الثلاثاء، 7 يونيو 2011

هكذا تحدثت تحية عبد الناصر لأول مرة: المذكرات الشخصية لزوجة قائد الثورة بخط يدها

هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (1) لأول مرة: المذكرات الشخصية لزوجة قائد الثورة بخط يدها


صورة

تنشر «السفير» ابتداء من اليوم، باتفاق خاص مع صحيفة «الشروق» المصرية ذات الحق الحصري، مذكرات زوجة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، السيدة تحية كاظم، التي دونتها الراحلة بخط يدها.. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ النشر العربي التي تظهر فيها زوجة عبد الناصر شاهدة على الأحداث التي مرت بها مصر منذ حرب فلسطين 1948 وحتى رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970.
وتأتي المذكرات مزيجا من السيرة الذاتية والعائلية، غير أنها وهي تسرد محطات حياتها مع الزعيم الراحل تكشف الغطاء، بعفوية مفرطة، عن مواقف وأحداث سياسية لا تزال محاطة بغلالة من الغموض، بحيث تضيف جديدا ومفاجئا أحيانا لما استقر في الذاكرة المصرية والعربية من أحداث اكتسبت صبغة اليقين أو الحقيقة التاريخية.

هذه المذكرات، مثلا، تقدم رواية أخرى، مختلفة وجديدة تماما، للمشهد الأخير في حياة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتضفي على القصة دراما تاريخية مذهلة تتعلق بقصة المشروب الأخير الذي تناوله ومن الذي صنعه ومن قدمه له وهو على فراش الموت.
ومن أطرف ما في المذكرات ذلك اللقب الذي أطلقه الزعيم الراحل على زوجته «تحية الانفصالية» توصيفا لمواقف وقناعات أبدتها الراحلة حول قضية الوحدة المصرية السورية.
لكن من أهم ما بين السطور، أنها تقدم قراءة عن كثب لتفاصيل العلاقة الإنسانية بين جمال عبد الناصر وأنور السادات، تحكيها زوجة زعيم الثورة، وتكشف عن مفاجآت تخص علاقة السادات بثورة يوليو 1952، والأسباب التي دفعت عبد الناصر لوضعه في الصفوف الأولى.
حاولت تحية عبد الناصر كتابة مذكراتها مرتين، الأولى في حياته، والثانية بعيد رحيله، لكنها لم تقو على المواصلة فمزقت ما خطت يداها، حتى كانت الثالثة في الذكرى الثالثة لرحيل «الرئيس» كما كانت تسميه، فكتبت وواصلت.. وهكذا تحدثت السيدة تحية..
تحية جمال عبد الناصر بعد الرحيل:
اليوم 24 سبتمبر سنة 1973.. بعد أربعة أيام ستكون الذكرى الثالثة لرحيل القائد الخالد جمال عبد الناصر..
زوجي الحبيب. لم تمر علي دقائق إلا وأنا حزينة.. وهو أمام عيني في كل لحظة عشتها معه.. صوته، صورته المشرقة، إنسانياته، كفاحه، جهاده، كلامه، أقواله، خطبه.. مع الذكريات أبكيه بالدموع أو أختنق بالبكاء،
وحتى إذا ضحكت فشعوري بأني مختنقة بالبكاء مستمر لقد عشت مع جمال عبد الناصر ثماني سنوات قبل الثورة، وثمانية عشر عاما بعد قيامها في 23 يوليو سنة 1952. لقد تزوجنا في 29 يونيو سنة 1944، أي عشت معه ستة وعشرين عاما وثلاثة أشهر، فبالنسبة لي، الآن أعيش مرحلة ما بعد رحيله.
لقد عشت معه مرحلتين: قبل الثورة وبعدها، والمرحلة الثالثة وهي التي أعيشها بعد رحيله ولم يرها.
آه ما أصعبها.. يا لها من مرحلة قاسية من كل الوجوه، فراقه وافتقادي له.. لم أفتقد أي شيء إلا هو، ولم تهزني الثمانية عشرة عاما إلا أنه زوجي الحبيب، أي لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية.
لقد عشت هذه السنين الطويلة قبل رحيل الرئيس (لقد اعتدت أن أقول الرئيس لأني أشعر أني لا أستطيع أن أقول غير الرئيس) - وسأظل أقولها.. كانت مليئة بالمفاجآت، بل كانت كلها مفاجآت وأحداثا، لكنها بالنسبة لي لم تكن صعبة، بل كنت سعيدة مرحة. وفي أصعب المآزق التي كنت أشاهدها، كنت أحيانا أضحك من المصيبة التي ربما تحل بي، لكنها الحمد لله كلها مرت على خير.
لقد فكرت في الكتابة عن حياتي مع جمال عبد الناصر في أول مرة، وكان في سوريا أيام الوحدة في سنة 1959، وأمضيت ما يقرب من ثلاث سنوات أكتب باستمرار عما مضى وعن الحاضر، لكني ذات يوم قلت: لم أكتب؟ وكان الرئيس يعلم إني أكتب مرحبا. غيرت رأيي وقلت في نفسي: لا أريد أن أكتب شيئا، وتخلصت مما كتبت، وأخبرت الرئيس، فتأسف وقال لي: لم فعلت ذلك ؟ فقلت له: إني سعيدة كما أنا ولا أريد أن أكتب شيئا، وقلت: ربما تكلمت عن حقائق تحرج بعض الناس، وتكون متصلة بحقائق كنت أراها تدور أمامي، فقال لي: افعلي ما يريحك. إنني كتبت عما أذكره من مواقف ومفاجآت مما كان يحصل في بيتنا، وما كنت أسمعه وأشاهده بعيني، وما كان يقوله لي الرئيس. وقررت أن لا أكتب أبدا، وقلت له: أنا ما لي.. وضحكنا.
في العام الماضي، قررت أن أكتب وأنا أعلم جيدا أن الرئيس كان آسفا، لأني لم أستمر في الكتابة.
وتخلصت مما كتبت، فأنا أعيش الآن كأنه موجود بجانبي لا أتصرف أو أفعل شيئا كان لا يحبه، ولو كنت أعلم أنه لا يريدني أن أكتب شيئا ما فعلت.
ابتدأت أكتب وأعيش مع ذكرياتي، لكني لم أتحمل فكنت أنفعل والدموع تنهمر، وصحتي لم تتحمل، فوضعت القلم وقلت سأتوقف عن الكتابة، ولأبقَ حتى أرقد بجانبه.. وتخلصت مما كتبت مرة ثانية.
لكني وجدت أن لي رغبة في الكتابة في ذكراه الثالثة.. فلأتحمل كل ما يحصل لي.
بما إني أتكلم الآن عن المرحلة الثالثة، أي بعد رحيل الرئيس فلأتحدث: فأنا أعيش في منشية البكري.. بيت الرئيس جمال عبد الناصر مع أصغر أبنائي عبد الحكيم - الطالب بكلية الهندسة جامعة القاهرة - ويبلغ من العمر الآن ثمانية عشر عاما وثمانية أشهر، وهو الذي طلب مني أن أكتب، وألح في أنه متشوق لمعرفة كل شيء عن والده العظيم. وكان حكيم قد طلب من المسؤولين شرائط خطب والده ليسمعها ،لأنه لم يكن عنده فرصة لسماع كل أقوال القائد الخالد بصوته، إذ كان طفلا، وبعضها قبل أن يولد.. إنه هو الذي يسعى بنفسه إلى الحصول عليها، فقد طلب أولا من رئيس الوزراء وهو صديق لنجله فوعده، وطلب من رئيس الجمهورية وقابله بنفسه ووعده، وسألني أن أشتري الشرائط لتسجلها الإذاعة، فقلت له: إني على استعداد لأن أدفع أي ثمن. وأخيرا قابلت وزير الثقافة صدفة فسألته عن الشرائط، فقال لي: لم يطلب مني أحد، ووعدني بأنه سينظر في الأمر.. أرجو أن تصل ابني عبد الحكيم الشرائط قريبا إن شاء الله.
بعد رحيل الرئيس ألاقي تكريما معنويا كبيرا من كل المواطنين الأعزاء، فجمال عبد الناصر في قلوبهم، وما يصلني من البرقيات والرسائل والشعر والنثر والكتب الكثيرة من أبناء مصر الأعزاء، ومن جميع الدول العربية والغربية أي من كل العالم، وما يصلني من البرقيات لدعوتي للسفر لزيارتهم من رؤساء الدول الصديقة، وبتكرار الدعوة أو زيارتهم لي عند حضور أحد منهم، أو إرسال مندوبين عنهم من الوزراء ليبلغوني الدعوة، لدليل التقدير والوفاء. وعندما أخرج أرى عيون الناس حولي.. منهم من يلوح لي بيده تحية، ومنهم من ينظر إلي بحزن، وأرى الوفاء والتقدير في نظراتهم.. كم أنا شاكرة لهم. وأحيانا أكون في السيارة والدموع في عيني فتمر عربة بجانبي يحييني من فيها.. أشعر بامتنان. وغالبا ما أكون قد مررت على جامع جمال عبد الناصر بمنشية البكري. إني أرى هذه التحية لجمال عبد الناصر.. وكل ما ألاقيه من تقدير فهو له.

جمال يتقدم لتحية

صورة

فلأتكلم الآن عن ذكريات من حياتي مع جمال عبد الناصر.. كيف عرفني وتزوجني؟
كانت عائلتي على صداقة قديمة مع عائلته، وكان يحضر مع عمه وزوجته التي كانت صديقة لوالدتي، ويقابل شقيقي الثاني، وأحيانا كان يراني ويسلم علي. فعندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطباني، وكان وقتها برتبة يوزباشي، فقال أخي ـ وكان بعد وفاة أبي يعد نفسه ولي أمري ـ إن شقيقتي التي تكبرني لم تتزوج بعد. وكان هذا رأي جمال أيضا، وقال: إنه لا يريد أن يتزوج إلا بعد زواج شقيقتي.. إن شاء الله يتم الزواج، وبعد حوالي سنة تزوجت شقيقتي. بعدها لم يوافق أخي على زواجي.. لقد كانت تقاليد العائلة في نظري أن لي الحق في رفض من لا أريده، ولكن ليس لي الحق في أن أتزوج من أريده، وكنت في قرارة نفسي أريد أن أتزوج اليوزباشي جمال عبد الناصر.
بعد شهور قليلة توفيت والدتي، فأصبحت أعيش مع أخي وحيدة، إذ كان أخي الثاني في الخارج.
كان أخي يتولى إدارة ما تركه أبي الذي كان على جانب من الثراء، وكان أخي مثقفا إذ كان من متخرجي كلية التجارة، أي يحمل بكالوريوس، ويشتغل في التجارة والأعمــال المالية والصفقات في البورصة، وكان شديدا في البيت، محافظا لأقصى حد، لكنه في الخارج كانت له حياته الخاصة.
مكثت مع أخي بضعة شهور وأنا وحيدة تزورني شقيقاتي من وقت لآخر، وفي يوم زارتنا شقيقتي وقالت: إن عم اليوزباشي جمال عبد الناصر وزوجته زاراها وسألا عني، وقالا لها: إن جمال يريد الزواج من تحية، وطلبا أن تبلغ أخي.. فرحب أخي وقال: إننا أصدقاء قدماء وأكثر من أقارب، وحدد ميعادا لمقابلتهم، وكان يوم 14 يناير سنة 1944.
قابلت جمال مع أخي، وتم تحديد الخطوبة ولبس الدبل والمهر وكل مقدمات الزواج بعد أسبوع، وطبعا كان الحديث بعد أن جلست في الصالون فترة وخرجت.
وفى يوم 21 يناير سنة 1944 أقام أخي حفلة عشاء.. دعونا أقاربي، وحضر والده وطبعا عمه وزوجته، وألبسني الدبلة وقال لي إن كتب التاريخ يوم 14 يناير.. وكان يقصد أول يوم أتى لزيارتي، ثم أضاف انه عندما زارنا لم يحضر لرؤيتي هل أعجبه أم لا ـ كما كانت العادة في ذلك الوقت ـ هذا ما فهمته من كلامه معي. قال له أخي: إن عقد القران يكون يوم الزفاف بعد إعداد المسكن، على أن يحضر مرة في الأسبوع بحضور شقيقتي أكبرنا، أو بحضوره هو، وطبعا كان وجود أخي في البيت قليلا، فكانت شقيقتي تحِضر قبل وصوله. وقبل جمال كل ما أملاه عليه أخي، وقد أبدى رغبة في الخروج معي طبعا بصحبة شقيقتي وزوجها فلم يمانع أخي.
لاحظت أنه لا يحب الخروج لنذهب لمكان مجرد قعدة أو نتمشى في مكان، بل كان يفضل السينما وأحيانا المسرح.. وكان الريحاني، وكنت لم أر إلا القليل، فكل شيء كان بالنسبة لي جديدا.. أي لا يضيع وقتا هباء بدون عمل شيء ، وكل الخروج كان بالتاكسي، والمكان الذي نذهب إليه السينما أو المسرح يكون «بنوار» أو «لوج»، وكنا نتناول العشاء في بيتنا بعد رجوعنا .
بعد خمسة أشهر ونصف، تم زفافي لليوزباشي جمال عبد الناصر.. يوم 29 يونيو سنة 1944. أقام لي أخي حفلة زفاف.. بعد عقد القران مباشرة خرجت مع جمال للذهاب للمصور «أرمان»، وكان قد حجز موعدا من قبل، كانت أول مرة أخرج معه من دون شقيقتي وزوجها. ملأنا عربة بأكاليل الورد لتظهر في الصورة، وقد نشرت بعد رحيله في السجل الخاص بصور جمال عبد الناصر الذي قدمه «الأهرام».
رجعنا البيت لنقضي السهرة، وفي الساعة الواحدة صباحا انصرف المدعوون وانتهى حفل الزفاف، وكنا جالسين في الصالون ـ هو وأنا ـ فدخل شقيقي ونظر في ساعته وقال: الساعة الآن الواحدة فلتبقوا ساعة أخرى أي حتى الساعة الثانية، ولم يكن هناك أحد حتى أقاربي راحوا، وكان باديا عليه التأثر فقال له جمال: سنبقى معك حتى تقول لنا روحوا. وفي الساعة الثانية صباحا قام أخي وبكى، وسلم على وقبلني وقال: فلتذهبا.. أما أنا فانحدرت من عيني دمعة صغيرة تأثر لها جمال. وأذكر في مرة وكنا جالسين على السفرة وقت الغداء وكل أولادنا موجودون، وجاءت ذكرى أخي، فقال الرئيس لأولاده وهو يضحك: الوحيد في العالم الذي أملى علي شروطا وقبلتها هو عبد الحميد كاظم.. وضحكنا كلنا.

إلى منزل الزوجية

صورة

لم أكن رأيت المسكن من قبل ولا الفرش أو «الجهاز» كما يسمونه، وكان في الدور الثالث. صعدنا السلالم حتى الدور الثاني ثم حملني حتى الدور الثالث.. مسكننا، وكان طابقا بأكمله، وله ثلاثة أبواب.. باب على اليمين وباب على اليسار وباب على الصالة. الأول يوصل لحجرة السفرة، والثاني لحجرة الجلوس، والثالث.. وهو باب الصالة في الوسط. وجدنا البيت كله مضاءا وهو مكون من خمس غرف. أمسك جمال بيدي وأدخلني كل حجرات المنزل لأتفرج عليه، وقد أعجبني كل شيء وأنا في غاية السعادة. صرفت في تأسيس المنزل مما ورثته من أبي.. وكان لا يقارن بثراء أخي.
بدأت حياتي بسعادة مع زوجي الحبيب وكنا نعيش ببساطة بمرتب جمال، وتركت أخي وثراءه ولم أفتقد أي شيء حتى التلفون.. لم أشعر أن هناك شيئا ناقصا ونسيته.
أول مرة خرجت كان بعد ثلاثة أيام من زواجنا.. ذهبنا للمصور أرمان لنرى بروفة الصور، وكانتا اثنتين قال لي جمال: اختاري التي تعجبك.. واخترت الصورة التي هي معلقة في صالون المنزل في منشية البكري مع صور أولادنا الآن.

جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق 2011 - السفير 17/1/2011


هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (2)

زمـلاء جمـال عبـد الناصـر الغامضـون


صورة

أول من دخل بيت جمال عبد الناصر بعد زواجه كان زميله عبد الحكيم عامر، كان ذلك بعد العودة من إجازة زوجية قصيرة بالإسكندرية، غير أن السيدة تحية عبد الناصر لم تره إلا في وقت متأخر لأن الزعيم كان لا يحب الاختلاط.. والشخص الثاني الذي عرفته من زملاء و أصدقاء جمال كان الضابط زكريا محيي الدين الذي عرفته أيضا من صوته.
وفي هذه الحلقة تسلط تحية الأضواء على الجوانب الإنسانية في شخصية زوجها، لكنها تكشف أكثر عن الزيارات الغامضة التي يقوم بها زملاؤه للبيت من دون أن يروا بعضهم بعضا.
كان ذلك مع بداية التحضير لامتحان القبول في كلية أركان حرب..
كنا في إجازة طويلة إذ كان جمال يشغل منصب مدرس في الكلية الحربية.. قال لي إنه سيبدأ المذاكرة في أول تشرين الثاني/ نوفمبر ليحضر لامتحان القبول في كلية أركان حرب. مكثنا أسبوعين في القاهرة.. كنا كأي زوجين نخرج ونستقبل الزوار.. أغلبهم من الأقارب يحضرون للتهنئة، ولاحظت أنه يفضل السينما.. وأنا أيضا أفضلها. بعد أسبوعين سافرنا إلى الإسكندرية ومكثنا هناك أسبوعين.
كانت الإسكندرية في ذلك الوقت مليئة بالانكليز إذ لم تكن الحرب قد انتهت بعد.. فكانت الأماكن مزدحمة والشوارع تكاد تكون مظلمة بسبب الحرب والغارات، وأذكر مرة وكنا نمشي على الكورنيش وكان مظلما وأنا خائفة وأنا أرى الانكليز يمشون بكثرة.. فكان يضحك ويقول: كيف تخافين؟

رجعنا للقاهرة وكنا ما زلنا في الإجازة نخرج سويا، وزرنا شقيقاتي. وكانت شقيقتي التي تزوجت قبلي في المستشفى حيث وضعت طفلة (ليلى).. بعد عشرين عاما حضر الرئيس والمشير حفلة زواجها، وكانا شاهدي عقد القران.
كانت زياراتي لأخواتي قليلة جدا وهن يسكن الجيزة، ولم يكن سكن أخي بعيدا مثل الجيزة لكن وجوده في البيت كان قليلا. لم يزرنا أحد من أصدقائه الضباط وقال: إنه أخبرهم بأنه سوف لن يتصل بأحد منهم طول مدة الإجازة، فكل وقته كان يقضيه معي، والصديق الذي ذكر اسمه أمامي، وقال إنه كان معه في منقباد هو عبد الحكيم عامر، وقال: إنه الآن في بلده المنيا مع زوجته يقضي الإجازة، وقد أخبره أيضا أن لا يتصل به أو يزوره إلا بعد انتهاء الإجازة.
انتهت الإجازة وابتدأت زيارات الضباط.. وحضر عبد الحكيم عامر من المنيا وزار جمال في البيت.
كان جمال لا يحب الاختلاط.. بمعنى أن الضباط والأصدقاء يحضرون ومعهم زوجاتهم وأجلس معهم، بل كان إذا حضر أحد ومعه زوجته يقابله بمفرده ويصافحه ثم يصطحب الزوجة إلى الصالة ويدخل في الحجرة ويقول: توجد سيدة في الصالة فلتسلمي عليها وتجلسي معها حتى تنتهي زيارة زوجها. وكنت غالبا لا أسلم على الضيف إذ كان يخرج من باب الصالون وتخرج زوجته وينصرفان.. فإذا أراد جمال أن أزورها يقول لي أن أذهب لزيارتها بمفردي.. فطبعا إذا زارتني السيدة مرة أخرى تزورني بمفردها، ولا يتكرر حضور الضيف مع زوجته.
اليوزباشي جمال عبد الناصر مدرس في الكلية الحربية وله نوبتشية.. أي يبيت مرة في الأسبوع في الكلية، وأحيانا مرة في أكثر من أسبوع حسب نوبات المدرسين. عند ذهابه للكلية في الصباح أحيانا يخرج مبكرا جدا لدرجة أنه كان يستعمل بطارية صغيرة عند نزوله السلالم ويضعها في جيبه، ورغم أنه يوجد في السلالم إضاءة إلا أنه كان يستعمل البطارية، وكان يطلب مني أن لا أقوم ولا أجهز شيئا وبإلحاح لدرجة أني كنت أشعر أني إذا قمت سأضايقه.. ويقول: سوف أتناول إفطاري في الكلية، وأحيانا يخرج متأخرا يعني قبل الثامنة بقليل، فالكلية قريبة من منزلنا.
كان منظما في كل شيء، ولا يحب أن يساعده أحد في لبسه، وكان عند رجوعه إلى البيت يخلع البدلة ويعلقها بنفسه على الشماعة ويضعها في الدولاب، ودائما في حجرة النوم، الشماعة التي هي قطعة من موبيليا الحجرة، ولا زالت موجودة في حجرته، وهي مصممة بحيث يسهل وضع الملابس عليها، وكنت أبدي رغبتي في مساعدته لكنه كان لا يقبل.
ابتدأ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر.. وبالتحديد في أول يوم منه، وبدأ جمال في المذاكرة.. يرجع من الكلية الساعة الواحدة بعد الظهر، أو بعدها بقليل، ونتناول الغداء في الواحدة والنصف، وأيام يرجع للكلية بعد الظهر، وأيام يظل في البيت حسب نظام التدريس. نظم وقت المذاكرة.. يبتدئ الساعة الثالثة بعد الظهر حتى المغرب أو بعده بقليل، ثم يحضر زوار.. وأغلبهم من الضباط، يقابلهم ويجلس معهم ولا يحضرون كلهم مع بعض.. يعني واحد يجيء وواحد يذهب، وأحيانا يكونون اثنين أو ثلاثة سويا، ثم بعد ذلك إما أن يبقى في البيت أو يخرج.. إما بمفرده أو مع زائر أو اثنين. وابتدأت أميز الأصوات، وعرفت صوت عبد الحكيم عامر إذ كانت له طريقة في كلامه وضحكه.. ثم يرجع البيت إما مبكرا أو متأخرا لكن لا يتأخر كثيرا.
كانت المذاكرة في حجرة السفرة.. يضع «الدوسيهات» والمراجع والأوراق وخرامة الأوراق، إذ كان يعد «الدوسيه» الذي سيذاكر فيه بنظام وترتيب. ولاحظت أنه يكتب كثيرا في مذاكرته، ويتناول العشاء معي إذا كان في البيت ولم يخرج أو خرج ورجع مبكرا. وعندما يقترب موعد الامتحان، كان يظل يذاكر حتى الصباح، ويتناول عشاءه ساندويتش أثناء المذاكرة.
قال لي: إن دخول كلية أركان حرب ليس بالسهل، وأصعب شيء فيها هو دخولها إذ العلوم كلها باللغة الانكليزية والمدرسون إنكليز، وكل سنة يتقدم عدد كبير من الضباط ولا ينجح إلا عدد قليل إذ كان الامتحان على مرتين.. يعني تصفية. أول امتحان ينجح عدد ثم الثاني ينجح منهم عدد ويرسب عدد، وعلى ذلك فلا يدخل كلية أركان حرب كل سنة إلا عدد قليل، وأول امتحان كان في شهر أيار/ مايو يعني بعد ستة أشهر.
كان يتردد عليه الضباط أحيانا وهو يذاكر، فكنت أراه يسمع خبطة الباب فيفتح الباب من حجرة السفرة، وأراه يدخل الصالة ثم يدخل الصالون ويُدْخِل الضيف من باب الصالون الذي على السلالم، ثم يحضر ضيف آخر يخبط الباب، فألاحظ أنه يخرج إلى الصالة ويدخل حجرة السفرة، ويُدْخِل الضيف الآخر حجرة السفرة من بابها، ويمكث مع أحد الضيفين فترة حتى يذهب، وغالبا لا يمكث كثيرا، ثم يذهب للضيف الآخر، أي لا يجمع بين الاثنين، ثم بعد ذلك يرجع للمذاكرة.
كان بعض الضباط يحضرون ويمكثون في حجرة السفرة معه وهو يذاكر، وهم يذاكرون معه أحيانا.
وكان يجهز الدوسيهات الخاصة بكلية أركان حرب من المراجع الكبيرة الكثيرة التي كان أغلبها باللغة الانكليزية. وكنت أسمع خرامة الأوراق وهي «تتكتك « لترتيب الدوسيهات، وإذا سمعت حديثا - وبعضهم يكون صوته عاليا - يكون كله عن العلوم، وأكثرهم مذاكرة معه صديقه عبد الحكيم عامر.
كان يخرج معي يوما في الأسبوع وغالبا إلى السينما، وكان الموسم قد ابتدأ بالأفلام الجديدة في سينما مترو، ريفولي إلى آخره... فكان يحجز التذاكر من قبل ليختار المكان الذي يفضله، ويطلب أن أكون جاهزة للخروج في وقت يحدده لي، وذلك بدون أن أطلب منه الخروج معه، بل هو نفسه الذي رتب يوما للخروج معي. استمر الحال على ذلك حتى شهر أيار/ مايو، ودخل الامتحان ونجح وكان ترتيبه الرابع، وهو كما قال لي امتحان تصفية.

يكره نظام المراسلة

ابتدأت أشعر بحمل فاصطحبني إلى دكتور مشهور فقال لي: إنه يجب أن يتابعني مدة الحمل، فكان جمال يذهب معي كل شهر حسب تعليماته. لم يكن عندنا مراسلة أي العسكري الذي يكون مع الضابط في منزله، إذ كان جمال يكره نظام المراسلة ويقول: إنه نظام خاص بالضابط فقط، لكن البعض - وهم الأغلبية - يعاملونهم كخدم للأسرة وأكثر، لأنه لا يملك أن يشتكي أو يتظلم إذا ثقل عليه الشغل أو عومل بقسوة أو أن يترك المنزل ويبحث عن شغلة أخرى، وكنت على رأيه، كما كان يعتبر أن في الطريقة هذه امتهانا لكرامة الجندي وعزته.
كنت أقوم بتجهيز البدلة الرسمية بنفسي.. النجوم والأزرار أعطيها للشغالة تلمعها، وأنا أركبها في البدلة، إذ كانت في ذلك الوقت تركب بدبل نحاسية. وأذكر أنه مرة كان يزورني قبل الزفاف وكان يرتدي البدلة العسكرية.. فسألته عن النجوم التي على الأكتاف وكيف هي معلقة.. فأدار الجزء الملحق بكتف البدلة وأراني فوجدتها دبلا نحاسية تعلق من ثقوب صغيرة بالنجمة التي بها زردية صغيرة وقال: ها هي.. وطبعا ضحكنا.
سافرت الشغالة لبلدها في الريف، وكان لا بد أن يكون أحد في المنزل، فأحضر جمال مراسلة وقال لي: إنه خاص به يقوم بلوازمه ويشتري لنا ما يلزمنا فقط. فكنت أنفذ رغبات جمال بدقة وأنا سعيدة ومقتنعة بكل شيء يقوله. وكان المجندون في ذلك الوقت من أسر فقيرة أو أولاد الفلاحين المعدمين الذين يشتغلون في أراضي الملاك الأغنياء، ولم يستطيعوا أن يدفعوا عشرين جنيها «البدلية».
استمر جمال في المذاكرة لدخول الامتحان في ديسمبر والضباط وغير الضباط يحضرون واحدا بعد الآخر أو اثنين، وأحيانا يجتمع عدد كبير يملأ الصالون ويمكثون وقتا طويلا، وعند حضورهم لا يحضرون في وقت واحد ولا ينصرفون في نفس الوقت أيضا. وهذه الاجتماعات كانت على فترات أكثر من أسبوع، فكان في الأيام الأخيرة قبل الامتحان يذاكر حتى الصباح، وكان عدد من الضباط يحضرون ويدخلون حجرة السفرة، وأكثرهم مذاكرة معه عبد الحكيم عامر، وفى مرة أحضر معه زوجته لتبقى معي وهو يذاكر مع جمال.
وفي الأيام الأخيرة قبل الامتحان حضر ضابط اسمه زكريا محيي الدين.. كان يدخل لجمال وهو يذاكر في حجرة السفرة، وكنت أسمعه وهو يدقق في فهم العلوم ويكرر، وقد ميزت صوته أيضا من تدقيقه في الفهم وترديده الجملة، وقال لي جمال عنه إن والده يملك عزبة وإنه لم يتزوج بعد، وكان يحضر بعربته الخاصة الجديدة.
امتحن المتقدمون لدخول كلية أركان حرب ونجح عدد قليل بالنسبة للمتقدمين، لا أذكر عددهم بالضبط لكنه لم يكن أكثر من ثلاثين.. نجح جمال وعبد الحكيم وزكريا.

مولد هدى

كنت في آخر أيام الحمل.. وعندما شعرت بأعراض الوضع وكان الوقت ليلا ذهبت مع جمال إلى مستشفى الدكتور المشهور الذي كان يباشر حالتي، وظل في المستشفى من دون أن يخبر أحدا من أخواتي حتى الثامنة صباحا وقت مولد هدى ابنتنا في 12 كانون الثاني/ يناير سنة 1946. وبعد أن هنأني قال: سأخبر شقيقتك بالتلفون ثم أذهب للبيت لأنام.
دخل جمال كلية أركان حرب ومدة الدراسة سنتان.. قلت ساعات المذاكرة وازداد حضور الضيوف.. يجيئون في أي وقت بعد رجوعه من الكلية قبل الغداء وبعد الغداء وأثناء تناوله الغداء. وكان يدخلهم الصالون ويترك السفرة ويقول لي: فلتكملي غداءك وسآكل بعد ذلك، فكنت أنتهي من تناول الغداء وبعد خروج الضيف - وغالبا لا يمكث إلا وقتاً قصيراً - أسأله في تناول الغداء ولا يأكل إلا القليل، لكنه أبدا ما أكل مرة ثانية.
كان يدخل حجرة النوم ليستريح بعد الغداء لكنه قلما كان يبقى في السرير أكثر من دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة على الأكثر.. ويخبط الباب ويدخل زائر الصالون فيقوم ويقابل الضيف، وبعد انصرافه يرجع إلى الحجرة ثم يحضر ضيف آخر وهكذا. أحيانا يخرج بعد تناوله الغداء مباشرة ثم يرجع إلى البيت، ويحضر ضيف ثم يخرج مرة ثانية إما مع الضيف أو بمفرده بعد انصراف الضيف.
للآن لم ألاحظ أي شيء غير عادي أو سري. وكنت أرى مسدسات يحضرها معه وأضعها بنفسي في الدولاب، إذ كنت أراها شيئا عاديا وهو ضابط.
في ليلة قال لي ـ وكانت الساعة العاشرة مساء ـ إنه سيخرج ويرجع عند الفجر، «وعندما أخبط على الباب تفتحين لي»، وقال: سأخبط ثلاث خبطات هكذا.. وخبط بطريقة معينة وحفظتها، وقال: حتى تصحي من النوم وتفتحي الباب. وقال إنه سيحضر اجتماعا يتحدثون فيه، فكنت أنام وأفتح باب الحجرة حتى أسمعه عند حضوره.. وأعرف خبطته على الباب وأميزها ولا أخطئها. وطبعا تكرر خروجه ورجوعه في هذا الوقت مرات عدة. كنت سعيدة ولم يضايقني أي شيء.. وأرى في عينيه الحب والإعزاز، وكان يداعب هدى كثيرا ويحملها ويدخلها للضيوف لدقائق.. وأشعر بسعادة وأتمنى أن أعمل كل ما أستطيع في راحته.

جمال الإنسان

سنة 1946.. في آخرها مرض عبد الحميد شقيقي بصدره «درن»، ومكث في البيت راقدا في السرير، وأخي الثاني كان يسكن في بيت آخر بعد رجوعه من الخارج.. يعني كل بمفرده، وكنت في حملي الثاني وكانت زياراتنا له قليلة. وبعد مرضه كان جمال يزوره كثيرا ويجلس معه، وكان يقول لي عند رجوعه إلى البيت بالحرف: «أنا عديت على أخوكي، فكنت أسأله عنه، وطبعا كان يطمئنني ويقول: مكثت معه نتحدث. وعلى عكس أقاربي الذين تقطعت زيارتهم له، وعندما يزورونه يكون ذلك بتحفظ.. يعني من باب الحجرة. وكان جمال يقول: «إزاي واحد يخاف من مريض يعديه بالمرض! أنا عمري ما خفت ولا فكرت في عدوى من مريض، إنه شيء غير أنساني».
دخل أخي المستشفى وأجريت له جراحة في رئته، وعندما خرج من المستشفى وفي اليوم نفسه زاره جمال في المساء وبقي معه حتى الثالثة صباحا - وكنت أوشكت على الوضع وعندما رجع إلى البيت قال لي: «أنا من وقت ما خرجت وأنا جالس مع عبد الحميد إذ وجدت شقيقاتك عنده، وكان تعبانا يتنفس بصعوبة، ووجدت أخواتك يخرجن واحدة بعد الأخرى وأخوك في حالة صعبة فقلت في نفسي: كيف أتركه وهو لا يستطيع التنفس بسهولة.. وشقيقاته ذهبن.. سوف أبقى معه. وكان يطلب مني أن أذهب فقلت له: إني باق معك، وقبل الثالثة صباحا قال لي: أنا الآن أتنفس بسهولة وأشعر براحة، وطلب مني أن أعود إلى البيت. وقال: سأتناول كوب لبن.. فقلت له: سأظل معك حتى تتناوله.. وكان جمال مندهشا من شقيقاتي وكيف أنهن تركنه.
بعد أن تحسنت حالة أخي وخرج من المستشفى زار شقيقاتي وقال لهم: أكثر واحد في الدنيا أحبه وأقدره هو جمال عبد الناصر.. إنه أكبر إنسان قابلته في حياتي وأحبه أكثر منكن.

باتفاق خاص ـ جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق 2011

السفير 22/01/2011



هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (٣)

ليلة القبض على جمال عبد الناصر بعد العودة من فلسطين خضع للتحقيق أمام إبراهيم عبد الهادي وتدخل رئيس الأركان لإطلاق سراحه


صورة

عندما كان جمال عبد الناصر محاصرا في الفالوجة أثناء حرب فلسطين، كانت زوجته وابنتاه هدى ومنى مهددات بالطرد من المنزل الذي استأجره في مصر الجديدة.
وبعد أن عاد جمال من الحرب اقتيد من منزله للتحقيق بمعرفة رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي ولم يتركوه إلا بتدخل جاره رئيس الأركان في ذلك الوقت عثمان باشا المهدي، وكانت التهمة حيازة أسلحة وذخيرة في منزله.
تروي السيدة تحية عبد الناصر في هذه الحلقة يومياتها أثناء غياب الزوج في حرب فلسطين وكيف التقت عبد الحكيم عامر ورأته أول مرة ليسلمها خطاباً من زوجها الذي علمت بالصدفة من الجيران أنه كان أسيراً.

اليوزباشي جمال عبد الناصر في كلية أركان حرب يقضي مدة الدراسة، والوقت شهر أيار/ مايو سنة 1948، قال: سنتخرج من الكلية خلال أيام بعد أن قُدِّمَ موعد التخرج أسبوعًا، والبدلة الرسمية سيكون عليها شارة حمراء.. وهي شارة أركان حرب توضع تحت الشارة العسكرية.. أرجو تجهيزها، فخيطتها بنفسي وكنت في غاية السعادة. وتخرّج من الكلية وأصبح اليوزباشي أركان حرب جمال عبد الناصر.. هنأته بحب وإعزاز.
بعد يومين قال لي: جهزي كل ملابسي لأني سأسافر إلى فلسطين في خلال يومين لمحاربة اليهود.. فكانت مفاجأة لي وبكيت وحزنت جدًّا.. قال: لماذا تبكين؟ فقلت له: كيف لا أبكي؟.. وكنت عندما يخرج أظل أبكي. بعد تجهيز الشنط لمحته يضع أربطة ومعدات إسعافات للجروح وكان يخفيها حتى لا أراها.
بدأت الحرب يوم 15 مايو سنة 1948، وفي يوم 16 مايو الساعة السابعة صباحًا غادر جمال البيت وأنا أبكي، وعندما خرج من الباب، وكان ينزل السلالم مسرعًا وقفت أبكي وأنظر له وهو ينزل السلالم، وكان المراسلة قد سبقه، وعربة جيب منتظرة على الباب.. وحضر أشقاؤه لتوديعه قبل سفره.
كنت مع ابنتي هدى.. (سنتان وخمسة أشهر)، ومنى.. (سنة وأربعة أشهر)، وكانت الشغالة قد سافرت إلى بلدها منذ أسبوعين. وقال لي جمال قبل سفره: يجب أن تكوني حذرة في اختيار الشغالة، والأحسن أن تكون يعرفها أخواتك.
كانت تزورني زوجة أحد الضباط، وكانت قد طلبت زيارتي بعد مولد هدى لتهنئني وهي تسكن قريبة من منزلنا، وزوجها هو حمدي عاشور.. بقي في القاهرة ولم يسافر إلى فلسطين، فكان يرسل لي المراسلة الخاص بهم لشراء ما يلزمني كل يوم.
رجع أشقاؤه إلى الإسكندرية إذ كانوا لا يزالون في الجامعة وفي وقت الامتحانات، وحضر والده لزيارتنا وبقي معي مدة حوالي شهر، وبعد ذلك كان يحضر أحد أشقائه أو اثنان منهم حيث كان وقت الإجازة.
لم يهمني أي شيء.. وكان الذي يشغلني الحرب وأخبار جمال، وكنت أتلهف على استلام خطاب منه وأفرح جدًّا عند استلامي الخطاب، وبعد ما أقرأه أقول في نفسي: من يدري ماذا حصل بعد كتابته الخطاب؟!.. وأقلق من جديد وأجلس وحدي أحيانًا أبكي.
في خطاب بتاريخ 18 مايو:
«أرجو أن تكوني بخير مع الأنجال العزيزات أما أنا فكل شيء يدعو للاطمئنان...».
وفي خطاب بتاريخ 22 مايو سنة 1948:
«أنا في أحسن حال ولا يشغلني سوى راحتكم والاطمئنان عليكم وأرجو أن أراكم قريبا في أحسن حال...».
وفي خطاب بتاريخ 24 مايو سنة 1948:
«أكتب إليك الآن ولا يشغلني أي شيء سوى راحتكم وأرجو أن تكون شقيقتك قد أحضرت لك شغالة.. أوصيك على هدى ومنى والمحافظة الشديدة عليهما...».
وفي خطاب بتاريخ 9 يونية سنة 1948:
«إن شاء الله نجتمع قريبا في أحسن حال بعد النصر بإذن الله...».
طلب مني في خطاب أن أذهب عند أخي وحدد وقتا ليكلمني بالتلفون. ذهبت بمفردي وتركت هدى ومنى مع شقيقه وانتظرته حتى تكلم.. وسأل عن هدى ومنى وطمأنني، وقال إنه سيكلمني في الأسبوع المقبل في الميعاد نفسه.. وذهبت وكلمني وقال لي: سأكلمك كل أسبوع.
ذهبت - كما قال - وانتظرت على التلفون لكنه لم يتكلم.. ثم قال لي في خطاب إنه لم يجد فرصة ليكلمني لأنهم لا يمكثون في مكان، وقال: سأكلمك وحدد موعدا. ذهبت وانتظرت ولم يتكلم أيضًا هذه المرة. وقال في خطاب: لم أكلمك نظرا لانشغالي.
وفي خطاب بتاريخ 23/7/1948 قال:
«وحشني منزلنا جدًّا وإن شاء الله سأحضر قريبا.. وبالمناسبة، في يوم 20 رمضان سأحصل على رتبة صاغ».
وفي خطاب آخر قال لي إنه سيأخذ إجازة لمدة ثلاثة أيام.. كانت فرحتي عظيمة.. حضر وكان قد مضى على سفره ثلاثة أشهر ونصف شهر.
جرح من رصاصة أثناء الحرب
رأيت علامة جرح حديث وخياطة في صدره من الناحية اليسرى، سألته ما هذه؟ فقال: إنها لا شيء.. دي حاجة بسيطة.. وسكت. ثم وجدت في الشنطة قميصًا وفانلة ومنديلا بها دماء غزيرة فنظر وقال: إنه أصيب وهو في عربة حربية، وهذا أثر جرح من رصاصة خبطت أولا في حديد العربة الحربية الأمامي الذي لا يزيد عرضه على بضعة سنتيمترات، مما خفف الإصابة إذ انكسرت منها قطعة دخلت في صدري.. والحمد لله بعيدة عن القلب بمسافة بسيطة، ومكثت في المستشفى أيامًا قليلة.. وأراني القطعة وقال: سأحتفظ بها والملابس المخضبة بالدماء.. حكى لي كل ذلك ببساطة. وضعتها في مكان كما هي، وكان بها خروم مكان دخول القطعة.
مكث جمال ثلاثة أيام زارنا خلالها كل أفراد العائلة، وذهبنا إلى السينما مرة وانتهت الإجازة.. وعند سفره بكيت فقال إنه سيحضر مرة كل شهر. ولقد كان يرسل لي خطابات منتظمة، وبعد شهر حضر في إجازة ثانية، وطبعًا كانت الفرحة العظيمة يوم حضوره، ومكث الأيام الثلاثة ثم رجع لفلسطين.. وكانت الإجازة يوم 14 سبتمبر وانتهت يوم 17 منه.
حصار الفالوجة
رجع عبد الحكيم عامر من فلسطين إلى القاهرة.. وكان قد سافر أيضًا وجرح في يده وأخذ إجازة. ذهبت لزيارة عائلته فقابلني وقال: إن جمال الحمد لله بخير وبصحة جيدة. وكان عبد الحكيم قد رقي أيضًا إلى رتبة يوزباشي وأخبرني أن جمال سيحضر إن شاء الله قريبا في إجازة، وكان عيد الأضحى قد اقترب. وكنت أول مرة أرى فيها عبد الحكيم عامر ويصافحني ويتحدث معي.. حلَّ عيد الأضحى وانتهى ولم يحضر جمال، وكانت الخطابات تصلني إلا أنها أصبحت على فترات أطول مما قبل، ولم يذكر لي ميعاد حضوره في إجازة.. فكنت قلقة أقرأ الجرائد وأسمع الراديو. طلبت من شقيقتي أن تسأل زوجها فأخبرها بأنهم الآن في مكان بعيد مقطوع عنه الاتصال، ولا توجد قطارات تذهب إلى هناك.
قبل سفره أعطاني جمال شيكات لصرف مرتبه من بنك مصر. وفي خطاب بتاريخ 17/10/1948 قال: إني حولت لحسابك بالبنك الأهلي مبلغا... شهريا يمكن استلامه في أول ديسمبر. وأضاف: أرجو أن تكوني مطمئنة ولا تنشغلي إلا بنفسك وهدى ومنى وهذا هو طلبي منك.. وأرجو أن أراكم إن شاء الله قريبا في أحسن حال. وأنا ذاهبة إلى البنك الأهلي قابلتني سيدة جارة لشقيقتي فسلمت عليّ وسألتني: هو زوجك لسه في الأسر؟ هذا ما قالته لي بالحرف.. فذهلت وقلت لها: إنه ليس أسيرًا، إنه في مكان بعيد.. وطبعًا حالتي كانت صعبة جدًّا.
مكثت في البيت وأنا في منتهى الحزن، وكانت جارتي التي تسكن تحت مسكننا ابنة رئيس هيئة أركان حرب الجيش في ذلك الوقت، وهو عثمان باشا المهدي فسألتها عن جمال. وبعد أيام وجدتها تطرق الباب في الصباح، وكنت لا أزال نائمة فقمت وفتحت الباب، ورأيت معها مجلة المصور وقالت: ها هو ذا زوجك الصاغ جمال عبد الناصر في صورة مع عدد من الضباط في الفالوجة.. فعرفت بحصار الفالوجة. كنت من وقت لآخر أطلب من جارتي أن تسأل والدها عن الضباط الموجودين في الفالوجة، فقالت لي إن والدها سيحضر قريبًا، وألحت عليّ في زيارتها وقت حضوره لأطمئن.. فشكرتها، وهي طيبة جدًّا وللآن لا أنساها وأطلب منها زيارتي. كنت لا أزورها إلا قليلا وهي التي كانت تحضر عندي وتقول: لم لا تزورينني وأنت وحدك؟ فكنت أقول لها: إنك مع زوجك وأولادك فلتحضري أنت في الوقت الذي يناسبك. فكانت تسأل عني في أغلب الأيام.. وهي السيدة نادية المهدي. زارتني جارتي في مساء يوم من شهر فبراير سنة 1949 وقالت: اليوم عيد ميلاد ابني فلتحضري ومعك هدى ومنى، وأصرت على أن أنزل عندها وقالت: ليس عندي غير شقيقتي التي تصغرني.. فشكرتها وذهبت ومعي هدى ومنى.
قابلت هناك والدها.. رئيس هيئة أركان حرب الجيش، فطمأنني وقال: إن ضباط الفالوجة بخير، ويرسل لهم أسلحة وذخيرة وتمويناً، وإن شاء الله يحضرون قريبا.
في خطاب بتاريخ 21/11/1948 يقول جمال:
«أرجو ألا تنشغلي إذا تأخرت في المكاتبات فأنا أرسلها حسب الظروف ولكنها لا تكون منتظمة في هذه الفترة على الأقل».
وفي خطاب بتاريخ 23/11/1948 يقول:
«... أرجو أن نلتقي قريبا في أحسن الأحوال. أرجو أن تكوني مطمئنة جدًّا... وأنا أحاول باستمرار أن أكتب لك في أي فرصة وقد كتبت لك ثلاثة خطابات أرجو أن تكون وصلت... وعموما لا تنتظري خطابات منتظمة في هذا الوقت. لم أستلم منك خطابات منذ خمسة وأربعين يوما لصعوبة وصولها ولكن عبد الحكيم يطمئنني عليكم باستمرار».
وفي خطاب بتاريخ 26/11/1948 يقول:
«يمكن أن تصلني أخباركم عن طريق عبد الحكيم.. أقصد أن تكلمي السيدة حرمه أن تبلغه عن أخباركم باستمرار لأنه يتصل بي يوميا... وأما خطاباتكم فلا يمكن أن تصل الآن... وأنا بخير والحمد لله وكل شيء يدعو للاطمئنان».
وفي خطاب بتاريخ 14/1/1949 يقول جمال:
«ما كنت أعتقد أني سأفترق عنكم هذه المدة ولكن الحمد لله.. ويشجعني على ذلك إيمانك العظيم بالله فيجب ألا تقلقي ولا تحزني مطلقا لهذا الغياب. سنلتقي قريبا إن شاء الله سويًّا ونشكره شكرا جزيلا... فأنا بخير وسننسى كل شيء ونبقى سويًّا يا حبيبتي العزيزة إلى الأبد...».
وفي خطاب يقول:
«... أرجو أن تفسحي هدى دائمًا وتأخذيها جنينة الحيوان وجنينة الأسماك.. أرجو أن تكونوا دائمًا في أسعد حال».
زرت أختي في الجيزة، وهي تسكن بجوار جنينة الحيوانات، وأخذت هدى ومنى وذهبنا للحديقة، ولم أذهب إلى جنينة الأسماك لأني كنت لم أرها للآن.. وكانت هدى تتكلم وحفظت اسم طائرين.
مكثت في البيت لا أخرج إلا قليلا أتتبع الأخبار من الصحف والإذاعة، وأدعو الله أن ينتهي الحصار في الفالوجة ويحضر جمال.
شتاء سنة 1949..
كانت جارتي السيدة نادية المهدي ترجوني أن أخرج أو أذهب معها إلى السينما فكنت أرفض، ولم أذهب أبدًا. كما أني لم أتعود أن أخرج مع أية سيدة ولم يكن لي صديقات، بل كانت صلتي بالسيدات محدودة والكل بالنسبة إلي سواء.. وكنت أقضي فراغي في شغل التريكو لهدى ومنى، وابتدأت أشتغل بولوفر لجمال وقلت له في خطاب: إني أشتغل لك «بولوفر» لونه رمادي فاتح.. وهو يفضله في ألوان البولوفر.
وصلني خطاب بتاريخ 20/1/1949 قال:
«... وإن شاء الله أراكم قريبا جدًّا فإن شاء الله سأكون بالقاهرة قبل أول فبراير أو في الأسبوع الأول... وسنبقى سويًّا باستمرار وأظن أن اللحظة التي سألقاكم فيها ستكون أسعد أوقات حياتي... وإن شاء الله يكون البولوفر خلص».. فعرفت أن خطابي وصل إليه، وفرحت جدًّا بقرب حضوره.
هذه أجزاء من بعض خطاباته لي أيام حرب فلسطين محتفظة بها وعددها 46 خطابا.. وكلها بإمضائه الذي لم يتغير.
بعد انتهاء الإجازة الصيفية للطلبة وافتتاح الجامعة لم يعد أحد من إخوته يحضر إلى القاهرة، وجاء عيد الأضحى وكنت منتظرة حضور جمال.. ومضت أيام العيد ولم يحضر ولم يصلني منه خطاب، فكنت في غاية القلق والانشغال عليه، وبالإضافة إلى ذلك بقائي بمفردي مع هدى ومنى. وبعد عدة أيام حضر والده وقال لي: سأبقى معك حتى يحضر جمال، ولن أرجع إلى الإسكندرية أبدًا مهما طال غيابه.. فشكرته لحضوره ورحبت ببقائه معي وشعرت براحة واطمئنان.
كنت أجلس بمفردي في المساء بعد أن تنام هدى ومنى أشتغل التريكو، وأتذكر حديث جمال لي أيام الخطوبة عن سفرياته وتنقلاته في البلاد. وكنت وقتها منتظرة أني سوف لا أعيش في القاهرة باستمرار، وكنت سعيدة بأني سأسافر معه. وكنت أقول في نفسي: أول بلد يسافر إليه يذهب ليحارب؟!.. وهو الآن محاصر في الفالوجة ولا أدري متى ينتهي هذا الحصار. والخطابات تصلني وكلها يشعرني فيها بأنه في أمان وأنه سيحضر قريبًا.. وأفكر أنه ربما يريد أن يعطيني الأمل ليخفف من حزني بعد أن طال غيابه.
في يوم قالت لي جارتي إن صاحبة البيت أبدت لها رغبتها في أن أترك البيت لأنها سوف تبني دورا آخر فوق مسكني، فرددت عليها قائلة: كيف تطلبين منها أن تعزل الآن وزوجها مسافر في الحرب؟! فاقترحت عليها أن أذهب وأعيش مع أخي.. فقلت لجارتي: أخبريها بأني سأترك منزلها عند حضور الصاغ جمال عبد الناصر إن شاء الله قريبًا.
تلفون من العريش
في أول مارس سنة 1949 اتصل جمال بالتلفون وقال إنه موجود في العريش وسيحضر في خلال أسبوع.. وطلب أن أذهب لأخي في الصباح ليكلمني.. فكانت الفرحة العظيمة، وذهبت وكلمني جمال وسألني عن هدى ومنى ووالده وأشقائه وقال: أريد أن أكلم الوالد غدًا.. فذهب معي إلى أخي وكلم جمال وكانت فرحتنا لا تقدر وقال لي: سأكلمك كل يوم في الموعد ذاته، حوالي الثامنة صباحًا حتى أحضر.
وفي يوم 6 مارس سنة 1949 في المساء حضر جمال من الفالوجة.. وكانت الفرحة التي لا أقدر أن أعبر عنها، وكان أشقاؤه قد حضروا من الإسكندرية. وعند وصوله عرف الجيران والناس في المحال القريبة من منزلنا.. والكل كان يعرف الفالوجة والحصار ويريد أن يصافح العائدين منها ويحييهم.. فكانت هيصة أمام البيت.
بعد أن استراح قليلا نهض وقال: سأخلع الملابس الرسمية وألبس البدلة العادية.. لقد أوحشني اللبس العادي، ثم سأل: أين البولوفر الذي اشتغلته لي؟ وكنت قد اشتغلته وجهزته وعلقته في الدولاب فأحضرته له فأعجبه لونه ولبسه.. وكان أول لبس جديد بعد رجوعه.. ثم قال لي: سأخرج ولن أغيب فسأذهب للقشلاق وأرجع بسرعة.
كان قد مضى عليه خمسة أشهر لم يرنا.. هدى ومنى تغيرتا وكبرتا.. منى كانت لا تتكلم إلا القليل فهي تتعلم الكلام، وهدى زاد كلامها وفصاحتها.
وطبعًا كان الزوار يحضرون بكثرة، وكذلك الأقارب من إسكندرية والصعيد، وكانت الإجازة لمدة شهر. كنت أخرج معه ونذهب إلى السينما، وكان وقتها المعرض الزراعي الصناعي.. ذهبنا وقضينا اليوم كله هناك نتفرج على المعروضات وتناولنا الغداء. قابلنا ضابطا من معارفه كان متزوجا حديثا من أسبوعين، سلم علينا وقال: لسنا وحدنا في شهر العسل بل أنتم أيضًا.. وضحكنا.
الانتقال إلى بيت جديد
في الأسبوع الأخير من شهر مارس قال لي جمال: قابلت ضابطا أعرفه رتبته كبيرة يملك فيلا في كوبري القبة، وبنى دورين جديدين فوق الدور الأول، والدور الثاني فاضي.. ففكرت نعزل ونسكن في كوبري القبة. رحبت، فقال: سأذهب لأرى البيت، وذهب مع الضابط ورأى المسكن وقال: إنه لا بأس به فلتذهبي معي وتشوفيه.. فقلت: مش ضروري أشوفه ما دام عجبك، فلنعزل.. وكوبري القبة مكان هادئ والدور الثاني السلالم له سهلة. وكنت مقتنعة بأنه أحسن من البيت الذي نسكنه، ولم أذكر له شيئًا عن رغبة صاحبة البيت في أثناء غيابه، وكانت قد حضرت لتهنئتنا بسلامة رجوعه من فلسطين وحدثته عني وقالت له الكثير من المديح والثناء.
وفي آخر شهر مارس سنة 1949.. أي في نفس الشهر الذي رجع فيه جمال من الفالوجة انتقلنا إلى البيت الجديد في كوبري القبة. وقبل مغادرتنا البيت حضرت صاحبة البيت وكانت تسكن بجوارنا - يعني جيران وهو ملكها أيضًا - وكانت متأثرة وبكت وقالت لي: لقد قلت إنك ستتركين البيت عند رجوع حضرة الصاغ جمال وها أنت ذي تتركينه. وسلمت عليّ بحرارة وهي تبكي.
ذهبت مع جمال وهدى ومنى للبيت الجديد.. وكنت أول مرة أراه كما حدث في البيت الأول، وأعجبني جدًّا. والبيت مبني بحيث يكون: البدروم، ثم الدور الأول، والثاني مسكننا، ودور ثالث. ونظام الأبواب الثلاثة كالبيت الأول مع اختلاف إذ لا يوجد باب يوصل لحجرة السفرة كالبيت السابق، فالباب الثالث على الشمال يوصل إلى مدخل صغير للمطبخ. والبيت مكون من خمس حجرات منظمة كالآتي: حجرة السفرة ملحقة بحجرة الصالون من دون باب ولها باب على الصالة، والحجرتان تطلان على الشارع. الصالون به فراندة مستديرة على ناصية البيت ترى الشارع العمومي.. شارع مصر الجديدة، وترى الباص والترامواي والكوبري الذي يمر تحته المترو أمام المستشفى العسكري في ذلك الوقت.. وهي الآن الكلية الفنية العسكرية. أرى الشارع بوضوح إذ بيتنا الثالث في الشارع بعد فيلتين صغيرتين ولكل فيلا حديقة. حجرة المكتب ملحقة بالصالة بدون باب أيضًا وبها فراندة وشباك في مواجهة الصالة يطل على حديقة المنزل الذي يلي منزلنا، وأرى الشارع أيضًا، وفي الناحية الأخرى حجرتان للنوم.
كان جمال يحكي لي عن الوقت الذي قضاه في الحرب وعن الحصار في الفالوجة وقال: كانت هناك طفلة كنت أحب أن أكلمها تذكرني بهدى وفي عمرها، وفي ليلة شعرت بحزن وقلت كيف حال تحية الآن وهدى ومنى؟ ولم أنم.. وكيف كان الرصاص والقنابل تتساقط حوله ونجاه الله، وقراءته للمصحف عدة مرات وتأديته للصلاة، وكيف كان يرسل لي الخطابات مع أحد العرب، ويدفع كل ضابط مبلغًا ويصل ما يتقاضاه العربي إلى خمسين جنيها.
إبراهيم عبد الهادي يستجوب جمال
انتهى شهر الإجازة ونقل العائدون من الفالوجة - وهم ثلاث كتائب - كل كتيبة في بلد. وكانت الكتيبة السادسة - وهي التي بها جمال - نقلت للإسماعيلية، وهو أركان حرب الكتيبة. قال لي: ليس هناك مكان لسكن عائلات الضباط، والمكان عسكري فقط، وسوف أذهب وأحضر كل أسبوع.. فكان يحضر يوم الخميس ويغادر القاهرة يوم السبت في الصباح الباكر.. ولم أذهب إلى الإسماعيلية أبدًا ومكثت في القاهرة.
استمر الحال حوالي ثلاثة أشهر، وكانت صحتي متوعكة إذ كنت في الشهور الأولى للحمل. في شهر يوليو قال لي جمال: سأحضر في إجازة لمدة شهر ففرحت جدًّا، وفي أول يوم للإجازة في الصباح خرج ورجع قبل الثانية عشرة ظهرا، وخلع ملابسه العادية طبعًا ولبس البيجاما ورقد على السرير يقرأ. ولم يلبث إلا قليلا وسمعنا أحدا يصفق بشدة ويسأل عن مسكن الصاغ جمال عبد الناصر.
وكان أحد الضباط. قابله جمال وتحدث معه دقائق وارتدى الملابس الرسمية وقال لي: لا تنتظريني على الغداء سأغيب ولتتغدي أنت والأولاد.. وخرج وركب عربة مع الضابط. تناولت الغداء مع هدى ومنى ومر الوقت عاديا، وحتى حوالي الساعة السابعة لم يحضر.. وابتدأت أقلق: أين ذهب جمال؟ ومن هذا الضابط الذي حضر بطريقة غير عادية يصفق ويسأل بصوت عال عن مسكننا؟ وكنت أشعر بأن ما يحدث حولي غير عادي ولكن لم أفهم شيئًا غير الكتمان. جلست بجوار الشباك المطل على الشارع في حجرة السفرة.
ولم ألبث إلا قليلا حتى رأيت عربة كبيرة زرقاء تدخل الشارع وتقف أمام منزلنا، ورأيت جمال ينزل من العربة وينتظر شخصا آخر.. وكان عثمان باشا المهدي - رئيس هيئة أركان حرب الجيش - وكنت أعرفه وحتى عربته إذ كنت أراها أمام منزلنا السابق. خرجت بسرعة من حجرة السفرة ودخلت حجرة النوم، وصعد جمال مع عثمان باشا ودخلا الصالون. وبعد قليل دخل جمال عندي في الحجرة فقلت له بلهفة: أين أنت؟ إني قلقة عليك.. فرد وقال: فلتعطيني بسرعة الأسلحة الموجودة عندك، ولاحظ اضطرابي وقلقي فقال: لا تخافي إني راجع لك.. أسرعي وسأحكي لك عما حصل بعد خروج عثمان باشا، فقلت له: لقد عرفته وكنت جالسة بجوار الشباك.
كنت أخفي الأسلحة بين الملابس في الدولاب.. في الشتاء أخفيها بين ملابسه الرسمية الصيفية، وفي الصيف أخفيها بين ملابسه الشتوية، إذ كنت أرى أنها يجب إخفاؤها وألا يراها أحد غيري، من دون أن يلفت نظري أو يقول لي شيئًا. رجع جمال بعد خروج عثمان باشا وقال لي: كنت عند رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي.. لقد استدعاني لاستجوابي والتحقيق معي بوجود عثمان باشا، وبقيت هناك للآن، وهو الذي كان يحقق معي ويستجوبني بنفسه، وكان في منتهى العصبية، وكنت أجاوبه على كل سؤال.. وأخيرا لم يجد إلا أن يقول لي: روّح، وسألني هل عندك أسلحة؟ فقلت له: نعم.. وذكرت أنواعها، وكلف عثمان باشا بالحضور معي واستلام الأسلحة. وكنت منتظرا أنه سيعتقلني لكنه قال لي: روّح.. وهو في غاية الغيظ والضيق.
مكث جمال شهر الإجازة في القاهرة نخرج سويًّا ونذهب إلى السينما.. وغالبًا الصيفي في مصر الجديدة، وأحيانًا نأخذ هدى ومنى معنا. وكان يقابل الضيوف ويخرج مع بعضهم أو بمفرده.
بعد انتهاء الإجازة نقل من الإسماعيلية إلى مدرسة الشؤون الإدارية بالقاهرة، وهي التي يقضي فيها الضباط فترة.. ثم يمتحنون ويحصلون على الترقية.. أي «فرقة». وكانت فرحتي عظيمة بنقله للقاهرة.
اشترى جمال العربية الأوستن السوداء، ودفع ثمنها من النقود التي توافرت معه أثناء مدة الحرب، إذ المرتب كما هو معروف يكون الضعف للمقاتلين، ولم تكن تكفي فكملت الباقي من ثمنها وفرحت بالعربية. بعد شراء العربية بأيام قليلة قال: سآخذك لمشوار طويل.. وذهبنا إلى القناطر الخيرية ومعنا هدى ومنى وتناولنا الغداء هناك.
كان يحضر إلى المنزل بعض الضباط الذين سيدخلون امتحان كلية أركان حرب، وكان يساعدهم ويجلس معهم وقتا طويلا، وكنت أسمعهم يتكلمون في موضوعات الدراسة، وكان يعطيهم الدوسيهات التي هو كاتبها ومجهزها بنفسه ويقول لي: إني أحب أن أساعد كل من يريد أن يتقدم لكلية أركان حرب وأرحب به.

جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق

السفير 22/01/2011



هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (٤)

هكـذا ظهـر أنـور السـادات لأول مـرة ثـورة «تصحيـح المسابقـات» التـي قادهـا جمـال فـي 23 يوليـو


صورة

في ليلة 23 يوليو 1952 سألت السيدة تحية كاظم زوجها جمال عبد الناصر لأول مرة منذ زواجهما «رايح فين»؟
كان جمال قد ارتدى بذلته العسكرية وتأهب للخروج، ما أثار مخاوف الزوجة، وحين سألته قال إنه خارج من أجل التصحيح، وكان يعني تصحيح أوراق امتحانات طلبة كلية أركان الحرب، حيث كان هذا رده كلما رصدت زوجته واحدا من خروجاته الغامضة تحضيرا للثورة.

غير أنه قبل ذلك بشهور حدث الآتي كما تروي السيدة تحية كاظم في مذكراتها: حضر زائر قبل رجوع جمال من الشغل وجلس في الصالون ينتظره، وبعد حضور جمال طلب الغداء مع الضيف. ثم حضر الزائر بضع مرات ينتظر جمال ويتغدى معه، وكان «المراسلة» عندما يفتح الباب له ويدخله الصالون يقول لي: إنه الضيف الذي يحضر وينتظر جناب البكباشي ويتغدى معه. وطبعًا لم يكن يترك ورقة مكتوبا عليها اسمه. قال لي جمال: إنه ضابط مكان شغله ليس في القاهرة، ويسكن الروضة، وهو الآن حضر في إجازة.. وكان هذا الزائر أنور السادات.
وبعد بضعة أشهر والوقت بداية صيف سنة 1952 على ما أذكر.. حضر زائر، وكان بعد خروج جمال في المساء قبل المغرب، وكان المراسلة غير موجود ففتحت له الباب وسأل عن البكباشي جمال عبد الناصر، فقلت له إنه خرج.. فكتب ورقة وانتظرته حتى أعطاها لي.. وضعتها فوق البيانو كعادتي، وبعد رجوع جمال أخبرته بحضور الضيف وأنه أعطاني الورقة بعد أن كتبها، وقلت: إنه أسمر شديد السمرة، فقال: إنه متزوج حديثا وزوجته بيضاء جدًّا.. وكان هذا الضيف أنور السادات.
ذلك كان أول ظهور لأنور السادات في مذكرات السيدة تحية عبد الناصر الخاصة بحياتها قبل الثورة .. لكن اسم السادات يختفي طويلا ثم يعود بإلحاح في أحداث النكسة وعند رحيل عبد الناصر.
نحن الآن في الأيام السابقة على 23 يوليو
ابتداء الصيف.. شهر مايو ويونيه سنة 1952 في شهر رمضان..
البيت كما هو.. الحركة والخروج والسهر حتى السحور، وحضور الزوار قبل موعد الإفطار وبعد الإفطار. وانتهى رمضان وكان يوم العيد فنذهب لزيارة أخواتي.. قال لي جمال: نذهب لشقيقاتك في الجيزة.. وهما اثنتان تقطنان في عمارة واحدة. ركبنا العربة.. هدى ومنى وخالد في الخلف وأنا بجواره أحمل ميدو البيبي.
عندما اقتربنا من البيت، وهو على شارع الجيزة نظر إلي جمال وقال: تحبي أمشي بكم شوية للهرم والجو لطيف. قلت له: نعم إنه يسرني ومعنا الأولاد.. شكرًا.
ومشينا بالعربة في طريق الهرم، وأوقفها بالقرب من صندوق بريد، وفتح مظروفا كبيرا كان في العربة وأخرج منه جوابات صغيرة الحجم وعددها كبير.. كمية جوابات، ووضعها في صندوق البريد ومشى بالعربة حتى قرب الهرم، ثم نظر لي وقال: نرجع بقى؟ قلت: نعم!. وأدركت أنها المنشورات.. ولم أقل كلمة ورجعنا والأولاد من الفسحة في طريق الهرم لزيارة أخواتي.
بعد العيد مباشرة قال لي: عندي إجازة لمدة أسبوعين فقط، وسيكون امتحان الضباط في كلية أركان حرب وأنشغل.. نسافر إسكندرية نقضي عشرة أيام مع الأولاد؟ قلت: نعم نذهب لإسكندرية.. وكنت لم أذهب هناك منذ زواجنا، أي منذ ثماني سنوات، أما هو فقد ذهب مرات قليلة لمدة يوم أو يومين لزيارة والده وأخوته الذين يقيمون بها. وكان ذلك في يوم 29 يونيه سنة 1952..
خرجنا في الصباح في العربة «الأوستن» السوداء ومعنا أولادنا إلى الإسكندرية وكان ميعاد زواجنا.. هنأني وهنأته بعيد زواجنا الثامن، وفي الطريق قال لي: إنها مصادفة.. اليوم عيد زواجنا ونحن نذهب معا ومعنا أولادنا بعد ثماني سنوات منذ ذهابنا معا. وقال: هناك سأبقى معك في الصباح على البلاج حيث أستحم في البحر مع هدى ومنى وخالد وسأحملهم وأعومهم، وبعد الظهر سأخرج ثم أرجع قبل المغرب وأخرج معكم في العربة حتى الليل.. يعني الساعة الثامنة أو التاسعة وأرجعكم اللوكاندة. وكان قد سافر من قبل وحجز لنا في لوكاندة بسيدي بشر، وكانت جديدة البناء وعلى البحر، ثم قال: وبعد ذلك سأخرج بمفردي لأقابل ضباطا هناك.. فقلت له بالحرف: هم إياهم دول برضه رايحين ورانا في إسكندرية؟ فضحك جدًّا وقهقه من كلمة إياهم وقال: كثير منهم سبقنا إلى هناك، ومنهم باقون في القاهرة.
كنا في سيدي بشر وكل الحكومة تسكن سيدي بشر.. وأسمعه يردد اسم حسين سري ويقول: حسين سري سافر.. حسين سري حضر.. وكان منزله بالقرب من اللوكاندة، وكلما مررنا بمنزله في طريقنا ينظر إليه.. أي منزله ويردد اسمه وأنا لا ألتفت ولا أشعر بأن وجود حسين سري في إسكندرية أو عدم وجوده شيء مهم.. وكنت أرى أنها مجرد ملاحظة.
كنا نذهب إلى البلاج أمام اللوكاندة ونجلس تحت الشمسية وينزل البحر ويأخذ هدى ومنى وخالد ويعومهم ويحملهم في المياه.. وأنا جالسة تحت الشمسية ألاحظهم وبجانبي كرسي الأطفال جالس فيه ميدو (عبد الحميد) البيبي الذي لم يتجاوز ثمانية شهور.. ونرجع وقت الغداء، وبعد ذلك يخرج ويغيب حتى الغروب - موعد خروجنا - ويقول: أنا كنت جالسا قريبًا من اللوكاندة في الكازينو مع بعض الضباط. وبعد أن نمشي بالعربة على الكورنيش يركنها ونتمشى سويًّا ساعة غروب الشمس، وفي المساء يوصلني اللوكاندة وقت العشاء، ثم يخرج وينام الأطفال وأبقى في الفراندة بعض الوقت وأنام حتى يرجع.
في يوم 10 يوليو رجعنا للقاهرة. قبل مغادرتنا إسكندرية قال: نرجع من الطريق الزراعي. في أثناء عودتنا، رأيت اللافتات مكتوبا عليها تفتيش الأمير... تفتيش الباشا... وعليها أسماء لأمراء من الأسرة المالكة وباشوات من الإقطاعيين، والطريق الزراعي أغلبه ملك للملك والأمراء والباشوات فقلت: كل الأراضي والتفاتيش دي ملك للملك والأسرة والباشوات؟ فنظر لي جمال وأنا بجانبه وقال: سوف لا يكون هناك أراض ولا تفاتيش يملكها أمراء ولا باشوات!.. ولم أنتبه لقوله، ولم أعلق بكلمة ولم أفهم شيئًا.
رجعنا من إسكندرية، وبعد أيام قليلة حضر أشقاؤه عندنا. والحياة في البيت كما هي والحركة في ازدياد بشكل غير معقول.. إذ كان عندما يرجع جمال من الشغل يكون في انتظاره ضباط، ويبقى معهم ويطلب الغداء ويظل معهم، وعندما يخرج لا يرجع إلا عند طلوع الفجر.. والوقت صيف والجو حار.. أنام وأصحو وأجد الوقت فجرًا ولم يحضر.. أقوم وأنتظر حضوره.. أنظر من الشباك.. وظل يخرج بالمسدس.
الأسبوع الأخير قبل الثورة..
بعد رجوع جمال إلى البيت بعد طلوع الفجر دخل الحجرة، وبعد أن حياني كعادته قلت له: إني أخاف عليك وأخاف التشرد والأولاد.. فرد وقال: يا للأنانية كل ما يهمك في البلد هو زوجك وأولادك.. عائلتك فقط؟ يعني أنك لا تفكرين إلا في نفسك.. وانتهى الحديث ولم أقل كلمة، ومشى ليخرج إلى الصالة فالتفت لي وقال: تعالي نجلس سويًّا مع أخوتي في حجرة المكتب.. إنهم استيقظوا من النوم. وكان شقيقه يضع «سريرا سفري» في الحجرة أثناء الليل. جلست معهم.. وبعد قليل استأذنت وقمت لأخرج من الحجرة فقال لي: أين أنت ذاهبة؟ قلت سأذهب لأصلي.. فنظر في ساعته وقال: أسرعي حتى لا يفوتك وقت صلاة الفجر فالشمس قربت من الشروق.. وبدا على وجهه الارتياح والحب والعطف.
وحتى الآن لم أفهم ما الهدف وما الغاية.. لم أفهم إلا خطورة ما يجري أمامي.
قبل الثورة بأيام قليلة قال لي إنه مشغول جدًّا في امتحان كلية أركان حرب، وإنه يشتغل في تصحيح أوراق الامتحان، وقال لي: اخرجي وتسلي واذهبي إلى السينما مع أخواتك، واصحبي معك هدى ومنى وخالد - وكان عمره سنتين ونصف - ليروا ميكي ماوس واذهبي إلى سينما الفالوجة.. وهي قريبة من منزلنا، وممكن نذهب لها مشيا، أو أي سينما تعجبك في مصر الجديدة، وأغلبها صيفي الآن والجو حار.. فقلت: نعم سأذهب.. وبقيت كما أنا سعيدة هانئة كل وقتي مشغول، وذهبت للسينما واصطحبت الأولاد كما قال لي.
قبل خروجه في الصباح قال لي: جهزي أكل زيادة لعدد من الضباط.. ويخرج بعضهم ويحضر غيرهم ثم ينصرفون، ويخرج إما بمفرده أو مع واحد منهم ثم يرجع البيت، ويظل يشتغل وينام ساعات قليلة. وظل جمال هكذا حتى قبل الثورة بيومين، وفي الليلتين قبل الثورة لم ينم وظل بملابسه العادية جالسا في حجرة السفرة على «الترابيزة» يشتغل. وفي الصباح في الساعة السابعة يدخل الحجرة ليستبدل بملابسه الملابس الرسمية، ونتناول الإفطار سويًّا، وقبل خروجه يقول لي: جهزي غداء زيادة، لأننا سنجلس كالأمس، في تصحيح أوراق الامتحان.. ويحييني ويخرج.
وكان عبد الحميد - ابني البالغ من العمر ثمانية شهور - قد حصل له توعك، وكنت أريد تغيير غذائه ويلزم أن يراه الدكتور الذي يعالج أولادنا، فعندما رجع جمال من الشغل في الظهر دخل كعادته يلاطفه ووجده متوعكا فقلت: أريد الذهاب للدكتور لينظم له غذاءه.. متى لا تكون مشغولا حتى نذهب؟ فقال لي: إني مشغول جدًّا، فاطلبي الدكتور ليحضر هنا، أو يمكنك الذهاب في تاكسي.. وكانت تلك أول مرة لا يجد وقتا للذهاب معي للدكتور. وفي اليوم التالي ذهبت بمفردي. وكان قبل خروجه قد طلب أيضًا تجهيز غداء زيادة لعدد من الضباط.
ليلة الثورة
اليوم الثاني والعشرون من يوليو سنة 1952 الساعة السابعة صباحًا.. دخل جمال الحجرة وكان يلبس الملابس العادية.. القميص والبنطلون ولم ينم طوال الليل.. جلس في حجرة السفرة يشتغل كالليلة السابقة.. حياني واستعد للخروج واستبدل بملابسه العادية الملابس العسكرية وتناولنا الإفطار سويًّا.
خرج ورجع عند الظهر، وتناول الغداء مع الضباط وظل معهم في الصالون وحجرة السفرة وقتا ثم خرج الضيوف. تحدث معي جمال وقال: لم لا تخرجين وتأخذين معك هدى ومنى وخالد وتذهبون للسينما والجو حار وتتسلون ويذهب معك أخوتي.. فقلت: نعم سأفكر في الذهاب.
حياني وخرج. بعد خروجه وقرب المغرب، فضلت أن أخرج لأمشي بالقرب من الحديقة التي أمام قصر القبة، وكانت غير مزدحمة، مثل الآن، وأغلب البيوت فيلات، والمشي لطيف بالقرب من القصر، حيث رائحة الأزهار.
خرجت، ومعي هدى ومنى وخالد ومشينا حتى بعد الغروب ورجعنا وكانت الساعة قبل الثامنة.. قال لي شقيقه: إن أخي حضر من وقت قصير وسأل عنك وعن الأولاد وأخبرناه بأنك تتمشين عند قصر القبة. وبعد قليل حضر جمال وكان يلبس القميص والبنطلون، ووجدني في الصالة مع الأولاد.. حياني وقال: أنا جيت، وسألت عنك ولم تذهبي للسينما.. فقلت له: إني فضلت الخروج والمشي في الهواء الطلق، والأحسن ألا أترك «ميدو» وأغيب عنه وقتا أطول.. فأخذ يتكلم مع أولاده ويلاطفهم ويقبلهم بحرارة ويقول لهم أسماء الدلع التي اعتاد أن يقولها لهم، ويقبل هدى ومنى وخالد وعبد الحميد وكنت أحمله على كتفي، وخرج بمفرده بنفس الملابس.. القميص والبنطلون.
تناول الأولاد العشاء وناموا مبكرين كعادتهم، وظل ميدو البيبي حتى تناول وجبة الساعة التاسعة ونام.. وجلست مع الليثي وشوقي.
وقبل الساعة الحادية عشرة مساء قمت ودخلت حجرة النوم. رجع جمال ودخل الحجرة وكنت مستلقية على السرير وكانت مضاءة.
كان من عادته أن يغسل وجهه قبل النوم فقلت في نفسي: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرا.. وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البدلة العسكرية ووجدته يرتديها.. فقمت وجلست وقلت له بالحرف: أنت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟ وكانت أول مرة أسأله أنت رايح فين منذ زواجنا.. فرد عليّ بكل هدوء وصدر رحب قائلا: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب، ويجب أن أنتهي من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا، والضابط الذي يجلس معي ونشتغل سويًّا قال لي نسهر الليلة في بيته نكمل تصحيح الأوراق، وسأذهب إلى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة، وانتظريني غدًا وقت الغداء.. وحياني، وقبل خروجه من الحجرة قال لي: لا تخرجي.. الصالة الآن يوجد فيها ضابط ينتظرني.. وأغلق الحجرة بعد خروجه منها.
بعد أن سمعت باب المسكن يقفل قمت وخرجت من الحجرة.. وجدت أخويه الاثنين جالسين في حجرة المكتب، فقلت لهما: إن جمال اعتقل.. فرد شقيقه ليثي قائلا: لا إنه لم يعتقل، اطمئني.. فقلت: إنه خرج وارتدى ملابسه العسكرية وينتظره ضابط كما حدث يوم أن اعتقله إبراهيم عبد الهادي.
ـ أنا شايفة.. البيت مقلوب من ساعة حضورنا من إسكندرية بشكل غير معقول، والضباط والسهر حتى الصباح.. أنا متأكدة أن رئيس الوزارة الجديد نجيب الهلالي الذي عين منذ يومين اعتقله..
فقال شقيقه: لا أبدًا اطمئني إنه لم يعتقل.. وكان على المكتب مصحف أخذه في يده وحلف وأقسم إن جمال لم يعتقل.. فسكت وجلست في الحجرة مع أخويه. سألني أحدهما: هل تناولت العشاء؟ قلت: لا.. فقال إننا لم نتناول العشاء بعد.. فقمت وأحضرت عشاء خفيفًا من الجبنة تناولناه في حجرة المكتب. جلست معهما حتى قبل الثانية عشرة، ثم تركتهما ودخلت حجرة النوم.. واستلقيت على السرير. بعد دقائق - وكانت الساعة الثانية عشرة - سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة شعرت بأنها صادرة من ناحية قصر القبة.. فقمت مسرعة وخرجت إلى الصالة ووجدت أخويه فقلت: هذا الضرب.. الطلقات في قصر الملك ولا بد أن يكون جمال من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر.. وبكيت.
استمرت الطلقات الكثيرة حوالي عشر دقائق، ثم سكتت دقائق، وعادت مرة أخرى لدقائق.. واستمررت في البكاء فقال لي أخوه: إن صوت الطلقات كما هو معروف يصدر من الناحية المقابلة لها، وليس من المكان الذي أطلقت منه، إنها ليست في القصر ولا تنشغلي، ونظر إلى المصحف وهم بأخذه في يده فقلت له: لا تلمس المصحف، سوف لا أصدقك وأنت تحلف يمينا دون أن تعلم شيئًا.. فرجع ولم يلمس المصحف.
بقينا جالسين في حجرة المكتب وشعرت بأن شقيقه يريد النوم فقمت ودخلت حجرتي.. ولم أنم.
وبعد وقت وكل البيت هدوء وسكون، قمت في الظلام لأرى الشارع بعد سماعي طلقات الرصاص الكثيرة، ومشيت لحجرة السفرة وفتحت الشباك أنظر إلى الشارع. وأنا واقفة في الحجرة في الظلام رأيت شقيقيه يدخلان وكانا في «الفراندة»، وعند رؤيتهما لي قالا: إننا انتظرنا نومك حتى نرى من الفراندة ماذا حصل.. فقلت: وأنا أيضًا انتظرت نومكما وقمت في الظلام لأنظر من الشباك وأرى ماذا حصل. ورجوتهما ألا يقفا في «الفراندة» ويظهرا، وقلت: أنا متأكدة أن البوليس والمباحث يراقبون بيتنا.
وبقيت ساهرة أنظر من الشباك إلى الشارع وأنظر من «الفراندة»، وأحاول ألا أظهر خوفي من مراقبة بيتنا، وكنت أرى الشارع من «الفراندة» بسهولة ووضوح، كما وصفت البيت.
كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عندما رأيت شابا يقف في ناصية الشارع، وهو ميدان المستشفى العسكري في ذلك الوقت.
رأيت الشاب طويل القامة يزعق بصوت عال ويقول: عندك! ثم يتحرك ويمشي بخطوات ثابتة أسمع صوتها ويروح ويجيء ويقول: «عندك يا جدع» بصوت مرتفع. وأرى العربات تتحول وترجع من الشوارع الداخلية في كوبري القبة، ومنهم من كان يمر من الشارع الذي يقع يمين البيت المقابل لبيتنا.
ولم أتبين، أنه كان صوت جمال، وأن الشاب طويل القامة الذي يتحرك بخطوات ثابتة ويقول «عندك يا جدع» بصوت عال في سكون الليل ويرجع العربات ويقفل الشارع، هو البكباشي جمال عبد الناصر.. زوجي الحبيب.
بقيت واقفة في الفراندة والشباك ألاحظ هذا الشاب وهو يقفل الشارع وأنا قلقة وأقول: ماذا حصل وقت سماعي الطلقات؟ وكان همي ألا يكون جمال قد أصيب في هذه الطلقات.
قبل الساعة الثانية صباحًا، رأيت العربات المصفحة والدبابات والجيش، وكان قد زود بأسلحة بعد حرب فلسطين، فرأيت وسمعت صوت الدبابات وهي تكركر وتمر في الشارع وتمشي في ميدان المستشفى العسكري، وكنت أعرف شوارع ثكنات الجيش وأمر عليها في خروجي، إذ كانت كلها قريبة من بيتنا.
رأيت أخويه يقفزان من الفرح ويقبلان بعضهما وقالا: افرحي افرحي.. فقلت: وأين جمال؟.. والطلقات التي سمعناها؟ وأخذت أبكي وقلت: الآن أنا فهمت.. إنه انقلاب عسكري.
وأخذ أخواه يهنئانني فكنت أسكت عن البكاء ثم أعود أبكي وأقول بالحرف: بس لو كنت أعرف فين جمال.. وطلقات الرصاص اللي سمعناها؟ قال شقيقاه: لقد أخبرنا قبل خروجه أنه ذاهب في مهمة خطيرة: فإذا رأيتم الجيش نازلا والدبابات والعربات اعرفوا أني نجحت، وإذا لم تروا شيئًا اسألوا عني غدًا واعرفوا أنا فين. قلت مرة أخرى: أنا الآن عرفت أنه انقلاب عسكري ونجح، بس أين جمال؟ أريد أن أطمئن عليه.. وكنت أبكي وبقيت جالسة حتى الصباح لم أدخل حجرة النوم.
وفي الساعة السادسة والنصف صباحًا يوم 23 يوليه سنة 1952 سمعنا خبطا على الباب وفتح شقيقه، وكان الذي حضر ثروت عكاشة وطلب مقابلتي.. ذهبت له عند الباب فمد يده وهنأني قائلا أهنئك من كل قلبي.. نجح الانقلاب. فقلت على الفور: وفين جمال؟ قال بالحرف: هو قريب منك بينك وبينه خمس دقائق.. موجود في القيادة العامة وطبعًا تعرفينها؟ فقلت: أمر عليها كثيرًا وأعرفها جيدا.. وقال: اسمعي البيان في الراديو الساعة السابعة.. فشكرته وانصرف.
فتحنا الراديو لنسمع البيان.. وكان هناك عطل في الإذاعة حتى الساعة السابعة والثلث.. وسمعنا البيان الذي قرأه أنور السادات.
في الساعة التاسعة، حضر صف ضابط وقال إنه من القيادة العامة في كوبري القبة، وأن الذي أرسله البكباشي جمال عبد الناصر ليخبرني بأنه بخير والحمد لله، وأنه سوف لا يحضر وقت الغداء وموجود في القيادة.
حضر أخي ودخل.. وكنا في الصالة، شقيقاه وأنا.. بعد أن صافحته قلت له كان يجلس فقال: أنا مستعجل وتركت مكتبي وحضرت، ويوجد عندي ناس ينتظروننى وتركتهم وقلت لهم سوف لا أغيب، وليس لدي وقت للجلوس.. وقال: أنا رأيت الشوارع فيها جيش ودبابات، والإذاعة محاطة بالجيش، وكل الميادين والأماكن المهمة فيها جيش، وسمعت أن الجيش قام بانقلاب عسكري فانشغلت على البكباشي جمال، وحضرت لأطمئن، لعله لا يكون من هؤلاء الضباط لأن الملك سوف لا يتركهم، وسيعدمهم فورا، وأنا متأكد من ذلك.. فقلت له: اطمئن جمال لا يتدخل في السياسة، وسألني: متى خرج من البيت؟ قلت: كالعادة خرج قبل الثامنة صباحًا، وصافحني وخرج قبل أن نقدم له عصيرا أو قهوة..
فنظر إلي شقيقاه وهما يبتسمان.. وابتسمت، وما أن سمعت باب عربته يقفل وتتحرك حتى ضحكت وشاركني شقيقاه في الضحك وقهقها، ووقفنا نضحك.. ولم أعر كلامه أي اهتمام، وكل ما قاله لي كان في نظري هراء بل أضحكني.
كنا نستمع للراديو وقراءة البيان طول النهار، ونسمع صوت الطائرات وهي تحلق في سماء القاهرة وتمر فوق كوبري القبة باستمرار منذ الصباح. في الساعة العاشرة مساء حضر جمال، وبعد أن هنأته من كل قلبي قال: سأبقى ساعتين فقط وأرجع إلى القيادة.
وحلق ذقنه وأخذ حماما واستبدل ملابسه وجلس معنا في حجرة المكتب. أخبرته عن أخي وحضوره في الصباح وسؤاله عنه وقلقه عليه، وما قلته له.. ولم أذكر ما قاله لي عن الملك وعن رأيه فيما سيفعله، فقال لي: إنه سيدهش غدًا، إذ سيراني في الجرائد ويرى صورا لي في عربة جيب، وقال إنه لف الشوارع الرئيسية في البلد مع اللواء محمد نجيب - وكانت أول مرة أسمع اسمه - وإن البلد كلها خرجت لتحيتهم وكلها حماسة.
قلت له: إني طول النهار أسمع الطائرات تمر من فوق البيت، وحكيت له عن سهري طول الليل حتى الصباح، وقلقي عليه عند سماعي طلقات الرصاص.
قال جمال: لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعي عبد الحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنان فقط من الجنود.. واحد من حرس القيادة وواحد من الفرقة التي معنا. واستسلم كل الموجودين في القيادة وكانوا مجتمعين، وأخذتهم واحدا واحدا وأدخلتهم في مبنى المدرسة الثانوية العسكرية - وكان في منشية البكري في ذلك الوقت - ثم قال: وسلمتهم للسجان حمدي عاشور.. وضحك. وبعد أن تم كل شيء، خرجت لأقفل الشارع وأرجع العربات المارة قبل مرور الجيش، وكنت واقفا على ناصية الشارع، وركنت العربة «الأوستن» بالقرب مني.. وأضاف وهو يضحك: لم تقلقين وأنا قريب منك على ناصية الشارع، والعربة «الأوستن» بالقرب مني في ميدان المستشفى العسكري؟ فقلت: إنك كنت قريبا لكن بعيدًا جدًّا.. وكان يضحك.
وتحدث عن الملك وقال: لقد أرسل الملك مبعوثا من قبله وأملينا عليه تغييرات وشروطا، وكل ما طلبناه منه وافق عليه فورا.
وحدثته عن حضور ثروت عكاشة في الصباح وتهنئته لي وقوله: اسمعي البيان في الساعة السابعة.. وسمعته. فقال جمال: إنه أنور السادات، وقال: لقد كان هو وزوجته في السينما، وعندما رجع لبيته وقرأ الورقة المكتوب فيها أن يحضر ارتدى ملابسه العسكرية وخرج مسرعا، وفي طريقه للقيادة عند مدخل مصر الجديدة منعه الضابط المكلف بالوقوف، هناك لعدم معرفته كلمة السر، وبعد إلحاح سمح له الضابط بالمرور، وعند مدخل القيادة منع أيضًا من الدخول فلف ودار حول القيادة دون جدوى، وأخيرا نادى، وصاح فسمعه عبد الحكيم، وعلمت بحضوره ودخل القيادة عند الفجر، وفي الصباح أعطيته البيان ليقرأه في الإذاعة.
وكان جمال عبد الناصر يضحك وهو يحكي عن أنور السادات.
وفي الساعة الثانية عشرة مساء قام جمال وقال لي: لا تنتظريني فسأبقى في القيادة.. وحياني وخرج.

([) جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق

السفير 22/01/2011



هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (٥)

فــي بـيـتـنــا رئـيــس جـمـهـوريـــة


صورة

شهر مايو.. سنة 1953

كان جمال يشعر بألم في بطنه لم أعلم به إلا بعد مدة، لعدم وجوده في البيت أغلب الوقت. في يوم قبل خروجه في الصباح قال لي: سأحضر على الغداء وأريد أكلا خفيفا من الخضار المسلوق لأني أشعر بألم بسيط في بطني. جهزت الأكل كطلبه وحان وقت الغداء ولم يحضر. وبعد أن انتظرته تناولت الغداء وقلت إنه مشغول ولم يجد وقتا للحضور. حضر عبد الحكيم عامر وطلب مقابلتي. وقال لي: جمال الحمد لله بخير وفاق من البنج بعد إجراء عملية المصران الأعور له، ويسأل عنك ويريدك أن تذهبي إليه في المستشفى الآن. فاندهشت وقلت: كيف أجريت له عملية ولم يقل لي، وطلب مني إعداد غداء خفيف؟ قال عبد الحكيم: لقد كنت معه أثناء إجراء العملية والحمد لله. ذهبت إليه في مستشفى الدكتور مظهر عاشور الضابط بالجيش. قلت: كيف تجري عملية ولم أعرف؟ قال: لم أرد إزعاجك. وقال: بعد أن خرجت من البيت في الصباح حضرت للمستشفى ومعي عبد الحكيم، وكنت مرتبا من أمس الحضور للمستشفى وإجراء العملية، وحتى لا تعلمي بشيء قلت لك جهزي الغداء.. وابتسم وقال: «الحمد لله يا تحية».

كنت أذهب كل يوم لزيارته ومعي الأولاد إذ كان يطلبهم، ولا أمكث إلا وقتًا قصيرا لكثرة الزوار. قابلت عبد اللطيف بغدادي وزوجته في المستشفى، وكنت أول مرة أراه وأتعرف بزوجته.. وقالت إنها ستزورني في البيت. مضى أسبوع ورجع جمال إلى البيت.. وبعد أيام قليلة ذهب إلى مرسى مطروح وذهبت معه والأولاد ورافقنا الدكتور مظهر عاشور، ليكون بجواره وقت النقاهة، ودعا جمال زوجة الدكتور وابنته لتكونا معنا. مكثنا في مرسى مطروح في استراحة قديمة البناء وفي غاية التواضع، ليس بها مفروشات إلا الضرورية وقديمة.. حتى لم يكن بها حجرة سفرة، وتوجد «ترابيزة» فقط وعدد من الكراسي في الصالة، وحضر جمال سالم وبقي مدة إقامتنا.. مكثنا أسبوعا ورجعنا القاهرة.
الشكاوى والطلبات تصلنا بكثرة بالبريد، أو يحضر أصحابها ويسلمونها لعسكري الأمن لتوصيلها، لي وأعطيها لجمال عند حضوره. قال لي: لا تقابلي أحدا من السيدات إلا بعد سؤالي.. اللاتي لا أعرفهن طبعًا. وقعت على رجلي ووضعت ساقي في الجبس أسبوعين، وبعد فك الجبس كنت أذهب إلى مستشفى الدكتور مظهر عاشور، وكان هناك دكتور عظام، لعمل علاج بالكهرباء على ساقي. وفي أثناء ذهابي للمستشفى، وجدت حرم أنور السادات هناك، وأخبروني بوجودها، وكانت قد أجريت لها جراحة في إصبع يدها وتمكث في المستشفى.. زرتها في الحجرة وكانت أول مرة أراها وأتعرف بها.
كنت نائمة واستيقظت على صوت دخول عربــات جــمال وأعـضاء مجلس الثورة كلهم.. قمت ونظــرت من الشباك في الظلام وجدتــهم يدخلون البيت ومعهم اللواء محمد نجيب وعرفت بإعلان الجمـهورية.. قلت في نفسي: كنت نائمة وصحوت على رئيس جمهورية في نصف الليل في بيتنا! مكث اللواء محمد نجيب وأعضاء مجلس الثورة وقتا قصــيرًا وانصرفوا، ودخل جمال الحجرة ورآني واقفة. حكى لي عن إصرار محمد نجيب على الحضور لزيارته في بيتنا بعد إعلان الجمهورية مباشرة وتنصيبه رئيساً لها.
مؤامرة سلاح الفرسان.. أول الصيف مايو سنة 1954..
حضر جمال للبيت وكان الوقت المغرب.. قال لي: «جهزي نفسك والأولاد واذهبي لشقيقتك في الجيزة وخذي معك ملابس للنوم وأمضي الليلة عندها، ويجب أن تغادري البيت قبل الثامنة مساء لأن البيت ربما يهاجم ويحتمل دخول بعض الضباط بالدبابات لنسفه، ولا ترجعي إلا بعد أن أكلمك بنفسي بالتلفون». جهزت شنطة وضعت فيها الملابس وطلبت العربة وهي الأوستن السوداء وكنت أخرج بها، وأدخلت في الحديقة، وكان جمال في الصالون ومعه ضباط ولم يغادر البيت. جلست في حجرة المكتب أنتظر خروجه، وفي الساعة الثامنة مساء دخل جمال الحجرة ورآني والأولاد لم نزل في البيت.. قال: كيف لم تغادري البيت للآن؟ قلت كنت أنتظر خروجك وأخرج. فقال وهو منفعل: يجب أن أذهب إلى القيادة الآن، وكيف أخرج وأنتم ما زلتم في البيت؟ وكان الذي فكرت فيه كيف أخرج وهو لا يزال في البيت؟! فقلت: العربة في الحديقة وسأغادر البيت حالا، وكانت عربته قد دخلت الحديقة أيضًا وركبنا.. هو عربته وأنا والأولاد العربة الأوستن وخرجنا سويًّا في وقت واحد. ذهبت لشقيقتي في الجيزة وكانت الساعة التاسعة فقابلتني وقالت: الوقت متأخر والأولاد معك أين كنتم؟ فأخبرتها عن سبب مجيئنا في هذا الوقت، فسكتت وبان على وجهها هي وزوجها الوجوم. قضيت الليلة وكنت أنام وأصحو.. كان نوما متقطعا، وكلما صحوت أفكر: ماذا جرى؟ يا ترى هل نسف البيت؟ وفي الصباح، كنت أتناول الإفطار مع الأولاد وشقيقتي، وسمعت جرس التلفون وكان المتحدث جمال عبد الناصر.. قال لي: الآن يمكنك الحضور.. أكلمك من البيت وقد حضرت الآن وسأنام. وقد أرسلت لك العربة وهي في الطريق.. فقلت: الحمد لله. وتركت شقيقتي بسرعة وكانت تصر على أن أبقى معها لأتناول الغداء. رجعت البيت.. وجدت جمال لم ينم وقال: إنها كانت مؤامرة في سلاح الفرسان، والحمد لله قبضنا على الضباط المتآمرين. وقال: كنا جاهزين وعارفين الوقت الذي سيتحركون فيه، لكن قلت: ربما تخرج دبابة وتصل للبيت وتضربه، والأحسن أن يكون خاليا حتى أطمئن عليكم.. فقلت: الحمد لله.
العدد الأول لجريدة الجمهورية..
بعد قيام الثورة بشهور قليلة بدأ جمال يحضِّر لإصدار جريدة يومية، واشتغل وبذل جهدًا كبيرًا قبل إصدارها. وكنت أسمعه وهو يتحدث بجانبي بعد رجوعه إلى البيت في الليل ويوجه تعليمات وترتيبات ومشاورات، وكانت تكتب نسخ وأراها في البيت كنموذج، ويغير ويبدل في ترتيبها وشكلها عدة مرات وذلك قبل إصدارها.. وأخيرًا صدرت جريدة الجمهورية.. وكانت الفرحة على وجهه وهو يسلمني العدد الأول، وكنت أعتز بجريدة الجمهورية لما شاهدته من اهتمام جمال عبد الناصر بها. كانت مقالات مهمة تصدر في جريدة الجمهورية باسم أنور السادات، والذي كان يكتبها هو جمال عبد الناصر. وفي مرة قلت له: إن هذه المقالة من كلامك وقد عرفته وفهمت أنك كاتبها.. فرد وقال: نعم.
قصة مِصْحَفَيْ جمال عبد الناصر
ومحاولة الاغتيال بالمنشية
صيف سنة 1954..
ذهبنا إلى إسكندرية واستأجرنا دورًا في فيلا على الكورنيش.. سكنا في الدور الأول، والثاني كانت تسكنه عائلة.. أي كنا نشترك مع جيران. كان جمال يحضر كل أسبوع أو أسبوعين ويمضي معنا يوما واحدا ويرجع إلى القاهرة في منشية البكري. وكان وقت الحج.. وسافر جمال عبد الناصر لأداء فريضة الحج في صيف سنة 1954 شهر أغسطس. رجعت من إسكندرية لأكون في استقباله في القاهرة ومكثت بضعة أيام ثم عدت للإسكندرية، وبقينا حتى شهر سبتمبر. في شهر أكتوبر.. في آخره كان جمال عبد الناصر سيلقي خطابا في الإسكندرية في ميدان المنشية. غادر البيت وقت الغروب. وقبل خروجه كان يضع دائمًا في جيبه مصحفا صغيرا في غلاف من المعدن الأبيض. لم يجده وقت خروجه وكان مستعجلا إذ سيسافر بالقطار.. فأخذت أبحث عن المصحف وأنا مسرعة ولم أجده.. فأحضرت مصحفا آخر بغلاف من الكرتون فأخذه جمال ووضعه في جيبه. وعند خروجه وجدت المصحف ذا الغلاف المعدن الذي اعتاد أن يخرج به فجريت مسرعة وأعطيته له، وكان بالقرب من الباب فأخذه ووضعه في جيبه وخرج بالمصحفين.. وكان حادث ميدان المنشية بالإسكندرية أثناء إلقائه الخطاب وإطلاق الرصاصات الثماني عليه ونجاته.. فظل جمال عبد الناصر يخرج بهذين المصحفين حتى يوم 28 سبتمبر سنة 1970. وكان عند رجوعه إلى البيت يضعهما بنفسه في مكان لا يتغير في الحجرة.. وقد فعل نفس الشيء يوم 28 سبتمبر سنة 1970.. والآن أنا محتفظة بهما وأعتز بهما.
حدثني جمال عبد الناصر بالتلفون بعد الحادث مباشرة وقال لي: ستسمعين الإذاعة.. أنا بخير، لم يصبني شيء ولا تنزعجي. بعد يومين من الحادث مرض خالد ابني بالزائدة الدودية وكان عمره 4 سنوات وثمانية أشهر. حضر الدكتور مظهر عاشور وفحصه وقال: يجب إجراء جراحة له فورا. وكان جمال عبد الناصر عنده اجتماع والدكتور ظل مع خالد يلاحظه. وقبل خروجه للاجتماع قال للدكتور: تصرف كما تستدعي الحالة. رجع الدكتور لمستشفاه ليجهز لإجراء العملية، ثم حضر بنفسه وأخذ خالد في عربة وذهبت معه وكانت الساعة العاشرة مساء. وفي الساعة الواحدة صباحًا حضر جمال للمستشفى قبل ذهابه للبيت، ومعه بعض أعضاء مجلس الثورة ليطمئن على خالد بعد إجراء العملية. مكثت في المستشفى مع خالد ثمانية أيام كان جمال يزوره كل يوم لدقائق. زار محمد نجيب خالد في المستشفى وأحضر علبة شوكولاته.
تهنئة برئاسة الوزارة من محمد حسنين هيكل
كنت نائمة ومستغرقة في النوم وسمعت جرس التلفون فأخذت السماعة، وكان المتحدث محمد حسنين هيكل.. قال: أهنئك جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء. فقلت: تاني.. فضحك هيكل وقهقه وقال: أهنئك برئاسة جمال عبد الناصر الوزارة وتقولين تاني؟ وكان في منصب رئيس الوزراء لفترة قصيرة، وبعد خلافات ومشاكل تركها لمحمد نجيب. وقال هيكل: لقد أردت أن أخبرك وأهنئك قبل وصوله للبيت.. إنه في الطريق إليه.
مولد أصغر أبنائي عبد الحكيم في 7 يناير 1955..
الوقت سنة 1955 مولد عبد الحكيم أصغر أبنائي.. قبل ذهابي للمستشفى طلبت جمال عبد الناصر، وكان عنده اجتماع في البيت مع وفد سوداني والوقت مساء. أخبرته بأني سأذهب للمستشفى فقال: يوجد عندي وفد سوداني، ولكن ممكن أن ينصرفوا وأذهب معك.. فقلت: سأذهب بمفردي ولا داعي للقلق.. وقد طلبتك لأخبرك فقط. في الساعة الحادية عشرة مساء ولد عبد الحكيم. تحدث الدكتور بالتلفون مع جمال وهنأه وأخبره بأني والمولود بخير، فرد جمال وقال: سأحضر الآن، فقال الدكتور: لا تتعب ولتبق حتى الصباح. فقال له جمال عبد الناصر: لقد اعتدت أن أحضر معها للمستشفى وأهنئها بسلامتها مباشرة.. سأحضر. وفي الساعة الثانية عشرة مساء حضر جمال عبد الناصر للمستشفى ورأى المولود وقال: عبد الحكيم.. وكان قد قال من قبل إن المولود إذا كان ولدا سأسميه عبد الحكيم. وفي 7 يناير سنة 1955 ولد عبد الحكيم جمال عبد الناصر.
فترة المباحثات مع الإنكليز
قبل جلاء الإنكليز عن مصر وقت المباحثات كان جمال يحضر العشاء مع بعض الأجانب وكنت أدعى معه ويعتذر عن عدم حضوري.. ويقول لي بعد رجوعه البيت: إنك كنت مدعوة معي واعتذرت. وسيدات أجانب من الضيوف وزوجات السفراء يطلبن مقابلتي، ويحدد لهن ميعادا لزيارتي وأتعرف عليهن. كنت أجد صعوبة في التحدث باللغة الإنكليزية، ففكرت في إتقانها وأحضرت كتبا وبدأت أقرأ كثيرًا بمساعدة أستاذة في اللغة الإنكليزية، كانت تعلمني الطريقة التي أتقدم بها في اللغة.. وكنت مهتمة وأظل أقرأ وأكتب وقت سهر جمال. وكان أحيانًا عند رجوعه في ساعة متأخرة يجدني لم أزل لم أنم.. وطبعًا كنا نضحك. أما اللغة الفرنسية فكنت قد قضيت بضع سنوات وقت الدراسة أتعلمها، ولم أجد صعوبة في التحدث بها وتقدمت فيها بالقراءة أيضًا.
في صيف سنة 1955، بعد رجوع الرئيس من مؤتمر باندونغ زارته في منزلنا بمنشية البكري سيدة أميركية تدعى «Mrs Flur Cawls» (فلورا كاولز)، وهي زوجة صاحب مجلة «Look» الأميركية، وكان يرافقها عبد القادر حاتم وكان وقتها مديرا للاستعلامات. وبعد انتهاء الزيارة طلبت مقابلتي ورؤية أولادنا وأخذ صورة لنا مع الرئيس، وقد نشرت الصور في مجلات أميركية منها «Time» ومجلات فرنسية.. وما زلت أحتفظ بها. وكانت أول صورة تنشر للرئيس مع زوجته وأولاده، وكان عبد الحكيم أصغر أبنائه يبلغ من العمر أربعة أشهر. في صيف سنة 1955 ذهبنا إلى إسكندرية في بيت على الكورنيش مبني على صخور عالية مكون من دورين، استأجرناه ولم يشاركنا جيران فيه، وكنت أذهب للشاطئ مع الأولاد وأجلس في كابينة بسيدي بشر وبجواري عبد الحكيم. وكان الرئيس يحضر مرات قليلة للإسكندرية، ولا يمكث أكثر من يومين أو يوم، ولم يكن حضوره ليستمتع بالبحر، ولم أره ذهب للشاطئ أبدًا.. وكان يحضر ليمضي معنا وقتًا. وبعد انتهاء الصيف أي في شهر سبتمبر رجعنا للقاهرة. للآن لم أخرج مع جمال أبدًا بعد قيام الثورة، إذ لم يكن يوجد وقت أبدًا لنخرج سويًّا. وكان خروجي قليلا، وكنت أذهب إلى السينما والمسرح الذي أحبه، والأوبرا عند حضور فرق أجنبية، وأحضر حفل أم كلثوم.. وكنت أدعى للذهاب وترافقني إحدى السيدات من أقاربي أو زوجات الضباط.. وكان يقول لي: فلتخرجي وتتسلي، ويظهر عليه الارتياح والسرور عندما يعرف أني خرجت أو سأخرج ويقول: المهم أن تكوني مسرورة وتقضي وقتا مسليا.
اللقاء الأول مع يوانكا بروز تيتو
في ديسمبر سنة 1955 حضر الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو وزوجته السيدة يوانكا إلى مصر في زيارة لأول مرة. وكانت السيدات بعد الثورة لا يزلن لا يشتركن في المآدب التي تقام للضيوف.. فحضرت السيدة يوانكا بروز تيتو لزيارتي مع السيدات المرافقات لها في منزلنا في منشية البكري، وأقمت مأدبة عشاء لهن حضرتها زوجات الوزراء. طلبت السيدة قرينة الرئيس تيتو رؤية أولادنا.. وهي طيبة جدًّا ورقيقة تحب الأطفال، وطلبت رؤية عبد الحكيم وكان عمره أحد عشر شهرًا، وحملته بين ذراعيها وقبلته.. وهي للآن لا تنسى عبد الحكيم ورؤيتها له أول مرة وتحبه، وكلما زارونا تصافحه بحرارة وتجلسه بجوارها وتدعونا لزيارتهم في يوغوسلافيا. زرتها في قصر القبة بمفردي، وكانت أول ضيفة أزورها في قصر القبة. وأثناء الزيارة دخل الرئيس تيتو الصالون وصافحني وجلس معنا لدقائق.
تأميم الشركة العالمية لقناة السويس
في صيف سنة 1956 ذهبنا للإسكندرية في نفس البيت الذي كنا فيه في الصيف السابق. وقت الاحتفال بأعياد الثورة وقبل 23 يوليه رجعت والأولاد للقاهرة كما هي عادتنا، وفي 25 يوليه ذهبت إلى إسكندرية مرة أخرى. وفي يوم 26 يوليه في المساء حضر الرئيس للإسكندرية لإلقاء الخطاب في ميدان المنشية، وبعد أن صافحني قال إنه عنده اجتماع مع الوزراء في الصالون في البيت، وسيحضرون بعد قليل. وكنت سأذهب لسماع الخطاب في عمارة بجوار المبنى الذي سيكون فيه الرئيس في ميدان المنشية. خرجت.. وهو لا يزال مجتمعا مع الوزراء في الدور الأول في الصالون، وذهبت قبل وصوله وجلست في شرفة لأراه وأسمعه وهو يلقي الخطاب. حضر جمال عبد الناصر وألقى خطابه التاريخي. بعد رجوعي للبيت حضر الرئيس وجاء كثير من الزوار، وامتلأ الدور الأول وظل معهم ثم صعد للدور الثاني.. ولم ينم وظل طول الليل يتحدث بالتلفون وقال لي: لم يكن أحد من الوزراء يعلم بتأميم القناه غير اثنين.. والباقي ذهل عند سماعه الخبر ونحن مجتمعون في الصالون. وحدثني عن كلمة السر دلسبس.. فقلت له: عندما كنت تذكر دلسبس - وقد قلتها عدة مرات - كنت أقول في نفسي: لماذا يتحدث عن دلسبس؟ وكانت المفاجأة عند سماعي بتأميم قناة السويس.. وسمعته بصوته ونبراته الرنانة وهو يقول قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس. أمضى الرئيس ليلتين في إسكندرية في اتصالات وشغل متواصل ثم رجع للقاهرة.
تغييرات في بيت منشية البكري
البيت الذي نسكنه في القاهرة في منشية البكري ظل كما هو، لم يحصل فيه أي تغيير في المباني أو الفرش حتى سنة 1956. في شهر أغسطس ابتدأ بناء دور ثان، ورتب على أن يكون الدور الأول للمكتب وعدد 2 صالون وحجرة للسفرة. والدور الثاني لحجرات النوم والمكتب للأولاد وصالة وحجرة للسفرة ملحقة بالمدخل. وبقيت والأولاد في إسكندرية، والرئيس في القاهرة في مبنى مجلس الثورة بالجزيرة أو في استراحة القناطر. وعند ابتداء الدراسة رجعت من إسكندرية وكان البناء في البيت لم ينته بعد، فذهبنا إلى استراحة القناطر.. وفي آخر سبتمبر رجعنا للقاهرة ليكون الأولاد قريبين من المدارس، ومكثنا في قصر الطاهرة حتى ينتهي البناء في منشية البكري. لم يكن الرئيس مرحبًا بالبقاء في قصر الطاهرة ويشعر بأنه غير مستريح، وكان يقول لي: لا أحب القصور ولا الحياة في القصور، ويستعجل الانتهاء من البناء ويسأل السكرتير عن اليوم الذي نذهب فيه إلى منشية البكري، فكان الشغل مستمرا في بناء الدور الثاني في البيت حتى ينتهي بأسرع وقت. مكثنا في قصر الطاهرة حتى يوم 27 أكتوبر، ورجعنا لبيتنا في منشية البكري. قال لي الرئيس: لقد تغيرت موبيليا حجرة السفرة.. إن لها ذكرى عزيزة عندي فقد أمضيت سنين أشتغل فيها، وقضيت ساعات أجلس على الترابيزة وأشتغل حتى يوم 23 يوليه وقال: أين ذهبوا بها؟.

جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق

السفير 22/01/2011



هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (٦)

الرئيس قال لـ «المشير»: تحية انفصالية.. ضد الوحدة مع سوريا


صورة

العدوان الثلاثي

في يوم 29 أكتوبر سنة 1956 كان عيد ميلاد ابني عبد الحميد. كان الرئيس موجودًا في البيت في مكتبه، وقد طلب مني أن أخبره عند حضور الأطفال، إذ كان يسعده أن يحضر حفل أعياد ميلاد أولاده. دخل حجرة السفرة وصافح الأطفال، ووقف لدقائق وقت إطفاء الشموع، وكان عمر عبد الحميد خمس سنوات، ورجع لمكتبه. ثم بعد ذلك - وكنت لم أزل في الدور الأول والبيت مليء بالأطفال - رآني في الصالة قبل خروجه وقال لي إن عنده اجتماعا وخرج. في يوم 31 أكتوبر سنة 1956 حصل الاعتداء الإنكليزي الفرنساوي، وكان الرئيس في البيت. طلب مني أن أنزل إلى الدور الأول مع الأولاد، وصعد هو إلى سطح البيت ليرى الطائرات، ثم دخل مكتبه وظل فيه.

بقيت يومين في الدور الأول، وهو يخرج ويرجع في ساعة متأخرة من الليل، ويصعد لحجرة النوم في الدور الثاني، ويطلب مني أن أبقى والأولاد في الدور الأول، وجهز ترتيبا لنومنا والغارات مستمرة، حتى سقطت قنبلة قريبة من بيتنا وتناثرت شظاياها في الحديقة، وكان اليوم الثالث للاعتداء وكل الساكنين في المنطقة قد غادروها.
قبل خروج الرئيس في الصباح، وكنت واقفة معه في الحجرة، قال لي بالحرف: أنا ورايا البلد، وأنت معاك أولادك، وسيحضر صلاح الشاهد ويوصلكم لبيت في مكان بعيد عن الضرب وقت الظهر. وكان لا يعرف المكان الذي سنذهب إليه في أي جهه أو شارع.. وحياني وخرج. ذهبنا لبيت في الزمالك صغير مكون من دور و«بدروم» وفي شارع ضيق، وكنت لم أر بيتا في حي الزمالك بهذا المنظر.. فهو قديم والفرش قديم وغريب، وله حديقة صغيرة جرداء ليس بها زرع. سألت صلاح الشاهد لمن كان هذا البيت؟ قال إن صاحبته أميرة ولم تكن تسكن فيه، إذ تعيش في الخارج. طلبت أن أكلم الرئيس في التلفون وكلمني وسألني عن الأولاد، وفي اليوم التالي طلبته أيضًا في التلفون وتحدثت معه. وبعد ذلك طلبت أن أكلمه فرد عليّ زكريا محيي الدين وقال: إن الرئيس غير موجود في مجلس الثورة، وذهب في مهمة وسيكلمك عندما يرجع إن شاء الله. وطبعًا انشغلت جدًّا حتى طلبته ورد عليّ بنفسه.. وعلمت بعد ذلك أنه كان في طريقه لبورسعيد. طلب الرئيس مكالمتي بالتلفون، وكان الوقت الساعة الثامنة صباحًا والقتال أوقف قبلها بساعات، وقال: يمكنك الآن أن ترجعي منشية البكري بعد أن مكثت خمسة أيام في منزل الزمالك. وجدت حي منشية البكري خاليًا ولم يرجع أحد لمسكنه، والرئيس ظل في مجلس الثورة، وكنت أكلمه بالتلفون كل يوم.. وعند انتهاء المكالمة كما هي عادته يقول لي: عاوزة حاجة؟ فأشكره. وبعد أكثر من أسبوع سألته متى ستحضر إلى البيت؟ فقال: بعد خروج الإنجليز. وفي مرة كنت أتحدث معه بالتلفون وكعادته قال: عاوزة حاجة؟ فقلت: عاوزة الإنجليز يخرجوا.. وضحكنا. وبعد ثلاثة أسابيع وكانت الساعة العاشرة مساء اتصل أحد الضباط بالتلفون وقال: سيادة الرئيس في الطريق للبيت، وكنت والأولاد لم نره منذ مغادرتنا منشية البكري. رجع جمال إلى البيت وكان عنده إنفلونزا وارتفاع في درجة الحرارة وقال: لقد صمم الدكتور أن أرجع إلى البيت، وأرتاح حتى تزول الإنفلونزا، وإن البقاء في مجلس الثورة لا يساعد على الشفاء وانخفاض الحرارة سريعا.

يوغوسلافيا.. أول سفر للخارج

كانت الوحدة مع سوريا في شهر فبراير.. زاد شغل الرئيس فوق أعبائه وسافر لسوريا ومكث شهرا وبقيت في القاهرة. في صيف سنة 1958 ذهب ليوغوسلافيا واصطحبني معه بدعوة من الرئيس تيتو، وبإلحاح في دعوتي والأولاد. سافرنا على مركب الحرية، وكانت أول مرة يصطحبني معه وأسافر للخارج. ذهبت مع الأولاد للإسكندرية ووصلنا المركب ثم حضر بعدنا، وكان يرافقنا في الرحلة الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية ومحمد حسنين هيكل وزوجتاهما. عندما وصلنا ميناء دبروفننج كان في استقبالنا الرئيس تيتو والسيدة حرمه.. وكنت أول مرة أشاهد استقبالا رسميا أو أكون في مكان رسمي، وكانت الموسيقى تعزف ونقف ثم نسير وأنا بجانب الرئيس، وكان يلتفت بسرعة ويقول لي هامسا أن أقف أو أن أمشي أو أن أتقدم بضع خطوات حتى لا أغلط.. ومشيت بتوجيهه همسًا ولم أرتبك.
تناولنا الغداء مع الرئيس تيتو وكل المرافقين له والمرافقين للرئيس، وفي المساء ذهب هو والمرافقون مع الرئيس تيتو لحضور احتفال بمناسبة تاريخية، لا أذكرها في بلد هناك، ومكثت مع السيدة يوانكا حرم الرئيس تيتو والسيدات المرافقات في دبروفننج لمدة يومين. رجع الرئيسان وغادرنا دبروفننج لبريونى معا، وعند صعودنا إلى المركب ووصولنا لجزيرة بريوني كان الاحتفال الرسمي نفسه، وكان الرئيس، وأنا أسير بجانبه، يلتفت إليّ ليهمس فيجدني أتقدم بالخطوات، وأقف ثم أسير معه قبل همسه. وفي المساء قال لي: إنك تعلمت. فقلت له: السبب إني حفظت نغمة الموسيقى. مكثنا في جزيرة بريوني يومين ثم غادرناها بالعربات نتنقل في يوغوسلافيا الجميلة. وكانت تحصل لي مواقف أرتبك فيها، وفي البلد الذي نصل إليه أو نبيت فيه يستقبلنا رئيس جمهورية من جمهوريات يوغوسلافيا، كما هو النظام هناك. وأذكر قبل مغادرتنا بلدًا في الصباح قال لي الرئيس: سيكون موجودا رئيس الجمهورية، الذي لم يكن قد حضر للبلد بعد عند وصولنا.. فسلمي عليه، قلت: نعم. وعندما نزلنا وكنت بجانبه وجدت واحدًا واقفا في وسط الصالة في اللوكاندة لم أره من قبل فسلمت عليه، فنظر لي الرئيس وكان الرئيس تيتو مقبلا وبجانبه رجل آخر لم أره أيضًا من قبل، وقال هامسًا: سلمي على الرئيس تيتو والذي بجانبه. وفي المساء ونحن بمفردنا قال لي: لقد قلت لك سلمي على رئيس الجمهورية، فوجدتك صافحت «المتردوتيل» أولاً، وكان الرئيس يضحك وهو يتحدث فقلت له: لقد قلت لي إنه يوجد رئيس جمهورية البلد وقد حضر في الصباح فوجدت رجلا لم أره من قبل فقلت في نفسي هذا هو رئيس الجمهورية.. وضحك كثيراً وضحكت وقلت: سوف لا أغلط مرة ثانية.
وفي اليوم التالي.. وكنا وصلنا لبلد آخر، وكان الرئيس ركب عربة مع الرئيس تيتو وركبت عربة بجوار المدام، ووقفت عربة الرئيسين ونزلا أولاً، وكان يقف ثلاثة رجال في استقبالنا أمام اللوكاندة فلم ألاحظ الذي صافحه الرئيس أولاً. وفي المساء قال لي: لقد صافحت السكرتير أولاً ولاحظت عليك الارتباك.. وضحكنا. وبعد ذلك لم يقل لي ملاحظة في المساء فقلت له: إنني لم أغلط اليوم وها نحن لم نضحك. قضينا أسبوعا في يوغوسلافيا، وقامت ثورة العراق أثناء وجودنا هناك، وتأزم الموقف الدولي، وغادرنا بريوني بالمركب في طريقنا للإسكندرية، ولم يكن الرئيس تيتو مطمئنا للسير في البحر لوجود الأسطول الأميركي في البحر الأبيض. وفي طريقنا، ونحن لم نزل في بحر الأدرياتيك، أرسل برقية يحذر فيها الرئيس من الاستمرار في الرحلة لخطورة الموقف. كان الوقت مساء.. وكنت مع الأولاد وحرم الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية نشاهد فيلما وتوقفت المركب عن السير. وبعد انتهاء الفيلم قمت لأذهب إلى حجرتي فقابلني في تراس المركب محمد حسنين هيكل، فتبادلنا التحية وقال لي: سأسألك سؤالا.. الموقف في منتهى الحرج والرئيس تيتو يخشى استمرار الرحلة، والمركب توقف عن السير، والرئيس يشتغل في حجرة العمليات يتلقى الأخبار والبرقيات، وأنا أفكر ومن وقت وأنا أتمشى وألاحظك تشاهدين فيلما في السينما. فواحد من اثنين.. إما أنا جبان أو أنت شجاعة جدًّا.. فقلت: لا ده ولا ده إنها مسألة اعتياد.. فقد اعتدت على المواقف الصعبة. فرد: إني لا أخشى على نفسي قط بل أخشى على الرئيس جمال عبد الناصر فقط، فالأمريكان لا يهمهم إلا هو. قلت: إن شاء الله تنتهِ على خير. وظل المركب واقفا حتى الصباح والرئيس يشتغل، وفي الصباح غادر المركب إلى مدمرة - إذ كانت ترافقنا مدمرتان - ومعه وزير الخارجية ومحمد حسنين هيكل، ورجع بنا المركب لجزيرة بريوني.
وصلنا في اليوم التالي.. السيدات والأولاد والمرافقون. ذهبنا لفيلا الضيافة، وبعد وصولنا طلبني الرئيس تيتو لأقابله، وكان يقيم في فيلا بجوار فيلا الضيافة. قال لي: إن الرئيس جمال عبد الناصر موجود في الاتحاد السوفياتي في مكان خارج موسكو، والزيارة سرية وسوف لا يذاع مكان وجوده الآن، ورجوعكم لبريوني سيظل طي الكتمان، وسوف تمكثون في الفيلا ولا تخرجون حتى لا يعرف أحد مكانكم، ولا تقولي لأحد، وعندما تصلني أخبار سأخطرك بها. مكثنا يومين لا نظهر خارج الفيلا، والمرافقون، ومنهم كبير الأمناء والطبيب مكثوا في الدور الذي تحت الدور الأول ببضع سلالم، وكلما حاول أحد منهم الخروج للحديقة منعه الحرس.
طلب كبير الأمناء مقابلتي، وكان منزعجا وقال: إننا نكاد نكون كالمعتقلين، وسألني إذا كنت أعرف أين ذهب الرئيس، وقال إنه والمرافقين قلقون جدًّا عليه. قلت: إن الرئيس تيتو قال إنهم في مكان ما وبخير.. وسوف يخبرني عندما تصله أخبار. كانت مدام تيتو تحضر وتبقى معنا حتى المساء، وكانت السيدات قلقات وأكثرهن قلقا حرم محمد حسنين هيكل إذ كانت تبكي، وكنا نستمع للإذاعة وعرفنا أنهم وصلوا لسوريا.. الرئيس جمال عبد الناصر ومعه المرافقون له. وأخيرا سمح لنا بالخروج، ودعانا الرئيس تيتو إلى رحلة في يخت جميل أمضينا فيه اليوم.
بعد أن وصل الرئيس للقاهرة، وكان قد رجع على طائرة سوفياتية، هبطت الطائرة نفسها في اليوم التالي في بريوني لنستقلها للقاهرة، وكانت أول مرة أركب طائرة. كان موعد وصولنا يوم 22 يوليو والرئيس سيلقي خطابا في المساء. أخبره السكرتير عن الساعة التي ركبنا فيها الطائرة، بينما كان الرئيس في مكتبه يكتب وحان موعد وصول الطائرة، وكان قد طلب من السكرتير أن يخبره عند وصولنا. ظل الرئيس ينتظر ويسأل السكرتير مدة ساعتين، ويحسب الوقت الذي يمكن أن تطير الطائرة فيه والوقود الذي تحمله ويجد الوقت فات بساعتين. قال لي الرئيس: لقد وضعت القلم وجلست أفكر وأنا في غاية القلق، وحان وقت خروجي لإلقاء الخطاب فخرجت من المكتب لأركب العربة.. رأيت الضابط يجري مسرعًا وقال لي: لقد وصلوا المطار في أنشاص، إذ لم يكن مطار القاهرة قد جهز بعد لاستقبال الطائرات الكوميت النفاثة. قال لي جمال: لقد كان من أحرج الأوقات التي مرت بي يا تحية وأنا أنتظركم وأصعبها.. وقابلنا بحرارة. وكان السكرتير أخبره عن الميعاد الذي ركبنا فيه قبل ركوبنا الطائرة بساعتين.

ست سنوات ولم نخرج معا

كنا في استراحة القناطر وكنا راجعين للقاهرة في المساء، وكنت أركب العربة مع الأولاد ويركب الرئيس عربته.. وكان يفضل أن نسبقه. كنا جالسين في الحديقة وأنتظر دخول العربة، فقلت: لقد مضت سنوات لم أخرج معك في عربة.. فقال لي: فلتركبي معي ونرجع معا، وكان أحد الضباط يقف بجوار عربة الرئيس وعندما رآني قال: تفضلي.. ومشى لعربتي وظن أني لم أنتبه لها، فوجدني ركبت عربة الرئيس، وظهر عليه الارتباك فقلت للرئيس: إنهم مندهشون اليوم فقد مضت 6 سنوات لم نخرج معا في عربة. لم يكن يوجد وقت يقضيه معي إلا أنه كان يحب أن أكون بجانبه وهو في البيت وفي حجرته، وإذا صعد من مكتبه أو حضر من الخارج ولم يرني عند حضوره يقول لي: لقد بحثت عنك ودخلت حجرتك. وأحيانًا يدخل حجرات الأولاد وتكون فرصة لملاطفتهم والبقاء معهم لدقائق. لم أره أبدًا يستريح، وكل وقته شغل يقرأ أو يكتب أو يتحدث بالتلفون، والوقت الذي لا يشتغل فيه هو الساعات التي ينامها فقط. وكنت أستمع لحديثه بالتلفون ولا أعلق أو أفتح فمي بكلمة مهما كان الحديث من الأهمية والخطورة، والدوسيهات ترسل وأضعها في حجرته على الترابيزة بجانبه قبل حضوره. وأثناء وجوده في حجرته ترسل مذكرات يقرأها ويعطي تعليمات بالتلفون أو يكتب مذكرات وترسل للسكرتارية، والجرائد العالمية ترسل كل يوم ويقرأها.. فكنت أظل أياما لا أجد وقتا أتحدث فيه معه إلا تحيته لي التي لا ينساها أبدًا حتى إذا تكرر دخولي الحجرة عدة مرات.
خريف سنة 1958
بعد رجوعنا من إسكندرية.. مرض الرئيس بالسكر وأخبرني بمرضه فحزنت جدًّا، وكنت أنزل للحديقة بمفردي وأبكي، وانقطعت عن أكل الحلوى لوقت طويل من شدة حزني، وكنت لا أقدم الأصناف التي لا توافق العلاج فكان يطلبها ولا يأكل منها، وكان يقول لي: الحمد لله إن مرض السكر أخف من أمراض أخرى كثيرة.. ولحرصي الشديد على صحته كنت أقوم بطهو ما يأكله بنفسي في أغلب الأيام.
أول عشاء رسمي

مع الرئيس والإمبراطور هيلاسلاسي

في شهر فبراير سنة 1959 سافر الرئيس لسوريا وقت عيد الوحدة ومكث حوالى شهر.. وبقيت في القاهرة. في يونيو سنة 1959 حضرت أول عشاء رسمي مع الرئيس وكان لإمبراطور الحبشة هيلاسيلاسي.. حضره الوزراء وزوجاتهم والسلك الدبلوماسي. وقفت بجوار الرئيس والإمبراطور والمدعوون يمرون لمصافحتنا، وبعد انتهاء الاستقبال شعرت بسرعة في دقات قلبي وإغماء، وكنت جالسة بجوار الرئيس والإمبراطور.. أخبرته بما أشعر به، فقال لي أن أذهب وأستريح في حجرة مكتبه.. وكنا في قصر القبة. غادرت حفل العشاء وأحضر لي طبيبا وظل هو مع الإمبراطور والمدعوين حتى انتهى العشاء.. وكنت تحسنت ورجعت لحالتي الطبيعية ورجعنا إلى البيت. وفي اليوم التالي عمل لي فحص طبي، ولم يكن بي أي مرض إلا أنه مجرد انفعال لحضوري في حفل رسمي وأول عشاء لي وكان مع الإمبراطور. في عشاء آخر.. وكان مع الرئيس نهرو رئيس وزراء الهند.. ذهبت مع الرئيس وجلست على ترابيزة الأكل بين نهرو والرئيس وابتدأنا في العشاء، وأخذ الرئيس نهرو يتحدث معي وأنا بجواره.. شعرت بسرعة نبضات قلبي والإغماء ونفس ما حصل لي في حفل الإمبراطور. قررت أن أظل كما أنا في مكاني ولا أخبر الرئيس، وأتحمل ما يجري لي حتى ولو توقف قلبي، ولن أغادر المكان. وفي آخر المأدبة وعند تقديم الحلوى شعرت بحالتي ترجع طبيعية، وبعد انتهاء العشاء قمت ومشيت بجوار الرئيس نهرو والرئيس وأنا في حالة عادية. ونحن راجعون في الطريق قال لي جمال: لقد لاحظت عليك أثناء العشاء أنك غير عادية، فقلت الأحسن ألاّ أشعرك بأني لاحظت شيئًا حتى لا تزداد حالتك، وأخذت أتحدث مع السيدة التي بجواري ولم ألتفت ناحيتك. فقلت له ما حصل لي. وفي اليوم التالي عمل لي فحص طبي وقال لي الدكتور: لقد عالجت حالتك بنفسك والآن سوف لن تحصل لك مرة ثانية، وأعطاني حبوبا أتناولها قبل ذهابي لمآدب العشاء الرسمية، وكنت أتناولها قبل خروجي مع الرئيس.. وبقيت هكذا لفترة وكان الضيوف كثيرين.. وبعد ذلك اعتدت وأصبحت لا أتناول الدواء، وأصبح حضوري المآدب الرسمية شيئًا عاديًّا، وكنت في أغلبها أهدى بنيشان فيتضاعف الموقف الرسمي.
الزيارة الرسمية إلى اليونان

سنة 1960..

تلقى الرئيس دعوة من الرئيس تيتو، ودعاني والأولاد لنقضي أياما في جزيرة بريوني أثناء إجازة الصيف. وكان الرئيس قد تلقى دعوة مماثلة من ملك اليونان ودعيت معه، وتكررت الدعوة فرتب أن نذهب لليونان في طريقنا لبريوني. وسافر كبير الأمناء لليونان قبل سفرنا فأخبره رئيس البروتوكول اليوناني أن العشاء يجب أن يكون بملابس السهرة للرجال والسيدات. رجع كبير الأمناء وأخبر الرئيس فرد وقال: سوف لا أرتدي ملابس السهرة أو ألغي السفر لليونان. اتصل كبير الأمناء برئيس البروتوكول في اليونان وأخبره بما قاله الرئيس، فكان الرد أن الملك يرحب بحضور الرئيس جمال عبد الناصر وينتظر زيارته باللبس الذي يريده.. المهم أن يزور اليونان. ركبنا المركب « الحرية».. الرئيس وأنا والأولاد ووزير الخارجية الدكتور محمود فوزي ومحمد حسنين هيكل وزوجتاهما. وصلنا ميناء برييه واستقبلنا الملك والملكة وأولادهما - ولي العهد وشقيقتاه - في قارب حتى المركب، ونزلنا في الميناء في استقبال رسمي وغادرنا في عربات.. الرئيس مع الملك وأنا مع الملكة حتى القصر الذي سنقيم فيه، وكان بجوار قصر الملك. أقام الملك مأدبة عشاء حضرها أعضاء الأسرة المالكة والسلك الدبلوماسي ورئيس الوزراء والوزراء، وكان النظام أن يقف المدعوون على جانبي البهو الكبير ونمر في الوسط لتحيتنا كما هي عادة الملوك. وقفت الملكة بجوار الرئيس لتتأبط ذراعه وتمشي بجواره فقال لها: سأمشي بجوار الملك وأنت تمشين بجوار زوجتي، فسألته الملكة: وماذا لو تأبطت ذراعك؟ قال لها: إني أخجل.. فرجعت الملكة ووقفت بجواري وقالت لي بالإنجليزية: أعطيني يدك أو آخذ يد زوجك.. ومشينا وسط المدعوين يحيوننا.. الرئيس بجانب الملك وأنا بجانب الملكة.

الوحدة والانفصال

كان الرئيس يسافر في عيد الوحدة لسوريا ويمكث أكثر من شهر، ولم أذهب معه إذ كان يفضل أن أبقى مع الأولاد.
سنة 1961.. في يوم 28 سبتمبر في الصباح.. وكنت بجوار الرئيس.. تلقى مكالمة تلفونية تخبره بأنه وقع انقلاب عسكري في سوريا، وكان المشير عبد الحكيم عامر هناك. قام بسرعة وارتدى ملابس الخروج والتأثر يبدو عليه وخرج، ولم أقل أي كلمة كعادتي مهما كان الحديث من الأهمية. سمعته في الراديو يخطب وهو في غاية التأثر.. كان شعوري وأنا أسمعه.. متأثرة لحزنه، وفي نفس الوقت للحقيقة لم أكن حزينة للانفصال. بعد إلقائه الخطاب رجع إلى المنزل والتأثر يبدو عليه للغاية، ثم خرج ثانية وبقيت في البيت أتتبع الأخبار من الإذاعة. وفي الواقع لم تكن الوحدة بالنسبة لي شيئًا أستريح له.. لأنه أولا زاد عمله لأقصى حد، وفي آخر سنة 1958 مرض بالسكر من كثرة الشغل.. وبالإضافة إلى ذلك سفره وقت عيد الوحدة. رجع الرئيس في المساء وكنت في الحجرة وبجواره.. لم يقل أي كلمة ولم أقل أي كلمة، وكنت لا أدري ماذا أكون؟.. زعلانة متأثرة أم لا؟ كنا في الصيف في إسكندرية في المعمورة، وكان قد بُني بيتان متجاوران في سنة 1959 للرئيس والمشير عبد الحكيم عامر.. المبنى والشكل متطابقان، وقد أصبح بيت المشير عبد الحكيم عامر استراحة الرئيس أنور السادات بالمعمورة في ما بعد. كان المشير يحضر ويجلس مع الرئيس على الشاطئ.. وكان الوقت صيفا بعد الانفصال، وكنت جالسة بجوارهما وتكلما عن سوريا والانفصال، فقال الرئيس عني للمشير: إنها انفصالية، ولم تكن تعجبها الوحدة.. وضحكا. وكانت هي الحقيقة فضحكت وقلت: إنها كانت عبئا وأزيح.. وضحكنا جميعًا. كما قلت دائمًا وهو في المنزل، في الوقت الذي يكون فيه في الدور الثاني، أكون بجواره بالليل أو بالنهار، وهذه رغبته وكان يشتغل باستمرار.. في الحجرة، في المكتب، وهو مستلق على السرير، فكنت أستمع لأحاديثه التلفونية وأحيانًا يكون المتحدث معه محمد حسنين هيكل. وبعد ذلك في يوم الجمعة الذي يكتب فيه هيكل مقاله بصراحة في جريدة «الأهرام» مرات أجد في المقالة مما قد سمعت في حديث الرئيس له.

جميع الحقوق محفوظة لدار »الشروق»

السفير 24/1/2011



هكذا تحدثت تحية عبد الناصر(7)

أول يونية 1967..



كان الاعتداء الإسرائيلي على سوريا وكان الرئيس يجلس معنا في الصباح.. قال: إن اليهود سيعتدون على مصر، وحدد بالضبط يوم الاثنين المقبل.. وحصل الاعتداء الإسرائيلي في اليوم الذي حدده الرئيس.. 5 يونيه 1967 في الصباح. في يوم 9 يونيه ألقى الرئيس خطابا، وكنت جالسة في الصالة كعادتي وقت إلقائه خطاباته أمام التليفزيون ومعي أولادنا، وسمعته وهو يعلن تنحيه عن الحكم، ورأيت الحزن على وجهه وهو يتكلم، ولم أكن أعرف أو عندي فكرة أبدا عن التنحي، وكان يجلس معي عبد الحميد وعبد الحكيم أصغر أبنائي ــ وكان في الثانية عشرة ــ فرأيت على وجهيهما الحزن، ودخل ابني خالد الصالة أيضا فقلت لهم: إن بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا. رد عبد الحميد وقال بالحرف: أحسن يا ماما علشان بابا يستريح، وقاموا يمشون في البيت كالعادة. لم تمض دقائق حتى علا صوت الجماهير حول البيت.. وحضر الرئيس وصعد للدور الثاني ودخل حجرته وخلع بدلته ولبس البيجاما ورقد على السرير. انسد الشارع وتعذر الدخول للبيت، ومنهم من لم يستطع الوصول للشارع الذي فيه بيتنا. حضر معظم المسئولين.. نواب الرئيس ووزراء وضباط وامتلأ الدور الأول، ومنهم من كان يبكي بصوت، ويصعد السلالم ويطلب الدخول للرئيس في حجرته.

ورأيت بعضهم جلس على السلالم ينتحب وكنت أسمع صوت بكائه.. فكنت أدخل للرئيس في الحجرة وأخبره عمن يطلب مقابلته. وقد سمح لعدد قليل بالدخول إلى حجرته.. ثلاثة أو أربعة وأراهم يخرجون من عنده وهم ينتحبون، ثم قام وارتدى البدلة ونزل للدور الأول ومكث معهم لوقت قصير. وصعد إلى حجرته مرة أخرى وخلع البدلة وارتدى البيجاما ورقد في السرير وأخذ مهدئا وقال: سأنام. وكان محمد علوبة الخاص بخدمته قد صعد وخبط على الباب ومعه مذكرة وأوراق فقال لي الرئيس: قولي له لا يحضر أي أوراق وينصرف، وبقيت بجانبه وأصوات الجماهير تزداد حول البيت. نمت حتى الصباح وقمت كالعادة وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه، وخرجت من الحجرة وظل هو راقدا على السرير.. وكنت عندما أخرج من الحجرة في الصباح أخرج بهدوء ولا أدخلها حتى أسمع الجرس ليدخل الخاص بخدمته. وبعد وقت أدخل له ونتبادل تحية الصباح ثم أتركه ويكون قد بدأ في القراءة والاتصالات.. حتى يطلب الإفطار ويطلبني لأجلس معه. لم أدخل الحجرة في هذا الصباح إذ كان يدخل له زوار فرادى يمكثون وقتا قصيرا ويخرجون.. وهو في حجرته لم يغادرها. وقت الظهر وجدت الحديقة من الخلف يرص فيها كراسي صفوفا، ووجدت الإذاعة والتليفزيون تجهز في الحديقة، ورأيت مذيعا من الإذاعة وفريقا من الأخبار في التليفزيون، ونظمت الكراسي ووضعت منضدة أمام الصفوف. سألت: ما هذا؟! فقيل لي إن مجلس الأمة سيجتمع هنا. وكان ترتيب الكراسي والصفوف بشكل أدهشني وكأنها صالة مجلس الأمة في الهواء الطلق.. فقلت في نفسي: لقد رأيت كثيرا من المواقف والمفاجآت الغريبة في حياتي، وها هي تختتم بمجلس أمة في البيت. تركت الفراندة، وكنت أعد أكلا خاصا للرئيس فذهبت لإكماله.. فدخلت ابنتي منى وقالت: يا ماما أنور السادات ــ وكان في منصب رئيس مجلس الأمة ــ يعلن في التليفزيون أن بابا رجع رئيسا للجمهورية وأنت يا ماما هنا؟ فذهبت للصالة ورأيت أنور السادات وقد قرب من الانتهاء من الحديث فسألت: وما هذا مجلس الأمة الذي أعد في البيت في الحديقة والإذاعة والتليفزيون؟ فقالوا لي: إن أعضاء مجلس الأمة لم يمكنهم الحضور لشدة ازدحام الشوارع بالجماهير، وهم مجتمعون الآن في مقر المجلس بعد أن قبل الرئيس بالعدول عن التنحي. كل هذا والرئيس في حجرته لم يخرج منها.. دخلت له في الحجرة ووجدته راقدا على السرير.. ولم أقل شيئا. في صيف سنة 1967 بقينا في القاهرة حتى شهر أغسطس فقال لي الرئيس: اذهبي إلى إسكندرية مع الأولاد، وظل هو في القاهرة. وفى شهر سبتمبر حضر الرئيس للإسكندرية بعد أن أحبط مؤامرة دبر لها المشير عبد الحكيم عامر للرجوع لمنصبه بالقوة، بعد تغيير الرئيس للقيادة في القوات المسلحة. أمضى جمال أياما قليلة معنا وفوجئ بانتحار المشير.. تلقى النبأ بحزن عميق ورجع للقاهرة.. ورجعت مع الأولاد في اليوم التالي. وجدت الرئيس حزينا وأشد ما أحزنه أنه عبد الحكيم عامر الصديق، وظل مدة على وجهه الحزن. كان الرئيس يعمل باستمرار.. وأثناء الليل كنت في أي وقت وبعد أن ينام أسمع جرس التليفون ويكون من القيادة.. والقائد يطلبه في أي وقت وهو يطلبهم ويعطى أوامر وتوجيهات، وتكون عمليات عسكرية مرتبة وينتظر معرفة النتيجة، ومنها ما كان لا ينفذ حسب تعليماته وتوجيهاته وتحدث أغلاط فكان ينفعل.. وهذا أثناء الليل وأنا بجانبه وأرى على وجهه الضيق. والمذكرات ترسل له في أي وقت من الليل أو النهار ووقت الغداء الذي كما ذكرت لم يكن له ميعاد.. يجهز الأكل على الترابيزة وأذهب له وأخبره ونجلس كلنا.. الأولاد الموجود منهم على السفرة التي هي في الجانب من المدخل في الدور الثاني، وننتظر حضور الرئيس إلى السفرة وهو في حجرته مشغول بالحديث في أمور العمل حتى يدخل ويجلس لدقائق يتناول فيها الغداء، وإذا تأخر وطال انتظارنا كان يقول: لقد تأخرت عليكم.. لِمَ انتظرتموني؟

سنة 1968..

شعر الرئيس بألم في ساقه استمر لأشهر، ولم أره قد قلل من شغله أو استراح أبدا. قابل السفير محمد عوض القوني فأخبره أنه كانت عنده الأعراض نفسها في ساقه، وذهب لبلد في الاتحاد السوفييتي حيث توجد مياه معدنية تعالج هذه الحالة، وعمل حمامات لمدة ثلاثة أسابيع وشفى تماما بعد فترة، وكررها في العام الذي تلاه وأصبح لا يشعر بتعب وقد مضت عدة سنوات. وكان الرئيس في زيارة للاتحاد السوفييتي في الصيف، وقبل عودته للقاهرة عمل له فحص طبي هناك وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين.. وتوقف عنه وهو في الاتحاد السوفييتي، وكانت آخر سيجارة أطفأها هناك. قالوا له أيضا عن العلاج بالحمامات بالمياه المعدنية فرد: سأحضر للعلاج.. وكان ترحيبا بالغا وعاد للقاهرة. كان أول حديث له معي أنه توقف عن التدخين قبل يومين، وحدثني عن السفر للاتحاد السوفييتي للعلاج وقال: سترافقيني ــ إن شاء الله ــ وسيرافقنا أولادنا خالد وعبد الحكيم وعبد الحميد. في آخر يوليو غادرنا القاهرة على طائرة سوفييتية خاصة بالرؤساء جاءت للقاهرة خصيصا لنسافر عليها. وصلنا لجمهورية جورجيا في مطار حربي، وكان في استقبالنا رئيس الجمهورية وزوجته، ورافقونا لبلدة سخالطوبو التي توجد فيها المياه المعدنية والحمامات لعمل العلاج، وتبعد نصف ساعة بالعربية عن المطار، وهى بلد صغير به ثلاث أو أربع مصحات، ومنظم لإقامة المرضى ومرافقيهم من أهلهم فقط، وبه شارع كبير واسع حوله أشجار منسقة ومقاعد، وفى آخر الشارع توجد محال أغلبها لبيع المرطبات والفاكهة، وكل شيء لخدمة المرضى والمرافقين لهم، ولا توجد مبان للسكن، ولا يذهب إليها إلا المواطنون الروس. أخليت مصحة لإقامة الرئيس، وكان يزوره كبار الأطباء، وأقام معنا طبيب ليتولى مباشرة العلاج، وكان الرئيس قد أبدى رغبته بأن تكون الزيارة للعلاج فقط ولا يقابل المسئولين هناك. رتبت رحلة لأولادنا لقضاء وقت على الشاطئ في البحر الأسود وزيارة موسكو. وكان الرئيس يخرج كل صباح إلى الحمام الذي يبعد عن المصحة بدقائق ويرجع ونتناول الإفطار سويّا، ويخرج في المساء حسب تعليمات الأطباء ليمشى لوقت في الشارع، ويرافقه الدكتور المصري الصاوي حبيب والروسي والسفير المصري والسكرتير الخاص والضباط المرافقون. وكنت أخرج أمشى مع حرم السفير وكان يقيم معنا في المصحة، وأحيانا كنا نتقابل مع الرئيس ونراه وهو جالس على أحد المقاعد ومعه المرافقون، وما زلت أحتفظ بصورة وأنا أمشى في الشارع وهو جالس على المقعد. كان الترحيب بالرئيس أثناء إقامته في سخالطوبو بالغا من الموجودين هناك، يقفون لينتظروه وهو ذاهب للحمام، وهو يتمشى في الشارع في المساء. كان كل ليلة بعد الساعة التاسعة مساء يجرى اتصالات بالتليفون في القاهرة، والحديث كله شغل وتوجيهات وتعليمات، وترسل له الجرائد العربية والأجنبية ويستمع للإذاعة. انتهت أيام العلاج ورجعنا للقاهرة وقد مضت 23 يوما.. وكان الأطباء الروس قد قالوا إن نتيجة العلاج سوف لا تظهر مباشرة، وسيستمر الألم في الساق لأكثر من شهر ثم يزول بالتدريج.. وشفى الرئيس وذهب عنه الألم الذي كان في ساقه والحمد لله.


عبد الحميد في الكلية البحرية

في سبتمبر سنة 1968 التحق عبد الحميد بالكلية البحرية، وكانت رغبته وهو لا يزال في الثانوي أن يلتحق بكلية عسكرية واختار الكلية البحرية. بعد الأسبوع الأول من ذهاب عبد الحميد للكلية كنت أجلس مع الرئيس وقال: وحشنا ميدو.. فقلت: إن أهالي الطلبة يزورونهم كل أسبوع.. فقال: يمكنك أن تزوريه وتقابليه خارج الكلية إذا كنت ترغبين.. فقلت: نعم. وفى الأسبوع التالي ذهبت إلى إسكندرية بمرافقة إخوته، وعمل ترتيبا لخروج عبد الحميد وقت الزيارة المحدد لأهالي الطلبة، ومقابلتي في العربة بجوار سور الكلية. عندما وصلت للكلية رأيت ضباطا واقفين عند الباب.. حيوني ومشيت بالعربة حتى آخر السور، وخرج عبد الحميد مع ضابط وجاء لي بمفرده فهلل إخوته عند رؤيته وهو حالق شعره ويرتدى الملابس العسكرية. بقى معنا حوالي عشر دقائق ورجع للكلية، ودخل مع الضابط الذي كان ينتظره بجوار الباب.. كانت توجد حجرة بجوار الباب يقابل الطلبة فيها أهلهم. قال لي الرئيس: إن شاء الله يا تحية نذهب سويّا في حفل التخرج ونرى عبد الحميد ضابطا بحريا. كنت أذهب كل أسبوع لزيارة عبد الحميد حتى انتهت الفترة التي يظل فيها الطلبة المستجدون في الكلية ولا يسمح لهم بالخروج، وفى آخر مرة أمطرت السماء أثناء الزيارة. قبل حضور عبد الحميد في أول إجازة قال لي الرئيس: اطلبي المصور ليأخذ لنا صورا معه وهو بالملابس العسكرية وقت حضوره ومقابلتنا له. طلبت المصور قبل وصول عبد الحميد، وأخبرت الرئيس بميعاد حضوره فقال إنه مشغول الآن، وحضر عبد الحميد وأخذت لي صورا معه في الحديقة عند دخوله البيت. تخرج عبد الحميد في الكلية البحرية في 29 يونيه 1972.. زارني قائد الكلية لدعوتي لحضور حفل التخرج.. وبعد انتهاء الحفلة دعاني وزير الحربية وقائد الكلية لتناول الشاي، وحضر المدرسون وطلب قائد الكلية الضابط عبد الحميد جمال عبد الناصر لمصافحتي.. وهنأته وودعوني بالترحيب وكأني مع الرئيس.

الانشغال بالقوات المسلحة

الرئيس مشغول جدا وأهم ما يشغله هو القوات المسلحة وإعادة بناء جيش قوى وطرد اليهود. كان يتصل في أي وقت من الليل بقائد القوات المسلحة، والمقاتلون يقومون بعمليات داخل سيناء، وينتظر رجوعهم ولا ينام حتى يعرف النتيجة. وإذا حصلت خسائر أرى الحزن على وجهه.. هذا في الوقت الذي أكون فيه بجانبه، وعند نجاح العمليات أرى على وجهه الارتياح. وفى مرة كان الطيران قد قام بعملية وطائرة فقدت وكان الوقت بعد الظهر، حزن على الطيار.. وكنت معه في الحجرة وسمعت ما دار من حديث. وفى المساء.. وكنت أمشى في الحديقة ونزل.. وكان يمشى أحيانا لدقائق قبل حضور زائر، فقابلني وقال لي: لقد وجد الطيار وهبط بالمظلة سالما.. ورأيت على وجهه الارتياح وقال لي: إني أخبرك لأني أعرف أنه يسعدك أن تعلمي بسلامة الطيار. وكنت أتأثر جدا عند سماعي لخسائر وأرتاح لنجاح العمليات، ولا أعلق بكلمة كما هي عادتي. وكان الرئيس يطلب منى كثيرا الدعاء بالنصر أثناء تأديتي للصلاة ويقول لي: ادعى على اليهود. لم أكن أتكلم معه فيما يختص بالسياسة أبدا إلا إذا هو تكلم.. وكان قليلا ما يتكلم معي في موضوع يتعلق بالسياسة. وفى مرة كنت أتحدث معه فقلت له: أنا لا أتحدث إلا عن أشياء عادية ربما تضايقك فقال لي: تكلمي كما أنت.. وهذا يعجبني منك ويسليني ولا يضايقني أبدا بل العكس إنه يريحني حديثك الذي يبتعد عما يتعلق بالشغل أي السياسة. الرئيس مشغول جدا ببناء الجيش والحصول على السلاح وتدريب الجيش.. وكل الحديث الذي أسمعه عن الحرب والسلاح. والضيوف.. رؤساء الدول الصديقة يحضرون بكثرة، والعشاء يقدم في البيت حيث توجد حجرة كبيرة للسفرة التي تستخدم صالة للسينما، وترتب فيها المائدة وتقام مأدبة العشاء ويحضر الضيف والوفد المرافق له ونواب الرئيس ووزير أو اثنان، وكنت أحضر العشاء وأرافق الرئيس في استقبالهم في المطار، إذ غالبا ما يكون الضيف ترافقه زوجته.

النوبة القلبية الأولى صيف 1969

بعد انتهاء امتحان خالد وحكيم ذهبت إلى إسكندرية إذ كان الرئيس يحب أن أكون مع الأولاد هناك، وكان يذكرني بأن أنبههم ألا يذهبوا بعيدا في البحر، وظل هو في القاهرة في منشية البكري حتى شهر أغسطس. حضر إلى الإسكندرية.. وبقى بضعة أيام أمضاها كلها في مقابلات وشغل.. يجلس في صالون يطل على البحر أو في مكتبه وأمامه دوسيهات يعمل باستمرار. قال لي إنه سيسافر ــ إن شاء الله ــ للاتحاد السوفييتي ويقابل المسئولين في موسكو، ثم يذهب لسخالطوبو لعمل العلاج بالحمامات هناك مرة أخرى، وكان الأطباء السوفييت نصحوه بأن يكرر العلاج بعد سنة. وقد بنى بيت جهز لإقامة الرئيس وقت العلاج، وقال لي الرئيس: سترافقيني، وسيكون السفر في شهر سبتمبر في الأسبوع الأول إن شاء الله. رجع الرئيس إلى القاهرة، وبقيت في إسكندرية حتى شهر أغسطس. في أول سبتمبر قامت ثورة ليبيا وانشغل الرئيس بأخبارها وتأجل السفر للاتحاد السوفييتي، ولم تمض إلا أيام قليلة وحضر قادة الثورة في زيارة للرئيس.. فقال لي: إن السفر سيكون في منتصف سبتمبر ــ إن شاء الله. بعد أيام شعر بتعب وارتفاع في درجة الحرارة، وأشار عليه الأطباء بالراحة في السرير.. وكانت النوبة القلبية. لم يخبرني وقال لي إن عنده إنفلونزا، وكان قد أوصى الأطباء بألا يخبروني عن مرضه. وبعد أيام.. وكنت أقابل ضيوفا في المساء في الدور الأول.. وبعد انتهاء الزيارة وجدت أدوات بجوار السلم فسألت: ما هذا؟ فقالوا لي إنها لعمل أسانسير.. ففهمت وصعدت السلالم وأنا أبكي. قابلني الدكتور الخاص خارجا ووجدني أبكى فقلت: إني رأيت استعدادا لعمل أسانسير.. إن الرئيس به شيء في قلبه. وطبعا الدكتور نفى وقال لي: إن أحد الأطباء المعالجين له مريض بالقلب ولا يستطيع أن يصعد السلالم، وسيجهز الأسانسير من أجله.. وطبعا الدكتور فوجئ ولم يجد كلاما يقوله لي غير هذا. ودخلت حجرتي وبكيت كثيرا. لم أظهر أي شيء أمام الرئيس ولم أذكر الأسانسير.. وبقيت كما أنا بجانبه.

كيف أمضى الرئيس أيام المرض؟

كان يتحدث بالتليفون طوال اليوم في توجيهات مع القوات المسلحة والوزراء وغيرهم، وقد لاحظ ذلك الطبيب الخاص الصاوي حبيب الذي كان يقضى وقتا في البيت، ويقوم بتحضير الدواء في أوقاته وينتظر حتى تنتهي المكالمة. وكنت قد لاحظت المجهود الزائد الذي يقوم به الرئيس رغم أنى لم أكن أعلم عن المرض في الأيام الأولى إذ كان يطلب وجبات الطعام تجهز على ترابيزة صغيرة في الحجرة، وأجلس معه ونتناول الطعام سويا.. أي لم يكن يرقد في السرير كما أعرف عن مرضى القلب.. ويقوم للحمام ويحلق ذقنه كالعادة، وكل ما كان يفعله ألا يذهب للصالة حيث حجرة الطعام الملحقة بها، أي أنه لم يكن يستريح في السرير كل الوقت، وأحيانا كان يجلس على فوتيه موجود في الحجرة في مكانه للآن. وقد أخبر الطبيب الخاص الأطباء المعالجين فنصحوه بالراحة التامة لكنه ظل كما هو. وبعد أقل من أسبوعين كان يطلب الزائر، ويصعد للدور الثاني ويقابله في المكتب الملحق بحجرته ويجلس معه لوقت.. والمقابلة شغل. وبعد شهر سألني: هل انتهى عمل الأسانسير؟ فظهر علىّ الارتباك.. فقال: إني أعلم أنه يجهز في البيت أسانسير، وقد سألني الأطباء ووافقت وإنك لم تقولي لي عنه.. فقلت: نعم إنه انتهى العمل فيه.. وقال: غدا ــ إن شاء الله ــ سأنزل للدور الأول. وفى اليوم التالي حضر مقابلة، وظل حوالي شهر يقابل الزوار في الدور الأول، وأحيانا في مكتبه في الدور الثاني. بعد مضى شهرين حكى لي الرئيس عن مرضه وقال: إنه كان نوبة قلبية لكن حاجة بسيطة الحمد لله.. فقلت: إني فهمت وكنت أعرف، وابتدأت أشعر بالدموع فخرجت من الحجرة.. بعد شفائه جاء شهر رمضان.. وكان أول مرة يفطر فيه الرئيس ولم يصمه.. يتناول وجبة خفيفة وقت الظهر ويتناول معنا الإفطار وقت المغرب.

عودة إلى العمل المكثف

في شهر يناير سنة 1970 سافر الرئيس لموسكو ورافقه طبيب اختصاصي مع الطبيب الخاص في زيارة قصيرة لمدة أربعة أيام. استمر الرئيس يخرج في المساء، ويجتمع بالضباط في القيادة، ويسهر لساعة متأخرة كما كان يفعل قبل مرضه. كان بعد أن ينتهي من الشغل والمقابلات في الدور الأول.. يطلب البالطو وقت الشتاء ويخرج، ولم يقلل من شغله أبدا، وكان الأطباء يطلبون منه الراحة ويقول لهم: إني أنفذ كل ما تطلبونه من علاج إلا أن أستريح وأقلل من الشغل.. فهذا ليس في إمكاني تنفيذه. وكان يذهب للجبهة ويجتمع مع المقاتلين ويبقى يوما أو يومين. وفى مرة بعد عودته من زيارة الجبهة قال لي: كنت أتمنى لو أبقى هناك حتى لو أموت.. وكان قد أمضى يومين بين المقاتلين وحرب الاستنزاف على أشدها.. مع المجندين والكثير منهم من خريجي الجامعات والمعاهد ويقومون بعمليات بطولية داخل سيناء. كان الرئيس عند حدوث خسائر يحزن حزنا شديدا.. وقال لي يوما: عندما أرى خالد ابني أكاد لا أقدر أن أنظر إليه ويزداد حزني إذ أراهم مثله تماما ويذكرني بهم.. وكان خالد وقتها طالبا في كلية الهندسة جامعة القاهرة. ذهب الرئيس لاستراحة القناطر الخيرية وكنت في منشية البكري، وكان يوم عيد ميلاده في 15 يناير 1970. ذهبت والأولاد لنقضى اليوم معه في القناطر، وكنا ــ أولاده وأنا ــ كل واحد يقدم له هدية رمزية ونحتفل بعيد ميلاده. ولم يكن يشاركنا أبدا في الاحتفال، ونحضر حلوى ونضع عليها الشموع ونطفئها كلنا، وكان يخرج من حجرته لينزل للدور الأول فيرى الحلوى على الترابيزة في حجرة السفرة الملحقة بالصالة فيبتسم ويحيينا وينزل لمكتبه أو يخرج.. وكان البيت يملأ بالأزهار المهداة للتهنئة بعيد ميلاده. رجعت بعد الظهر لمنشية البكري واحتفلنا بعيد ميلاده وأطفأنا الشموع، وظل هو في استراحة القناطر حيث أمضى يومين. في فبراير 1970 ذهبنا بالقطار لأسوان، وكان الرئيس تيتو رئيس جمهورية يوغوسلافيا سيحضر ومعه السيدة يوانكا حرمه في زيارة لمصر، وأبدى رغبته أن تكون مدة إقامته في أسوان. رافقنا في الرحلة أنور السادات، وكان الرئيس قد عينه في منصب نائب رئيس الجمهورية حديثا، كما رافقنا في الرحلة حسين الشافعي وعلى صبري وزوجتاهما. أمضى الرئيس تيتو أربعة أيام في أسوان، وبقينا هناك ورجعنا للقاهرة بعد أن قضينا أسبوعا. لم يكن الرئيس يتنقل داخل الجمهورية بالطائرة، حتى أسوان كان يفضل الذهاب إليها بالقطار، وعند ذهابه إلى إسكندرية يذهب إليها بالعربة أو بالقطار.

الاثنين 24 يناير 2011



هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (الحلقة الأخيرة)

لـيـلــة رحـيــل الـزعـيـــم


صورة

صيف 1970..

نجح في الامتحان عبد الحكيم، أصغر أبنائنا، لينتقل من السنة ثانية ثانوي إلى الثالثة. قبل الامتحان قال له الرئيس: إذا كانت النتيجة أكثر من80 في المئة، تطلب أي شيء تريده، ومحمد أحمد - سكرتيره الخاص - يحضره لك. نجح عبد الحكيم بمجموع 84 في المئة، ودخل لوالده يخبره، وكان حكيم كل يوم ينتظر فرصة ليدخل لوالده في حجرته فيصافحه ويقبله، وإذا كان الرئيس أحضر كاميرا أو راديو أو جهاز تسجيل صغيرا يلفت نظره ويقول له: هل أعجبتك؟ وعند خروج عبد الحكيم من الحجرة يقول له: خذها معك.. ثم يقول لي: إنه جدع لطيف.

هنأ الرئيس ابنه عبد الحكيم وقبله وسأله: ماذا تطلب؟ رد عبد الحكيم قائلا: يا بابا، أنا لا أريد شيئًا السنة دي.. أريد أن أذهب إلى لندن لمدة أسبوع مع مهندس الطائرة سعد الصيرفي، الذي كان يرافق الرئيس في رحلاته، وكان حكيم يقابله في مكتب السكرتارية.. فقال له الرئيس، وكنت في الحجرة وقت دخول حكيم: إن لك أخوة في الجبهة الآن في الحر وأنت تذهب إلى لندن؟ إن شاء الله بعد ما نطلع اليهود أرسلك تسافر كما تشاء، حتى لو طلبت أن تذهب لطوكيو. وكان عبد الحكيم في الخامسة عشرة من عمره فقال: نعم يا بابا. وطلب من محمد أحمد شراء «موتوسيكل».. وكنت لا أوافق على ركوب «الموتوسيكل»، فأحضره ولم يظهره لي حكيم حتى رأيته في إسكندرية وهو يركبه.

كنت أجلس مع الرئيس في حجرته وتحدث معي عن أنور السادات نائب الرئيس وقال: إنه أطيب واحد ويحبنا.. ولا ينسى أبدًا.. ودائمًا يقول لي أنا لا أنسى فضلك.. لم أكن في الثورة وأنت «بعت لي وجبتني». وقال لي الرئيس: أنت عارفة إنه ما كانش في الثورة وأنا بعت جبته؟ فقلت: نعم أعرف ذلك. ولم يكن أنور السادات في القاهرة وقت قيام الثورة وأرسل الرئيس في طلبه من رفح.
سافر الرئيس للاتحاد السوفياتي وذهبت إلى إسكندرية مع خالد وعبد الحكيم، وكان بعد انتهاء امتحان آخر السنة. بعد انتهاء زيارة الرئيس لموسكو وقبل عودته عمل له فحص طبي، وأشار عليه الأطباء هناك بأن يذهب إلى مكان قريب من موسكو.. وقالوا له: إنك لم تستكمل العلاج وقت النوبة القلبية وكان يلزمك وقت للراحة. وكان ضمن المرافقين هيكل ورجع بعد انتهاء الزيارة إلى موسكو.. طلبني في التلفون وقال لي: إن الرئيس يهديك سلامه وهو بخير وسيبقى في الاتحاد السوفياتى أسبوعين للاستجمام. وقت وجود الرئيس في موسكو خرجت لزيارة إحدى السيدات في المساء، وبعد رجوعي للمنزل قال لي السفرجي: إن سيادة النائب أنور السادات حضر في غيابك وسأل عنك وعن الأولاد، ولم يكن أحد منهم موجودا. كنت قلقة على صحة الرئيس لبقائه في الاتحاد السوفياتي رغم مكالمة هيكل لي، وطلبت أنور السادات في التلفون وسألته عن صحة الرئيس فقال لي: اطمئني إنه بخير وبصحة جيدة. بقيت في إسكندرية حتى قبل رجوع الرئيس بيوم، ثم رجعت للقاهرة مع الأولاد لنكون في استقباله، وكان قبل عيد ثورة 23 يوليو بأيام قليلة. حكى لي الرئيس عن بقائه في الاتحاد السوفياتي وأنهم قالوا له إنها الطريقة التي يمكن أن يستريح بها أن يبقى هناك، وقال: لقد قلت لهيكل أن يتصل بك عند حضوره مباشرة حتى لا تقلقي.. فقلت: نعم لقد كلمني هيكل وطمأنني.
كان يوم 23 يوليو 1970 في المساء وجلست كالعادة أمام التلفزيون مع أولادي نستمع لخطاب الرئيس الذي أعلن فيه الانتهاء من بناء السد العالي، وهنأ الشعب ببناء السد.. وكان آخر خطاب له في عيد الثورة. مكثنا في القاهرة بضعة أيام وقال لي الرئيس: لا داعي للبقاء هنا في الحر، اذهبي والأولاد للإسكندرية.. وإن شاء الله سأحضر بعد أيام قليلة.
نشر في الجرائد عن مرض أنور السادات بالإنفلونزا.. وعندما حضر الرئيس لإسكندرية سألته عن أنور السادات فقال: إنه موجود في إسكندرية، فقلت: ممكن أذهب لزيارته؟ وكان الرئيس قد زاره فقال لي: كما تريدين. ذهبت لزيارة أنور السادات ووجدته جالسا في الفراندة.. واستقبلني بترحيب ومكثت زيارة قصيرة معه. أمضى الرئيس في إسكندرية 11 يوما قضاها في شغل كالعادة ورجع للقاهرة، ثم سافر للخرطوم لحضور مؤتمر. بقيت في إسكندرية مع الأولاد، وكان الرئيس يطلبني كل يوم بالتلفون من القاهرة ويسأل عن الأولاد، وإذا كانوا موجودين في البيت يتحدث معهم، وكان يقول لي: أنا بمفردي في البيت.. ويقول لي بالحرف: البيت وحش جدًّا لا يطاق من غيرك والأولاد.. فأقول له: احضر.. وأكون مسرورة بوجودي معك.. فيقول لي: أنا مشغول وأخرج، ولا أرجع إلا في وقت متأخر من الليل وسوف تكونين بمفردك.. فالأحسن أن تبقي مع الأولاد في إسكندرية.
في أول سبتمبر سافر الرئيس إلى ليبيا لحضور احتفالات الثورة، وكان أول عيد لثورة ليبيا.. وبقي هناك أياما قليلة. وحضرت للقاهرة والأولاد لنكون في استقباله ثم رجعنا لإسكندرية، وكانت رغبة الرئيس أن يستمتع خالد وحكيم بالبحر، وما زال هناك وقت على انتهاء الإجازة.. وقال إنه سيكون مشغولا ولن يكون عنده وقت يقضيه معنا.. وأضاف: وإن شاء الله سأحضر لإسكندرية قريبا وأبقى معكم فترة. لم يحضر الرئيس لإسكندرية وظل يكلمني كل يوم بالتلفون، وكان أحد الضيوف سيحضر.. رئيس جمهورية هنغاريا ولا ترافقه زوجته فلم أذهب للقاهرة لأكون مع الرئيس في استقباله. وفي يوم 12 سبتمبر رجعت للقاهرة مع خالد وعبد الحكيم.. وكان اليوم السبت إذ أراد حكيم أن يقضي يوم الجمعة في الإسكندرية.
هل تأتين معي إلى مرسى مطروح؟
في اليوم التالي خرج الرئيس في المساء وذهب للقيادة كالعادة ورجع في ساعة متأخرة. في يوم الثلاثاء.. وكان الرئيس سيغادر القاهرة في المساء بالقطار إلى الإسكندرية ويبيت فيها، ثم يذهب بالقطار أيضًا إلى مرسى مطروح في اليوم التالي.. وقال إنه سيزور القوات المسلحة هناك وسيرافقه وزير الحربية وحسين الشافعي، وسيحضر الرئيس الليبي معمر القذافي في زيارة ليوم واحد. أثناء تناولنا الغداء قال لي: هل تحضرين معي؟ قلت: إنه يسرني أن أذهب معك لمرسى مطروح.. وكنت لم أذهب إليها منذ 1953، وقت أن رافقته مدة النقاهة بعد أن أجريت له عملية الزائدة. غادرنا القاهرة ومعنا عبد الحكيم، ونحن في القطار قال الرئيس: لم أر عبد الحميد منذ حوالى شهرين.. وقت الإجازة كنت في موسكو، وعندما رجعت كان عبد الحميد في رحلة مع الكلية في البحر، وغدًا إن شاء الله سأغادر إسكندرية وضحك.. وكان وزير الحربية جالسًا معنا في الصالون. بعد وصولنا للمعمورة.. حوالى الساعة التاسعة مساء طلبني عبد الحميد بالتلفون وقال: لقد قالوا لي أن أخرج وأحضر للبيت.. يا ماما أنا لا أريد أن أخرج بمفردي في غير وقت الخروج، إني أشعر بإحراج ولا أريد الحضور للبيت الآن.. وسألني: هل طلبتم خروجي؟ وكان متضايقا وهو يتحدث. ودخل الرئيس أثناء الحديث فقلت له: عبد الحميد يتحدث.. فأخذ السماعة وحياه بحرارة وقال له: وحشتني جدًّا يا ميدو.. كما تريد.. افعل ما يريحك.. فقلت: فليحضر لنراه.. فقال لي الرئيس: إنه جدع حساس وضحك وقال: وزير الحربية طلب خروجه بعد الحديث في القطار، ثم دخل حجرته. بعد وقت قصير.. وكان يتحدث بالتلفون وكنت في الصالة ورأيت عبد الحميد أمامي. استقبلته بحرارة ودخلت معه للرئيس في الحجرة فصافحه وقبله ثم قال له وهو يضحك: إنك تدخن.. وسأله عن عدد السجائر التي يدخنها وقال له: لا تدخن كثيرًا حتى لا تضر بك، وبعدين لما تكبر يقول لك الأطباء لا تدخن.. ثم استمر في الحديث بالتلفون. وكان الذي يتحدث معه هيكل.. وحكى له وهو يضحك عن عبد الحميد، وكيف أنه شم رائحة السجائر وهو يقبله، وكان الرئيس لا يدخن ولو سيجارة واحدة منذ أن كان في الاتحاد السوفياتي في شهر يوليو 1968، وطلب منه الأطباء عدم التدخين. جلسنا نتناول العشاء وقال عبد الحميد: لقد رفضت الخروج، وبعد شوية قال لي الضابط النوبتشي: إنك يجب أن تخرج الآن فلدينا أمر بخروجك، فسأله الرئيس ومتى سترجع الكلية؟ قال: إنهم قالوا لي ارجع الكلية الساعة العاشرة صباح الغد، لكن يا بابا أريد أن أرجع الليلة حتى أكون مع الطلبة في الصباح.. فقال له الرئيس: اذهب يا بني كما تريد، وصافحه ودخل حجرته.. وغادر عبد الحميد البيت للكلية بعد تناوله العشاء معنا.. وكانت آخر مرة رأى فيها الرئيس ابنه الطالب في الكلية البحرية في السنة الثالثة. في اليوم التالي.. وكان يوم الأربعاء قبل الظهر، غادرنا الإسكندرية بالقطار لمرسى مطروح، وكان وزير الحربية وحسين الشافعي في القطار معنا. قال وزير الحربية للرئيس: لقد طلبت خروج عبد الحميد من الكلية وذهابه للبيت لتراه، وبعد وقت سألت عنه إذا كان غادر الكلية، فقالوا لي إنه رفض الخروج فقلت: فليخرج بالأمر.. وشكر وأثنى على عبد الحميد، وقال: إنه طالب مثالي في تهذيبه وأخلاقه.. إنه غير معقول ويمدحه المدرسون في الكلية ويحافظ على واجباته.. فشكره الرئيس.
وصلنا مرسى مطروح في المساء.. وكان الاستقبال من الجماهير كالعادة حارًا، وذهبنا لنقيم في بيت المحافظ وكان خاليًا. كان الرئيس يخرج في مرسى مطروح، وفي مرة كان سيمشي على البحر فقال لي: تعالي معي. وذهبنا لبيت قريب من البيت الذي نقيم فيه وقال: إنها استراحة يقيم فيها حسين الشافعي، وكان قد حضر بعد أن أخذ حماما في البحر.. مكثنا وقتا قصيرا معه ورجعنا البيت. في اليوم التالي حضر الرئيس الليبي معمر القذافي ومعه عدد من أعضاء مجلس الثورة، ومكثوا يوما واحدا تناولوا فيه الغداء مع الرئيس في البيت في الدور الأول، وتناولت الغداء في الدور الثاني مع عبد الحكيم، وقبل خروج الرئيس الليبي ومرافقيه طلبني الرئيس لمصافحتهم. مكثنا ثلاثة أيام زار فيها الرئيس القوات المسلحة في مرسى مطروح، ويوم السبت غادرنا بالقطار للإسكندرية، وفي الطريق أثناء سير القطار وفي المحطات كان الأهالي ومعهم أولادهم يقفون لتحية الرئيس، فنظر لي وقال: إنني أشتغل من أجل هؤلاء.. فقلت: إنهم في مظهر أحسن من قبل، فرد وقال: أريد أن ينال هؤلاء الأطفال فرصة التعليم والعلاج والمظهر كخالد ابننا.. لم يحن الوقت بعد. وكان الرئيس يتأثر عند رؤيته لطفل يشتغل عند أسرة كخادم، وكان يقول لي: إنها مشكلة لا تحل إلا بالتدريج، ويستطرد: ليس في وسعي عمل شيء إلا العمل باستمرار على رفع مستوى الفلاح في القرية ونشر التعليم.. وإن شاء الله تتلاشى.

أخبار الاعتداء على الفلسطينيين في الأردن

بقينا في إسكندرية حتى يوم الاثنين 21 سبتمبر.. لم أره يستريح، وكل وقته كان مشغولا بمتابعة أخبار الاعتداء على الفلسطينيين في الأردن. وأمضى يومي الأحد والاثنين يمهد لمؤتمر قمة عربي، ويطلب الرؤساء والملوك العرب بالتلفون ويتحدث معهم، وقال لي: سنغادر الإسكندرية في المساء. وكان في الصباح - وهو يوم الاثنين - قد علم بوفاة زوجة خاله فقال: سأذهب لتعزية أولاد خالي ونحن في طريقنا للقاهرة، إذ يقيمون في إسكندرية. مكثنا عندهم نصف ساعة.. وفي الساعة السابعة مساء غادرنا إسكندرية للقاهرة. أثناء الطريق تحدث بالتلفون وهو في العربة وعلم أن الرئيس الليبي معمر القذافي يصل في نفس الليلة، فقال لي بعد وصولنا: سأخرج لاجتمع مع الرؤساء الذين وصلوا فقلت: الأحسن أن تستريح الليلة.. فرد: لقد عملت ترتيب مقابلتهم. ورجعنا البيت بمنشية البكري وكانت الساعة حوالى العاشرة مساء. استبدل الرئيس ملابسه وخرج.. وكنت قد رقدت في السرير أستريح، وأنا أعرف ما بذله من مجهود طوال اليوم وأراه يخرج.. رجع في الساعة الثالثة صباحًا.
اليوم التالي الثلاثاء خرج في الصباح ورجع قبل تناول الغداء، وفي المساء خرج ورجع بعد تناول العشاء مع الضيوف في قصر القبة. يوم الأربعاء خرج في الصباح وتناول الغداء مع الضيوف وظل خارج البيت، وفي المساء خرجت لزيارة إحدى قريباتي وتسكن في الدقي.. دعوتها أن تحضر معي للبيت لتشاهد فيلما في السينما. عندما رجعت إلى البيت وجدت الرئيس في حجرته.. دخلت له فوجدته يستعد للخروج.. تبادلنا التحية وقلت له: لقد كنت عند قريبتي وأحضرتها معي لنشاهد فيلما فقال: أحسن فلتتسلي معها، ثم أضاف: سأذهب وأبقى في الهيلتون مع الضيوف حتى ينتهي المؤتمر.. وحياني وخرج حتى المدخل بجوار السلم.. وخرجت معه ووقف حوالي دقيقتين يقرأ في نوته صغيرة ثم حياني ونزل السلالم.. وبقيت واقفة فنظر إلي مرة ثانية وهو ينزل السلالم وحياني بيده.. وكان ذلك من عادته قبل خروجه، إذا كنت واقفة أثناء نزوله السلم. خرج وقريبتي جالسة في الصالون في الدور الثاني، وكان يدخل الصالة ويصافح الضيوف الموجودين ويكونون عادة من الأقارب، لكنه لم يدخل في هذه المرة.

اللحظات الأخيرة

لبث الرئيس في الهيلتون.. وكنت أتتبع الأخبار في الجرائد والإذاعة والتلفزيون. وفي يوم الأحد، وكنت جالسة أمام التلفزيون، وكانت نشرة الأخبار الساعة التاسعة مساء تقرأها المذيعة سميرة الكيلاني وقالت: لقد تم الوفاق واختتم المؤتمر أعماله، وغادر الضيوف من الملوك والرؤساء القاهرة، وكان في توديعهم الرئيس وسيغادر الباقي غدًا.. فهللت من الفرحة وصفقت بيدي، وكانت ابنتي منى حضرت في هذه اللحظة، وبعد انتهاء نشرة الأخبار قالت لي: نشاهد يا ماما فيلما في السينما؟ ونزلنا للدور الأول. وفي الساعة العاشرة والنصف جاء لي السفرجي يقول: لقد حضر سيادة الرئيس.. فقلت لمنى: فلتكملي أنت الفيلم وسأصعد، وتركتها. دخلت الحجرة وجدت الرئيس راقدا على السرير.. صافحته بحرارة وقلت له: الحمد لله لقد سمعت نشرة الأخبار وفرحت جدًّا وهللت.. فقال: الحمد لله.. وكان قد طلب العشاء وسألني: هل تناولت عشاءك؟ فقلت: نعم.. وجلست معه ولم يأكل إلا لبن زبادي ورجع إلى السرير. لم تستكمل منى مشاهدة الفيلم وطلعت ودخلت حجرة والدها وصافحته وجلست معه على طرف السرير، وحضر خالد أيضًا وصافحه وجلسا في الحجرة قليلا يتحدثان مع والدهما.
ظل الرئيس يتحدث في التلفون حتى الساعة الثانية عشرة ثم قال: سأنام مبكرًا، وغدا سأذهب في الصباح لتوديع الملك فيصل وأمير الكويت.. وأطفأ النور ونام. في الصباح استيقظ الرئيس قبل الثامنة، وحضر الطبيب الخاص، وكنت قد قمت وخرجت من الحجرة ودخلت حجرتي، استعدادا للدخول للرئيس في حجرته لأتناول معه الإفطار، فدخل إلي في الحجرة لتحيتي قبل خروجه وقال: سأذهب إلى المطار.. ووجدت الإفطار قد جهز في حجرته ولم يتناول شيئًا، وعلمت أنه تناول فاكهة فقط. رجع الرئيس في الساعة الثانية عشرة وحضر الطبيب الخاص، وكنت سأدخل للرئيس، ووجدت الدكتور يجري له فحص رسم قلب، فرجعت ولم أدخل الحجرة، ثم بعد ذلك خرج الرئيس مرة ثانية لتوديع أمير الكويت. رجع الرئيس من المطار في الساعة الثالثة بعد الظهر، وعند خروجي من حجرتي وجدت ابنتي هدى تستعد لتذهب إلى بيتها بعد أن انتهت من الشغل، وكانت تجلس في مكتب والدها في الدور الثاني تعمل سكرتيرة له منذ عام. وكان الرئيس بعد مضي بضعة شهور من شغلها معه قال لي: إن هدى الآن تدربت على العمل معي وتعلمت وتريحني.. وكان سعيدا بها. قالت لي هدى بصوت خافت.. وكنت قد مشيت حتى باب حجرة النوم: إن بابا تعبان وسينام.. فرآني وقال: تعالي يا تحية.. فدخلت الحجرة، وأشار لي بيده وهو راقد على السرير أن أجلس.. فجلست على طرف السرير فسألني: هل تناولت الغداء يا تحية؟ قلت: نعم تناولته مع الأولاد.. فقال لي: أنا مش هاتغدى.. وأشار لي بيده أن أبقى كما أنا جالسة.. فبقيت حوالى عشر دقائق وهو راقد لم يتكلم. وحضر الدكتور الصاوي حبيب فقال له الرئيس: ادخل يا صاوي فدخل، وقمت كعادتي عند دخول الأطباء إلى الحجرة وخرجت إلى المكتب، فقال الدكتور: نريد عصيرًا.. فذهبت وأحضرت عصير برتقال وليمون جهزته بنفسي بسرعة وحملته ودخلت الحجرة.. وقلت: هذا برتقال محفوظ وليمون طازج فقال: آخذ برتقال، وشرب الكوب وأنا واقفة وقال لي: متشكر.
خرجت من الحجرة وجلست في حجرة المكتب، وبعد دقائق حضر طبيب اختصاصي.. منصور فايز فقلت له بالحرف: أنت جيت ليه يا دكتور دلوقتي؟ «أنا لما بأشوفك بأعرف إن الرئيس تعبان وبأكون مشغولة».. فرد: أنا معتاد أن أحضر كل أسبوع في يوم الاثنين، واليوم هو الاثنين.. ودخل. بقيت جالسة في حجرة المكتب وسمعت الرئيس يتحدث، وسمعت الراديو.. نشرة الأخبار في إذاعة لندن. قالت لي منى ابنتي: بابا بخير والحمد لله.. تعالي نخرج من هنا. وخرجت معها وجلسنا على الترابيزة في حجرة السفرة، وبعد دقائق جاء إلي الطبيب الاختصاصي وقال: الرئيس الآن تحسن وإذا أردت الدخول له فلتدخلي.. وأخذ يدخن سيجارة فقلت له: لا داعي حتى لا يشعر بأني قلقة. بعد لحظات جاء الدكتور الصاوي يجري مسرعا قائلا: تعال يا دكتور.. ودخل الدكتور يجري، ودخلت لحجرة المكتب ومنعتني منى من الدخول لوالدها وقالت: إن بابا بخير لا تخافي يا ماما، وأجلستني في حجرة المكتب وجلست معي. وبعد فترة حضر دكتور آخر ثم ثالث.. فدخلت عنده ووجدت الأطباء بجانبه يحاولون علاجه.. وكنت أبكي وخرجت حتى لا يراني الرئيس وأنا أبكي، ثم دخلت له مرة ثانية وازداد بكائي وخرجت وجلست في حجرة المكتب، ودخل عدد من السكرتارية، ثم حضر حسين الشافعي ومحمد حسنين هيكل.. وكل واحد يدخل الحجرة ولا يخرج منها.. وكنت أبكي. أصرت منى على أن أخرج إلى الصالة فكنت أمشي وأقول: جمال جمال.. ووجدت الكل يخرج وينزل السلالم فدخلت مسرعة.. رأيت حسين الشافعي يخرج من الحجرة يبكي، ويقول: مش معقول يا ريس. وحضر خالد وعبد الحكيم في هذه اللحظة، ولم يكونا في البيت ولا يعرفا شيئًا، ودخلا مسرعين، وحضرت هدى وكانت لا تعلم بما جرى بعد ذهابها لبيتها. دخلت للرئيس ووقفت بجواره أقبله وأبكيه، ثم خرجت من الحجرة لاستبدل ملابسي وألبس ملابس الحداد. ونزلت مسرعة إلى الدور الأول ووجدت الكل.. الأطباء والسكرتارية وهيكل وحسين الشافعي وأنور السادات حضر.. والكل واقف في الصالون. قلت لقد عشت ثمانية عشر عامًا لم تهزني رئاسة الجمهورية ولا زوجة رئيس الجمهورية وسوف لا أطلب منكم أي شيء أبدًا.. أريد أن يجهز لي مكان بجوار الرئيس لأكون بجانبه.. وكل ما أرجوه أن أرقد بجواره.
خرجت إلى الصالة وجاء لي هيكل والدكتور الصاوي وطلبا مني أن أصعد للدور الثاني، ثم أدخلني الدكتور حجرتي وأعطاني بضع حبات دواء وظل بجانبي، ثم أعطاني حقنة. وحضرت إحدى قريباتي وظلت معي، وجاء عبد الحميد من إسكندرية ودخل لي في الحجرة وهو يبكي وقال: لقد قالوا لي إن بابا تعبان وحضرت في طائرة، ودخلت هدى ومنى.. ولم أدر كم مضى من وقت.. فقمت لأخرج من الحجرة فقال لي الدكتور: لماذا قمت؟ فقلت سأذهب وأجلس بجانبه.. فقالت هدى: لقد ذهب بابا لقصر القبة.. وذهبنا معه.. فقلت: حتى الآن أخذوه!
الآن أعيش المرحلة الثالثة من حياتي حزينة أبكيه.. وقد زاد حزني حسرة، وسأظل أبكيه حتى أرقد بجانبه في جامع جمال عبد الناصر بمنشية البكري.. وقد جهز لي المكان كما طلبت.
إنه جمال عبد الناصر الذي عاش عظيمًا.. وهو في رحاب الله عظيم.. تاريخه وحده هو شاهده.

جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق

السفير 26/1/2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق