الأربعاء، 25 مايو 2011

مشروع إزالة الملعب البلدي في الطريق الجديدة وبناء بديل له في سباق الخيل... خزانٌ حفظ ذاكرة المدينة منذ الثلاثينيات: من صلاة الاجتياح إلى فلسطين... وكرة بوشكاش

Free Image Hosting at www.ImageShack.us
حوى مخيماً للنازحين من جنوب لبنان خلال اجتياح العام 1978

Free Image Hosting at www.ImageShack.us
.. ومهرجان ذكرى انطلاقة حركة فتح في العام 1978

Free Image Hosting at www.ImageShack.us
صلاة عيد الفطر في العام 1983 (الصور من أرشيف «المركز العربي للمعلومات»)
كثبان الرمل التي كانت تغطي جنوب بيروت، اختفت. ومعها، راحت أشجار الصبير الممتدة من حرج بيروت إلى البحر.
شقت الطرقات بين الرمل، وقسمت المناطق وولدت منطقة سميّت بـ«الطريق الجديدة»، لتتوالد بعدها البيوت والمباني، سريعاً. أصبحت المنطقة اليوم من أكثر المناطق كثافة سكانية في بيروت الكبرى. مليئة بكل شيء: المساكن، المحال التجارية، الجامعات والمدارس وعشرات الآلاف من البشر.

تختنق المدينة بعشرات الآلاف من السيارات والمركبات الآلية. لا تكفيها المرائب المتوافرة تحت المباني ولا في محيطها ولا حتى تلك التي تبعد عنها لمئات الكيلومترات. لحل هذه الأزمة، يبدو أن اختيار القيمين وقع على صرح رياضي تنام فيه ذاكرة المدينة: الملعب البلدي لبيروت.
هو مشروع تطلقه بلدية بيروت، ويقضي بإزالة الملعب البلدي في الطريق الجديدة المخصص لمباريات المحترفين، واستبداله بمشروع «إنمائي، بيئي، مدني، رياضي»، يتضمن مرأباً، على أن يُبنى الملعب الجديد على أرض ميدان سباق الخيل.
يقدّر الكثير من فعاليات المنطقة المعنية، مشروع رئيس بلدية بيروت بلال حمد الإنمائي، إلا أن أنهم يعجزون عن تقبل بتر حياة أهم معلم في المنطقة وخزان ذاكرتها، وحاضن ذكرياتها وأحداثها السياسية والرياضية والاجتماعية. محطات كثيرة ارتبطت باسمه: المهرجانات الحاشدة منذ العام 1948 دفاعاً عن القضية الفلسطينية واستقلال الجزائر ومصر عبد الناصر، حفل تسليم قائد الجيش اللبناني الأول، اللواء فؤاد شهاب زمام أمر الجيش اللبناني منذ تأسيسه، احتفالات جلاء القوات الأجنبية عن لبنان في العام 1946، والاحتفالات السنوية لجمعية المقاصد الإسلامية في بيروت... ومن ينسى الصلاة الجامعة في عيد الفطر وبعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، التي جمعت الشيخ الشهيد حسن خالد والشيخ المرحوم محمد مهدي شمس الدين والشيخ الشهيد حليم تقي الدين!

مشروعان في واحد

تسرّب الخبر لأهالي الطريق الجديدة منذ نحو الشهرين، فثارت ثورتهم: كيف يُزال الملعب الذي حضن أمجاد لعبة كرة القدم في لبنان؟ الملعب الذي أقيمت فيه أهم المهرجانات السياسية والاجتماعية والاحتفالات العربية والمحلية؟
وفي الأيام التالية، وبعد التدقيق في المشروع المنوي إقامته على أرض ملعبهم، أنصتوا قليلاً للمخطط. منهم من «قاس» فائدة المشروع الجديد وأعلن الموافقة، وتوجس قسم آخر بانتظار ضمان تقديم ملعب بلدي بديل. وبقي الموقف الرافض الأكثر حدة من «الاتحاد اللبناني لكرة القدم»، الذي رأى فيه «مشروع عدائي للرياضة وكرة القدم بالذات، ويستفزّ مشاعر مئات الآلاف من المواطنين»، وطلب التدخل العاجل «للحؤول دون تنفيذ الجريمة المعدّ لارتكابها في حق الرياضة والصرح التاريخي لكرة القدم في لبنان».
أما حمد فيتحدث عن مشروعين في آن: هدم الملعب الحالي في الطريق الجديدة، وإنشاء بديل في الوقت نفسه على أرض ميدان سباق الخيل. ويستغرق الهدم والبناء مدة زمنية تقدر بثلاث سنوات، بحسب حمد.
يقول حمد إنه لا يغفل تاريخ المكان، إلا أن «الملعب الرياضي لم يعد بذات النفعية في منطقة مكتظة سكانيا، ولا تتوافر له البنية التحتية اللازمة للمتفرجين واللاعبين، بالإضافة إلى تأثير الأوضاع الأمنية في البلاد في أي مباراة تعقد هنا»، يقول لـ«السفير»، مشترطاً «عدم الانطلاق بأي من المشروعين إذا لم ننل موافقة أهل المنطقة وفعالياتها».
في هذا السياق، كان لقاءه بالأمس مع الفعاليات والأندية الرياضية في لبنان. واعتبر حمد أن «الهدف الوحيد من هذا المشروع هو إرضاء أهل بيروت، والطريق الجديدة ليست كل بيروت، لكنها جزء أساسي منها»، علماً أن المكان ذاكرة للبلد، بكل سكانه. يجزم أن «المشروع الجديد ليس مرأبا للسيارات فقط كما يشاع، وكما يتكرر دوماً، إن استبدال الملعب بمرآب جريمة بحق الرياضة، بل نحن في صدد إنشاء ثمانية ملاعب لألعاب رياضية مختلفة يستفيد منها الشباب، ومجمع تجاري، وصالات للمهرجانات والاحتفالات، ومسرح شعبي، ومكتبة عامة وصالة للكومبيوتر لنعلّم نساء الطريق الجديدة على هذه التقنية، بالإضافة إلى مرأب مؤلف من أربع طبقات تحت الأرض يتسع لنحو ألفي سيارة، وله أربع مداخل لجهة ساحة الملعب البلدي، شارع البستاني، ساحة أبو شاكر والإطفائية». ووعد بأن تكون تكلفة هذا المرأب مناسبة للمستوى المعيشي لأهل المنطقة...
يقول إنه «في السنوات العشر الأخيرة، تدنى عدد المباريات على أرض هذه الملاعب، إلى رقم مخجل، وربما لم يتعد عددها الثلاث في العام الماضي. أما المشروع الجديد المنوي إنشاؤه على أرض ميدان سباق الخيل الذي تبلغ مساحته 210 ألف متر فسيتضمن ملعباً أولمبياً بمعايير عالمية، وميدان سبق حديث، وإسطبلات ومساحات لتدريب الأحصنة، بالإضافة إلى مرأب يتسع لنحو ألف سيارة».
هذه المعطيات التي من المنتظر أن يتوسع فيها حمد خلال مؤتمر صحافي يعقده بحلول الشهر الحالي، أقنعت معظم الفعاليات الرياضية التي شاركت في اجتماع الأمس معه في بلدية بيروت، إنما لم يخف أي منهم خوفه من حرمان كرة القدم من ملعب في بيروت، خلال المدة المستغرقة لبناء الملعب الجديد على ارض سبق الخيل. وكان السؤال الأساس: أين نلعب وأين نتدرب في الوقت الذي تهدمون فيه ملعبنا البلدي؟
والجواب كان: «يمكن استخدام المدينة الرياضية، في حال حلت المشاكل التي تمنع استخدامها».
ومن المعروف أن أبواب المدينة الرياضية مغلقة في وجه الاتحاد اللبناني لكرة القدم ووجه كل مبارياته لخلافات مع مجلس إدارة المدينة الرياضية!
بانتظار الموافقة الجماعية للمعنيين بالملعب البلدي، بقي الاتحاد اللبناني لكرة القدم، رافضاً لهدم المبنى البلدي، وناشد في بيان له أمس «الاتحادين الدولي والأسيوي للعبة التدخل، كما طلب تحديد مواعيد عاجلة مع الرؤساء الثلاثة للتدخل للعمل على إنقاذ الملعب والحؤول دون تنفيذ المشروع المعادي للرياضة والشباب».
وطلب الاتحاد «تحديد مواعيد عاجلة للقاء كل من رئيس الجمهورية ميشال سليمان، رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، ووزير الشباب والرياضة علي عبد الله». وكرر رئيس الاتحاد اللبناني هاشم حيدر «رفضه لهدم الملعب لأنه حاجة رياضية، أما في حال قررت البلدية السير به، فسنواصل سعينا لإيقافه ونرفع الصوت دوليا ومحليا لثني المجلس البلدي عن تنفيذه».

قصص هذا المكان التاريخية

حتى اللحظة، لم يحدد رئيس البلدية الوقت الذي «سيدفن» فيه هذا المعلم إلى الأبد. لكن، حتى ولو اختفى عن خارطة بيروت و«بُعث» من جديد على أرض أخرى، سيبقى «ملعب بيروت البلدي» الأول في هذه العاصمة، والحاضن الأكبر لأهم مبارياتها ومهرجاناتها الرياضية والسياسية والاجتماعية.
وهو بحسب الكاتب أسامة العارف «بنيّ أيام الفرنسيين في العام 1936، ولكن بأموال بلدية بيروت. ودفع محافظ بلدية بيروت سليم تقلا مقابل الأرض التي بُني عليه مبلغ أربعين ألف ليرة لهنري فرعون». ويروى أن ساحة المعلب القديم، قبل أن يعيد الرئيس الشهيد رفيق الحريري بناؤه في العام 1996، كانت تتزين بنافورة صغيرة شهيرة.
لاقى إنشاء الملعب في حينه، رهجة كبيرة استمرت حتى بناء المدينة الرياضية في العام 1959، التي سرقت بعضاً من بريقه. ويذكر العارف أنه «كان العامل الأكبر الذي أسس ليوميات مفعمة بالحياة في هذه المنطقة المغمورة بالرمال، لا سيما أن كل الفرق اللبنانية التي كانت مرتبطة بالطوائف وممثلة لها بشكل رسمي، كانت تقصده. وكان، كلما لعب فريق رافقه جمهوره، ما أدى إلى جعل المنطقة مفتوحة على الجميع وملتقى لكل الطوائف اللبنانية».
هي المنطقة نفسها التي تحولت مع السنوات إلى مجمع للأحلام القومية، والتحركات الطلابية، ومقصداً لتجمع الرياضيين ومحبي تلك الساحة المستديرة... ويمكن القول إن المعلب البلدي يمتلك الفضل في خلق حركة مختلفة في المنطقة، ذلك طبعاً إلى جانب دور «جامعة بيروت العربية» التي أنشأت في الستينيات، وحيوات اللاجئين الفلسطينيين الذين تقاطروا في الأربعينيات إلى مساحة قريبة من هنا، تحولت تدريجياً إلى مخيم شاتيلا.
في السنوات التي سادت خلالها الرمال المنطقة، كان كل من يفكر بالسكن فيها يلقى، بحسب المدرب الوطني عدنان الشرقي، جواباً مستغرباً: «تقعدوا بالمنطقة المهجورة؟ أو تعيشوا في ظلمة الكلاب؟ وقيل ذلك، لأن المَعلم الأبرز وربما الوحيد في تلك المنطقة كان سجن الرمل (جنوبي الملعب البلدي الحالي ـ وتحديداً مكان ملعب كرة القدم لجامعة بيروت العربية)، الذي جعل الوحشة هي سمة المنطقة الأبرز. كذلك، لم تكن المواصلات متوافرة لقاصدها، الذي كان يُجبر على السير لمئات الأمتار، إذ كان سير القطار يتوقف عند سينما سلوى في البربير، وتحديداً أمام ثانوية المقاصد ـ الحرج، ليصل إليها».
ويروي الشرقي أنه «في الأربعينيات من القرن العشرين، وربما قبل ذلك، كان القاطن في الطريق الجديدة يرى البحر يمتد أمامه متصلاً بالرمال البيضاء. وتدريجياً، راح المنظر يختفي مع ازدياد عدد المباني السكنية في المنطقة».
اختلفت هذه الحال بحسب المؤرخ الدكتور حسان حلاق، «بعدما امتدت الطرقات بالإسفلت إلى المنطقة، وذلك في عهدي الانتداب الفرنسي ومن ثم الاستقلال، وشقت الشوارع المسماة اليوم شارع البستاني وشارع عمر فروخ والشارع الممتد من المستشفى الإسلامي «مستشفى المقاصد» باتجاه منطقة السبيل وسواها». وجاء بناء الملعب البلدي لبيروت هنا، «ليكرسه الصرح الرياضي الأهم في كل لبنان وعامل الجذب الأكبر للمواطنين من كل المناطق والطوائف. ما خلق تفاعلا وتمازجاً سكانياً فريداً لغاية العام 1975، عند اندلاع الحرب الأهلية».
كان الملعب البلدي الأب الروحي لمناسبات لا تمحى من تاريخ هذا البلد، بينها حفل تسليم قائد الجيش اللبناني الأول، اللواء فؤاد شهاب زمام أمر الجيش اللبنانية منذ تأسيسه. كما شهد الملعب البلدي احتفالات جلاء القوات الأجنبية عن لبنان في العام 1946.

أضف إلى ذلك «الاحتفالات السنوية لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، وبينها تلك التي أقيمت في عهد الرؤساء عمر بيك الداعوق، محمد سلام، صائب سلام، تمام سلام وأمين الداعوق». ويشير حلاق إلى أن «جميع البيروتيين يذكرون دينامو هذه الاحتفالات، رجل التربية البدينة والرياضة في لبنان، المربي عارف الحبال».
هذا الصرح، بحسب حلاق، «أصبح رمزاً من رموز الوحدة الوطنية والإسلامية والقومية، فقد شهد مهرجانات حاشدة منذ عام 1948 دفاعاً عن القضية الفلسطينية واستقلال الجزائر ومصر عبد الناصر ودفاعاً عن سيادة وحرية الشعوب العربية والأفريقية والإسلامية».
التواريخ التي تروي سيرة الملعب البلدي، تستذكر دوماً تلك الصلاة الجامعة في عيد الفطر التي أمها الشيخ الشهيد حسن خالد على ارض الملعب بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، والتي جمعت خالد إلى جانب الشيخ المرحوم محمد مهدي شمس الدين، الشيخ الشهيد حليم تقي الدين: «فغطى خلالها المصلون مساحة أرض الملعب كلها. وعبرت عن الرفض للاجتياح الإسرائيلي لبيروت وللبنان، ولمجازر صبرا وشاتيلا، ولتعاون بعض القوى اللبنانية مع العدو الصهيوني».
ويذكر عدنان الشرقي أن لولادة هذا الصرح الرياضي «أهمية رياضية جمعت كل محبي هذه الرياضية فيه، إذ يعتبر الملعب الرسمي الأول في لبنان، وكان يتسع لنحو 600 متفرج قبل أن يعاد بناؤه في التسعينيات على يد الرئيس الشهيد رفيق الحريري». ويذكر الشرقي أن «عشب هذا الملعب استضاف مباريات لأهم الفرق في حينه من فريق النهضة، فريق الجامعة الأميركية، فريق سكة الحديد، فريق حلمي سبور، وطبعاً لكل فرق لبنان في كرة القدم من الهومنتمن، الهومنمن، الراسينغ الأنصار، النجمة، الشبيبة المزرعة. وغيرهم». ولا ينسى أسماء لاعبين «حققوا أهدافاً لا تنسى هنا، من أبو مراد، أبو طالب، مارديك، سميح شاتيلا، عبد الرحمن شبارو، والوزير السابق خالد قباني الذي سجل هدف صعود الأنصار إلى الدرجة الأولى مقابل الهومنتمن برج حمود في العام 1969».
شهرة الملعب البلدي لم تكن محلية فقط. إذ لعبت على أرضه معظم فرق أوروبا الشرقية وحتى الوسطى، وأشهرها مباراة منتخب المجر مع لبنان في العام 1956 (انتهت بخسارة لبنان 1ـ4) بمشاركة اللاعب الشهير بوشكاش، بالإضافة إلى استضافة الملعب لفريق النمسا في الخمسينيات، وكان الفريق الأقوى أوروبياً في حينه، من دون أن ينال ألقاباً رسمية، «لهذا كان يلقب ببطل العالم غير المتوج».
المجد الرياضي هذا، وكل المناسبات التي صنعت على أرض الملعب البلدي لبيروت، تشكل جزءا من الذاكرة التاريخية للمدينة، وهذه، كما يصفها حلاق «جزء أساسي من ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا».
بعيداً عن التجاذب حول مشروع الملعب البلدي، تكون منطقة الطريق الجديدة في الأشهر المقبلة، وفي حال تقرر تنفيذ المشروع، على موعد رسمي مع ورشة هدم وإعمار تمتد لسنوات ثلاث، وتكون مليئة بكوابيس الازدحام المروري، والضجيج، والتلوث التي تحول نهار المنطقة إلى جهنم... قد يقود إلى جنة الحدائق ونعيم المرأب.

جهينة خالدية - السفير 23/09/2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق