الأحد، 19 يونيو 2011

عملاء أم أسرى لعنة موقعهم الجغرافي..؟ قصة الشريط الحدودي وأهله الهاربين إلى إسرائيل

الشريط الحدودي
الشريط الحدودي
عام 1996 زار وفد من بلدة القليعة في جنوب لبنان الرئيس نبيه بري طالباً معاملة الأهالي الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، أسوة بسكان الجولان السوري المحتل والكف عن إصدار مذكرات التوقيف والتحقيق بحقهم. فرد عليهم بري "إن من يوجه تهمة العمالة إليهم هو عميل، وإن من يده في النار ليس كمن يده في الماء". هذه الكلمات تختصر معاناة سكان أقصى الشريط الحدودي الذين تخلت عنهم الدولة اللبنانية وتركتهم تحت نار المنظمات الفلسطينية المسلحة منذ عام 1969 فكان عليهم أن يبقوا في أرضهم أو أن يلقوا مصيراً مشابهاً للدامور وشكا والناعمة والجية وبيت ملات وتل عباس والعيشية وغيرها من البلدات والقرى التي هاجمتها القوات المشتركة الفلسطينية ـ اليسارية من دون رحمة.
قضية المبعدين اللبنانيين إلى إسرائيل هي نتاج مسار تاريخي طويل، فاعتباراً من 13 نيسان 1975 وجد أهالي القرى والبلدات المسيحية في رميش ودبل ومرجعيون والقليعة وعين ابل وعلما الشعب وبرج الملوك أنفسهم وجها لوجه مع المنظمات الفلسطينية المسلحة، بعدما انهارت الدولة اللبنانية وشلت مؤسساتها الأمنية والعسكرية. وعلى طريقة "العدو من أمامكم والبحر من ورائكم"، بادرت إسرائيل إلى استغلال حال الحصار هذه إلى أقصى الحدود، ووجد الأهالي أنفسهم أمام حلين أحلاهما مر، إما الحصار والموت أو الاتصال بإسرائيل. بعدما منعت عنهم القوات الفلسطينية المشتركة الدواء والمياه والإمدادات الغذائية. ورواية ما جرى في القليعة ورميش وعين ابل تختصر كل تاريخ الشريط الحدودي والبلدات والقرى التي حملت السلاح في مواجهة التنظيمات الفلسطينية المسلحة وأعوانها دفاعاً عن لبنان والشرعية والجيش وانتهى الأمر بها بتهمة العمالة والخيانة.

الجيش والأهالي

بدأت قصة الشريط الحدودي صباح العاشر من آذار العام 1976 عندما اجتاحت المنظمات الفلسطينية المسلحة وما يسمى "جيش لبنان العربي" مدينة مرجعيون، ووجهت إنذاراً إلى قائد الموقع المقدم نايف كلاس بتسليم ثكنة الجيش اللبناني، وهكذا كان على الرتباء والجنود (وأكثريتهم الساحقة من القليعة وعكار) أن يختاروا بين التزام الشرعية وما تبقى منها آنذاك، أو "خيانة القَسَم العسكري". وبعد الاتصال ببيروت طلبت القيادة منهم إخلاء الثكنة والتحصن في مراكز كتيبة المشاة الأولى في تل نحاس وتحديداً المرتفع 608 الملاصق للحدود الإسرائيلية وإنشاء خط دفاعي لحماية القليعة أسوة بما جرى في القبيات وعندقت وزحلة. ويتذكر أحد العسكريين ما جرى: "بدأت المعركة صباح العاشر من آذار العام 1976، وإنفإذاً لأوامر قيادة الجيش في اليرزة سعى العسكريون من أبناء القليعة إلى سحب السلاح الثقيل إلى خارج الثكنة ونجحوا في ذلك، وتحصنوا في بلدتهم، بعدما رفضوا تسليم سلاح الجيش، وارتسمت خطوط تماس عند تخوم البلدة بين المدافعين عنها ومهاجميهم. وعبثاً حاولت القوات المشتركة الفلسطينية – اليسارية اجتياح القليعة وكانت تلقى مقاومة عنيفة كل مرة حاولت ذلك. لكن هذه القوى نجحت في أمر واحد وهو فرض حصار كامل على القليعة ورميش وعين ابل ودبل، أي القرى والبلدات التي رفضت السماح للتنظيمات الفلسطينية بالعبور إليها أو التي رفضت تسليم سلاحها.

خلال صيف 1976 أعلن مسؤول حركة "فتح" الفلسطينية في مرجعيون يحيا رباح محذراً :"لا تدفعوا أبناء القليعة نحو أحضان إسرائيل"، لكن كلام رباح ذهب أدراج الرياح، فالحمية الطائفية لضرب "الانعزاليين" الموارنة كانت في ذروتها ولم يكن مهماً الإصغاء إلى صوت العقل. حينها بادرت منظمة "الصاعقة" المؤيدة لسوريا إلى الطلب من الأهالي رفع لافتات تأييد لسوريا لكي يخف الضغط العسكري عنهم، لكن الأهالي رفضوا. عندها قطعت الإمدادات الغذائية والمياه والكهرباء عن البلدات بهدف إخضاعها، ولولا عادة تخزين المؤونة في البيوت لمات الناس جوعاً، بعد انقطاع الرواتب عنهم ستة أشهر متتالية. ويتذكر قدامى العسكريين أنهم تلقوا الرواتب من بيروت بعد طول انتظار عن طريق أحد مسؤولي منظمة "الصاعقة" السورية ويدعى سهيل يموت، لكن المال لم يكن يشتري شيئاً في ظل الحصار وفقدان المؤن وكانت نساء البلدات يجمعن الزيت والبرغل واللحم من المنازل لإطعام جنود الجيش والمقاتلين من الأهالي .

الثأر والانتقام

وإثباتاً لشرعية التجمعات العسكرية في الشريط الحدودي وردت خلال أيلول 1976 مذكرة خدمة صادرة عن قيادة الجيش في بيروت رقمها 3860، قضت بإنشاء "تجمع كتيبة القليعة" و"تجمع كتيبة رميش". حددت هيكلية التجمعين ووزعت الرتب على العسكريين، وصارت الرواتب والإمدادات تصل إلى عسكريي الكتيبتين من طريق ميناء حيفا في إسرائيل. وتزامن هذا الموقف، على ما روى أحد وجوه القليعة مع "تمنّ خطي من رئيس مجلس النواب آنذاك كامل الأسعد إلى أبناء الطائفة الشيعية في المناطق الحدودية لتبني موقف القليعة وطرد المسلحين الفلسطينيين من بلداتهم". ويصر أهالي القليعة ورميش وعين ابل على سرد تفاصيل الأحداث التي وقعت للتأكيد على أن ما قاموا به لم يخرج على توجيهات الشرعية وقيادة الجيش في بيروت.

في 16 تشرين الأول عام 1976 استعادت "كتيبة القليعة" ثكنة مرجعيون تنفيذاً لأوامر القيادة في بيروت، وانتقم الفلسطينيون لهزيمتهم بتدمير بلدة العيشية وتهجيرها. ونهاية 1976 وصل الرائد سعد حداد من بيروت عن طريق ميناء حيفا لتولي القطاع الشرقي في الجنوب بموجب مذكرة صادرة عن القيادة في بيروت. في حين صدرت مذكرة أخرى بتعيين الرائد سامي الشدياق قائداً لكتيبة رميش. ثم صدر قرار آخر عن وزير الداخلية آنذاك كميل شمعون قضى بتعيين قائمقام لقضاء مرجعيون بهدف تثبيت حضور مؤسسات الدولة في المنطقة الحدودية. لكن الاتصال ما لبث أن انقطع بين القيادة في بيروت وكتيبتي القليعة ورميش في 1-1-1979 بقرار شفهي صادر عن الرئيس سليم الحص ومنعت الرواتب عن عسكريي الكتيبتين في حين استمرت عناصر قوى الأمن الداخلي في تلقيها. وظل الأمر على هذا المنوال حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 عندما التحق عناصر الكتيبتين بالقيادة في بيروت من جديد، لكنهم حرموا قبض الرواتب المستحقة لهم منذ العام 1979، على الرغم من قرارين صادرين عن مجلس شورى الدولة أكدا حق عسكريي الجنوب في قبض الرواتب والتعويضات التي نص عليها قانون الخدمة، لكن وزارة الدفاع لم تنفذ الأحكام.

قطع الأرزاق والأعناق

ولأن "قطع الأرزاق من قطع الأعناق"، وجد الأهالي أنفسهم أمام خيارات صعبة "أحلاها مرّ"، كما قال أحد أعضاء وفد القليعة أمام الرئيس نبيه بري عندما زاره: "إننا لسنا مسؤولين عن الاجتياحات الإسرائيلية، وما حصل هو نتيجة لتقاعس الدولة اللبنانية عن القيام بواجباتها في حماية شعبها وأمنه من المنظمات الفلسطينية التي استباحت حرمة الوطن وكرامته. ويتساوى أهالي القليعة في موقفهم هذا مع أخواننا الشيعة الذين قاتلوا الفلسطينيين في الجنوب لدرء خطرهم. لماذا يحاسب الأهالي على موقفهم بعدما قطعت الرواتب عنهم وحرموا كل مستحقاتهم؟".

كان على الأهالي أن يختاروا بين الجوع أو الانخراط في "جيش لبنان الحر" والعمل في إسرائيل، لأن قطع الرواتب شكل ضربة قاصمة لهم بعدما اعتادوا عبر تاريخهم على العيش من ثلاثة مصادر، الزراعة والانخراط في سلكي الجيش والتعليم. إذًا في المحصلة رفض الأهالي الاستسلام بعدما شاهدوا ما جرى في الدامور وغيرها من تهجير. ووقفت عين ابل ورميش وعلما الشعب والقليعة وبرج الملوك إلى جانب الدولة اللبنانية ورفضوا تسليم سلاحهم إلى التنظيمات الفلسطينية المسلحة فكان الرد عليهم بتهمة العمالة لإسرائيل؟

6000 عامل

توفي الرائد سعد حداد العام 1983 وتم تعيين أنطوان لحد مكانه، فعمد إلى تغيير اسم القوى العسكرية في المنطقة الحدودية إلى "جيش لبنان الجنوبي" وأصبح الإسرائيليون يتدخلون في كل شاردة وواردة من شؤون المنطقة. واستغلت إسرائيل إلى أقصى الحدود معاناة الأهالي وتفكك الدولة اللبنانية في الثمانينات. فدخل نحو 6000 لبناني إلى إسرائيل للعمل، وبلغت تحويلاتهم أكثر من مليون دولار سنوياً في منطقة محرومة. وتولت الإدارة المدنية الإسرائيلية إدارة شؤون المواطنين بالكامل، إلى أن كان الانسحاب الإسرائيلي العام 2000 وانتهى الوضع في الشريط الحدودي إلى تشرذم العائلات ورحيل بضعة آلاف إلى إسرائيل خوفاً ـ خصوصاً بعد ذلك الخطاب الشهير لأمين عام "حزب الله" حسن نصر الله الذي توعد "جيش لبنان الجنوبي" بالذبح في أسرّتهم أمام عائلاتهم وأولادهم، مما أخاف الكثيرين من العسكريين والمدنيين، ففروا لا يلوون على شيء. لكن حرب تموز 2006 أظهرت أن لا عملاء في القليعة ورميش وعين ابل، بل مواطنون صالحون حيث فتحت البلدات والقرى المسيحية أبوابها ومدارسها لاستقبال أخوانهم من القرى الشيعية. وعندما وصل الجيش الإسرائيلي إلى القليعة ومرجعيون في هجومه فهو لم يوفر أحداً من الأهالي المسيحيين من الإهانات والشتائم والتنكيل بهم.

سقط المئات من أهالي القرى والبلدات الجنوبية ضحايا القتال ضد التنظيمات الفلسطينية. وفي القليعة وحدها 150 شهيداً ومئات الجرحى وعشرات المعوّقين والأيتام. ولكن في نهاية المطاف جرى تصنيفهم كعملاء لإسرائيل في معركة لم يكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل. بدليل أن القيادة الإسرائيلية وعندما اتخذت قرارها بالانسحاب من لبنان لم تكترث كثيراً لمصير الأهالي بل تركتهم عرضة للتهديد.

عام 1979 كتب المغفور له مطران مرجعيون للروم الكاثوليك إثاناسيوس الشاعر: "لم يكن الاتصال مع إسرائيل وفتح الجدار الطيب ليحصل لو لم تتخلَّ حكومة لبنان عنا. ثم ما العمل وأمامك جريح ينزف ولا طبيب في البلدة؟ (...) لو كانوا مكاننا ماذا كانوا فعلوا؟".

جهاد عون ، الأربعاء 3 أيلول 2008 - لبنان الآن

0 تعليقات::

إرسال تعليق