الأربعاء، 8 يونيو 2011

في الفوضى الخلاقة على الطريقة الأميركية

الفوضى الخلاقة تقضي بأن تقوم الولايات المتحدة بزرع الفوضى على حساب الاستبداد، بمعنى أن الفوضى تصبح والحال هذه مظهرا من مظاهر الحرية...
يتلقى الحراك السياسي في دول العالم العربي توصيفات عديدة متناقضة فهو إما ثورة واحتجاج من جهة، أو حرب أهلية ومؤامرة وغير ذلك، من جهة أخرى. غير أن الضغوط الأطلسية الأميركية المتزايدة تشير أيضاً إلى توصيف آخر هو "الفوضى الخلاقة"، بما هي جزء من الإستراتيجية التي تستخدمها الولايات المتحدة في نشر ما تعتبره رسالة مؤداها تحرير العالم وتمدينه وفق الرؤى التي تصوغها عن هذا العالم.
والفوضى الخلاقة التي يُعمل عليها تقضي بأن تقوم الولايات المتحدة بزرع الفوضى على حساب الاستبداد، بمعنى أن الفوضى تصبح والحال هذه مظهراً من مظاهر الحرية وعلى المعنيين بها إذ ذاك المبادرة إلى عملية بناء سياسي جديد يناقض الاستبداد الذي تكون الولايات المتحدة قد تكفلت بإزاحته أو تدميره. وهكذا يتاح للشعب المعني الإقدام على خلق نظام جديد جوهره الحرية ومندرجاتها.
والواقع أن كل إستراتيجية تهدف إلى التوسع والهيمنة على أراض جديدة تأخذ في الحسبان منذ فجر التاريخ وحتى اليوم المعطى الأولي في الجغرافيا، وهو توزع سطح الأرض على البر واليابسة، وتوزع مواز له، للجماعات البشرية عليهما، مع ما يؤدي ذلك إليه من مواجهات بين قوى البر من جهة وقوى البحر من جهة أخرى.
هذا وقد جرت قراءات عديدة للأحداث، مبنية على الإقرار بالمواجهة الدائمة بين قطبي الثنائية: البر والبحر، الأول يمثل الصلابة والثبات، والثاني يمثل السيولة والحركة. وعلى هذا تنبني على القوة البرية حضارة قوامها الرسوخ والجمود والاستقرار والمحافظة والتقليد فيما تنبني على القوة البحرية حضارة قوامها الفوضى والحرية والديناميكية والمبادرة الفردية، والمغامرة.
على أن فكرة المواجهة بين القوى البرية والقوى البحرية، تعود أصولها إلى تاريخ الشرق القديم الذي شهد مواجهات متكررة بينهما. تمثلت القوى البحرية بالإمبراطوريات التجارية لمدن صيدا وصور... والقوى البرية بإمبراطوريات الفراعنة، والأخرى الأشورية والكلدانية... ثم الإسكندر والفرس… وفي التاريخ الحديث كانت محاولة نابليون للسيطرة على القارة الأوروبية من صلب عمله الدؤوب على تدعيم قوة برية تمكنه من سحق قوة بريطانيا البحرية… وأخيرا خلال الحرب الباردة تمثلت المواجهة بين قوى البر وقوى البحر في كل من الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة التي حسمت الأمور لمصلحتها.
والواقع أنه مع صعود الولايات المتحدة لا سيما في القرن العشرين أجرى صناع القرار الاستراتيجي فيها نوعاً من الإسقاط التاريخي للبحر المتوسط على المحيط الأطلسي وطرحوا مفهوماً جديداً هو"المحيط المتوسط" Midland Ocean، بمعنى أن دور المحيط الأطلسي في العالم صار، بعد أن دخلت القارة الأميركية في سياق التاريخ البشري الذي شهدته القارات القديمة، يماثل، من حيث موقعه الاستراتيجي، ما كان عليه البحر المتوسط في التاريخ القديم، لأوروبا وغرب آسيا وأفريقيا الشمالية. يعني ذلك أن على الولايات المتحدة أن تسيطر على الأطلسي كمقدمة للسيطرة على العالم. الأمر الذي يقضي بأن تمتلك الولايات المتحدة القوة البحرية الأولى بين الدول. ومن ثم التحالف مع دول أوروبا الغربية المشاطئة للمحيط الأطلسي، بالنظر إلى أن الحضارة الأميركية الجديدة هي امتداد للحضارة الأوروبية الغربية.
لم تتوقف الإستراتيجية الأميركية عند مسألة المصالح الإستراتيجية أو الاقتصادية، بل تناولت مسألة الحضارة وكيفية وضرورة نشرها. فهي، في قراءتها للتاريخ، وجدت أن منطقة البحر المتوسط القديمة تشكّل فيها نموذج ثقافي راقٍ تبلور على حفافي هذا البحر. ومن ثم اضطلعت شعوب الحفافي بمهمة ترقية "متوحشي البر" وتمدينهم في أعماق اليابسة وعلى مساحات بعيدة. ومهمة الترقية لم تكن ممكنة لولا ما يقدمه البحر من انفتاح وتواصل لغياب العوائق في مسالكه الحرة والمتحركة، على عكس اليابسة التي تُعدّ طبيعتها، أقل قابلية من البحر للتواصل والتبادل المادي والروحي والتفاعل الثقافي، وما ينتجه كل ذلك من ثراء حضاري.
وعليه باتت مهمة "نشر الحضارة" في العصر الحديث ملقاة على عاتق "الأطلسيين". والأطلسيون هنا هم أميركيو الولايات المتحدة، والأوروبيون الغربيون، أي جانبا المحيط الأطلسي، الأميركي من جهة، والأوروبي الغربي من جهة أخرى، وهما في القرن العشرين الأكثر تطوراً في العالم تقنياً، وعلمياً، وحضارياً.
في هذا السياق، يغدو المحيط الأطلسي بصفته "المحيط المتوسط" عاملاً موحداً، لا عاملاً فاصلاً بين القارات كما يبدو في الظاهر. والعامل الموحد هنا يجمع على المستوى الحضاري "العائلة الأطلسية" ذات الخصائص الثقافية المشتركة، المبنية على مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الفرد الإنساني... وهكذا يتحول المحيط الأطلسي بناءً على هذا التصور نوعاً من "بحر داخلي" شأنه شأن البحر المتوسط في التاريخ القديم (mare internum). وما يجمعه الأطلسي بين القارتين يشكل "قارة" افتراضية هي قارة "الأطلنطيد" في إشارة إلى الرؤية الأسطورية التي شغلت الأقدمين وتحدث عنها أفلاطون، وهي رؤية تتعلق بقارة غارت في المياه تُدعى الأطلنطيد، غمرها المحيط الذي يحمل اسمها، أي المحيط الأطلسي.
هذه القارة الافتراضية، الذي تتألف إذن من أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، تقع عليها مهمة قيادة الإنسانية، والعمل على نشر الحضارة فيها.
يستكمل الإستراتيجيون الأميركيون بلورة الفكرة الأطلسية وهم يتوجهون راهناً في علاقاتهم المستجدة، مع الصين إلى استهداف المحيط الآخر الذي يفصل الولايات المتحدة عن آسيا، أي المحيط الهادئ.
هذا وتبقى مسألة انبعاث القوة البرية بالنسبة للأطلسيين المعاصرين في انتظار ما ستؤول إليه أوضاع الاتحاد الروسي، أو الصين، أو دول أخرى؛ وإمكانية خروج العالم المعولم من الهيمنة الأميركية التي صنعتها قدرة القوى البحرية وعصبها العسكري المتمثل ‪"بـ"المارينز‪"، هذه التسمية المشبعة بالدلالات البحرية.
أما خارج إطار هذه الدول، فإن القوة البرية التي وجدت نفسها في مواجهة الولايات المتحدة لم تكن عملياً سوى القوة البرية بامتياز التي تمثلها صحوة الإسلام السياسي. هذا الإسلام الممتد على حزام متواصل من أرض القارتين الأكبر آسيا وأفريقيا، حيث تعمل قوى المارينز البحرية على زرع "الفوضى الخلاقة" في العديد من دول هذا الحزام القاري تمهيداً لنشر الحرية والديمقراطية فيه وفق الرؤية الأميركية الأطلسية بما يبدو وكأنه عملية استئناف للصراع بين البر والبحر.
على أن التجربة في العراق وأفغانستان وباكستان ودول أخرى، تُظهر أن الفوضى المستوردة إلى هذه الدول لم تحوِ، أقله حتى الآن، على عنصر "الخلق" المزعوم. وفي هذا السياق تشير الدلائل أيضاً إلى أنه إذا وصلت الضغوط الأميركية الأطلسية المتمادية على سوريا إلى إسقاط نظامها فإن الفوضى التي ستحلّ فيها ستجمع عناصر الفوضى الموزعة على جانبيها، فوضى العراق وفوضى لبنان.

بقلم معين حداد (أستاذ الجغرافيا في الجامعة اللبنانية)  النهار 8 حزيران 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق