الجمعة، 24 يونيو 2011

إيريك فروم - حب الحياة معاصرة فكر فروم (1)

لا يمكن أن نصف بسهولة ما يميز مؤلفات فروم. فقد كان له اهتمام واسع بحقول معرفية مختلفة، وكان عدد قرائه جد كبير، لأنه لم يعود المتلقي على لغة أكاديمية معقدة ونظرية، بل على نصوص حيوية سهلة القراءة. المهم بالنسبة له كان هو ما يحس به مباشرة وما يمكن التعبير عنه بكلمات بسيطة وما يمكن نقله للآخرين إذا كان مهما بالفعل بالنسبة لهم. واللحظة المهمة في طريقة كتابته كانت تلك التي يحس فيها بأن المواضيع المدروسة مهمة بالنسبة له، وأنه بإمكانه أن ينشغل بها. وقد كانت تربطه بالمواضيع التي كان يكتب عنها علاقة خاصة. يعني أن موضوعية الدراسات التي كان يكتبها كانت لها علاقة ذاتية شخصية به كإنسان. فقد كان عليه أن يمتحن ما كان ذاتيا بالنسبة له ليتيقن مما إذا لم تكن له أهمية بالنسبة للوجود الإنساني. لم يكتب فروم شيئا آخرا خارجا عما عاشه وما عايشه. وإذا حاول المرء أن يبحث عن نصوص نظرية محضة فإنه لن يجد شيئا من هذا القبيل عنده. فالمعيش والفكر كانا عنده شيئا واحدا، يعني متطابقان. وقد كان نقطة انطلاقه دائما ما كان يعيشه في لحظة معينة من حياته. وهذا بالضبط، في نظري، هو ما يميز الأعمال العلمية لفروم. وعلى الرغم من أن أعماله هذه قد أغنت الحقل العلمي، فإنه كان أقرب إلى الفنانين والأدباء المبدعين منه إلى بعض الباحثين الأكاديميين.
سأحاول أن أستعرض حياة فروم في عجالة لأمر إلى شيء آخر: ولد وتربى كابن وحيد في عائلة يهودية أورثدوكسية في مدينة فرانكفورت الألمانية. وعلى الرغم من أنه تخلى، في منتصف العشرينات من القرن الماضي، عن الدين اليهودي، فإنه لم يتخل عن بحثه عن الطريق الصحيح Halacha، الذي رافقه طوال حياته. وأثناء دراسته للسوسيولوجيا التقى بالتحليل النفسي الفرويدي. وقد أصبح معروفا في أوساط هذا الأخير بعد قرانه، سنة 1926، بالمحللة النفسية المعروفة فريدا رايخمان Frida Reichmann. وأهم شيء بالنسبة له لم يكن هو دراسة اللاوعي الفردي فقط، لكن كذلك اللاوعي المجتمعي، الذي يساهم في بلورة طريقة تفكير وإحساس وسلوك معينة عند أناس ينتمون إلى طبقة اقتصادية واجتماعية واحدة، والذي يساهم في قهرهم بسبب إدماجهم في هذا المحيط الاقتصادي والاجتماعي.

وقد أصبح فروم في بداية الثلاثينات من القرن الماضي من المفكرين المهمين بالنسبة لمعهد الأبحاث الاجتماعية، أي ما سمي فيما بعد مدرسة فرانكفورت، وقد ظل به من سنة 1930 إلى سنة 1939. وعند إنهاء دراسته في برلين للتحليل النفسي سنة 1930، وفتحه لعيادته الخاصة، وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه نشاطه المهني في معهد الأبحاث الاجتماعية، سقط فروم مريضا ضحية سل رئوي، فرض عليه البقاء ثلاثة سنوات تقريبا في المستشفى. وفي سنة 1934، بعد شفائه، وبعدما وصل هيتلر إلى الحكم في ألمانيا، غادر هذه الأخيرة في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية.

استقر فروم ما بين 1934 و1950 بنيويورك. وقد أصبح معروفا، بعد نشره لكتابه الأول: الخوف من الحرية Die Furcht vor der Freiheit سنة 1941، كمحلل نفسي للمجتمع. وقد فرض عليه مرض زوجته الثانية الرحيل إلى المكسيك، حيث عاش إلى سنة 1974، باستثناء خمسة شهور في السنة التي كان يقضيها بالولايات المتحدة الأمريكية كمدرس في جامعات مختلفة وفي معهد التحليل النفسي بنيويورك. وبعد وفاة زوجته الثانية، تزوج فروم للمرة الثالثة بأمريكية عاش معها إلى أن مات سنة 1980. وقد دفعه حبه لها والتجربة التي منحها له هذا الحب إلى تأليف الكتاب الذي قرأته الملايين في أمريكا: فن الحب Die kunst des Liebens سنة 1955.
ما لا يعرفه الكثيرون هو أن فروم كان ملتزما سياسيا، وخاصة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، ذلك أنه ساهم في تأسيس حركة السلم الأمريكية، ووقف ضد التهديد بالسلاح النووي، وأثر على السياسة الأمريكية بدراساته التحليل نفسية للمشاغل السياسية الأمريكية، والتزامه باشتراكية إنسانية، ووقوفه ضد حرب الفيتنام، وقد كان بالفعل أشهر المحللين النفسانيين الأمريكيين، حيث أن المحاضرات التي كان يلقيها كان يحضرها كل مرة أكثر من ألفين (2000) مهتم.

وفي سنة 1966 أصيب فروم بورم في قلبه، أدى به ليس فقط إلى التزام الفراش، بل وأيضا إلى بداية دراسة جديدة. وقد كانت إشكالية الهدم الإنساني هي الإشكالية الأساسية التي كانت تشغله آنذاك. فقد اهتدى فروم إلى أهمية الحب بالنسبة للكائن الإنساني الحي، أي ما سماه بـBiophilie، الذي يمكن ترجمته بمحبة الحياة. لكن هذه الأخيرة تندثر شيئا فشيئا في عالم أصبح الرقم فيه علامة على التقدم. وقد حاول في كتابه: التحكم في الحياة Meistern des Lebens الوصول إلى حلول تساعد الإنسان المعاصر للخروج من هذه الوضعية الحرجة التي يوجد فيها. وقد كان الجواب الذي كان يبحث عنه هو الامتلاك أو الوجود، وقد اختار هذا الأخير، وهو اختيار نجده كذلك عند مايستر إكهارت وعند ماركس.

الاعتناء بالوجود إذن، وتوجيه كل الاهتمام إلى الخصائص الروحية والجسدية والنفسية للإنسان هو جواب فروم. وقد كان يمارس هذا الجواب يوميا في تجاربه وفي تحليل أحلامه. وبعد رجوعه النهائي إلى أوروبا نشر آخر مؤلف له الامتلاك أو الوجود Haben oder Sein سنة 1976. وقد أصيب للمرة الثانية (1977) والمرة الثالثة (1978) بمشاكل في القلب، وتوفي خمسة أيام قبل وصوله إلى الثمانين يوم 18 مارس 1980 بسبب سكتة قلبية.

وقبل الحديث عن معاصرة فكر فروم، صلب موضوعنا هذا، فإنني أريد أن أذكر ولو في عجالة بالعمود الفقري لطريقة تفكيره، وما كان يهمه بالأساس في نشاطه الفكري.

1- الأساسي في فكر فروم: التحليل النفسي للمجتمع:

منذ بداية دراسته وخاصة بداية اهتمامه بالتحليل النفسي حاول فروم أن يفهم دوافع سلوكات الناس، التي تؤدي بهم إلى أن يفكروا ويسلكوا ويشعروا بطريقة واحدة. هذه الأخيرة التي تحجب عنهم إمكانيات إنسانية أخرى. وقد سمي فروم الدافع الجوهري الذي يؤدي بالناس إلى التفكير والشعور والسلوك بالطريقة نفسها بالخاصية المجتمعية الموجهة، وسمى دوافع وإمكانيات الوجود الإنساني المختبئة فيها باللاوعي المجتمعي.

على العكس من فرويد، الذي يرى مصدر معاناة الإنسان نابعة من غرائز بيولوجية، فإن فروم ينطلق في تحليله النفسي للمجتمع من بديهية مفادها أن الطاقة النفسية، التي توجه سلوكنا توجيها خاصا، لا تتأثر بالغرائز، بل بمتطلبات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. فمضمون تجلي بنيتنا النفسية، أي ما نريد أن نحققه عن طريق كل تجلي سلوكي، هو بالنسبة لفروم نتيجة صيرورة تقمصنا للمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية. إننا نحب أن نتبع وبوَبَهٍ ما يجب أن يساهم في النشاط الاقتصادي والاجتماعي للأنظمة. والمجتمع هنا لا يؤثر فقط، بل إنه يطبع ويحدد النفس الإنسانية.

إن الإنسان الذي يريد أن يظهر بمظهر الناجح مجتمعيا يتحاشى أن يظهر نقط ضعفه، ويعترف بأخطائه، وبمظهر الصعوبات التي تواجهه. فكل مثل هذه التجارب السلبية لا تليق بإنسان من هذا القبيل. فالناجح لا يجب عليه إخفاء معاشه السلبي عن الآخرين فقط، بل عليه كذلك ألا يشعر بها. إنه يتمرن على التفكير الإيجابي، ويبدأ في إخفاء كل مناطق الضعف في معيشه، وكل إخفاقاته، ليبعدها من وعيه. أكثر من هذا، فإنه يجب على من يريد أن يصبح ناجحا بالفعل أن "يكون دائما جيدا"، وأن يكون له إحساس جيد، وأن يتجنب معاشرة الناس غير الناجحين. ومن أجل الانتماء إلى الناجحين، فإن معاش الضعف يقصى أو يكبت أو ينفى.

لا أحد إذن يمكنه أن يناقش كون هذا النوع من الإنسان الناجح يوجد اليوم، هذا الإنسان الذي يؤثر أكثر في فكر وشعور وسلوك الكثير من الناس. وهذا بالضبط ما يدفع إلى اتخاذ هذا النوع من التطور المجتمعي موضوعا للدراسة من طرف التحليل النفسي. وتظهر الملاحظة بأن هذا النوع من البشر يصبح أكثر فأكثر منتشرا، يعني أن الكثيرين يحاولون بكل قواهم أن يصبحوا مثل هذا النموذج. أن يكون الإنسان ناجحا، وأن يخفي كل ما هو ضعيف فيه وينفيه، هو ليس فقط تجليا تقليعيا موسميا، لكنه ظاهرة قائمة بذاتها، تنتشر أكثر فأكثر بكثافة، وتحاول الوصول إلى كل ميادين الحياة، وتؤثر كذلك في الأماكن التي لا يكون فيه النجاح مهما، كما هو الحال في المرض أو عند فقدان شخص عزيز.

سأحاول فيما يأتي عرض ستة اكتشافات لفروم، والتي أعتقد أنها ما تزال مهمة حاليا كذلك.

2- اكتشافات فروم وأهميتها في الوقت الحاضر:

أ- اقتصاد السوق Marketing كمبدأ بنيوي جديد:

لم يسبق في كل حقب التاريخ الإنساني أن احتل اقتصاد السوق الأهمية التي يحتلها وقتنا الراهن. فلم يعد اقتصاد السوق أداة لتلبية الطلب فحسب، بل أصبح فلسفة للاقتصاد، بل وأكثر من هذا فإنه بالنسبة للكثيرين يعني الحياة بأكملها. كل المجهودات توجه إلى نقطة واحدة، تحاول أن تجيب عن سؤال ما إذا كان بالإمكان "تسويق" شيء ما. وينطبق هذا بالدرجة الأولى على المنتوجات الصناعية. فلا يطور المنتوج إلا من أجل تصريفه وتسويقه. وإذا نجح في إيجاد سوق لهذا المنتوج فإنه ينتج بكميات كبيرة، دون مراعاة قيمة الأهمية في استعماله من طرف الإنسان.

تتحكم تجارة السوق في السياسة كذلك، التي أصبحت اليوم تهتم فقط بما قد "يعجب" الناخب، من أجل تحسين صورتها عنده. لا يهم أي نوع من السياسة تمارس، لكن المهم هو كيف تقدم هذه السياسة. ولم يعد للثقافة أي ارتباط كبير بالجمال أو بالفن، بل إنها تقيس نفسها بالنظر إلى ما تجنيه من الربح، يعني بكيفية بيع منتوجاتها، وحتى عندما يتعلق الأمر بنا نحن أنفسنا، فإن الأمر لم يعد يتعلق بشخصيتنا، بل بما نقدمه ونعرضه عن هذه الشخصية.

لا يراعي اقتصاد السوق ضائقة يد الآخرين، لأن المهم هو الربح المادي والنجاح المرافق له. وحتى الخدمات الاجتماعية أصبحت موجهة بنفس الطريقة. الطبيب الناجح هو ذاك الذي يربح أكثر. والمعارف العلمية نفسها يجب أن تكون ناجحة، والنجاح يتمظهر في كمية المنشورات، وفي الموقع الذي يحتله المرء على اللائحة.

لم يكن الأمر على هذا الشكل قبل خمسين سنة. لقد كانت الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية محددة بالحق في "السلطة"، وبالضبط "السلطة" كرأسمال علمي أو انتماء طبقي، أو امتلاك الحقيقة، أو تأهيل متخصص، إلخ. لقد أظهر فروم في الثلاثينات من القرن العشرين، بمساعدة مبدأ "التوجيه السلطوي"، أن الحق في السلطة هو الذي وجه في الماضي كل ميادين الحياة الإنسانية. وقد أعربت حركة 68، كحركة احتجاج، على رفضها لهذه السلطة، وبهذا فإنها شكلت شرطا أساسيا لاقتصاد السوق.

إن مبدأ توجيه السوق لفروم، والذي طوره في الأربعينات من القرن الماضي (وخاصة في كتابه التحليل النفسي والأخلاق، المنشور سنة 1947) يساعد على فهم الكثير من "خاصيات الوقت". فإذا كان الكل اليوم يتحدث عن وجوب الاندماج، والمرونة، والحركة، أو عندما يتحدث المرء عن وجوب امتلاك أنا Ego قوي وعن وجوب امتلاك شخصانية خاصة، وعندما يتحدث المرء عن وجوب البقاء هادئا وعاطفيا عوض امتلاك شعور قوي، فإن هذا يعبر عن امتلاك كل خاصيات الإنسان المعاصر، لأن كل ذلك يتضمن الشروط الضرورية لنجاح اقتصاد السوق، ولأن هذا السوق قد أصبح أهم مبدأ في أغلبية ميادين الحياة.

من وجهة نظر سيكولوجية، فإن مبدأ توجيه السوق يعني أن الوجود الخاص لإنسان ما، أي إمكانياته ومهاراته الفعلية وحاجيات ومشاعره وأفكاره، ليس مهما، بل المهم هو ما يمكن تسويقه، ما يعجب، ما هو معلب بطريقة ذكية. إن الأمر لا يتعلق إذن بالوجود الخاص والمضمون الفعلي لهذا الوجود، بل بما يمكن للمرء أن يظهره ويبيعه من هذا الوجود. ما يساعد المرء على نجاحه هو ليس ما هو معطى فيه وكامن فيه، بل ما يمكن إنتاجه وإظهاره، وبهذا فإن توجيه السوق يؤدي نظريا إلى نزع كل قيمة عن الوجود الخاص للإنسان وعن تجاربه الشخصية.

وتحاول النفس الإنسانية التعويض بطرق مختلفة عن هذا الفقر في الوجود الذاتي وفي التجارب الشخصية. وقد أوضح فروم بعض التعويضات الممارسة في الغالب. ومن بين التعويضات الممارسة حاليا هناك تكثيف الاهتمام بالامتلاك عوض الوجود. وسنوضح فيما سيأتي هذا الاكتشاف الفرومي المهم.

ب- الامتلاك عوض الوجود:

إذا كان المرء قد ساء فهم البديل الذي قدمه الامتلاك والوجود عند نشره سنة 1976، واعتقد أنه يطالب بالتخلي عن الامتلاك، فإن فهمه الصحيح قد بدأ مع تقوية خسارة الوجود من طرف توجيه السوق. وتعاش هذه الخسارة من طرف الكثير من الناس اليوم بالشعور بفراغ Leere داخلي، وبطلب دائم لاقتناء شيء ما، أو بالشعور بخواء Langweile لا يعرف المرء ما يجب عليه عمله، أو بعدم الرغبة في عمل أي شيء دون مؤثر خارجي، أو بنوبات خوف من الضياع، طالما لا يستطيع المرء التعويض عن هذا الشعور بالضياع.
وكيفما كان الإحساس بفقر الوجود، فإن التعويض المقدم حاليا هو عدم إمكانية إنتاج شيء ما. فالتوجيه الامتلاكي لا يعني تعويض الخيرات غير المادية بخيرات مادية. على العكس من هذا فإن الامتلاك يتأسس اليوم أكثر فأكثر على خيرات غير مادية كالإبداع، الصحة، النشاط، الحيوية، العفوية، القوة الخلاقة، إلخ. إن التوجيه الامتلاكي يعني دائما التأسيس التعويضي للوجود الخاص عن طريق امتلاك قيم وقناعات ومعارف وحقوق وجمال، أو عن طريق امتلاك شخصية ذاتية. ومنطق هذا الامتلاك هو أن ما هو مهم ليس هو ما يمكننا أن نخرجه من خيراتنا، لكن ما ندعه فينا. ولهذا السبب فإن التوجيه الامتلاكي يعد أهم من التوجيه الوجودي. فالرغبة في الامتلاك تأخذ مكان الرغبة في الوجود.

ج- إعطاء الأولوية للواقع المصطنع:

للاكتشاف الثالث لفروم علاقة مباشرة مع تعويض الوجود عن طريق التوجيه للامتلاك. إن الرغبة في الامتلاك لا تقتصر فقط على البضائع والعلاقات والقيم، إلخ، إنها تتعدى كل هذا لتصل إلى معاش للواقع من نوع آخر. لقد تعودنا منذ قرون عديدة على الرغبة في معيشة الواقع بطريقة نفهمها بها طبقا لقوانينها ونحاول أن نطبقها آخذين بعين الاعتبار القوانين الجاري بها العمل. والواقع أن هذا قد اندثر حاليا، فما يهم وما يلفت الأنظار هو صنع الواقع، وإعطاء الأسبقية للواقع المصطنع.

إن الاعتراف بالواقع والبحث عنه أو بناء حقيقة مصطنعة كانت موجودة منذ القدم، وخير دليل على ذلك هو صنع الحقيقة الخيالية في اللاهوت في عصور الحكم المطلق للكنيسة. لكن ما هو مغاير هو أن إمكانية خلق واقع وهمي قد أصبحت في الوقت الحاضر أكبر مما كانت عليه في القديم، وبالخصوص بمساعدة التقنيات الإلكترونية الحديثة في مجتمع اللهو الصناعي. إن مجتمع اللهو الصناعي، مجتمع المعاشات الخاصة، مجتمع التواصل -كيفما كانت تسمية هذه المفاهيم التقليعية- تراهن قبل كل شيء على صنع الواقع. إن العوامل المصطنعة مثل بلاد الديزني Disneyland والآنسة سايغون Miss Saigon أكثر إثارة من اكتشاف الطبيعة أو ربط علاقة مع صديق أو صديقة، والخبر المقدم لي هو أوثق من الخبر الذي أحكيه أنا، ويشعر المرء بالأمان أكثر في العوالم المصطنعة منه بين حيطان منزله. والاهتمام المكثف بالمخدرات والمنتوجات المهلوسة تشرح من بين ما تشرح به بتفصيل الواقع المصنوع من طرف المرء نفسه عن الواقع الفعلي(2).

وراء التفضيل المكثف للواقع المصطنع، وخاصة تفضيل عالم الخيال، توجد هناك ضرورة عدم التمكن أو عدم الرغبة في أخذ الواقع بعين الاعتبار. وهي ضرورة صعبة، محبطة، مليئة بالآلام، مليئة بالرسوب وهدامة. فهناك القليل من الناس ممن يستطيع التوفيق بين كفتي تجاذبيهم Ambivalenzen وإحباطاتهم، وقبول كوننا ناجحين وفاشلين، وأن الحقيقة المحيطة بنا جميلة وخطيرة، وأن الناس الآخرين يساهمون في سعادتنا وفي تعاستنا، إلخ. إن الحفاظ على توازن تجاذب الحقيقة وعلى توازن حياتنا الخاصة هو علامة على الرشد النفسي.

إذا استمر أكثر الناس في الوقت الحاضر في تفضيل الواقع المصطنع على التجاذب الواقعي، فإن هذا سيقود إلى إضعاف ملحوظ لما يسمى وظيفة الأنا، ومن ثم إلى نقص نفسي كبير. ومن الوظائف الأساسية للأنا هناك على سبيل المثال التحكم في الواقع يعني تلك القدرة التي تمكننا من التمييز بين ما هو معطى بالفعل وما نتمناه. وإذا تعطلت قدرة التحكم في الواقع نهائيا، فإنه سوف لن يكون من الممكن التمييز بين ما هو معطى وما هو متخيل، وبالتالي سيحس المرء بالمخاطر تحيط به، أو سيصبح مقودا من طرف الدوافع التي لا تطابق الواقع، وسيعيش "عفويا". والحقيقة هي أن متمنياته ومتطلباته العفوية لا تعبر على عفويته، بل إنها تعبر على عدم تمكنه من قياس متمنياته طبقا لما يتطلبه الواقع.

والوظيفة الأساسية الأخرى للأنا هي إمكانية تأجيل تحقيق الرغبات. ومن يوجد في عالم الحقائق المصطنعة يمكنه أن يحصل في الحين على كل شيء ضعافا. وما يمكن لتفضيل الواقع المصطنع تقديمه هو ألا يعيش المرء الإحباط. والقدرة على الإحساس بالإحباط هو شرط ضروري للعيش في المجتمع، وبالتالي فإنه وظيفة لا يمكن الاستغناء عنها للأنا.

إن الحقيقة النفسية تقول إنه كلما تحكمنا إيجابيا في تجاذب تجاربنا في الواقع، كلما كان بإمكاننا الاعتماد على وجودنا الذاتي للعيش والوقوف على أرجلنا. ومن بإمكانه العيش من خلال قدراته الذاتية، فإنه يعيش أناه باستقرار (بقوة الأنا)، ويسلك طبقا لمتطلبات الواقع (طبقا لمعنى الواقع)، وبإمكانه أن يتحمل إحباطاته (تقبل الإحباط). وقبول نهاية الحياة (القدرة على الإحساس بالألم).

وقد انتبه فروم في كتابه الأول الخوف من الحرية، المنشور سنة 1941، إلى أن الناس الذين يعانون من ضعف أناهم، يعوضون هذا الفقر بخلق وإنتاج "حقائق مزيفة". وقد أعطى آنذاك مثالا عن هذا بتجربة التنويم المغناطيسي، وتحدث عن التفكير المزيف، والإحساس المزيف، والرغبة المزيفة، والسلوك المزيف. ويمكن للمرء أن يقول إن الواقع الذي يقدمه لنا الإشهار ووسائل الاتصال اليوم يقود إلى تنويم مغناطيسي جماعي، يكون من الصعب معه التمييز في طريقة تفكير الأغلبية بين منتوج التنويم المغناطيسي للجماهير وبين نتائج معرفة الواقع الفعلي.

والنتيجة هو أن ما بعد الحداثة قد وضعت مسألة البحث عن الحقيقة في قمطر الخيال والقديم. وقد تحدث فروم في السبعينات من القرن الماضي عن الإنسان "المصنع"، وعن الإنسان الذي تحكمه قوى غريبة، واستطاع أن يتعرف "على علاقة بين كيفية عمل الإنسان المصنع والصيرورات الانفصامية" في كتابه تحليل الإنساني، المنشور سنة 1973. وبهذا تحدث فروم عن "المجتمع المريض نفسيا"، فالشخص الفصامي لا يعمل شيئا آخر غير عيش عالمه الخيالي عوض عالمه الواقعي. وبفضل الوضع المتمثل في كون الواقع الخيالي المصنوع هو اليوم واقع جماعي، يعيشه ناس كثيرون، فإن الكثيرين لا يعتبرون أنفسهم حمقى، وبهذا فإنهم ليسوا انفصاميين بالمعنى العلاجي للكلمة. إن معاناتهم الناتجة عن علاقة مرضية مع الواقع هي "علم أمراض الحالة السوية".

د- الخيال النرجسي الجماعي الكبير وتحريم الضعف:

إن أحد الاكتشافات الفرومية التي لازالت لها أهمية كبيرة هي اكتشافه لمبدأ النرجسية، يعني تلك المعرفة التي تحاول أن تعوض الإنسان عن حرمانه وضعفه بالتخيل. وإذا طبق هذا المبدأ على مجموعات مجتمعية ما، فإنه يتضح على أن هذه المجموعات بوجه الخصوص تميل في غالب الأحيان عن طريق نرجسية جماعية التعويض عن نواقصها.

إن اكتشاف أهمية هذه النرجسية الجماعية في بداية الستينات قد أصبحت له أهمية قصوى في الوقت الحاضر، بحيث إن الكثير من الناس يعيشون فراغا داخليا، واكتئابا، خواء كبيرا. فإذا لم يعوض الضعف في الوجود بخلق واقع أقل تصنعا وأقل إيلاما، فإن ذلك يقود في غالب الأحيان إلى التعويض بمساعدة الخيال. إن المرء لا يخلق جنة وواقعا يمكن التحكم فيه، بل ذاتا كبيرة تنسى الفقر في التجارب الوجودية الذاتية.

إن هذا التعويض النرجسي لا يقود فقط إلى تضخيم الذات، والاعتقاد في كمالها ونجاحها، بل يقود إلى اعتبار الآخرين، أو يكون في حاجة إلى الآخرين، ليسقط عليهم إخفاقه الخاص، وأخطاءه وقاذوراته وعدم كمال وجوده. إن الإنسان النرجسي هو ذاك الذي يرمي بضعف وجوده الذاتي في المجتمع الذي يعيش فيه، لكي يحاربه في هذا المجتمع. وقسمة المعاشات المتجاذبة الذاتية إلى شطرين تحدث من جهة من جراء بناء حائط "غير مرئي" حول الذات، يقي هذه الأخيرة من كل نقد، ومن جهة أخرى عن طريق نقد المكان حيث أسقط نواقصه، لكل يبقي هذا المكان بعيدا عنه.

إن الاقتراب من الآخرين وربط علاقات معهم لم يعد له وجود في النرجسية التعويضية، لكنه يعاش كخطر، اللهم إذا كان الآخر أو الآخرون يقتسمون تضخيم الذات، ويطالبون بهذا التضخيم، ويعكسونه ويكملونه. فلا يقبل الآخرون إلا كمحبين وعاشقين أو العكس لتضخيم الذات. وطالما قاموا بهذه الوظيفة وساهموا في الشرف الكبير لتضخيم الذات، فإن التقرب منهم يكون مسموحا به. وإذا أصبحوا نقادا، وملطخي العش، يفكرون باعتمادهم على قدراتهم، بشرا يشعرون ويحسون، فإنهم يقصون إلى الخلاء.

وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن المساهمة الكبيرة التي لم تنفذ إلى حد الآن، التي خلفها فروم، تتمثل في أنه طبق في كتابه في النفس الإنسانية، المنشور سنة 1964، هذه الديناميكية النرجسية على المجتمع، وطبقا لذلك، فإنه من الممكن أن نفهم مثلا لماذا يصبح الذين يشعرون بالخسارة في تدبير السوق، كالشباب الذي لا يرى أي مستقبل أمامه، مدفوعين إلى العنف وإلى كراهية الأجانب. فبمساعدة المبدأ القومي للنرجسية الجماعية يمكن فهم لماذا تقوت الحركات القومية والعنصرية والراديكالية، ولماذا نعيش بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحائط الحديدي في أوروبا شكلا جديدا للعنصرية. فبمساعدة العدوانية والشعارات العنصرية والقومية يمكن للناس الذين وصلوا إلى الشعور بأية قيمة، أن يشعرون بأنهم مهمون وأن لهم قيمة، من طبيعة الحال على حساب الذين يكرهون والذين يقصون.

ونجد هذا الإعلاء النرجسي للذات وتحقير الغير في الميدان الاجتماعي الميكروسكوبي المتمثل في العائلة: فالسعادة الزوجية لا توجد في الغالب إلا بعكس كل العدوانيات في المحيط الخبيث الذي يحيط بالزوجين، فتوازن الحياة يتأسس على عكس كل قيمة على من لا ينتمي إلى هذه العائلة، والتعاضد في المجموعات التي تطالب بالبدائل تحتاج إلى الشركات الكبرى للكيمياء بنفس الطريقة التي يحتاج بها الناجحون اقتصاديا وسياسيا إلى إقصاء كل من إنتاجه ضعيف، لكي يتمكنوا من نسيان إحباطاتهم.

هـ- جاذبية اللاحياة وعدم الحركة:

إلى جانب التوجه طبقا للسوق، اكتشف فروم في الستينات من القرن الماضي دافعا أساسيا له أهمية كبيرة جدا في الوقت الحالي: حب اللاحياة وعدم الحركة. وسيبقى هذا الاكتشاف الخامس الفرومي مهما جدا حاضرا.

وككل التعويضات التي رأينا إلى حد الساعة، فإن الأمر يتعلق هنا كذلك بضعف في الوجود الخاص وفي المعاشات الشخصية. فمن لا يعيش اعتمادا على طاقته الوجودية الداخلية وعلى غناه الذاتي، فإنه يشعر داخليا بالفراغ ويكون في حاجة إلى مؤثرات خارجية لكي يعيش. والمخرج المفضل في غالب الأحيان للخروج من هذا المأزق هو التماثل مع فراغ الحياة، والاهتمام بكل ما ليس له معنى ولا حياة.

وقد تردد فروم لمدة طويلة، إلى أن نشر كتابيه في النفس الإنسانية، 1964 وتحليل الهدم الإنساني، 1973، قبل أن يعلن عن اكتشافه لشيء جديد سماه مبدأ Nekrophilie الآتي من الكلمة اللاتينية (Nekros، التي تعني الجثة الميتة)، والذي اعتبره الدافع الأساسي في المجتمعات المصنعة. ومفاد مبدأ "النيكروفيلية" هذا هو تفضيل كل ما ليس فيه حياة وكل ما هو ميت عن ما هو حي. ويتمظهر هذا المبدأ بقوة عند الجماعات العنيفة كالأحرار والهوليغانز واليمين المتطرف والإرهابيين والراديكاليين أو الذين هم ضد الإجهاض. فقد أصبح الهدم بالنسبة لمثل هذه الجماعات هدفا في حد ذاته، إنهم يمارسون العنف دون سبب، يعني فقط من أجل العنف. ويمكن اعتبار الكثير من أعمال العنف "والتي لها علاقة مع كره الأجنبي، أو ما نلاحظه في مباريات كرة القدم، أو عند عبدة القوى الظلامية، والانتحارات الجماعية" كتعويض عن الفراغ الخالص وعن عدم القدرة على حب الحياة. وشعار مبدأ "النيكروفيلية" هو: إذا لم يكن في استطاعتي أن أحب وأن أحيى، فإنني أريد على الأقل أن أتمتع بالهدم.

وكلما تجذرت "النيكروفيلية" في الضعف في الوجود الذاتي والخير الذاتي الحي، فإنه لا يمكن شرحها فقط بتوجيه السوق. إن أسس عنف "النيكروفيلية" تمد بجذورها في القرون التي خلت، ولها علاقة وطيدة بالزمن الذي بدأ فيه المرء يعتبر الرقم والعمليات الحسابية أهم شيء في الحياة، فما يمكن تكميمه وحسابه هي الأشياء أو الصيرورات الحية الضرورية للهدف الذي يريد هذا التكميم الوصول إليه. وقد أصبح حب اللاحياة وكل ما يمكن تكميمه رقميا بمثابة خير عام، يطابق "روح العصر"، يمليه "العقل الإنسان السليم"(3).

إن جاذبية غير المتحرك يؤثر في كل حياتنا الشخصية والاجتماعية. وحتى في الميادين المهمة لوجودنا، ولنقل بالضبط في هذه الميادين المتمثلة في القدرات الإنسانية العقلية والنفسية والتواصلية والحية، فإن ما يكون مهما في التقنية المستعملة هو المهارة، لينتهي الأمر إلى تكميم حسابي وإفراغ الغنى الإنساني الذاتي من محتواه.

إن هذه الأشكال لجاذبية "النيكروفيلية" والفراغ تمثل خطرا على الحياة وعلى الثقافة لا يقل أهمية عن الخطر الذي تمثله حركات العنف النازية الجديدة والحرة. وبالنظر إلى الوقوف بأيدي مكتوفة أمام جاذبية كل ما هو غير حي، وصعوبة فهم هذه الظاهرة لإيجاد منافذ لها، فإن لوجهات نظر فروم المتعلقة بالديناميكية النفسية لـ"النيكروفيلية" أهمية كبيرة جدا في وقتنا هذا.

والسؤال المطروح الآن هو ما هو البديل الذي يقدمه فروم، وهل له جواب على كل ما تقدم، وهل لهذا الجواب أهمية تذكر في وقتنا الحاضر؟ وبهذا السؤال نكون قد وصلنا إلى اكتشافه السادس، والنقطة الأخيرة في عرضنا هذا.

ز- المعرفة وفن الحياة:

حاول فروم على الدوام إيجاد استراتيجيات حلول للتحكم في الأخطاء في التطور الإنساني الذي تعرف عليها. لكن هذا لا يعني من طبيعة الحال بأنه قدم وصفات علاجية أو أوصى بسلوكات معينة قد تقود إلى حلول. فالمقصود بـ"استراتيجيات حلول" هي توجهات وتتبع أهداف وقيم توجيهية للإرادة الإنسانية، قد تعطي للسلوك المعياري الفعلي اتجاها وكيفا معينين. ونورد المثال التالي لندقق ذلك: إذا كان سلوك معين ينحو جهة الامتلاك، فإن فروم يقترح بديلا كحل استراتيجي، أي توجيه هذا السلوك إلى تقوية الوجود والخير الذاتيين. فإذا تمظهر سلوك ما للتعبير عن وجوب تحمل إحباط ما، فإن فروم يقترح أن يواجه المرء هذا الإحباط عوض الهروب إلى عوالم خيالية لتقوية الذات من الداخل. وليس لهذا الأمر أية علاقة بمثال التجاوز، لكنه دعم لتقوية المعاشات الذاتية. وإذا كان هدف سلوك ما مثلا هو الوقوع تحت سيطرة إنسان آخر، فإن فروم يقترح Ungehorsam كحل بديل، لتجنيب المرء السقوط في التبعية من جراء سلوكه. وليس لهذا Ungehorsam أية علاقة بالثورة، بل إنه تعبير عن الاستقلال الذاتي.

لم يتعب فروم من تقويم استراتيجيات حلول. إن معرفته بالبدائل ومهارته في تقديم هذه البدائل هي التي ساهمت في جعل فكره ذا أهمية كبيرة في وقتنا الراهن. إضافة إلى ذلك، فإن فروم قد قضى حياته كلها في محاولة دراسة نفسه لكي يحرر معاشاته الذاتية من الضغط والعكس، لكي يقوي ويوسع وجوده الذاتي. على كل حال فإن ما عبر عنه بغربة وضعف الوجود الذاتي لا يعتبر بالنسبة له نتيجة تحليل المجتمع، لكن في نفس الوقت كقطعة من المعرفة الذاتية. وقد كان يعتبر نفسه كتمظهر للمجتمع، بحيث إنه كان يعتبر التغيير في المجتمع ممكنا ببداية التغيير في الذات بتغيير النواقص في الوجود الذاتي(4).

من هذا المنطلق، وكما سبقت الإشارة، فإن فروم أقرب إلى الأدباء والفنانين، الذين يحسون بمشاكل المجتمع ويعبرون عن ذلك بطريقة خلاقة في أعمالهم. وهذا بالضبط ما يسمى عند فروم استراتيجيات حلول: عيش الحاجة والضعف والإحساس بهذا الأخير والمعاناة منه، والجواب عن هذا عن طريق الخير الداخلي الرابض في كل إنسان بطريقة خلاقة، أو كما يقول فروم بطريقة منتجة produktiv.
وتعني مثل هذه الاستراتيجيات دائما أن القوة والإمكانيات الذاتية للإنسان النفسية والروحية والجسدية لابد أن تحين تماما كما نجد عند الفنان. وهذا ما سماه فروم بفن الحياة. ويتميز هذا الأخير بالتالي:

- القدرة على الاهتمام بالآخر وبوجوده واحترام هذا الوجود الخاص (القدرة على حب الآخر).
- وعن طريق ما سبق، وعلى الرغم من الاهتمام بالآخر، فإنه من الضروري كذلك الاعتماد على النفس، والبقاء مستقلا عن الآخر. وهذا ما سماه بالقدرة على الاستقلال.
- القدرة على بناء وعي ذاتي على الرغم من الأبعاد المختبئة والملتوية للشخصية.
- القدرة على عيش المتناقضات الذاتية كخير ذاتي للوجود الشخصي المعرض للخطأ وغير الكامل (المليء باليقين في الذات، وبالوعي الذاتي، والخوف، والخطأ، والخجل من الذات، والأنانية).

- القدرة على أخذ الواقع كما هو معطى دون تزوير وصور خيالية (امتلاك معنى الواقع، القدرة العقلية).

- القدرة على عيش الواقع بمحاسنه ومساوئه وأحزانه (عيش متناقضات الواقع: قوة الأنا، القدرة على التألم والإحساس بالإحباط وعيش الحياة بفرح وحب).

لقد نوقشت الفلسفة الإنسانية لفروم من طرف الكثيرين. وقد افترق الناس في أمرها إلى فرقتين: فرقة تعتبر هذه الفلسفة خيالية ومثالية، أو تؤطره في خانة المتشائمين نظرا لنقده اللاذع للمجتمع، وفرقة تدافع عن أطروحاته وعن ثقته القاطعة في الحياة وفي الإنسان. يقول فروم في كتابه الإفتتان بالعنف والحب من أجل الحياة: "إن ما هو حي يجذب، ليس لأنه كبير وقوي، لكن لأنه حي". ونلمس هذا الاعتقاد القاطع في الحياة عند الكثيرين اليوم، وهو الذي يشجعهم على المضي قدما في طريق البحث عن فن الحياة. من هنا فإن السبب الرئيسي للاهتمام بفروم حاليا هو طفوح البحث عن فن الحياة على السطح في المجتمعات المعاصرة.

إحالات مرجعية

النصوص التي استشهدت بها تجد مصدرها في الأعمال الكاملة لفروم، المنشورة في 12 جزء من طرفنا بشتوتغارت وميونيخ عن دار الطبع (Deutsche Verlags-Anstalt) و1999(Deutscher Taschenbuch verlag) لم يطرأ أي تغيير على الأجزاء العشرة الأولى المنشورة سنة 1981/1980 من طرفنا عن دار الطبع (Deutscher Taschenbuch verlag)، والتي أعيد نشرها من طرف (Deutsche Verlags-Anstalt) سنة 1989، ما أضيف هنا هما الجزء 11 والجزء 12.
هنا بعض مؤلفات فروم، مما اعتمدنا عليه في نصنا الحالي، وكما هي منشورة في أعماله الكاملة:
الخوف من الحرية 1941 a : Die Furcht vor der Freikeit, GA !, S.215-392
- 1947 a : Psychoanalyse und Ethik/ Bausteine zu einer humanistischen Charakterologie, GA II, S.1-157. التحليل النفسي والأخلاق

- 1956a : Die kunst des Liebens. GA IX, S.469-518.. فن الحب

- 1964 a : Die Seele des Menschen. Ihre Fنhigkeit zum guten und sum Bِsen. GA II, S.159-268. النفس الإنسانية

- 1967 e : Die Faszination der Gewalt und die Liebe zum Leben : GA XI, S.339-348. الإفتتان بالعنف والحب من أجل الحياة

- 1973 a : Anatomie der menschlichen Destruktivitنt (The Anatomy of Human Destructiveness). GA VII, تحليل الهدم الإنساني

- 1976 a : Haben oder Sein. Die seelischen Grundlagen einer neuen Geselschaft. GA II, S.269-414. الإمتلاك أو الوجود

الهوامش

(1) محاضرة ألقاها د. راينر فونك Rainer Funk آخر تلميذ ومساعد فروم بقاعة المحاضرات التابعة للإذاعة النمساوية يوم 9 مارس 2000، بمناسبة مئوية فروم ومرور 20 سنة على وفاته. لأهمية هذه المحاضرة فقد نقلتها الإذاعة النمساوية على أمواجها مرتين: 18 مارس 2000 ويوم 23 مارس 2000. وفونك هو رئيس الجمعية العالمية لفروم، ومحافظ أرشيفها، محلل نفسي وفيلسوف ألماني بمدينة توبينغن، التي لا تبعد عن شتوتغارت)، المترجم.
(2) لا نناقش كون هذا التطور هو خطر على التفكير العلمي الرصين كذلك. ولعل الوقت قد حان في العلوم الإنسانية من أجل الحد من اعتبار كل ما هو علمي في هذه العلوم هو فقط ما يعبر عنه بالرقم، لكي يلتصق المرء بالواقع أكثر. وهذا الأخير هو "الإنسان" الذي لا يمكن تقنينه في رقم، لأن الأشياء وحدها هي التي يمكن أن ترقم. والإنسان من طبيعة الحال ليس شيئا.
(3) هناك سببان لهذا التطور: يكمن السبب الأول في كون الحساب والتكميم قد أصبحا كل شيء بالنسبة لعلوم الطبيعة والتقنية في هذا العصر. وقد أدى هذا إلى اعتبار العلم، ويصح هذا كذلك في العلوم الإنسانية، قد أصبح يعني التكميم. فما لا يمكن تكميمه وقياسه من طرف شخص ثالث محايد لن يكون علميا ولا ذا قيمة تذكر. فهناك جحافل من السيكولوجيين والسوسيولوجيين ممن يطورون مناهج للتكميم، للقياس وللحساب للوصول إلى ما يسمى "الموضوعية" المعرفية. ومن طبيعة الحال فإن ذلك لا يمكن أن يقوم إلا إذا اعتبر الإنسان كشيء وكموضوع. أما السبب الثاني فيكمن في الإعجاب بإمكانية التقنية والآلة القيام بمهام بعينها. وقد فقد الإنسان إمكانياته وقوته الذاتية باكتساب الآلات هذه الأهمية الكبيرة. ونعتقد بقوة أن الآلات بإمكانها أن تؤدي وظيفتها أحسن من الإنسان. إنها (أي الآلات) تعمل بدقة وباجتهاد ودون وسخ ودون تعب ودون مناقشة ودون أن تسقط مريضة نفسيا أو جسديا ودون حاجة لتشجيع أو ثناء. ونعتقد كذلك أن هذه الآلات باستطاعتها أن تخلق الحركة والقوة لتنشيط الواقع. فالطاقة في شكل بخار، كهرباء، غاز طبيعي، فحم، بترول، وطاقة نووية بإمكانها أن "تحيي" أشياء ميتة كالسيارات والطائرات والحاسوبات. ولهذا فإننا نفضل أن نحل المشاكل التي بإمكاننا أن نحلها بالاعتماد على آلات عوض المؤهلات الإنسانية.
(4) يميز هذا فروم عن باقي الباحثين والناقدين المجتمعيين الذين يحاولون أن يشرحوا النواقص فقط بموضوعها المعرفي، وضمان علمية هذه المعارف بإقصاء العوامل والنواقص الذاتية.

* ) راينر فونك Reiner Funk مدارات فلسفية العدد 5 - ترجمة: د. حميد لشهب

الجمعية الفلسفية المغربية- جميع الحقوق محفوظة - 2008

0 تعليقات::

إرسال تعليق