السبت، 18 يونيو 2011

البروفسور حبيب داغر مبدع لبناني في أميركا يبني مستقبل العالم في مختبره.. صيحة "جسر في حقيبة ظهر" تقلب المقاييس ومواد تهزم الصلب

البروفسور حبيب داغر
مدهش المستقبل الذي يخبر عنه البروفسور حبيب داغر و"يصنعه" وفريقه: جسور تُبنَى خلال أسابيع قليلة، لا بل أيام معدودة، مواد بناء ثورية صديقة للبيئة، طاقة متجددة أقل ما يقال عنها إنها مذهلة في فاعليتها ولا محدوديتها. كلامه ليس مجرد كلام استشرافي، بل بات واقعا تشهد له مشاريع ناجحة تمت، وأخرى قيد الإعداد، وهو كلام مسؤول.
البروفسور داغر يتبوأ أحد أهم المناصب العلمية الرئيسية في الولايات المتحدة الأميركية: مدير مركز AEWC Advanced Structures & Composites Center(1) في جامعة ماين، المركز الفريد في العالم، الرائد في تطوير فاعلية المواد المركبة وأدائها، لا سيما في عمليات البناء والإنشاءات.
وأن يُختار لبناني، ابن بكفيا تحديدا، لهذا المنصب أمر مميز. وان تختاره في بداية هذه السنة جريدة "بانغور دايلي نيوز"، وهي جريدة رائدة في ولاية ماين الأميركية، إحدى الشخصيات الـ11 "التي ستغيّر مستقبل الولاية"، يعكس إلى حد بعيد تميّزه وإبداعه. تحت قيادة هذا الأستاذ لمادة الهندسة المدنية والإنشائية في جامعة ماين، نما المركز الذي تستضيفه جامعة ماين في حرمها، في مساحة تبلغ 48 ألف قدم مربع (2)، ليشمل خلال 10 أعوام فقط 40 كلية، فريق عمل بدوام كامل، توظيفا سنويا لـ 150 خريجا أو في طور التخرج من 15 قسما أكاديميا مختلفا... إضافة إلى حصيلة دسمة: تكنولوجيات عدة للمستقبل (3).

آخر صيحة: الجسور "في حقيبة ظهر"

ما كان يدور في بال داغر وفريقه من أول الطريق، اعتقد كثيرون "أنه غير ممكن، وقالوا لنا لا تضيعوا وقتكم، لن تحققوا ذلك إطلاقا. لكننا أدركنا أن هناك وسائل أفضل للقيام بالأمور"، يقول داغر للـ "النهار"، في لقاء معه خلال زيارته لبنان أخيرا. وما توصل إليه المركز بعد أعوام عدة من الأبحاث المتواصلة شكل ثورة في مجال البناء والبنى التحتية: الألياف المركبة والراتنج، بدلا من الصلب، لا بل أقوى منه، وقدّم احدث "صيحاته": "جسر في حقيبة ظهر" (Bridge in a Backpack).
شهرة هذه الصيحة بلغت مختلف أرجاء العالم، وتشهد جسور في ماين لنجاح هذه التكنولوجيا الحديثة: "نيل بريدج" في بيتسفيلد كان الأول الذي "دشنها" العام 2009، "نورث أنسون بريدج" بُني بفضلها في غضون 10 أيام فقط مع إزالة القديم، "ونحن الأوائل في تحقيق هذا الانجاز"، على ما يفيد داغر. ويعلن: "اليوم نبني بواسطة هذه التكنولوجيا في ماين أطول جسر في العالم، بحيث يصل طوله إلى 500 قدم".
منذ أنشأته "المؤسسة الوطنية للعلوم" الأميركية (National Science Foundation) عام 1996، كان الهدف "أن نجمع بين مواد البناء التقليدية والمتقدمة، من أجل إيجاد مواد جديدة تستخدم في مجال البناء والتطبيق العملي"، يقول. وانطلق المركز في أول حزيران 2000، وبدأ بحثه في المواد المركبة (Composite Materials). "نركز على سبيل المثال على الراتنج (Resin)، والألياف (Fiber)، مثل الألياف الزجاجية (Fiberglass) وألياف الكاربون (Carbon Fiber) وألياف كيفلر (Kevlar Fiber)، وغيرها من الأنواع".
وفي إطار الهدف الذي انطلق على أساسه، يتعاون المركز مع شركات من كل أرجاء العالم "لتطوير مواد المستقبل في البناء والإنشاءات". "فهذا المركز الفريد من نوعه في العالم"، على ما يصفه داغر، يجمع "ثلاث وظائف تحت سقف واحد: التصميم، التصنيع، وإجراء الاختبار في المكان نفسه، وعلى أحجام كبيرة. فنبني جسرا كبيرا في مختبرنا، ونجري عليه الاختبارات اللازمة للتأكد من فاعلية المواد المستخدمة فيه وصمود الجسر لمئة عام من حركة المرور عليه. هذه هي فوائد تكنولوجيتنا الحديثة".
و"الجسر في حقيبة ظهر" خضع لكل الاختبارات اللازمة، ونجح بتفوق، ولاسيما على صعيد صلابة المواد والديمومة "مئة عام". الفكرة مذهلة. يقول داغر: "انه جسر يسع في حقيبة ظهر، وقد يكون طوله 70 قدما. الأنابيب الفارغة المصنوعة من ألياف منوعة تكون موضبة كأنها في حقيبة ظهر. وفي موضع البناء نفسه، تُخرَج، يُضَخ فيها الراتنج، تُطوى في شكل مقوس، لكونها لينة. وخلال ثلاث ساعات، تصير هذه المواد أقوى مرتين من الصلب. تثبت الأقواس في مكانها، ثم تغطى بألواح مصنوعة من مواد مركبة (Composite Decking)، فبطبقات من الاسمنت، فالرمل، ثم الإسفلت. الأمر سريع جدا".
وإذا كان التصوّر "بناء جسور في شكل أسرع، في غضون أيام أو أسابيع قليلة، تدوم أكثر، وبتكلفة اقل"، فان تفكير فريق المركز في جعل الألياف، ومعها الراتنج المُطوَّر، تحل مكان الصلب كان لإدراكه ما يسميه داغر "خصوصية ثلاثية" لتلك المواد. "يمكن لفها ووضعها بسهولة في حقيبة ظهر، يمكن ضخّ الراتنج فيها بسهولة وطيها في الشكل المراد في موقع البناء نفسه، وصلابة المركبين، فهما قويان جداً". وبجسور ومواد البناء المستقبلية هذه، بدأ العالم يبدي اهتماما. وآخر المستجدات على هذا الصعيد، توقيع تفاهم مع شركة بناء روسية لاعتماد تقنية "الجسر في حقيبة ظهر" في عمليات بناء متعلقة باستضافة روسيا للألعاب الاولمبية الشتوية سنة 2014 في مدينة سوتشي على ضفاف البحر الأسود. "هذا الأمر يشكل فرصة رائعة لإيجاد فرص عمل في ماين، وفرصة تاريخية للمساهمة في نجاح هذه الألعاب الاولمبية"، يقول داغر.

مزارع الرياح العائمة

تكنولوجيا الطاقة المتجددة هي أيضا من مخططات المركز الرائدة. وتقتضي الخطة الرئيسية ببناء ألف توربينة هوائية بشفرات متماوجة(wind turbines churning blades) في غضون 20 سنة، وبطول 220 قدما، بحيث تعوم على وجه الماء (لا تثبت كما الحال في دول أوروبية) على بعد 15- 20 ميلا من شاطئ ماين، وتصنع كلها أيضا من مواد مركبة. ويشير داغر إلى أن شبكة مزارع الرياح العائمة تلك "ستؤمن الطاقة الكهربائية لكل بيوت الولاية" بتكلفة اقل، و"ستتيح استبدال السيارات العادية بسيارات كهربائية، إضافة إلى تأمين 15 ألف وظيفة، وجذب ما قيمته 20 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة".
المدهش أيضا في أمر هذه المزارع انه باستخدام عدد معين من هذه التوربينات الضخمة في مساحة محددة، "يمكن توليد طاقة بمقدار طاقة منشأة نووية". المسألة جدية جدا بالنسبة إلى المركز. ومختبره للرياح البحرية قيد الإنشاء حاليا على مقربة منه، وعلى مساحة تبلغ 37 ألف قدم مربع. فالطاقة المتجددة أهميتها محسومة بالنسبة إلى داغر. "لقد أصبحت من الحاجات الماسة عالميا. وباتت من القطاعات الكبيرة والواسعة المتنامية اليوم. وبالتكلم عليها، نتكلم على انبعاث اقتصاد عالمي جديد".
إضافة إلى المزارع الهوائية العائمة، يلفت إلى أنواع أخرى من الطاقات التي تستحوذ على الاهتمام والأبحاث حاليا، منها الطاقة الشمسية، والطاقة المولدة من الأمواج والمد والجزر والطحالب وأنواع أخرى من النباتات. وتجاه هذه الثورة التكنولوجية التي يخطوها العالم بخطوات ثابتة، يجد داغر أن "لبنان يجب أن يكون معنيا أكثر بهذه الطاقة المتجددة. وإذا لم يشارك فيها، فسيكون مستبعداً. تمييز فرص جديدة في الطاقة أمر مصيري، ومن المهم إيجاد وسيلة لتحقيق الريادة فيها من اجل تأمين فرص عمل. العالم يتنافس حاليا في مجال الطاقة المتجددة. والدول المستعدة لها ستحصد فوائدها للأجيال المقبلة".

"بالعمل المضني والمثابرة"

البروفسور حبيب داغر
عندما غادر داغر لبنان إلى الولايات المتحدة قبل 34 عاما، كان في السابعة عشرة فقط. وكان حلمه من البداية الأبحاث وحقول التطوير. "أحب الاختراعات. كنت دائما هكذا، هذا الأمر في دمي. الاختراع عالم مثير"، يقول. شهاداته العالية في الهندسة الميكانيكية والإنشائية، الجوائز العديدة التي كوفئ بها، مقالاته البحثية العلمية، قيادته اللامعة، تكشف عن سر هذا القارئ لمستقبل العالم في الهندسة والطاقة. "إنه العمل المضني والمثابرة"، يقول. والجائزة الأهم له تبقى "النجاح في تحقيق أي مشروع نعمل عليه".
من فترة إلى أخرى، يزور داغر لبنان. وكل مرة يحمل إليه آمالا في وطن أفضل. "هناك فرص كبيرة للبنان كي يكون رائداً في مجال التطوير التكنولوجي. وبالتأكيد لديه العقول الكفيلة تحقيق ذلك. هذا المجال مفتاح لكل بلد"، يقول. وفي قراءته لوجهة العالم، يرى أن "الصراع اليوم ليس طائفيا، أو بين هذه الفئة أو تلك، بل هو صراع تكنولوجي. والاستثمار في التكنولوجيا والأبحاث والتطوير هو ما قد يحمل البلد إلى مستوى آخر...انه مفتاح المستقبل".
ورغم الأوضاع السائدة، يؤمن بقدرة لبنان على المشاركة في هذا الاستثمار. "يمكنه ذلك بالطبع. لديه أفضل الجامعات... والمهم وضع خطة للمستقبل حول أمور تجمع اللبنانيين، ونحققها خلال فترة زمنية معينة". إلى جانب هذا الإيمان، يتمسك داغر بالأمل في "العودة إلى لبنان والعمل فيه يوما من الأيام. وسيبقى جميلا في عيني، أيا يكن".

(1) Advanced Engineered Wood Composites Center
(2) http://www.aewc.umaine.edu
http://www.deepcwind.org
(3) خلال الأعوام الخمسة الماضية، حاز المركز أربع مرات الجائزة الأولى - ضمن فئات منوعة، والتي تمنحها الرابطة الأميركية لمصنعي المواد المركبة (ACMA).

هالة حمصي - النهار 20 يناير 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق