيرة، وهم الذين كانوا مفطورين على تبجيله ليلاً نهاراً خوفاً واسترضاءً. من المفيد لمثل هؤلاء، كما للمستمرّين في الانتماء للحزب المخلوع، أن يدركوا أن اليمن الجديد لا يتحمّل وجودهم في الصدارة السياسية، وأنه من الأفضل أن ينأوا عن الساحة العامة أقلّه لفترة نقاهة تمتصّ غضب الناس المشروع تجاههم.
رابعاً -كيف الوصول إلى الجمعية الدستورية؟
عدا ثبات الشارع الثائر في فرض المسافة المطلوبة من العمل الحكومي لرموز النظام المخلوع وأزلامه في الأجهزة القمعية، ما عسى المواطنين اليمنيين تحقيقه في انتقالهم العسير إلى الديموقراطية؟ وإذا كانت الجمعية الدستورية حاجة ملحة، فإن أي جهد في هذا الصدد يتطلّب مساراً متأنياً يشمل أهل الخبرة كما المشاركة المواطنية الواسعة في وضعه. لنجاح الدستور ليس كافياً أن يتولى الخبراء وضعه. على الناس أن يضمّوا أصواتهم إلى واضعيه، ولا يكون ذلك بمجرد التصويت عليه في استفتاء طيّ إقراره.
ولم تبدُ بعد في الثورة الشرق الأوسطية اللا عنفية التي نعيشها منذ عام 2005 سابقة دستورية يحتذى بها في اليمن. ففي مصر، تمّ التعديل الدستوري بقيادة قانوني محترم، الدكتور طارق البشري. لكن العملية فقدت الكثير من شرعيّتها جراء ضعف تمثيل المجلس الأعلى للقوات المسلّحة، الذي استفاد من ثورة شعبية عارمة لينصب نفسه في الحكم من خلال انقلاب عسكري أزاح حسني مبارك لما زحف الشعب المصري على قصره في 11 شباط 2011. ولا يعتد لمجلس عسكري انقلابي في قيادة العملية الانتقالية بحسب أبسط المعايير الديموقراطية. ففي مصر لا تزال مجموعتان مرتبطتان بالنظام السابق في صدارة سياسية مقلقة: المجلس العسكري الأعلى، ورجال مبارك في الشرطة وفي الأجهزة الأمنية. هذا يعني أيضاً ضرورة التروّي قبل الإقدام على انتخابات تشريعية ورئاسية كما تبلورت جراء التعديلات الدستورية، والبحث في سبل استمرار وحدة الثورة وترسيخ مُثُلِها في الحياة اليومية قبل المضي في التشرذم المحتّم في الملأ الانتخابي المعجّل.
وفي تونس يمثل تعيين "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي" (كان اسمها سابقاً "لجنة الإصلاح السياسي") برئاسة الأستاذ عياض بن عاشور، وهو قانوني أيضاً رفيع المقام، طريقاً أكثر أملاً على درب الديموقراطية، إلا أنّ استمرار عدد واسع من رموز الحكم السابق في السلطة مدعاة للقلق. وكانت فكرة قد نشأت بُعَيد إقصاء بن علي في 15 كانون الثاني 2011 تقضي بالالتزام بتدبير بسيط يقضي بضرورة عزوف كلِّ من جلس مع الرئيس السابق في السنة التي سبقت فراره من التعاطي بالشأن العام، إلا إذا كان قادراً على إبراز البيّنة المقنعة على عكس ما يوحي به مثل هذا اللقاء الخاص.
المسار التونسي باعث للأمل، رغم استمرار عدد من المسؤولين السابقين في الحكم، خلافاً للمشهد المصري الذي حافظ في المجلس الأعلى للقوات المسلحة كما في الحكومة وفي الجامعة العربية على الوجوه التقليدية من عهد حسني مبارك. يبقى أن التعديلات الدستورية في مصر أسندت مسؤوليات حقيقية للهيئات القضائية يحتذى بها في التجارب الانتقالية، واليمن جدير بالاستفادة من السلبيات كما الايجابيات التونسية والمصرية لخطّ نهجه الخاص بقيادة مجلس دستوري للمرحلة الانتقالية.
هل من حاجة إلى دور مضاعف للقضاء؟
لذا فالدرس المشترك يختصر بمجموعة من "المؤسسين الانتقاليين" في المرحلة الأولى، تهيئ اللجوء إلى جمعية دستورية تأسيسية منتخبة أو معينة من مجلس منتخب، مع الابتعاد قدر الإمكان للمؤسسين عن دور سياسي مباشر بحيث يسهرون في عملهم على بقاء المسافة حيّةً بين السياسة الصرف والمحافظة على روح الثورة اللا عنفية.
ودور المجموعة الأساسي التحضير للجمعية الدستورية، كما يمكن الركون إليها أيضاً للإشراف على مهمة لا تقل محورية في الفترة الانتقالية، هي التأكد من أن المحافظة على اللا عنف وعلى احترام المبادئ العالمية التي يشترك فيها جميع من انخرط في الثورة السلمية هما معيار العمل لأية حكومة انتقالية في البلد.
هذه المهمة أيضاً تلقي الضوء على طبيعة مثل هذه المجموعة. فالقضاء في مصر يتألّق عبر تاريخه المعاصر في التصدّي للتدابير التعسّفيّة التي اتخذها مبارك وسلفاه، أنور السادات وجمال عبد الناصر، وتونس عرفت مواقف مماثلة في شخص القاضي مختار اليحياوي على سبيل المثال. هذا تراث مديد يذكره الناس في اللحظات المميّزة التي أدّت الى استقالة القضاة الأشراف أو تنحيتهم أو إجبارهم الحاكم المتعسّف على التراجع.
هؤلاء هم رجال ونساء القانون ممّن تحتاج إليهم الثورة لقيادة المرحلة القانونية الانتقالية، وهم المؤسسون الدستوريون الطبيعيون لثورة اللا عنف في بلادنا. فلأنّهم لا يتمتّعون بأي دور في السلطة التنفيذية، من الطبيعي أن يُركَنَ إليهم للحؤول دون تمادي أهل السلطة في التعسّف، مثلاً في مصر في وجه التوقيف المستمر للمواطنين الذين يعبّرون عن اشمئزازهم من دور العسكر في السياسة، أو الإجراءات المهينة تجاه الفتيات المتظاهرات، أو الاستمرار في استعمال الغاز والرصاص في التظاهرات المسالمة. كما أن مثل هذه المجموعة قادرة على مساءلة أهل الشرطة والجيش متى تلكؤا في توقيف العنف الطائفي وحرق الكنائس. هذا هو الدور الطبيعي للقضاء في أي بلد ديموقراطي، أن يمنع العنف ضد المواطن أياً كان مصدره، في جهاز الدولة أو في الجماعات المتطرّفة من المجتمع المدني. وكان الحكام المخلوعون دائبين على رصّ صفوف القضاء بأزلامهم المطواعين، و بالالتفاف على السلك القضائي المهني بإنشاء المحاكم الخاصة والعسكرية. هذا كلّه يحتاج إلى البقاء في ماضي بلادنا المحرّرة من الاستبداد.
ويتمتع اليمن بسلك قضائي مهني محترم يجدر أن يكون في صدارة المجلس التأسيسي الانتقالي مع ممثلين من الثورة لا سيما من بين الشباب والنساء، شرط أن يكون جلياً لأي عضو فيه أن الحفاظ على طهارة الثورة يلزمه، قبل الانضمام إليه، عدم العمل السياسي معيّناً أو منتخباً في السّلطتين التنفيذية والتشريعية، أن يمرّ الزمن المحدّد الكافي على تخلّيه عن منصبه في المجلس التأسيسي الدستوري.
بقلم شبلي ملاّط (محام وأستاذ في القانون) - النهار 13 حزيران 2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق