![]() |
الشاعر اللبناني سعيد عقل |
ومعتمدا علی قولة شهيرة للفيلسوف اليوناني فيثاغوراس يقول فيها: "سأخاطب الحكيم فابعدوا الجهال"، يری سعيد عقل أن العامة والدهماء "خطر علی القيم الكبيرة". غير أن خطر العامة هذا يمكن أن ينحسر بل قد يزول تماما في حال وجود خاصة، أو نخبة. ثم يطرح سعيد عقل السؤال التالي: "لكن أين نحن في الشرق من تكون النخبة؟ تلك النخبة التي تكّون بحسب رأيه "كجسم حي، ما هي كالآلة تستقبل الوجود وإنما كالإنسان تقصد الوجود، وكذات معرفة وخلق في مستوی المصائر الكبيرة، لا تجهل شيئا بلغه العقل في أية بقعة من بقاع الأرض، ولا تفتقر إلى شيمة تحلي بها في أية رقعة من رقاع التمدن، من تلك الشيم التي تدرع الناس حيال الشر وإغراءات الشر، وكواعية ذاتها ودورها في العالم، لا تتصرف تلقائيا أو اندفاعا في تيار وإنما علی فعل إرادة وعن إدراك بأنها هي المسؤولة في النهاية عن مستقبل الإنسان في الأرض وربما في ما وراء الأرض".
ويری سعيد عقل أن النخبة ليست حزبا بالمعنی السياسي والإيديولوجي للكلمة. ذلك أن النخبة بحسب رأيه لا تطلب الحكم، ولا تريده، كما أنها "فوق شهوة السلطة" وإذا ما كان الحكم "أسلوب لتعهد الأمة، أو العالم في صعوده جهة مصير عظيم" فان النخبة هي "هذا المصير العظيم".
ويؤكد سعيد عقل علی ضرورة اعتماد الأحزاب السياسية علی النخبة، وإلا فإن أحوال الأمة تؤول إلى الخسارة والفساد، وهذا ما أثبتته نكبة فلسطين علی سبيل المثال لا الحصر. فالصهيونية يكتب صاحب "رندلي" تشكل كل يوم "تحدياً" لوجود العرب، غير أن العرب يفتقرون إلى نخبة "تعمل بمستوی المصائر الكبری" ، وهنا يكمن السبب في الهزائم المتلاحقة التي منيوا بها في مجمل حروبهم ضد إسرائيل، وكل مجتمع يظل متخلفا ومهزوما إذا لم يكن قادرا أن يولد "نخبة نافذة الكلمة، تغضب للعمل الأثيم وتمنع حصوله"، ويكتب سعيد عقل في محاضرته قائلا: "لا، ليس من الضروري أن تتسلم النخبة بأشخاصها الحكم، ولكن من المفروض أن يتشرف الحكم بالجلوس إلى مائدة النخبة، فعلی تلك المائدة وحدها، ينقذ الحكم نفسه من نفسه وينقي جوه من صغارة الزبائن، يرتفع إلى المناخات العلی، يمد ذاته بنيل العلم وبالفكر الكبير، يعود غير متخوف من الإقدام علی الجلل وعلی تخطيه التاريخ. والإقدام علی الجلل وحده يخرس التذمر، لأنه يجتث أسباب التذمر وتخطيط التاريخ يهوس ويغمر بالفرح، لأنه يرفع الأعين اللصيقة بالتراب إلى ملاعب الشمس".
ولكن كيف تنشأ النخبة وكيف تتكون؟
علی هذا السؤال يجيب سعيد عقل قائلا بان النخبة ككل جسم حي، لا تتبع سنن النشوء. ففي البداية هي "خلايا قليلة في فراغ المجتمع" و "أرخبيلات في خضم". ثم تنمو الخلايا وتتكاثر لتنتظم في النهاية في "الخلية الكبری" التي هي النخبة، والعنصر الأساسي الذي يقوي النخبة ويدعمها معنويا بالخصوص هو الصداقة بين أفرادها بحيث يزول بينهم كل ما يمكن أن يعطل عملهم، أو يفرق بينهم أو يشيع في صفوفهم الفتنة والبغضاء، فيتخاصمون ويتنازعون ويتقاتلون منصرفين بذلك عن المشروع العظيم الذي كانوا يخططون لإنجازه، ألا وهو النهوض بأمتهم المغلوبة علی أمرها.
ويشير سعيد عقل إلى أن النخبة لا تحتاج إلى "الحدب" من جانب مؤسسات الدولة إذ أن ذلك يقودها إلى الانطواء علی نفسها "فلا تلبث أن تيبس حتى لتغدو متحف مومياءات" لكن ويل لحكم "ينفرها" إذ لا يلبث هذا الحكم أن يفقد شرعيته بعد أن يتنكر له الشعب ويدير له ظهره فيصبح مثل "حمارنا عورة هزل حتى لم يعد يطلع إلا ما ينقع عطشه". وهذا هو حال أنظمة الحكم في العالم العربي.
ويضيف سعيد عقل في محاضرته قائلا بان شعور النخبة بأنها النخبة هو وحده الذي يحميها من التمزقات الداخلية. ومن المخاطر الخارجية المتمثلة في السعي إلى التقرب من نظام الحكم، وإعلان الولاء له حتى ولو كان ظالما ومنكلا بأبناء شعبه.. وعندما لا يتطلع المجتمع إلى نخبة "تتنفس تنفسا بالشؤون العليا" والقيم النبيلة والسامية فان هذا المجتمع سرعان ما يتحول إلى "شبح" أو "دولة بوليسية تحكم بالسوط" و "رقعة أرض من فقر وبداوة في لباس متمدنين معرضة بين يوم وآخر للوقوع في أيدي شرذمة من الطماع أو تجار النفوذ أو ما هو أوجع مستعمرو الغرب".
ويری سعيد عقل أن النخبة لا تكون نخبة بالمعنی الحقيقي والعميق للكلمة إلا إذا سعت إلى تقليص "شقة الهوة بين الخاصة "العامة" . فإذا ما هي عجزت عن تحقيق ذلك فان النتيجة تكون مرعبة: فعندئذ يستمر الحكم في التدهور إذ أن الحكم بطبيعته متأثر بالعامة أن لم نقل منبثق عنها ويستمر هذا التدهور إلى أن يفضي إلى "حكم فردي".
وبالنسبة لسعيد عقل هناك مقومات أربع للعالم العربي المعاصر تمتزج ببعضها البعض: ماض مجيد، ورقعة ارض معظمها حمراء وطول عهد بالتغيب عن التمدن والتمدين وانصعاق بغرب بلغ من القوة، معنی ومادة، حدا يجعل الفارق كبيرا بينه وبين سواه. وبحسب سعيد عقل لم يستند تخلص العرب من الاستعمار إلى "وعي ضرورة الحرية" وإنما إلى "الزينوفوبي" أو العداء إلى الأجنبي، وكان أغلب إبطال الاستقلالات الوطنية "كارهي غرب لا طالبي حق" فلما كألوان الكره "يصلح أن يكون مذهبا سياسيا". وكانت النتيجة في النهاية ــ ودائما بحسب سعيد عقل ــ أن ابقی محترفو السياسة علی شبح الاستعمار بعد ذهاب الاستعمار وسيلة سهلة تضمن بقاءهم هم" وبذلك استمر العالم العربي يجتر وضعا كان قد انقضی"، وبدل أن ينتقل العرب إلى "مناخ البناء" بقوا في روحية الخوف.
ويعتقد سعيد عقل أن هناك فئة أخري تعيق العالم العربي عن التحرر من جموده ويتمثل ذلك في "قلة الطموح" عنده وقلة الطموح هذه تمهد الطريق أمام الخاملين للوصول إلى سدة الحكم.
ذكرنا في البداية أن سعيد عقل القی محاضرته القيمة هذه عام 1954 وفي ذلك الوقت كانت قد مضت ستة أعوام علی نكبة فلسطين، وكانت مصر تعيش السنتين الأولتين من ثورة "الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر والتي أطاحت بالنظام الملكي فيها، وكانت بلدان المغرب العربي الثلاثة قد أشعلت نار الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، ومعنی هذا أن الوضع العام في العالم العربي كان يتسم بالغليان وبأحداث سياسية واجتماعية وثقافية غاية في التعقيد والخطورة، مع ذلك كان هناك أمل في أن تفضي تلك الأحداث إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والخلاص من الاستعمار وغير ذلك من الطموحات التي كانت تتطلع إليها الشعوب العربية في المشرق والمغرب. وكان هناك طموح لبناء مستقبل أفضل، ورغم ضعفها وتشتتها فان النخب في كافة البلدان العربية كانت مسكونة بهذا الطموح. وربما لهذا السبب اختار الشاعر الكبير سعيد عقل أن يطرح موضوع النخبة وان يفصل فيه بالتحليل والتمحيص تمهيدا لميلاد نخبة أو نخب عربية تقي العالم العربي العثرات والانزلاقات التي تهدده وتساعده علی النهوض والتقدم والخلاص من سواد قرون التخلف والتدهور الطويلة، غير أن كل الآمال وكل الطموحات التي طبعت تلك المرحلة من التاريخ العربي سرعان ما تلاشت وتقوضت بسبب المآسي والفواجع التي توالت علی العالم العربي.
فالأنظمة العربية التي استلمت السلطة انطلاقا من الخمسينات والستينات جمهورية كانت أم ملكية عطلت عمل النخب وحاربتها وطاردتها وصادرت أفكارها ومشاريعها بل وأجبرتها علی أن تصبح مطيعة وموالية لها لتتفتت في النهاية وينعدم وجودها وفي غياب هذه النخب تغولت الأنظمة العربية، وأصبحت تفعل ببلدانها وشعوبها ما تشتهي وما تريد من دون رادع أو خوف، وممعنة في الاستبداد والتسلط راحت هذه الأنظمة تعبث بالدساتير والقوانين لخدمة أغراضها ومصالحها سامحة لنفسها باختراق تلك القوانين بما يسوغ لها البقاء في السلطة، والقضاء علی كل من يهدد وجودها، ويحاول التصدي لها لإجبارها علی التراجع عن سياساتها الظالمة.
وفي غياب النخب وتهميشها وإقصائها فقدت المجتمعات العربية حيويتها وروحها وباتت جامدة هامدة، تتقبل المظالم التي تسلط عليها يوميا من قبل الأنظمة الحاكمة في صمت وخنوع واستكانة، لذلك سهل علی الحركات الأصولية التي بدأت تنمو منذ السبعينات من القرن الماضي، السيطرة علی هذه المجتمعات والتغلغل فيها لتبث فيها ثقافة الموت وثقافة عذاب القبر وتغرقها في الغيبيات لتنسی وجودها وتستسلم للقضاء والقدر.
ولكن هل ستستعيد النخب دورها من جديد في ظل المتغيرات والتحولات الكبيرة والخطيرة التي يعيشها العالم العربي راهنا؟ هذا هو السؤال المطروح الآن في العديد من البرلمانات العربية خصوصا في تونس ومصر، ففي هذين البلدين اندلعت الثورتان اللتان أطاحتا بالنظامين السياسيين فيهما في غياب أو شبه غياب للنخب، وكانت الأجيال الجديدة التي تربت علی وسائل الاتصال الحديثة وباتت تتقن استعمالها وتوظيفها هي التي أشعلت الثورتين المذكورتين مستغلة الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها الطبقات الشعبية والعمال والفلاحين وأصحاب الشهائد العليا العاطلين عن العمل، وقد فاجأت الثورتان نخبا كانت قد بدأت تعتقد أن الشعب من كثرة المظالم التي سلطت عليها، لم يعد قادرا علی التمرد والثورة. لذلك انسحبت أو صمتت أو لعلها باتت موالية لنظام الحكم القائم.
غير أن هذه النخب مطالبة الآن بقراءة الواقع بما ينسجم ويتطابق مع المتغيرات والتطورات الجديدة حتى تتمكن من استعادة دورها المعرفي والنقدي، وتتصدی لأحزاب وتنظيمات سياسية وإيديولوجية قد تسعی إلى الالتفاف علی الثورات العربية الراهنة أو إلى إجهاضها وتحويل وجهتها بما يخدم أغراضها وأهدافها. فيغرق العالم العربي من جديد في ظلمات الاستبداد السياسي الذي عانی منه دهورا مديدة.
حسونة المصباحي - العرب أونلاين 16-6-2011 7:06:52
ويعتقد سعيد عقل أن هناك فئة أخري تعيق العالم العربي عن التحرر من جموده ويتمثل ذلك في "قلة الطموح" عنده وقلة الطموح هذه تمهد الطريق أمام الخاملين للوصول إلى سدة الحكم.
ذكرنا في البداية أن سعيد عقل القی محاضرته القيمة هذه عام 1954 وفي ذلك الوقت كانت قد مضت ستة أعوام علی نكبة فلسطين، وكانت مصر تعيش السنتين الأولتين من ثورة "الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر والتي أطاحت بالنظام الملكي فيها، وكانت بلدان المغرب العربي الثلاثة قد أشعلت نار الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، ومعنی هذا أن الوضع العام في العالم العربي كان يتسم بالغليان وبأحداث سياسية واجتماعية وثقافية غاية في التعقيد والخطورة، مع ذلك كان هناك أمل في أن تفضي تلك الأحداث إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والخلاص من الاستعمار وغير ذلك من الطموحات التي كانت تتطلع إليها الشعوب العربية في المشرق والمغرب. وكان هناك طموح لبناء مستقبل أفضل، ورغم ضعفها وتشتتها فان النخب في كافة البلدان العربية كانت مسكونة بهذا الطموح. وربما لهذا السبب اختار الشاعر الكبير سعيد عقل أن يطرح موضوع النخبة وان يفصل فيه بالتحليل والتمحيص تمهيدا لميلاد نخبة أو نخب عربية تقي العالم العربي العثرات والانزلاقات التي تهدده وتساعده علی النهوض والتقدم والخلاص من سواد قرون التخلف والتدهور الطويلة، غير أن كل الآمال وكل الطموحات التي طبعت تلك المرحلة من التاريخ العربي سرعان ما تلاشت وتقوضت بسبب المآسي والفواجع التي توالت علی العالم العربي.
فالأنظمة العربية التي استلمت السلطة انطلاقا من الخمسينات والستينات جمهورية كانت أم ملكية عطلت عمل النخب وحاربتها وطاردتها وصادرت أفكارها ومشاريعها بل وأجبرتها علی أن تصبح مطيعة وموالية لها لتتفتت في النهاية وينعدم وجودها وفي غياب هذه النخب تغولت الأنظمة العربية، وأصبحت تفعل ببلدانها وشعوبها ما تشتهي وما تريد من دون رادع أو خوف، وممعنة في الاستبداد والتسلط راحت هذه الأنظمة تعبث بالدساتير والقوانين لخدمة أغراضها ومصالحها سامحة لنفسها باختراق تلك القوانين بما يسوغ لها البقاء في السلطة، والقضاء علی كل من يهدد وجودها، ويحاول التصدي لها لإجبارها علی التراجع عن سياساتها الظالمة.
وفي غياب النخب وتهميشها وإقصائها فقدت المجتمعات العربية حيويتها وروحها وباتت جامدة هامدة، تتقبل المظالم التي تسلط عليها يوميا من قبل الأنظمة الحاكمة في صمت وخنوع واستكانة، لذلك سهل علی الحركات الأصولية التي بدأت تنمو منذ السبعينات من القرن الماضي، السيطرة علی هذه المجتمعات والتغلغل فيها لتبث فيها ثقافة الموت وثقافة عذاب القبر وتغرقها في الغيبيات لتنسی وجودها وتستسلم للقضاء والقدر.
ولكن هل ستستعيد النخب دورها من جديد في ظل المتغيرات والتحولات الكبيرة والخطيرة التي يعيشها العالم العربي راهنا؟ هذا هو السؤال المطروح الآن في العديد من البرلمانات العربية خصوصا في تونس ومصر، ففي هذين البلدين اندلعت الثورتان اللتان أطاحتا بالنظامين السياسيين فيهما في غياب أو شبه غياب للنخب، وكانت الأجيال الجديدة التي تربت علی وسائل الاتصال الحديثة وباتت تتقن استعمالها وتوظيفها هي التي أشعلت الثورتين المذكورتين مستغلة الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها الطبقات الشعبية والعمال والفلاحين وأصحاب الشهائد العليا العاطلين عن العمل، وقد فاجأت الثورتان نخبا كانت قد بدأت تعتقد أن الشعب من كثرة المظالم التي سلطت عليها، لم يعد قادرا علی التمرد والثورة. لذلك انسحبت أو صمتت أو لعلها باتت موالية لنظام الحكم القائم.
غير أن هذه النخب مطالبة الآن بقراءة الواقع بما ينسجم ويتطابق مع المتغيرات والتطورات الجديدة حتى تتمكن من استعادة دورها المعرفي والنقدي، وتتصدی لأحزاب وتنظيمات سياسية وإيديولوجية قد تسعی إلى الالتفاف علی الثورات العربية الراهنة أو إلى إجهاضها وتحويل وجهتها بما يخدم أغراضها وأهدافها. فيغرق العالم العربي من جديد في ظلمات الاستبداد السياسي الذي عانی منه دهورا مديدة.
حسونة المصباحي - العرب أونلاين 16-6-2011 7:06:52
0 تعليقات::
إرسال تعليق