الخميس، 19 مايو 2011

عدم دستورية التشريع في ظل حكومة تصريف الأعمال

هل بإمكاننا المطالبة بعقد جلسة تشريعية، وتعريض صلاحيات رئيس الجمهورية والرئيس الجديد للحكومة لمثل هذا التجاوز الذي من شأنه المساس بجوهر التوازن والتعاون بين السلطات؟
في الأزمات، لا بد من استذكار القامات التي بمواقفها الوطنية، رسمت للأجيال اللاحقة سبل الأمان الواجب سلوكها عند مواجهة العقد السياسية. لهذا نترحم على الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي كان كلما تعقدت المواقف السياسية، يسأل "ماذا يقول الكتاب؟ "أي على ماذا ينص الدستور، للخروج من الأزمة العالقة.
هذا الدستور الذي يشكل الميثاق المشترك بين اللبنانيين، هو من الناحية اللغوية مصطلح دخيل على اللغة العربية، رغم شيوع استعماله في المصطلح السياسي في الدول العربية، إذ انه من أصل فارسي يعني الأساس أو القاعدة الأساسية، وقد ادخل إلى اللغة العربية من خلال التواصل العربي الفارسي عقب الفتح الإسلامي.

تجدر الإشارة إلى أن الدستور اللبناني شأنه شأن كل دساتير العالم يكتنف الغموض والعمومية بعض نصوصه، مما يؤدي أحيانا إلى اختلاف حول تفسيره، وهذا ما عبر عنه بعض رجال الفقه الدستوري الفرنسي (فيليب آردان) حيث وصفه كما يلي: ”le droit constitutionnel révèle ainsi une parenté inattendue avec la poésie, ses règles portent en elles des virtualités imprévues. Elles sont chargées de sens qui ont échappé au constituant, comme les poèmes, aussitôt achevés, n’appartiennent plus à leur auteur mais à son lecteur à  qui, ils éveillent des images et des résonances infinies».  
(كتاب المؤسسات السياسية والقانون الدستوري ص12 الطبعة الثامنةL.G.D.J1996)
أي"يكون القانون الدستوري قد اظهر هكذا قرابة غير متوقعة مع الشعر، لأن قواعده تحمل في طياته افتراضات غير منتظرة وهي تحمل معانٍ لم يتنبه لها المؤسس، كما القصائد النثرية التي بعد كتابتها ونشرها، لن تعود إلى مؤلفها، بل إلى القارئ الذي توقظ فيه تخيلات صورية وأصداء لا نهاية لها".
تأسيساً على ذلك نقول، إن النقاش السياسي الدستوري القائم حول دستورية أو عدم دستورية انعقاد جلسة تشريعية للمجلس النيابي في ظل حكومة تصريف أعمال، لا بد لتوضيحه من الاحتكام إلى الدستور. إذ أن القول بسوابق (عام 1969 وعام 2005) لا يجوز التعويل عليه للمطالبة بعقدها. لأن الدستور اللبناني وان كان واضحاً في الفقرة (هاء) من مقدمته، لجهة النص على مبدأ فصل السلطات، الذي يعني الفصل الشكلي والوظيفي، المقرون بالتعاون والتوازن. إلا أن مواده اللاحقة تفرض علينا التروي في استخلاص النتائج المترتبة عن تلك الفقرة، لا سيما المتعلق منها بعقد جلسة تشريعية، إذ في نظر البعض، البرلمان سيد نفسه ولا يجوز لأي سلطة التدخل في صلاحياته.
هذه المطالبة كانت دستورية في ظل دستور ما قبل الطائف، لأن السلطة الإجرائية في حينه كانت تنحصر وفق نصي المادتين 17 و53 من الدستور برئيس الجمهورية، ومسألة توقيع رئيس الحكومة يومها على المراسيم لم تكن مفروضة دستورياً بل أوجدها العرف الدستوري. أما اليوم، النصوص واضحة حول إلزامية توقيع رئيس الحكومة على كل المراسيم الصادرة عن رئيس الجمهورية (مع بعض الاستثناءات) حيث يمارس هذا الحق بموجب نص دستوري واضح (المادتان 54 و 64).
هذا الواقع يفرض علينا مقاربة دستورية واضحة، عله من خلالها،نستطيع بلورة رأينا لوضعه قيد المناقشة الموضوعية.
بداية نقول، لا جدال حول إمكانية انعقاد المجلس النيابي بإرادته الذاتية ضمن دورات الانعقاد الدستورية للتشريع، لان المادة 16 من الدستور أعطته هذا الحق الحصري. لكن إقرار القانون في المجلس النيابي ليس من شأنه جعل القانون نافذاً على أصله، لأن الدستور وضع آلية محددة بهذا الخصوص، نلمس من خلالها دوراً واضحاً للسلطة التنفيذية في هذا المجال. فرئيس الجمهورية أعطي الحق الحصري بإصدار القوانين وطلب نشرها (المادة 51)، وهو حق تصرفي صرف، حيث تم التأكيد على هذا الدور الدستوري من خلال المادة 57 التي أعطته الحق بطلب إعادة النظر في القانون - بعد اطلاع مجلس الوزراء - مع عدم جواز رد هذا الطلب، لا من قبل مجلس الوزراء ولا من قبل مجلس النواب. هذه المواد تؤكد على دور مفصلي لرئيس الجمهورية في مسألة إصدار ونشر القوانين، حيث جاء دستور الطائف ليشرك رئيس الحكومة في هذا الدور من خلال المشاركة في التوقيع، لذا لا يمكن القول بأنه دور ثانوي يقضي بالتوقيع لنشر القانون ولا شيء آخر.
هذه المواد إذا ما عطفت على الفقرة 2 من المادة 64 التي تنص صراحة على حصر حق الحكومة المستقيلة بممارسة صلاحياتها بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال (نص لم يكن موجوداً في الدستور قبل الطائف)، تؤكد على عدم صلاحية رئيس الحكومة المستقيلة، بتوقيعه المراسيم، ومنها مرسوم الإصدار وطلب النشر، لأن هذا التصرف من قبل رئيس الحكومة الذي يتهيأ للخروج من الحكم، يلزم الحكومة الجديدة ورئيسها بالقانون الذي نشر،خاصة إذا انقضت مهلة الطعن بدستوريته، في حال شاء الرئيس الجديد (للحكومة) أن يمارس حقه الدستوري بالطعن.
وأكثر من ذلك لنحتكم إلى المادة 69 من الدستور التي تحدد الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة،وهي حالات متعددة ومن المفترض أن يطبق عليها المبدأ ذاته لجهة تصريف الأعمال، لذا نسأل هل يجوز القبول بأعمال تصرفية (ومنها نشر القوانين)، في حالة ما وتعذر ذلك في حالات أخرى، لا سيما في الحالتين الواردتين في الفقرتين (ج ود) أي عند وفاة رئيس الحكومة، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ هل من المنطق القانوني القبول بإلزام رئيس جديد للجمهورية بقانون اقره المجلس النيابي طبقاً لصلاحياته الدستورية؟ وكذلك كيف يصح الأمر بوفاة صاحب التوقيع الثاني والأساسي في جعل القانون نافذاً.
وإذا ما أضفنا إلى هذا الرأي، اجتهاد المجلس الدستوري "القرار رقم 1/2005 تاريخ 6/8/2005 وان كان بأسانيد مختلفة عما ندلي به" - (المفترض أن أحكامه ملزمة لكل السلطات ولا يجوز مخالفتها)  - الذي قرر من خلاله عدم دستورية التشريع في ظل حكومة مستقيلة، كذلك ما استقر عليه اجتهاد مجلس الشورى، حول مفهومه لمسألة تصريف الأعمال بالمفهوم الضيق لها. عندها نستنتج من كل ذلك عدم دستورية التشريع في ظل حكومة تصريف أعمال، خاصة انه ليس من المستبعد أن يلجأ مجلس النواب إلى المطالبة بتطبيق الفقرة 2 من المادة 57 التي تنص على انه في حال انقضت مهلة النشر المنصوص عنها في المادة 56 (شهر واحد) من دون إعادة القانون إلى المجلس النيابي، من قبل رئيس الجمهورية، يصبح القانون نافذاً ووجب نشره.
تأسيساً على ذلك، هل يعود بإمكاننا المطالبة بعقد جلسة تشريعية،وتعريض صلاحيات رئيس الجمهورية والرئيس الجديد للحكومة لمثل هذا التجاوز الذي من شأنه المساس بجوهر التوازن والتعاون (لاسيما في مسألة التشريع) بين السلطات والمنصوص عنه في الفقرة (هاء) من المقدمة؟
تبقى كلمة أخيرة في هذا المجال وهي انه في حال التوافق السياسي كل شيء جائز، لذا في حال التوافق المطلوب على إقرار قانون السنة السجنية 9 أشهر بدلاً من 12 (في مجلس النواب) وبالتالي العمل على إصداره ونشره، مع ضمانة عدم الطعن فيه أمام المجلس الدستوري. عند ذلك يسلك القانون مسلكه الدستوري، ويستفيد منه المسجونون الذين تشملهم أحكامه، ويتم التعاطي مع هذا القانون كسابقة 2005. بحيث تسقط ركائز هذه الدراسة المقتضبة حول عدم إمكانية إقرار ونشر قوانين في ظل حكومة مستقيلة أو بحكم المستقيلة. لأنه في بعض المجالات، وفي حال التوافق السياسي يمكن تجاوز بعض النصوص الدستورية بهدف تحقيق مصلحة عليا أو لتجاوز أزمة دستورية محددة.
ختاماً الدستور وجد ليجمع لا ليفرق، والجمع يعني التوافق السياسي على مسألة معينة، ولا يجوز أن نجعل الدستور في خدمة الطروحات السياسية من خلال تفسيره بما يتوافق مع غاياتها. لأن الخلاف على تفسير الدستور من شأنه زيادة الشرخ الداخلي الذي يؤدي حتماً إلى المزيد من التموضع السياسي الحاد الذي نحن بغنى عنه اليوم.

بقلم أمين عاطف صليبا  (أستاذ مادة القانون الدستوري  في الجامعة اللبنانية)  النهار 19 أيار 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق