الجمعة، 24 يونيو 2011

جيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي

الجزء الأول

قبل شروعه في بلورة تصور متماسك لدراسة المتخيل، يشير دوران إلى تجنبه لأونطولوجيتين اثنتين هما:

1- الأنطولوجيا السيكولوجية التي ليست سوى نزعة روحانية متسترة،

2- الأنطولوجيا الثقافوية التي ليست، بصفة عامة، سوى قناع للموقف السوسيولوجي.

فكلتاهما تختزل المتخيل في تفسير أحادي الجانب، إما في بعده النفسي المرتبط بفلسفة الذات، أو في بعده الثقافي المغرق في نزعته الاجتماعية “الموضوعية”، وكلتاهما تنتهي إلى اختزال الصورة، ومن ثم المتخيل، في نزعة “تشييئية”. والملاحظ أن دوران يقف كثيرا عند جان بول سارتر باعتباره واحدا من أصحاب هذه النزعة. ولعل السبب في هذه الوقفة الطويلة، في مقدمة البنى الأنتروبولوجية للمتخيل، وداخل فصول الكتاب كذلك، يعود بالأساس إلى عاملين اثنين: العامل الأول يتجلى في كون سارتر كان قد وجه نقدا هاما للمذهب الكلاسيكي الذي يعتبر الصورة صنوا ذاكراتيا للإدراك، يؤثث الوعي والذهن بمنمنمات ذهنية ليست، في نهاية المطاف، سوى نسخ لأشياء موضوعية؛ كما وجه نقدا آخر للتصور البرغسوني الذي يقيم علائق بين الصورة والذاكرة، جاعلا من الصورة ذكرى. ومن ثم ينبه سارتر إلى عدم الخلط بين الشيء المتخيل والشيء المتذكر، وذلك، بالضبط، تجنبا للسقوط في نزعة “تشييئية” للصورة. لكن سارتر، في نظر دوران يتراجع في كتابة الثاني المتخيل عن انتقادات الكتاب الأول المخيلة، ويصل إلى موقف تبخيسي للصورة وللخيال، وبالتالي إلى “نظرية للمخيلة بدون صور”.
أما العامل الثاني، فهو اعتماد كل من سارتر ودوران على منهج ظاهراتي يروم إبراز خصوبة المتخيل وفعاليته وذلك رغم تباين خلفياتهما الإبستيمولوجية ومقاصدهما. ومن ثم يعتبر دوران أن مشروعه هو عبارة عن “وصف ظاهراتي فعلي لمحتويات الخيال”، وبالتالي، فإن سارتر، في تطبيقه للمنهج نفسه، ينتهي إلى نزعة سيكولوجية أحادية ومفقرة.

ومن ناحية ثانية، يتوقف دوران عند التصورات ذات النزعة الديكارتية، التي يمثلها علم النفس الفكري الألماني La denkpsychologie، والتي تفصل، عموما، بين الفكر والخيال، وتسقط، بالتالي، في حبال نزعة ثنائية ميتافيزيقية تضع الوعي والفكر في جهة، والصورة والخيال في جهة أخرى. وعلاوة على ذلك، تشترك هذه النزعة مع النزعات الثقافوية في انطلاقها من تصور غامض وملتبس للصورة وللخيال معا، فضلا عن التباس المفاهيم والصيغ المستعملة. إنها “تفترض [وجود] فكر بدون صور، فقط لكون الصورة ثم اختزالها من جديد إلى صنو متبق من الإحساس؛ ومن البديهي، والحالة هذه، ألا تضيف مثل هذه الصور شيئا إلى معنى المفاهيم المجردة”. وإذا كان الإشكال الذي يطرحه الارتباط بين الصورة والإدراك قديما، كما تشير إلى ذلك هيلين فيدرين، فإن الالتباس الأساسي يعود إلى خلط الظاهراتية السيكولوجية، المنحدرة من هوسرل وبرغسون، ما بين الصورة والكلمة، أي ما بين وظيفة الصورة الذهنية والعلامات اللغوية كما حددها دوسوسير. فالعلامة اللغوية، يوضح دوران، ليست اعتباطية في حقل المتخيل، بل هي حاملة لمعنى يستوجب البحث عن دلالته داخل هذا الحقل لا خارجه. ومن ثم ينتفي التمييز الكلاسيكي، البلاغي، بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. فداخل حقل المتخيل، يغدو المعنى المجازي وحده المتوفر على دلالة، أما المعنى الحقيقي، فلا يبقى سوى حالة خاصة من التيار الدلالي الواسع. وذلك لكون العلامة اللغوية، في إطار نصوص المتخيل، هي دائما محفزة من الداخل، أي أنها دائما رمز. وهذا، بالضبط، هو جوهر إخفاق النظريات السابقة التي “بخرت فعالية المتخيل” لأنها لم تربط بين الخيال والرمز. وإذا كان سارتر قد انتبه إلى رمزية الصورة، فإنه سرعان ما يعتبر الرمز ضعيف القيمة، و”ناقصا” ينبغي تجاوزه بواسطة المفهوم. فداخل العلامة اللغوية، هناك انسجام بين الدال والمدلول، تابع لدينامية منظمة، ولخطاطة عامة تتحكم في الصورة وفي الفكر. ويرجع دوران هذا التصور إلى أستاذه باشلار الذي يعتبر الخيال مبدأ منظما وعاملا من عوامل الانسجام داخل التمثل. ومن ثم، فبدلا من أن تكون المخيلة ملكة لتشكيل الصور، تغدو ملكة لتعويجها، أي تعويج الصور الصادرة عن الإدراك، وتقوم، بالتالي، بتحريرنا من الصور الأولى بوصفها نسخا ذريعية قادمة من الإدراك. ويضيف باشلار، مدققا، أن اللفظة التي تصلح مرادفا للمخيلة، هي لفظة المتخيل، الذي يجعلها مفتوحة ومتمنعة.

وبناء على ما سبق، يخلص دوران إلى نتيجتين منهجيتين، وهما:

1 ـ أسبقية الترميز، الكرونولوجية والأنطولوجية، على أي دلالة سمعية بصرية، فالتركيب الرمزي هو أساس كل عملية تفكير، وهو، كذلك، مصدر غناه وانفتاحه. لذلك يعلن دوران أن دراسته للنماذج الأصلية الأساسية للخيال الإنساني، تتموقع ضمن المنظور الرمزي.

2 ـ هذه النتيجة تترتب عن النتيجة السابقة، ذلك أن الانطلاق من دلالة الرموز، يفرض قلب العادات السابقة لعلم النفس التقليدي الذي قام بتفصيل الخيال على مقاس الفكر والمنطق. فالرمز لا يتبع اتجاها خطيا، ولا يسير في بعد واحد، ولا يخضع لحتمية سببية. ليس العالم الرمزي، بمعنى من المعاني، زمنيا بقدر ما هو فضائي، لأنه ذو سمة متعددة الأبعاد. ومن ثم ظهور عدة تصنيفات تحاول البحث عن المحركات والمحفزات الرمزية المؤدية إلى فهم البنيات الرمزية. وتنقسم هذه المحاولات، بصفة عامة، إلى قسمين: أحدهما اجتماعي يمتح من تاريخ الأديان، ويسعى إلى تصنيف الرموز تبعا لقرابتها وتماثلها مع إحدى الظواهر الكونية الكبرى، كربطها بالمناخ والبراكين والنجوم والقمر والكوارث الطبيعية (دوميزيل، إيلياد، كراب، باشلار…). وثانيهما سيكولوجي يمتح من التحليل النفسي لتفسير المحفزات الرمزية بمصطلحات الرغبة الجنسية والكبت ومبدأ اللذة (فرويد خصوصا). “إن الخيال، في نظر المحللين النفسانيين، هو نتيجة صراع بين الدوافع الجنسية وكبتها الاجتماعي”، وهذا ما جعل دوران يتبنى موقفا مغايرا، معتبرا الخيال، لا كنتيجة للكبت، بل بالعكس كمصدر لتصريف الرغائب. ومن ثم، فقيمة الصور الخيالية لا تتمثل في جذورها العلمية (الليبيدية) التي تخفيها، بقدر ما تكمن في “الأزهار الشعرية والميثية التي تكشف عنها”.

إن التصنيفات الرمزية الصادرة، سواء عن الاتجاه الاجتماعي-الديني، أو عن الاتجاه النفساني، تقوم باختزال المتخيل إما في أنساق خارجة عن الوعي الإنساني وإدراكه، أو في إواليات غريزية وغلمية وكبتية. ولهذا السبب تمت الإشارة، في بداية الحديث عن منهج جيلبير دوران، إلى سعيه إلى تجنب كل من الأونطولوجيا السيكولوجية والأونطولوجيا الثقافوية. ولتحقيق ذلك، يعتمد دوران على المنظور الأنثروبولوجي لرأب الصدع بين المقاربة الخارجية والمقاربة الداخلية للمتخيل ولمحتوياته. إن المتخيل يستجيب لحاجات ورغائب غريزية داخلية تتفاعل وتتصادى مع محيطها الاجتماعي والإيديولوجي والديني… وهذا الجمع بين المقاربتين هو ما أطلق عليه دوران اسم المسار الأنتروبولوجي، الذي هو نتاج متطلبات عضوية ونفسية ضمن محيط اجتماعي.

توجد فكرة المسار الأنتربولوجي، بصورة ضمنية، لدى باشلار في كتابه الهواء والأحلام. فالمحاور الناتجة عن المقاصد الرئيسية للخيال هي، أساسا، مسارات الحركات الرئيسية للحيوان البشري تجاه محيطه الطبيعي، هذا المحيط الذي تواصله المؤسسات البدائية مباشرة، سواء كانت تكنولوجية أو اجتماعية للإنسان الصانع. وهكذا، فكل حركة تستدعي مادتها وتبحث عن أداة لها، لأن خيال الحركة، يضيف باشلار، مرتبط بخيال المادة. ومن ثم ذلك التفاعل بين الحركة والمحيط، فرغائب الفرد وغرائزه واستيهاماته ليست محض نتاج فردي، ليست “مثولوجيا شخصية” بقدر ما تسبح في محيط تاريخي واجتماعي. وهذا، بالضبط، ما يفسر تحليلات دوران ومدرسته، تلك التحليلات التي تزاوج بين الثقافي والطبيعي السيكولوجي دون إعطاء الأولوية لأحدهما على حساب الآخر، ذلك لكون “جوهر التمثل وجوهر الرمز يوجدان ما بين هذين القطبين المتعاكسين”. وعلاوة على ذلك، فإن الموقف الأنتروبولوجي، يقول دوران، ينفتح على المقاربات الاجتماعية والسيكولوجية، وعلى الرمزية الدينية والمثولوجيا والشعر، كما تنفتح على المؤسسات الطقوسية.

ولحصر الرموز المشكلة للمسارات الأنتروبولوجية، يتوسل دوران بمنهج ذريعي و”تنسيبي” يقوم على الجمع، أي على “رصد تكوكبات كبرى للصور، وهذه التكوكبات تكون تقريبا مستقرة، وتبدو مبنينة بواسطة تشاكل معين لرموز مترابطة فيما بينها”. فالرموز، بناء على ذلك، تتكوكب لأنها تكويرات لنفس الموضوعة الأصلية، وتنويعات على نماذج أصلية، فالتمثلات الناتجة عن الترسيمات الذهنية الأولية Les schèmes مثلا، والتي تتعلق بفكرة الارتقاء، تصاحبها دائما رموز النور والعين والهالة.

غير أن جمع الصور والرموز، يفترض، منهجيا، إعطاء الأولوية لعامل على آخر. هكذا يختار دوران الانطلاق من العامل النفسي ليتدرج نحو العامل الثقافي، إنه تدرج من البسيط نحو المركب، ومن النفسي الجنيني لدى الطفل، الذي تشكل سيكولوجيته “الأساس الكوني الأغنى من الأساس الذي يملكه كل مجتمع ما”، نحو الوسط الثقافي الذي يعمل على تعقيد وتخصيص المعطيات النفسية الأولى. ويضيف دوران، أن البحث عن التكوكبات الرمزية انطلاقا من العوامل النفسية، يطرح مشكلا أمام الباحث، ويتعلق الأمر بطبيعة هذه العوامل: هل ينبغي الاعتماد على الصور الحسية أم على الصور الحركية؟ ولحل هذا الإشكال يقوم، بعد أستاذه باشلار، باختيار البعد الحركي، مبررا ذلك بكون المتخيل حركة دينامية، وليس نقطة ثابتة. وهكذا يصبح الخيط الرابط لتحليلات محتوى المتخيل، هو الخيط السيكولوجي، المرتبط بردود فعل حركية مهيمنة وبارزة. ذلك أن رد الفعل الطبيعي يقوم بدور إنتاج رموز وتمثلات متعددة، لكن بالإمكان تصنيفها وترتيبها تبعا لطبيعة رد الفعل. فالطفل مثلا، منذ نعومة أظفاره، يأخذ في التعود على وضعيتي: العمودية والأفقية، اللتين توجهان التصور الرمزي نحو حركات وانفعالات لا شعورية، ونحو اختيار أدوات ومواد معينة، تستجيب لكل وضعية على حدة. وهكذا تتسع هذه التمثلات لتطول كل ما هو تقني وأداتي، ولتعكس، على مستوى المتخيل، تفاعلات الإنسان مع محيطه، ومع ما يؤثث هذا المحيط. هناك، إذن، امتدادات تكنولوجية ناتجة عن حركات وردود فعل حركية مهيمنة على باقي الحركات. ومن ثم، تستدعي كل حركة مادة وتقنية في الآن نفسه.

وهكذا يخلص دوران إلى أن عالم المتخيل تحكمه، بصفة عامة، ثلاث حركات طاغية، وهي:

أ‌) الحركة الأولى ترتبط بالوضع العمودي، وهي حركة مهيمنة تقتضي وتستلزم وجود مواد مضيئة وبصرية تتصل بالرؤية، وكذا تقنيات العزل والتطهير اللذين تشكل الأسلحة والسيوف والسهام رموزا لها.

ب‌) الحركة الثانية ترتبط بالنزول الهضمي وتستدعي مواد لها علاقة بالعمق كالماء والأرض والكهوف والمغارات. ثم إنها تتطلب أواني احتوائية كالأقداح والكؤوس والصناديق وتنحو نحو أحلام متصلة بالأكل والشراب.

ت‌) الحركة الثالثة لها علاقة بالحركات الإيقاعية. وهنا نجد أن النموذج الطبيعي لهذه الحركة يتمثل في العلاقة الجنسية. وبالتالي فإن موضوعات إيقاعية متعددة تتطابق معها مثل إيقاع الفصول والنجوم والكواكب وتقنيات الدوران كالعجلة والبكرة والممخضة والولاعة.

وتندرج هذه الحركات الثلاث ضمن نسقين كبيرين يطلق عليهما: النظام النهاري والنظام الليلي. وهكذا، فإن النظام النهاري يشمل الوضع العمودي وتكنولوجيا الأسلحة وسوسيولوجيا الحروب وطقوس الارتفاع والتطهير. أما النظام الليلي، فيضم الحركتين الثانية والثالثة، ويبرر دوران هذا الجمع، بوجود قرابة بين المهيمنة الهضمية والمهيمنة الجنسية، ولا أدل على ذلك من أن هناك تقليدا يربط بين “ملذات البطن” ودلالات الظلمة والليل. وهكذا يضم النظام الليلي المهيمنات الهضمية والدائرية. فالأولى يندرج داخلها كل ما يتعلق بتقنيات الاحتواء والسكن والمأوى والأمومة، أما الثانية، فتشتمل على دورة الفصول والروزنامة الفلاحية وصناعة النسيج، وكذا رموز العودة وأساطير الكواكب والدورات البيولوجية.

ومن جهة أخرى، فإن النظام النهاري هو نظام الثنائيات الضدية، نظام التناقض الدلالي والوصفي (نور  ظلمة، صفاء  ظلال، وجود  لا وجود)، إنه نظام يعكس بنية فصامية الشكل تتجلى في الاحتراس من إغراءات الزمن والرغبة في التمييز والعزل، أي تتجلى، بعبارة أخرى، في التفكير بواسطة النقيض. في حين أن النظام الليلي، تلطيفي وتكراري وحميمي. إنه نظام يقوم على رموز العمق والسكينة والحميمية والاختفاء، ويعكس بنيتين، إحداهما تركيبية تؤلف بين المتناقضات، والثانية صوفية تقوم أساسا على الإصرار الاحتوائي والارتباط بالمظاهر الحسية للأشياء واللزوجة…

وقبل الانتهاء من هذا العرض النظري حول المنهج الأنتروبولوجي كما بلوره جيلبير دوران، أقف عند خمسة مصطلحات أساسية تتردد كثيرا في أدبيات المتخيل، بصفة عامة وبشكل متفاوت، وفي كتابات دوران بصفة خاصة. وهذه المصطلحات الخمسة هي على التوالي: الترسيمات الذهنية الأولية Les schèmes، النماذج الأصلية Les archétypes، الرموز Les symboles، الأسطورة Le mythe، والبنيات Les structures.

مصطفى النحال - 24 مايو 2008

جيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي (الجزء الثاني)

الترسيمات الذهنية الأولية:

يستعمل كانط هذا المصطلح في سياق نظريته حول المعرفة كما تبين سابقا، ويعتبره “إجراء عاما للمخيلة لإسناد صورة لتصور”، فبدون هذه الترسيمات تظل المقولات عاجزة عن تجاوز دورها المنطقي. إن دورها، إذن، أساسي بين الصورة والتصور، بين المقولات الذهنية والأشياء التي تعطيها الحواس، لكن استعمال دوران لهذا المصطلح يختلف. صحيح أن دور الترسيمات الذهنية الأولية هو الربط والوصل، إلا أنه ربط بين الحركات الحسية-الحركية اللاشعورية، أي ردود الفعل المهيمنة المشار إليها سابقا، وبين التمثلات. وهذا الفهم، عموما، هو الذي نجده عند بياجي وباشلار من خلال مصطلحي “الرمز الوظيفي” و”الرمز المحرك” على التوالي. ومن ثم، فإن الترسيم الذهني الأولي Le schème هو تعميم دينامي وانفعالي للصورة” وبالتالي، تلعب هذه الترسيمات، المحركة للمتخيل، دورا تأطيريا، بحيث تقوم بدور العمود الفقري الدينامي للمخيلة وتصميمها الوظيفي. وعليه، فهي مسارات وأبعاد تتجسد في تشخيصات ملموسة ومحددة. وعلى سبيل المثال، فإن حركة الوضع العمودي يقابلها شكلان من أشكال الترسيمات الذهنية الأولية
1 ـ ترسيم ذهني يتسم بالعمودية المتصاعدة.

2 ـ ترسيم ذهني يهم التوزيع البصري واليدوي. أما حركة الابتلاع، فيقابلها الترسيم الذهني المتجسد في النزول، وتخطيط الركون إلى الحميمية. إن الترسيم الذهني الأولي هو، حسب تعبير سارتر، “مستحضر” présentificateur للحركات والدوافع اللاشعورية.

النماذج الأصلية:

يعني هذا المصطلح في اليونانية النموذج البدئي (ARCHE: بداية – TYPOS: نموذج أو طراز)، وقد استعمله عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ لتوصيف رموز الثقافات الكونية وأساطيرها. وهكذا، فإن النماذج الأصلية هي تلك الصور الموروثة، الرمزية والجمعية التي تخترق الأساطير والخرافات، وتشكل، انطلاقا من أساس بشري مشترك، اللاوعي الجمعي للفرد. وهكذا، فإذا كان يونغ يركز على السمة الجمعية والفطرية للصور الأولى، فإن دوران يسعى إلى تجنب السقوط في شرك نزعة ميتافيزيقية ترد كل شيء إلى الأصل، وتبحث عن ترسبات ذاكراتية متراكمة عبر العصور والثقافات. إن النماذج الأصلية، خلافا لذلك، ناتجة عن اتصال الحركات المجسدة في شكل تخطيطات ذهنية أولية بالمحيط الطبيعي والاجتماعي، كما تقوم بدور تأسيسات Substantifications للتخطيطات الذهنية. وهكذا تلعب النماذج الأصلية، في نظر دوران، دورا أساسيا حيث تربط بين المتخيل والسيرورات العقلانية. فالفكرة لا تسبق الصورة، بل إنها مشروطة بقالبها العاطفي والتمثيلي، “وهذا ما يفسر أيضا كون الفلسفات العقلانية والمناهج الذريعية للعلوم، لا تتخلص أبدا، وبصفة نهائية، من هالة المتخيل، وكون كل نزعة عقلانية(…) تحمل في ذاتها استيهاماتها الخاصة”. وهكذا، فإن النماذج الأصلية تتميز باستقرار كبير: مثلا، الترسيمات الذهنية الأولية المتعلقة بالارتقاء، تقابلها دائما ودون تغيير النماذج الأصلية للقمة والرأس والنور، وترسيمات الأسلحة تتجسد في نماذج أصلية ثابتة كالسيف والتعميد. أما ترسيمات النزول، فتأخذ كأسماء أصلية لها الليل والقعر، والترسيم الذهني المرتبط بالركون والتقوقع يؤدي إلى نماذج أصلية كالحميمية والحضن والأسرة. وهكذا يستنتج دوران أن “ما يميز بالضبط النموذج الأصلي عن الرمز، هو، عموما، عدم التباسه وكونيته المستقرة ومطابقته للترسيم الذهني الأولي”. وهكذا، فإن العجلة، مثلا، هي أكبر نموذج أصلي يعكس الذهني الأولي المعبر عن الدائرية، خلافا للحية التي ليست سوى رمز للدائرة، كما قد تصلح لأن تكون رمزا لشيء آخر.

الرموز:

تكتسي الرموز أهمية قصوى نظرا لغنى معانيها. وقد يكون الرمز اسما مشتركا أو اسما عاما، أي أنه دائما اسم، خلافا للنموذج الأصلي الذي “يوجد على طريق الفكرة والاسم معا”. وهكذا، فالرمز هش لأنه ذو سمة تحولية. ولهذا السبب، قد يفقد الرمز تعدديته، ويغدو مجرد علامة لغوية. ومن ثم، فإن الرمز سنن جماعي متعدد القيم ملتبس، أي أنه قابل للتأويل بحكم تعدديته ومعانيه الثانية. ولهذا السبب، فإن الرمز، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا يرتبط بخطية الدال اللغوي. فالأسطورة، مثلا، باعتبارها خطابا، تعيد، عن طريق الكتابة، إدماج خطية الدال اللغوي هذه، غير أن الدال، في هذه الحالة، يستمر ويدوم بوصفه رمزا، لا بوصفه علامة لغوية “اعتباطية”. ولهذا، فالأسطورة، عند دوران، وخلافا لتصور ليفي ستروس، ليست مماثلة للغة، لكون الأهمية الأساسية للأسطورة، لا تكمن في خيطها السردي فقط، بل في المعنى الرمزي لكلماتها. الأسطورة كالطائرة، تتدحرج باللغة، لكن سرعان ما تبتعد عنها وتحلق في الفضاء بفضل الكثافة الرمزية.

ويمكن أن نربط بين هذا التصور، وبين تصور تودوروف، الذي يعتبر، في سياق دراسته لعلاقة الرمز بالتأويل، أن النص، أو الخطاب، لا يصبحان رمزيين، إلا انطلاقا من اللحظة التي نكتشف فيها، بفضل عملية التأويل، معنى غير مباشر، لذلك فإن “المتلقي يفهم الخطاب، لكنه يؤول الرموز”.

الأساطير:

يستعمل دوران مصطلح أسطورة بالمعنى الواسع، أي باعتبارها “نسقا ديناميا من الرموز والنماذج الأصلية والترسيمات الذهنية الأولية، أي نسقا ديناميا ينزع، بتأثير من ترسيم ذهني معين، نحو التشكل في حكاية”. فهو، إذن، يبتعد عن المفهوم الضيق لعلماء الأديان، ودارسي المعتقدات، الذين يرون فيه “الوجه الآخر التمثيلي لفعل طقوسي”. وإذا كانت الأساطير تأخذ شكل حكاية، فإنها توظف اللغة والخطاب اللذين يحولان الرموز إلى كلمات، كما يحولان النماذج الأصلية إلى أفكار، وهذا ما يجعلها تميل إلى العقلنة. بيد أن الأسطورة ليست مماثلة للغة وإن كانت تحتاج إلى توظيفها. وهكذا تشمل الأسطورة المحكي المبرر لعقيدة دينية معينة، أو سحرية، كما تشمل الخرافة والحكاية الشعبية والخطاب الروائي. لذلك، لا يمكن اختزال الأسطورة إلى لغة معينة، فهي صيغة خطاب لا مكان فيه للعبارة الإيطالية الشهيرة “الترجمة خيانة”، لأن الأسطورة، شأنها في ذلك شأن النموذج الأصلي، لا تخون أية لغة، لأنها لا تترجم. ولأنها تضم المكونات السابقة، فإنها تعتبر بمثابة تكوكبات للصور.

البنيات:

ينبه دوران إلى أن مصطلح البنية لا ينبغي أن يلتبس مع مصطلح الشكل. فإذا كان هذا الأخير يدل، في معناه الأنتروبولوجي، على نوع من التوقف والوفاء، أي على نوع من السكونية، فإن البنية، على العكس من ذلك، تستلزم نوعا من الدينامية المحولة. وهكذا، تدل البنية، عندما تضاف إلى نعوت كيفية وليست كمية، على شيئين أساسين:

1 ـ أن هذه الأشكال دينامية، أي خاضعة لتغييرات بواسطة تعديل أحد طرفيها، كما أنها تشكل “نماذج” تصنيفية وبيداغوجية، أي أنها تقوم بوظيفة التصنيف، وبإمكانها تغيير حقل المتخيل، ما دامت قابلة للتغيير والتحويل.

2 ـ أن هذه “النماذج” ليست كمية، بل هي أعراضية، ذلك أن “البنيات، مثلها مثل الأعراض الطبية، تعتبر نماذج تسمح بالتشخيص وبالفحص الطبي.

وخلاصة القول إن البنيات “الأنتروبولوجية” للمتخيل تتمثل في الخصائص النوعية التي تميز الطبيعة الإنسانية، التي هي (تشريحية وفيزيولوجية وسلوكية وذهنية).

اعتمدت، في عرض المنظور الأنتروبولوجي لدوران، بشكل أساسي على كتابه الأول البنيات الأنتروبولوجية للمتخيل، لأنه يشتمل على تقديم نظري يطرح فيه الأساس الفلسفي والمنهجي لمشروعه، خلافا للكتب اللاحقة التي أخذت طابعا تطبيقيا.

وتتجلى قيمة هذا التصور، في كونه يتسع ليشمل كلية الإنسان، في تفاعله مع العالم الخارجي. وهذه الكلية الأنتروبولوجية هي التي قادت دوران إلى البحث في/عن النماذج الأصلية والصيغ الرمزية والأسطورية ذات الصبغة الكونية.

ومن ثم فإن مشروع دوران يقوم على تجميع “الموارد الأنتروبولوجية” للبحث في الخيال الرمزي العام، الذي يسم المتخيل الإنساني. ولهذا توسل بعلم النفس التكويني (بياجي)، والخيال المادي (باشلار) لوصف النماذج الأصلية والأساطير والرموز التي تنتظم وفق بنيات محددة لها طابع الكونية. فالمتخيل، حسب دوران، ليس إلا نماذج أصلية، ورمزية وميثولوجية محددة للإنسان الرمزي في مواجهته لوجوه الزمن وهروبيته، ذلك أن “المخيلة تنظم الزمن، وتقيسه، وتؤثثه بالأساطير والخرافات التاريخية، وبهذه السمة التحقيقية، تأتي لتعزي من هروب الزمن”.

وهكذا، فالأسطورة عنده ليست مماثلة للغة، لأن أدلتها لا تخضع للنسق اللغوي الاعتباطي، بقدر ما هي رموز غير قابلة للترجمة. وبالمثل، فإن النموذج الأصلي لا يترجم، وبما أنه كذلك، فلا يمكن أن تخونه أية لغة 

Gilbert Durand, Les structures anthropologiques de l’imaginaire, Dunod, 11ème édition, Paris, 1992,

0 تعليقات::

إرسال تعليق