الأحد، 22 مايو 2011

القكر الاجتماعي في العصر الحديث: مدرسة الفلسفة الوضعية

مدرسة الفلسفة الوضعية

كانت قضية حرية الاختيار العقائدي بين الإيمان والرفض ، وحرية الاختيار المعيشي بين الرفاهية والملل، وحرية الاختيار الأسري في بناء الأسرة واختيار شريك أو شريكة الحياة، وحرية الاختيار السلوكي بين السلوك الانفعالي والسلوك الواعي، في ظل ظروف معقدة ومتناقضة ومتداخلة في نفس الوقت قضية القضايا في الفكر الاجتماعي منذ نشأته الأولى ، وخاصة حرية الاختيار العقائدي ، فالدين ظاهرة اجتماعية وضرورة إنسانية رافقت المجتمعات البشرية منذ نشأتها الأولى وقد قال المؤرخ الروماني بلوتارك (من الممكن أن تجد مدنا بلا أسوار وبلا ملوك وبلا ثروة وبلا آداب وبلا ثقافة وبلا مسارح ، ولكن من غير الممكن أن تجد مدنا بلا دين أو لا تمارس العبادة، فالدين طابع الإنسان) وقال المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي في كتابه العادة والتغيير (الدين جزء من الطبيعة البشرية والإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير دين، وقد استطاعت الأديان أن تعلم الإنسان بأنه ليس حشرة اجتماعية ولكنه إنسان ذو كرامة واختيار وإدراك) وقال ماكس موللر (الدين قوة من قوى النفس وخاصة من خواصها وأن فكرة التعبد من الغرائز التي فطر عليها الإنسان) وقال بنيامين كونستان (الدين من العوامل التي سيطرت على الشر ومن المستحيل أن نتصور ماهية الإنسان دون أن تتبادر إلى ذهننا فكرة الدين) وقد أكد هذه الحقيقة أيضا علماء الاجتماع وقالوا أن الدين مؤسسة اجتماعية لا يمكن أن يستغني عنها اى مجتمع بشري وهي من أهم القواعد التي قام عليها بنيان المجتمعات البشرية وأن ثقافة أي مجتمع تنبع من عقيدته الدينية، فاليهودية هي الأساس الأول للثقافة اليهودية والمسيحية هي الأساس الأول للثقافة الأوربية والإسلام هو الأساس الأول للثقافة العربية والإسلامية والهندوسية هي الأساس الأول للثقافة الهندية، وأن ضعف الإيديولوجيات يرجع إلى منافستها للأديان.

والدين ليس مجرد علاقة خاصة بين الإنسان والله ولكن هذا جانب أما الجانب الآخر فهو جانب العلاقة بين الإنسان والإنسان، وكان الإمبراطور الروماني قسطنطين قد أدرك هذه الحقيقة ولذلك دعا إلى عقد مجمع نيقية لحسم التناقض بين المسيحيين حول طبيعة المسيح وإعادة صياغة الديانة المسيحية صياغة جديدة لتكون دين الإمبراطورية، لأن قسطنطين كان في ذلك العصر يقيس ما في الدين من الحق بمقدار ما يأتي به هذا الدين من نتائج ، فإذا جاء بالنصر قال الناس انه الحق المبين وإذا جاء بالهزيمة قالوا انه الضلال المبين، كما أنه كان يقيس القوة بالوحدة والنظام والإيمان ولذلك كان يرى في المسيحيين الذين لم يكن عددهم يتجاوز خمس سكان الإمبراطورية أكثر قوة من الوثنيين الذين يشكلون أربعة أخماس سكان الإمبراطورية لأنهم كانوا فئة يهديها الإيمان وتسندها كتب مقدسة وعقيدة واضحة في حين كان الوثنيين ذوي عقائد شتى، كما أدرك هذه الحقيقة فولتير وديدرو وجان جاك روسو الذين اعترفوا بوجود الله باعتباره المحرك الأول ومبدأ الفعل الفطري في الطبيعة، وقدموا تفسيرا جديدا للدين المسيحي غير التفسير السابق الذي كان سائدا وركزوا على جوهر الدين ولم يهتموا بقشوره ، وقدموا تفسيرا عقليا وليبراليا حديثا عن الدين وتحرروا من التفسير القديم المتحنط والمتكلس، وهيغل الذي كانت فلسفته تقوم على محور ثابت يسميه المطلق (إرادة الروح الكلي) وهو تصور منحرف عن الله ويتجلى في رأيه في نظام المجتمع وفي ما يبدعه الدين والفن والفلسفة في بعض المراحل.

لكن الثورة الفرنسية حاولت أن تلغي المسيحية وأن تحل محلها دين العقل وذلك كرد فعل على محاكم التفتيش والأصولية المسيحية المتعصبة والحروب الدينية والمذهبية والطائفية، وهكذا نرى أن الفلسفة راحت تتطرف في الاتجاه المعاكس للأديان وتحاول حذفها كليا ، وفي هذا الجو ظهر أوغست كونت (1798 – 1857) ولكن وبما أن فلسفة الفيلسوف هي في الأصل والنهاية رد فعل لنفس الفيلسوف وعصره ومجتمعه لذلك كانت فلسفة اوغست كونت ترتبط أيضا بحياته الشخصية وخاصة حياته العاطفية ، فقد أحب كونت فتاة متدينة حبا عذريا ولكنها ماتت بالسل في ريعان الشباب وقد اثر ذلك في حياة كونت وفلسفته ولذلك راح يهتم بالدين والفلسفة الروحية ويبتعد عن الفلسفة الوضعية والفلسفة المادية أو يحاول أن يكمل الفلسفة الوضعية والفلسفة المادية بالفلسفة الروحية ، كما انه أحب امرأة مومس وحاول أن يجعل منها امرأة صالحة وبالفعل التزمت هذه المرأة لفترة زمنية ولكنها عادت إلى حياتها السابقة فجن جنونه وتعرض للاضطرابات النفسية والعصبية وحاول الانتحار في نهر السين وساءت أحواله المادية وعاش حياة على حافة الجنون ، وكان من أبرز الفلاسفة الذين تأثر بهم كونت الفيلسوف فرانسيس بيكون (1561- 1626) وهو كاتب ورجل دولة بريطاني كان معروفا بقيادته للثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على الملاحظة والتجربة ، وكان يعتبر نفسه داعيا للعلوم الجديدة التي كانت في طريقها إلى الانفصال عن الفلسفة وخاصة علم الأخلاق، ومن الرواد الذين انتبهوا إلى غياب جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس، وأول من أطلق صفة وضعي على الحقائق الأولية، وهي كلمة تطلق على مناهج العلوم الطبيعية نظرا لاعتمادها على الملاحظة والتجربة، والفيلسوف الاشتراكي الفرنسي سان سيمون (1760 – 1825) الذي كان أول من أطلق كلمة وضعي على العلوم القائمة على الوقائع القائمة على الوقائع الخاضعة للملاحظة والتحليل في كتابه (مقال في علوم الإنسان) في عام 1813وذلك تمييزا لها عن العلوم التي لا تقوم على الملاحظة والتحليل والذي أطلق عليها اسم العلوم الظنية، وكانت أوروبا في تلك الفترة تشهد حركة من المدارس الفكرية التي كانت قد بدأت تنتشر منذ عهد النهضة وكان أنصار كل مدرسة يعتقد أن مدرسته هو الأقدر على تفسير مختلف حقائق الطبيعة والحياة، ومن هذه المدارس المثالية والواقعية والحرية والجبرية والرومانتيكية والتجريبية وغيرها، وكانت المدرسة التجريبية أكثر هذه المدارس انتشارا بسبب قيمتها العلمية ودقة منهجها ونفعيتها بالنسبة للفرد والمجتمع وخاصة بعد أن حقق إسحق نيوتن تقدما علميا كبيرا في تفسير أسرار وقوانين الطبيعة وهو ما دعا المفكرين التجريبيين إلى العمل على تحقيق نفس النتائج بنفس المنهج في دراسة قوانين السلوك الإنساني والحياة الاجتماعية ، وقد كان كونت هو الأب الشرعي للفلسفة الوضعية وعلم الاجتماع كما يرى الغرب، ولكن الشرق له رأي مختلف لأنه يرى أن عبد الرحمن بن خلدون هو الأب الشرعي لعلم الاجتماع وأول من وضع أسسه الحديثة ونظرياته الاجتماعية وخاصة في قوانين العمران والعصبية وبناء الدولة وأطوار أعمارها وتقدمها وسقوطها وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التي تميز بعضهم عن بعض.

وقد شكل كونت مع الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي إميل دوركايم (1858 – 1917) والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي ليفي بريل (1857 – 1939) المدرسة الاجتماعية الوضعية الفرنسية ، والوضعية مذهب فلسفي ملحد يفسر الظواهر الطبيعية عن طريق الاستقراء القائم على الملاحظة، وينكر وجود معرفة مطلقة تتجاوز التجربة الحسية وخاصة فيما يتعلق في ما وراء الطبيعة وأسبابها ، ويركز المعرفة في الظواهر التي تقوم على الوقائع التجريبية وخاصة تلك التي يتيحها العلم التجريب، ولذلك دعا كونت إلى تطبيق هذا القانون في التطور على جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية في الحضارة والسياسة والفن والأخلاق ، وضرورة قيام دين جديد يحل محل الدين المسيحي وهو الدين الوضعي الذي يقوم على أساس عبادة الإنسانية كفكرة تحل محل عبادة الله، وقد كان كونت الذي أطلق في بادئ الأمر على علمه الجديد اسم الفيزياء الاجتماعية ثم تجنبا لتكرار الاسم الذي سبقه إليه المفكر الاجتماعي كتيليه سمى العلم الجديد باسم علم الاجتماع من أنصار المدخل العضوي الذي يعطي اهتماما كبيرا إلى البناء الميكانيكي الآلي للكائن الاجتماعي وينظر إلى المجتمع باعتباره نظاما متكاملا يؤدي كل عضو من أعضائه دوره من أجل استمرار الكل، كما أنه كان يرى أن الفوضى التي يعيش فيها المجتمع لا تعود لأسباب سياسية ولكن إلى أسباب عقلية والى طريقة التفكير وإلى سلوك أسلوبين متناقضين في التفكير، أسلوب التفكير العقلي الذي يتناول دراسة الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية، وأسلوب التفكير الديني الميتافيزيقي الذي يتناول الظواهر الإنسانية والاجتماعية، وهذا ما أدى إلى الفساد في الأخلاق والسلوك.

وللقضاء على هذه الفوضى دعا كونت إلى الاعتماد على التفكير الوضعي منهجا كليا عاما لأنه لا يمكن التوفيق بين التفكير الوضعي والتفكير الميتافيزيقي لأن التفكير الوضعي نسبي وغايته كشف القوانين العلمية والتفكير الميتافيزيقي مطلق وغايته وضع مبادئ فلسفية لا يمكن تصورها، ولأنه لا يمكن جعل المنهج الديني (التيولوجي) والميتافيزيقي منهجا كليا يشمل جميع ظواهر الكون لأن ذلك يتطلب القضاء على كل الحقائق الموضوعية التي توصل إليها العلماء من أمثال جاليلو وديكارت وبيكون ونيوتن وغيرهم من المفكرين، ولقد قسم كونت علم الاجتماع إلى قسمين، إستاتيكا اجتماعية وديناميكا اجتماعية، الإستاتيكا الاجتماعية وتعني الاستقرار الاجتماعي وتشمل الطبيعة الاجتماعية مثل الدين والفن والأسرة والملكية والتنظيم الاجتماعي والطبيعة البشرية مثل الغرائز والعواطف والعقل والذكاء، والديناميكا الاجتماعية وتعني الحركة وتشمل قوانين التغيير الاجتماعي والعوامل المرتبطة به مثل طريقة الحياة ونمو السكان ومستوى التطور الاجتماعي والفكري، وكان كونت مفكرا متعدد المواهب والاهتمامات والاختصاصات فكتب في الفلسفة والعلوم الفيزيائية والكيمياء والرياضيات والسياسة والعلوم الاجتماعية والدين والقضايا الروحية، وقضى النصف الأول من عمره في دراسة القوانين التي تتحكم في ظواهر الكون ومادته ونصفه الآخر في بلورة النظرية الأخلاقية ودين الإنسانية، وقد كانت الأخلاق تدخل في نطاق الدراسات الفلسفية، وكان الفلاسفة يبحثون في الأخلاق بوصفها علما معياريا يحدد للإنسان المبادئ التي يجب أن يسير عليها ليكون سلوكه أخلاقيا.

ولكن كونت رفض هذه المعيارية الفلسفية وقرر نقل الأخلاق من نطاق الفلسفة التأملية التحليلية إلى نطاق علم الاجتماع الوضعي التجريبي الذي يدرس ما هو قائم فعلا من ظواهر أخلاقية وليس ما يجب أن يكون من سلوك أخلاقي ، وهذا يعني أن الأخلاق أصبحت علما وضعيا تجريبيا مثل أي علم من علوم الطبيعة مع فارق وحيد وهو أن التجريب في علم الاجتماع ليس معمليا ولكنه استقراء يعتمد على الملاحظة العلمية للظواهر الاجتماعية وكشف القوانين التي تتحكم في مسارها وفي تشكيلها وفي اكتشاف نشأتها الاجتماعية بوصفها ظواهر اجتماعية ليست فطرية في الإنسان ولا تنشأ في حياته من فراغ وإنما هي ثمار تظهر نتيجة ظروف معينة في المجتمع الذي ينشأ فيه الإنسان ، ولذلك قال كونت أن الحياة الأخلاقية للإنسان تبدأ حين تبدأ الحياة الاجتماعية للإنسان وتتحدد وفقا للمبادئ السائدة في المجتمع الذي يحدد القيم الأخلاقية التي تجبر الإنسان على الالتزام بسلوك أخلاقي معين وتختلف من مجتمع إلى آخر لأن الأخلاق نسبية ولكن نسبية الأخلاق لا يعني انحطاطها أو زوالها، أما دراسات كونت في الديناميكا الاجتماعية فقد كانت تدور حول نظرية التقدم المادي والتقدم في الطبيعة الإنسانية ونظرية المراحل الثلاثة، وكان يرى أن انتقال الإنسانية من مرحلة إلى مرحلة لا بد أن يكون مصحوبا بالتقدم المادي وخاصة في مجال السيطرة على قوى الطبيعة من اجل تأمين الاحتياجات المادية للإنسان ولكن كونت كان يؤكد على أن النمو العقلي يؤدي إلى النمو المادي، وأن التقدم في الطبيعة الإنسانية يكون أكثر وضوحا في الطبيعة البيولوجية والعقلية ولكنه كان يرى أن التقدم العقلي في هذا الجانب أساسي لأن التاريخ يحكمه ويوجهه نمو الأفكار ، كما كان كونت يؤمن بأن التحول إلى المجتمع المثالي لا يتحقق بالثورة السياسية بل بالتطبيق المناسب لعلم أخلاقي جديد وهو الذي سماه علم الاجتماع ولذلك كان كونت الأب الروحي لعلم الاجتماع وهو ارفع العلوم كما قال كونت ، ولذلك كان يرى أن الديناميكيا الاجتماعية أو ما يعرف ألآن باسم التغيير الاجتماعي تمر بثلاث مراحل وهي المرحلة اللاهوتية حيث يعتقد الناس أن الموضوعات الجامدة التي لا حياة فيها هي موضوعات حية وقد مرت هذه المرحلة بثلاثة مراحل، مرحلة تعتقد أن كل موضوع له أرادته الخاصة ، ومرحلة تعتقد أن إرادة السماء تفرض نفسها على كل الموضوعات، ومرحلة تعتقد بوجود اله واحد يفرض نفسه على كل الموضوعات، والمرحلة الثانية وهي المرحلة الميتافيزيقية التي سادت فيها فكرة وجود كيان عظيم واحد هو الطبيعة.

والمرحلة الثالثة وهي المرحلة الوضعية أو المرحلة العلمية الحديثة وهي مرحلة نهاية التطور البشري كما يعتقد كونت والمرحلة التي تتميز بأنها مرحلة ايجابية يحل فيها العلم محل الخرافات حيث يطور البشر عملية التفسير بالمصطلحات الطبيعية والقوانين العلمية وعند هذه النقطة من تطور المجتمع يصبح من الممكن التحكم في الأحداث الإنسانية، وكان كونت يعتقد أن المدنية الأوربية هي المدنية الوحيدة التي اجتازت المرحلتين السابقتين ووصلت إلى المرحلة الوضعية من التحكم في الظروف الطبيعية وأصبحت على حافة الوضعية فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، وقد حظي التفكير التحليلي باهتمام الكثير من المفكرين في القرن العشرين من أمثال برتراند رسل وجورج إدوارد مور ولودفيغ متغتشتين وميناريوس وانشتاين ورودلف كارناب وزكي نجيب محمود وهو فيلسوف فلسطيني من أصل مغربي ويحمل الجنسية المصرية والفريد جولز أيار وهم جميعا وان كانوا استمرارا للحركة التجريبية وامتدادا للوضعية الكلاسيكية التي نشأت على يد كونت وجون ستيوارت مل إلا أنهم وخاصة الفريد جولز أبار قد اتجه اتجاها خاصا في الفلسفة التحليلية حيث مزج بين التحليل والفلسفة الوضعية المنطقية التي دعت إليها المدرسة المعروفة باسم حلقة الفينا ، كما تبنى أبار الموقف الوصفي المنطقي لحلقة فينا وأضفى عليه طابعا تحليليا خاصا حيث وضع نظرية في المعنى تمثلت في صياغة لمبدأ التثبيت الذي يمثل معيارا يقيس به ما له معنى من العبارات ويفرزه عما هو فارغ من المعنى.

يوسف حجازي 12/12/2008

0 تعليقات::

إرسال تعليق