الأربعاء، 18 مايو 2011

«فلسفة الموسيقى» بحسب هيغل: فكر لفن متخلص من ثقل المادة



«على الفنان الذي يؤدي عملاً موسيقياً، أن يتقيد بلا تحفظ بطابع هذا العمل الموسيقي، وأن يكون أداته الطيعة. ولكنه إذ يبدي هذه الطاعة، لا يحق له، كما يحدث في الكثير من الأحيان، أن ينزلق إلى مستوى المنفّذ اليدوي البسيط، على غرار من يكتفي بإدارة مقبض الأورغ الشعبي. وهنا، حتى يتاح لنا أن نتكلم في هذا المضمار، أيضا، عن الفن، نقول إنه لا بد للفنان، بدلاً من أن يوحي إلينا بأنه محض إنسان آلي موسيقي لا شأن له غير أن يتلو درسه ويردد آلياً ما لقّنه، لا بد له من أن يمتلك القدرة على بث الحياة في العمل الموسيقي في الاتجاه الذي أراده له الملحن، وبروحه بالذات...». هذا المقطع عن الأداء الموسيقي الذي يتعين على عازف ما، تقديمه عبر آلته، مجتزأ هنا من القسم الخاص بفن الموسيقى في موسوعة هيغل الكبرى عن علم الجمال. ولئن كنا أوردناها هنا مقدمة للحديث عن هذا القسم، فإنما لكي ندلل، بداية، على كم أن هذا الفيلسوف الألماني الكبير اهتم بمسألة علاقة الروح بالفن، هو الذي كان يضع الروح في المقام الأول من كل تفكير لديه. والمهم في هذا النص هنا هو أن هيغل أوصل مفهوم الروح، حتى إلى قلب مسألة الأداء الآلي للموسيقى، موضحاً ببساطة كيف أن الروح يتعين أن تكون حاضرة في الأداء الآلي البسيط حضورها في التأليف الموسيقي المعقد.

> طبعاً مثل هذا الكلام لم يكن بالجديد في زمن هيغل، ولا كان حديـث الفيلسوف عن فن الموسيقى جديداً، لكن اللافت في الأمر، هو أن ذلك الفيلسوف الكبير، وعلى غرار ما يروى عن فيلسوف الحضارة الإسلامية، الفارابي، جعل حتى مسألة الأداء الموسيقي جــــزءاً من بحث نظري فلسفي يعتبر حتى يومنا هذا، من أعمق ما خطــــه قلـــم مفكر على مدى العصور. وبالنسبة إلى هيغل كانــــت الموسيقى، على أي حال، تتضافر مع بقية الفنون السامية، مؤكدة بدورها، أو حتى أكثر من أي فن آخر أن «جوهر النشاط في مضمار الجمال هو عتق النفس وتحريرها من كل اضطهاد وتهديد، على اعتبــــار أن الفـــن يملك، بما هو فن، المقدرة على تلطيف أوحش المصائر وأكثر الأقدار مأسوية، بل أن يجعل منها، بالتمثيل النظري، موضوعاً لمتعة». وفي رأي هيغل، فإن هذا «يسري في المقام الأول على الموسيقى حيث تدرك هذه الحرية أعلى درجاتها».
- بالنسبة إلى هيغل، وكما يبيّن لنا في هذا الجزء من موسوعته الضخمة تعتبر الموسيقى «ثاني الفنون الرومانسية بعد الرسم»، كما أنها «أكثر الفنون تحرراً من ثقل المادة». لماذا؟ لأن الموسيقى «تتعامل مع الصوت والصوت مادة تتلاشى. هو حركة اهتزازية ليس لها شكل جسماني ولا استمرارية فيزيقية». ومن هنا فإن الموسيقى هي «من أقدر الفنون تعبيراً عن الداخلي: حيث أن البعد الذاتي هو شكلهـــا ومضمونها ومادتها معاً». وفي رأي هيغل فإن «المهمة الرئيسة للموسيقى تكمن، لا في تصوير الأشياء الواقعية، بل في موسقة الأنا الداخلي الحميم، وجوّانيته العميقة، وذاتيته الفكروية». وفي هذا الإطار يحرص هيغل على أن يقول لنا أن الموسيقى «لا تكتفي بأن تعبّــر عن النفس بل هي تخاطب النفس أيضا» لأنها، من حيث تعريفها «الفن الذي تستخدمه النفس للتأثير على النفوس». وللتدليـــل على هذا، وإيجاد تفسيرات نظرية لفن كان كثر من المفكرين يرونه، من قبل، عصيّاً على كل تفسير أو تنظير، قسم هيغل نصه هذا، إلى ثلاثة فصول، درس في أولها «الطابع العام للموسيقى». وفي الثاني «التعيين الخاص لأدوات التعبير الموسيقي». أما في الفصل الثالث فدرس العلاقات بين وسائل التعبير الموسيقي ومضمونها.
- إن هيغل الذي كان يرى في مجال آخر، عبّر عنه خصوصاً في كتابه «أصول فلسفة الحق» أن « ميولنا وانفعالاتنا الطاغية التي هي في نظر الأخلاق أصل الشر، لا ينبغي محاربتها واقتلاعها في النهاية، بل يجب ترويضها وجعلها تجري في قنوات الأخلاق الاجتماعية وما فيها من نظم وعادات»، كان يعتبر اللجوء إلى فن الموسيقى - بين، وربما قبل، الفنون الأخرى - وسيلة مثلى للوصول إلى هذا الترويض. وهذا لأن العمل الموسيقي «النابع من النفس بالذات والغنيّ بالعواطف المكشوفة، يمتلك القدرة على التأثير العميق في نفوس من يسترقون السمع إليه» وهنا، ودائماً بحسب هيغل، يحدث لعواطفنا أن تنتقل «بسهولة من الجوانية المبهمة المحتواة في مضمون ما، ومن التماهي الذاتي مع هذا المضمون، إلى رؤية أكثر عيانية لهذا الأخير، والى موقف أكثر موضوعية حياله».
> في هذا السياق نفسه لا يفوت هيغل أن يؤكد لنا هنا أن «الموسيقى تتمتع من دون غيرها من الفنون، بأعظم إمكان للانعتاق، لا من كل نص فعلي فحسب، بل أيضا من كل تعبير عن مضمون متعين، لتكتفي بتتابع من التراصفات والتغيرات والتعارضات والتوسطات، ولتحبس نفسها ضمن حدود مضمار الأصوات الموسيقية المحض».
- بيد أن هيغل ينبهنا هنا إلى أن الموسيقى في مثل هذه الحال «تبقى خاوية بلا مدلول. ونظراً إلى انه، عند ذاك يعوزها عنصر من العناصر الرئيسة في كل فن - أعني المضمون والتعبير الروحيين-، لذا لا يمكن تصنيفها، بعد، في عداد الفنون بحصر المعنى. وإنما عندما يفيد عنصر الأصوات الحسي، في عملية التعبير عن الروحي تعبيراً مطابقاً، بقدر أو بآخر، ترقى الموسيقى إلى مستوى الفن الحقيقي، سواء أصيغ هذا المضمون في ألفاظ - على شكل غناء فردي أو أوبرالي أو كنسي أو أي شيء من هذا القبيل - أم أمكن استخلاصه بصورة أقل وضوحاً من الأصوات وعلاقتها التناغمية وحيويتها اللحنية». وهنا يستطرد هيغل ليقول لنا أن «المهمة الخاصة للموسيقى، في هذا المنظور، هي أن تقدم للروح هذا المضمون، لا كما يوجد في الوعي كتمثل عام، أو كما يكون موجوداً سلفاً بالنسبة إلى الحدس في شكل صورة خارجية معينة أو مرسومة من قبل الفن، بل كما يمكن أن تصقله الذاتية الجوانية، ويتكشف فيها بملء حيويته». أما المهمة الصعبة التي تقع على عاتق الموسيقى في هذا المضمار، فهي على وجه الدقة «موسقة تلك الحياة الكامنة للأصوات، أو اختيار كلمات وتمثلات، لغمرها في هذا الجو ولاستحضار شعور بالتعاطف حيالها».
- يشكل هذا الكلام النظري عن فن الموسيقى، كما أشرنا، جزءاً من تلك الموسوعة الفلسفية الضخمة التي صاغها الفيلسوف الألماني جورج فلهلم فردريش هيغل (1831-1770)، وأتت أولاً على شكل محاضرات ألقاها على طلابه - كما على جمهور غفير من غير الطلاب - في جامعة برلين، ثم جمعها تلميذه هوتو ليصدرها في مجلد مستقل في العام 1832، أي بعد وفاة هيغل بعام... وهي محاضرات كانت جديدة الموضوع وأسلوب التنسيق في زمنها، وتناول فيها المفكر الكبير، بعد ثلاث مقدمات هي «مدخل إلى علم الجمال» و «فكرة الجمال» (في قسمين)، الفن الرمزي والفن الكلاسيكي والفن الرومانسي، قبل أن يتطرق إلى فن العمارة وفن الرسم وفن النحت وفن الموسيقى، خاتماً بجزأين عن «فن الشعر». وترجم جورج طرابيشي هذه الموسوعة إلى العربية في ثمانينات القرن الفائت وصدرت في أجزاء عن «دار الطليعة – بيروت»، لتضاف إلى أعمال أخرى نقلت لهيغل إلى العربية، ومن بينها نصوص أساسية له هي «فينومينولوجيا الروح» و «الموسوعة الفلسفية» و «أصول فلسفة الحق» وغيرها من أعمال ساهم فيها المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام، وأصدرت بعضها «دار التنوير» في بيروت قبل أن يستأنف إصدارها، وبحلة أفضل، «المجلس الأعلى للثقافة» في القاهرة. ثم تعمد المنظمة العربية للترجمة في بيروت إلى إعادة ترجمة نص أساسي من نصوصها هو «فينيمينولوجيا الروح».

إبراهيم العريس - الحياة - الاثنين, 15 نوفمبر 2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق