الأحد، 22 مايو 2011

مسيحيو لبنان تفرقوا

صرّح البطريرك الماروني نصر الله صفير خلال عظته الأسبوعية الأحد "أن المسيحيين في لبنان تفرقوا ويبدو أن جمعهم بات صعباً جداً". عبارة تدفع إلى التصوّر أن جريمة اغتيال الوزير الشيخ بيار الجميّل تسبّبت باحتقان شديد وسط المسيحيين الذين يشكلون البيئة اللبنانية الأكثر رخاوة سياسياً، احتقان عبّر عن نفسه في مناطق "الشرقية" كما كانت تعرف خلال "حرب لبنان"، المزيج من أهلية وخارجية على أهل البلاد، بإقدام مجموعات من الشبان المناصرين لحزبي الكتائب و"القوات اللبنانية" على إحراق صور النائب الجنرال ميشال عون وأعلام حزبه "التيار الوطني الحر" وشعاراته. في حين "اختفى" أنصار هذا التيار تلقائياً وبتوجيهات من رئيسهم عون الذي لا يزال مستغرباً رد الفعل هذا ضده.

الشارع المسيحي

والواقع أن جريمة اغتيال الوزير والمسؤول الكتائبي البارز أبعدت عن المسيحيين، مواجهات عنفية قاسية كانت ستدور حتماً في قراهم وبلداتهم وشوارع مدنهم لو نفّذ أنصار "التيار الوطني الحرّ" تعليمات قيادتهم في الساعة الصفر التي كانت تقترب بالنزول إلى الشوارع لمساندة "حزب الله" في تحركاته لإسقاط حكومة الغالبية التي يترأسها الرئيس فؤاد السنيورة ، والتي يعتبرها مسيحيو تحالف الغالبية "قوى 14 آذار" حكومة "استقلال لبنان الثاني".

وإذ يبدي أنصار عون إستغرابهم للعدائية العالية الدرجة التي يبديها مؤيدو "14 آذار/مارس" ضد سياسة الجنرال في الساحة المسيحية، يغيب عنهم أن ما يشبه حكماً بتخوين سياسة الرجل ينتشر كالنار في الهشيم في البيئة نفسها التي أعطته نحو 70 في المئة في الإنتخابات النيابية الماضية، صيف العام 2005.حكم يعززه من وجهة نظر منتقدي الجنرال كلام إستفزازي يطلقه كلما اغتيلت شخصية من أركان " 14 آذار/مارس"، على غرار تصريحه لصحيفة "الأخبار" اليوم في سياق حملته الشديدة على الأكثرية "إنهم وضعوا خطة جهنمية للقضاء عليّ، وهذه واضحة. نقتل الرجل، نتهم التيار، ثم ننزل إلى الشارع ونكسر ونقضي عليهم... لكنهم سيفشلون". وفي لبنان مثل شعبي يقول أن "عين المحزون ضيقة" بمعنى أن أهل الراحل لا ينسون إساءة في أيام حزنهم. فكيف إذا اتهمهم أحد بقتل إبنهم؟

والحق أن هذه الفئة من اللبنانيين عوّدت على محاسبة قادتها تاريخياً، فعندما قاد سمير جعجع حركة اعتراض في وجه الرئيس أمين الجميّل سميت الإنتفاضة آنذاك عام 1985 وقفت معها الغالبية. وعندما تسلم الجنرال ميشال عون السلطة عام 1988 وقفت معه الغالبية، وعندما انتهت الحرب قضى نظام الوصاية السوري على الثلاثة معاً موقتاً. وعندما عاد أمين الجميّل وبعده الجنرال عون عقب خروج الجيش السوري من لبنان دهم الجميع الإستحقاق النيابي وتحالف "تيار المستقبل" والحزب التقدمي الإشتراكي مع الكتلة الشيعية "حركة أمل " و"حزب الله" إنتخابياً، فثارت ثائرة المسيحيين لأن الإتفاق كان على حسابهم. وقال البطريرك عبارته الشهيرة "فلتنتخب كل طائفة زعيمها، وقد أعذر من أنذر". فصعد الجنرال إلى زعامة الأكثرية في طائفته ودفع الثمن أعضاء "لقاء قرنة شهوان" حليف زعامتي السنة والدروز؛ "المستقبل" و"الحزب التقدمي"، والذي قاد المواجهة السياسية والشعبية والإعلامية ضد السوريين طوال خمسة أعوام.

بين عون وحبيقة

وعندما أعلن الجنرال عون والسيد حسن نصر الله ورقة التفاهم بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" في شباط/ فبراير الماضي تعرضت لهجومات سياسية قوية في الوسط المسيحي لم تؤثر على مدى أشهر في شعبية الجنرال، ولكن الوضع بدا مختلفاًَ في ضوء الحرب التي اندلعت في 12 تموز/يوليو الفائت، وانعكست نتائجها سلباً على "التيار الوطني الحر" الذي لم يدرك قائده عون أنه ليس مهماًَ في لعبة الرأي العام كيف تنظر إلى نفسك بل كيف ينظر الآخرون إليك. هكذا يقف الرجل اليوم- مع إصراره على رفض الفكرة، والتشبيه طبعاً- في الموقف الذي وقفه قبله الوزير الراحل إيلي حبيقة الذي قضى اغتيالاً صيف العام 2000 في جريمة لم تكلف نفسها السلطات القضائية والأمنية التحقيق فيها، ولم تحل على المجلس العدلي لاعتبارها من الجرائم التي تمس أمن الدولة إلا بعد نحو خمس سنوات، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

لكن وجه الشبه يعود إلى مرحلة لاحقة، عندما عقد حبيقة أواخرعام 1985 ما سمي " الإتفاق الثلاثي" في دمشق مع رئيس حركة "أمل" فحسب حينها نبيه بري، ورئيس الإشتراكي وليد جنبلاط. كانت المعلومات والإنطباعات السورية في ذلك الوقت أن حبيقة متفوق على خصومه بنسبة "ستة على واحد"، وكان رئيس ميليشيا "القوات اللبنانية" ذلك الوقت مقتنعاً بأن ذاك الإتفاق كان الأحسن في تلك الظروف، وكرر في وقت لاحق أنه كان أفضل من "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب عام 1990.

وقد صُوّر هذا الإتفاق لمسيحيي لبنان، أو غالبيتهم، خارجاً على كل ما آمنوا به وسعوا من أجله منذ أجيال وانه يعطي وطنهم لسورية في اختصار شديد. يقول مقربون من حبيقة أن تلك الصورة التخوينية التي رسمت حوله آلمته كثيراً، وأنه قبل اغتياله بسيارة مفخخة أجرى مراجعة جعلته ينظر إلى الأمور بطريقة مختلفة، وهذا أيضاً ليس مجال البحث هنا، بل مسألة أن الأهم من مضمون ذاك الإتفاق سياسياً هو نظرة الناس إليه التي جعلت إسقاط موقّع ذاك الإتفاق عن المسيحيين حتمياً، لأنه كان خارجاً عن السياق العام الوجداني -التاريخي –السياسي لهذه الطائفة . وأصلاً وقعه جنبلاط وهو يقول إن نجله سينفذه، ولم تكن ثمة إنتخابات نيابية تلك الأيام لحسم الأمور بالديمقراطية لأنها كانت مرحلة حرب، فأسقط الإتفاق بالقوة.

وبالأمس صرح الجنرال عون أن الرئيس فؤاد السنيورة قاصر عن إدراك الحركات الشعبية لأن لا خبرة لديه في هذا المجال ، فمسؤولياته اقتصرت على النواحي الإدارية والإقتصادية ، مؤكداً مع "حزب الله" المضي قدماً في إجراءات النزول إلى الشارع لإسقاط الحكومة بعد انتهاء مراسم الحداد على الوزير الجميّل بدءاً من صباح الإثنين. وإذا كان عون يقصد فعلاً ما يقول ، والأرجح أنه كذلك ، فهذا يعني أنه فقد صلته بالحس الجماهيري في طائفته التي انقلب مزاجها، وحتى في تياره الذي يشهد تصدعات شعبية متعددة الشكل من حوله ، لأنه لم يحسن شرح ما هو قائم بينه وبين "حزب الله"، وبين "حزب الله" والنظام السوري ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران ولا ما بينه وبين حلفاء سورية الخلّص الآخرين في لبنان. ففي لعبة الرأي العام كما في الحياة الشخصية، ليس الأهم كيف تنظر إلى نفسك بل كيف ينظر الآخرون إليك.

بكركي ورئاسة الجمهورية

ولأن الجنرال عون يقف في وضع الوزير الراحل حبيقة بين المسيحيين منتصف الثمانينات، مع تغيّر الظروف، يمكن التأكيد أن الموجة الصاعدة بقوة في هذه البيئة هي التي يقودها سياسيو 14 آذار/ مارس، لا سيما منهم الرئيس أمين الجميّل والدكتور سمير جعجع، والبطريرك صفير يسعى إلى لقاء بين الثلاثة وربما غيرهم أيضاً في الصرح البطريركي في بكركي، وثمة وساطات دينية بين الثلاثة يقود إحداها المطرانان رولان أبو جودة وسمير مظلوم، ونيابية يقودها العضوان في "تكتل التغيير والإصلاح" الذي يترأسه عون النائبان سليم سلهب وفريد الخازن، كما هناك تحركات أخرى بينهم غير معلنة.

وما رشح حتى الآن أن صفير يأبى استقبال زعماء طائفته السياسيين معاً إذا لم يكونوا متفقين أصلاً على ورقة ثوابت ورؤية إلى الحلول التي يجب أن تبدأ وفق الرئيس الجميّل بحل مسألة رئيس الجمهورية وتسهيل المحكمة الدولية. ويوافقه في ذلك النائب الجنرال عون الذي يطرح مشكلة "من الرئيس البديل؟ " بعد لحود. ولا يملك الجميّل وجعجع بالطبع أن يؤيدا ترشيح الجنرال عون الذي "أصبح طرفاً" كما قال الوزير أحمد فتفت لـ"إيلاف" باسم كل الغالبية، مسلميها ومسيحييها، خصوصاً أن الرجل من وجهة نظرهذه الغالبية لم يفعل منذ عودته إلى لبنان سوى ما يحوّله خصماً وحليفاً لسورية التي تخوض "14 آذار/ مارس"معها معركة بقاء أو فناء. فكيف يُعقل أن تدعمه لتولي الرئاسة!؟

وقريباً يجتمع أعضاء "لقاء قرنة شهوان" الذي يبدو عائداً إلى الساحة علناً بعد انقطاع طويل منذ انتهاء الإنتخابات النيابية الماضية ، ويقول الوسطاء بين القادة المسيحيين إن نتيجة مساعيهم ستظهر خلال ساعات سلباً أو إيجاباً. في الإنتظار، الرئيس الجميّل لا يزال حتى هذه الساعة يفضل ألا يرى الجنرال عون، حتى لتقبل واجب التعزية منه. وهو اتهمه أمام نعش نجله الوزير الشاب، من دون أن يسميه، بأنه يشكل غطاء سياسياً للسوريين الذين يتهمهم بارتكاب جريمة اغتيال الشيخ بيار. وإذا كان صحيحاً ما ينقل عن الجنرال عون أن لا شيء تغيّر بالنسبة إلى قراره النزول مع "حزب الله" وبقية حلفاء سورية إلى شوارع لبنان الشديدة الإختلاط سياسياً في مناطق المسيحيين وحدها، فعليهم أن يعدّوا أنفسهم، في الشوارع والجامعات خصوصاً، لأسبوع طالع أقل ما يُقال في احتمالاته إنها مثيرة للخوف.

إيلي الحاج - بيروت - إيلاف - Posted: January 08, 2007 03:12 am

0 تعليقات::

إرسال تعليق