الجمعة، 17 يونيو 2011

إسلام بدولة وإسلام بلا دولة

يضيع الدين حين يُقاس بالثقافات، لكن، ماذا يبقى منه حين يُقاس بالسياسات؟
«نحو إسلام أوروبي»، يكتبه أوليفييه لروا بعد اطمئنانه إلى «فشل الإسلام السياسي»، كتابه السابق الذي يُكثر من الإحالة إليه ها هنا. وبما أن الإسلام دين خاتم أو مألفة ديانات، فالأولى وضعه فوق الجغراسيا، بعدما وضعه القرآن فوق التاريخ، والأجدى بنظرنا الكلام على مسلمي أوروبا أو العالم الراهن.
فهؤلاء المهاجرون إلى بلاد استقبال، إنما هاجروا إليها من بلاد منشأ، وهم مسلمون مكونون أو مفطورون على دينهم كهوية كبرى سواء صدروا عن بنية كبرى يصفها لروا بالأمة المتخيلة أو الأمة المنشودة، أم صدروا عما كان جاك بيرين قد وصفه قبله بكثير، بأنه إمبراطورية كبرى مع وقف التنفيذ. فبين المتخيل ووقف التنفيذ يكتشف مسلم القرن الحادي والعشرين لغز فشله السياسي، ويقرر إما الجهاد وإما الهجرة. ولكن المسألة لا تقف عند هذين الحدين. فالأمة موجودة الآن في تاريخية سواء اعتبرت مؤسطرة (را: جان نودينو، 22 دولة لأمة عربية واحدة؟ تعريبنا) أم مخيولة أم موقوفة أم مأمولة الخ... سوسيولوجيا هي أمة قائمة في دين أتباعها، ويخطئ من يقيسها فقط بمقاييس دولها أم حاكمياتها الراهنة. فكما يتغير العالم الغربي نحو الأسوأ (عند برنار ستيغلر، التليقراطية ضد الديموقراطية، باريس 2006) يتغير العالم الإسلامي بدوره، عبر الثورات والحروب نحو الأسوأ أو الأفضل أيضاً. العبرة تبقى في ضمير المستقبل وفي مصير الشعوب المكونة لإسلام القرن الواحد والعشرين.
أما حاضر المسلمين فقد أحالهم إلى ماضيهم للبحث فيه عن جذور خفية، فاكتشفوا فيه، فيما اكتشفوا، أن لديهم فكرا سياسيا هو أقرب ما يكون إلى أدب المرايا الذي يعظ الحاكم حتى لا يفرط في ممارسة حريته الشخصية حتى الاستبداد، ولكنه لا يبحث في حرية المحكومين، الذين لهم دين مصدري وليست لهم دولة مرجعية، مركزية. واكتشفوا أيضاً أن استبعادهم المتواصل عن المشاركة في إنتاج السلطة وقراراتها السياسية هو الذي جعل حاكميهم يفشلون في إقامة دولة مستقرة آمنة عادلة وقوية. وأن مبدأ الدولة هو شأن سلالة حاكمة / أو مرشحة للحكم (كما هو مطلب الشيعية السياسية في مواجهة السنية المهيمنة)، لا شأن المسلمين أنفسهم المرمزين في متحد عرقي، في جماعة، في قوم، (ومنه القومية عند العرب، مثلاً)، أو في أمة. وأن السلالة الحاكمة كلما تبدلت، انزاح مكان السلطة من مكان إلى آخر، بلا عكس، كما حصل تاريخياً إذ بدأت الخلافة تتمركز في المدينة على مدى ثلاثة خلفاء راشدين (أي من صحابة النبي) وانزاحت إلى الكوفة مقابل الوالي الأموي في دمشق الذي قلبها من طرف إلى مركز بعد اغتيال علي وانغلاق مجاله السياسي، ثم إلى بغداد والقاهرة وقرطبة وصولاً إلى الأستانة. وبعدئذ وجد المسلمون أنفسهم بلا خلافة، بلا دولة مركزية جامعة، ولكن فوق أقاليم شديدة الاتساع وكثيرة السكان بحيث فاق عددهم آلاف المرات عدد المسلمين في عهد النبي وصحابته الذين لم يتجاوزوا الخمسة آلاف حسب هشام جعيط (الفتنة، تعريبنا).
ما حدث هو أن الإسلام المصدري، الإلهي والنبوي، استمر كدين بدولة وبلا دولة، وانتشر حتى بات اليوم في مهب العولمة، الإسلامية المنشودة من وراء صراع العولمتين الرأسمالية والشيوعية، وحالياً في مواجهة العولمة الرأسمالية المتمركزة في أميركا. وأن الإسلام التاريخي، المعيوش كسياسة، هو الذي آل في عصرنا إلى لا مركزية الدولة الإسلامية، أكانت سنية المذهب أم شيعية، عربية أم غير عربية، فيما لم تعد الجغرافيا تقدم للمسلمين عازلاً بمواجهة عولمات مارست عليهم كل ضروب الاستعمار، من الاحتلال والاستغلال، إلى الطرد والاستيطان (الجزائر، فلسطين حالياً). وحين قدمت أنقرة نفسها كأنموذج لدولة إسلامية علمانية وحديثة، بطابع قومي تركي، لم تكن الرياض قائمة في قلب الجزيرة العربية التي غادرتها الخلافة كمركز سلطة جامعة إسلامية منذ حوالي 1400 سنة، ولم تكن القاهرة الملكية قد تحولت إلى مركز دولة عربية إلا في محاولة جمال عبد الناصر (1952 ـ 1970)، التي أفشلها الاستعمار الغربي وإسرائيل وعملاؤهما، فظهرت على الخارطة العربية محاور إقليمية عابرة للمحلي وتابعة للدولي إبان الحرب الباردة.
أما في المجال الإسلامي غير العربي فقد ظلت إسلام آباد، ثم كراتشي، وطهران وأنقرة عواصم إقليمية تابعة للغرب، إلى أن ثارت إيران وقدمت أنموذج الحكم الإسلامي بولي فقيه، وبذلك قدمت طهران نفسها كمركز لجمهورية إسلامية تطمح إلى إحياء الجامعة الإسلامية بنشر الثورة ومقاومة أميركا وإسرائيل، الترميز السياسي للعولمة الرأسمالية كلها، أينما تواجدتا على خارطة العالم الإسلامي أو عالم المسلمين. على هذه الخارطة كان هنالك شعب واحد، عربي ومسلم بأغلبيته، بلا دولة هو شعب فلسطين المحتلة، والمطرود أكثره من أرضه.
وفي هذا المجال تبارت الجامعتان الإسلامية، ذات الخطاب الإسلاموي، والعربية، ذات الخطاب القوموي، لتوحيد الأمة في دولة من جهة ولتحرير فلسطين وكل الأقاليم المسلمة المتنازع عليها، من جمهوريات مسلمي الاتحاد السوفياتي السابق، إلى بؤر الإسلام الآسيوي الشرقي والأفريقي، ولكن بدون التمدد لتاريخه إلى مسلمي أوروبا وأميركا. وعلى قدر ما تواصل الإسلام المصدري بانتشاره كدين، كعبادة تستدمج عادات الشعوب المنضوية في إهابه، وليس كثقافة محلية أو قومية، ولا حتى كسياسة دولة مسلمة متنافرة أو متلائمة مع سياسة دول أخرى، تواصل الصراع في عالم المسلمين لأجل ابتناء دولة مسلمة حديثة، جامعة، اتحادية، مركزية أو لا مركزية، هذا حتى أحداث 11/9/,2001 تاريخ بدء مسار غربي جديد لاستعمار العالم الإسلامي برمته، سواء بتفكيك دوله بعد احتلالها (أفغانستان، العراق) على غرار الأنموذج الإسرائيلي، أم بتحريض مكوناته الاجتماعية وحضها على التقاتل كما هو الحال في الشيشان وكشمير، في لبنان والسودان، وحتى الجزائر من أمد غير بعيد. زد على ذلك السعي الأميركي ـ الإسرائيلي، المفوض من الحلف الأطلسي، إلى النيل من المحور الإيراني ـ السوري، المصور تيليقراطياً في الإعلام الغربي على أنه «محور شر»، هو والقوى المقاومة في إهابه (المقاومة الوطنية العراقية، المقاومة اللبنانية، حزب الله وحلفاؤه، المقاومة الفلسطينية، حماس وحلفاؤها، الخ).
تكمن مأساة مسلمي القرن الواحد والعشرين الكبرى في أمرين سياسيين، تاريخيين: العيش في دول ذات مجتمعات إسلامية دينياً، وتابعة سياسياً، دول مهددة بالزوال أو بالمزيد من الاستتباع والاستعمار، والعيش في مجتمعات هجرة، ذات دول رأسمالية عدوانية هي التي تقف وراء مأساة المسلمين في العالم اليوم، أكانوا مقيمين على أرض منشئهم أم على ارض اغترابهم. وهكذا، كما بدأ مسلمو القرن الأول للهجرة غرباء في مكة والمدينة، صار مسلمو القرن الحالي غرباء مرتين: في بلادهم، حيث البلد يعادل أمة ودولة، وفي منفاهم حيث لا بلد ولا دولة خاصتين بهم.
في الحالتين، يعاني المسلمون المعاصرون من غياب ثقافة سياسية من انعدام فكر سياسي عصري يرفعهم من هاويات الانحطاط الدولتي الراهن ويدفعهم إلى تاريخية سياسية تجمعهم، بإزاء المصدرية الدينية المشتركة التي جعلتهم مسلمين بالفطرة وبالعقيدة. فوق ذلك، نجدهم يسترجعون الاستعمار المتعولم إلى بلادهم، على قدر ما يستسلمون لإزالة ثقافاتهم الوطنية، ومنها الدينية، بعدما أفضت إزالة الاستعمار في مرحلة سابقة إلى ظهور حركات تحرر عالمثالثية، والى قيام دول وطنية مستقلة، وأحزاب ديموقراطية وعلمانية ودينية الخ.
أمام مليار مسلم ونيّف، قد يستمر الإسلام المصدري في الأنسجة الاجتماعية لمسلمي الحاضر، إلا أن الإسلام التاريخي، السياسي، لا يمكنه البقاء إلا من خلال دولة أو دول اتحادية. والواقع الراهن يجري على إيقاع تفكيكي، مقابل الإيقاع الاتحادي الأوروبي الذي يستدمج المسلمين فيه، لا بوصفهم أصحاب هوية كبرى، صادرين عن بنية تاريخية كبرى، بل بوصفهم حملة فروع ثقافية (بمعنى ثقافة العادة والعبادة)، بوصفهم طوائف بين طوائف بروتستانتية أخرى، حيث لا يزال مفهوم الأمة مناطاً في أوروبا بالكاثوليكية من جهة (وهنا معنى لمخاطبة السفير الفرنسي للموارنة اللبنانيين كأمة، لا كطائفة) وبالأرثوذكسية من جهة أخرى، الأهم هو أن هذه النظرة الأوروبية التي يطلقها أوليفييه لروا على مسلمي المنفى، هي نفسها التي يروجها الغرب كله في بلاد المسلمين الأصلية، فحيث لا تجدي القبلية مثلا، يصار إلى شحذ الطائفية، لمحاربة الإسلام المصدري على أرضه وبسلاح الإسلام التاريخي، المنشرخ بين مذاهب وطوائف، وبين دول مذهبية وطائفية، والمهدد ببقائه السياسي.
بدولة وبلا دولة، استمر الإسلام في العالم. وعليه، على المسلمين أن يختاروا اليوم بين إفشالهم السياسي لدولهم الراهنة، بدلاً من تطويرها انطلاقا من إصلاح مجتمعاتهم وتحديثها بعيداً عن الاستيعاب الغربي لها ولطاقاتها وثرواتها وعبقرياتها أيضاً، وبين هجرة بعقيدة إلى دول المنفى والاستقرار فيها، إلى أن تأخذ الديموغرافيا الإسلامية أبعادها العالمية، وتستقر العلاقات التنازعية بين عولمة أميركية طافية، وعولمة إسلامية كامنة ومتحركة بعد رؤوس، غير نووية. قد ينسى أوليفييه لروا وسواه من مستشرقي الغرب هذا، معنى الحديث النبوي الشريف: «تناكحوا وتكاثروا لأباهي بكم الأمم»، ولكن ما يحدث الآن هو أن القنبلة المنوية، قنبلة الخصوبة العالمثالثية، ومنها الإسلامية، ما زالت أقوى من القنابل النووية، وان المسلمين يتعولمون هم أيضاً، على طريقتهم.

خليل أحمد خليل ([) كاتب لبناني - السفير - 02/02/2008

0 تعليقات::

إرسال تعليق