السبت، 7 مايو 2011

الأفكار التربوية عند جون ديوي John Dewey‏

الأفكار التربوية

التربية كما يتصورها ديوي "تعني مجموعة العمليات التي يستطيع بها المجتمع أو زمرة اجتماعية كبرت أو صغرت أن تنقل سلطانها أو أهدافها المكتسبة، بغية تأمين وجودها الخاص ونموها المستمر، إن التربية هي الحياة" (العمايرة، 2000 م، أصول التربية، ص 10). وبهذا حدد ديوي غرض التربية كحركة تخدم المتعلم في يومه قبل غده مع التأكيد على أنها عملية مجتمعية ديمقراطية إذ أن قوة المجتمع هي التي تصبغ الأفراد وتصيغ الأهداف فالعلاقة بين التربية والمجتمع علاقة وطيدة منذ القِدم.
الفلسفة عند ديوي ترسم مسارات التعليم ولا يمكن الفصل بين الفلسفة والتربية فالأول يقدم التصورات الضرورية والثاني يمثل التطبيق العملي لتلك التصورات. إنَّ إسهامات ديوي يمكن تصنيفها تحت العلوم التربوية والفلسفية والنفسية والسياسية. إذا أردنا أن نوجز فلسفة وعقيدة ديوي التربوية فإن التعليم الأمثل عنده هو الذي يغرس مهارات ولا يكدس معلومات، وهو الذي يلامس متطلبات الواقع، ولا ينغمس في تقديس الماضي.
ومما يترتب على الرؤية الفلسفية السابقة جملة من التطبيقات التربوية منها أن التربية تقوم على مبدأ تفاعل المتعلم مع البيئة المحيطة به والمجتمع الذي يعيش فيه ولذلك فإنه يحتاج إلى تنمية مهاراته الفكرية والعملية دائماً ليقوم بحل المشكلات بشكل راشد وأسس علمية. استناداً لهذه الرؤية فإن العلوم النظرية وتشعيباتها الكثيرة ليست ذات أهمية في المنهاج التعليمي طالما أنها لا تخدم المتعلم في تصريف شئون حياته. قام ديوي بتحويل عملية تهذيب الإنسان من العناية بالمُثل العقلية المجردة إلى الاهتمام بالنتائج المادية الملموسة. في ظل هذه الفلسفة التي عُرفت باسم البراغماتية والأداتية والوظيفية فإن البحث العلمي لحل المشكلات الواقعية أهم أداة في الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطي.



يرى ديوي أن أسلوب المحاضرة من الطرائق القاصرة في التعليم ومنافعها محدودة لأنها لا تتيح الفرصة للمتعلم كي يستكشف الواقع، ويجمع المعلومات، ويقيس الأمور، ويبحث عن الحلول. لهذا فإن أسلوب السعي في حل المشكلات القائم على حرية المتعلم أكثر إيجابية وخير من الدروس التقليدية القائمة على محاضرات المعلم التلقينية. وهكذا فإن جون ديوي لا يتفق مع طريقة جون فريدريك هربرت في توصيل المعلومات عبر خطوات منهجية في عرض الدرس لأن الطالب سيكون سلبيا فالمعلومات تأتي إليه في الفصل ولا ينجذب إليها.
من أفكار ديوي التربوية طريقة المشروع "project method" ويقصد بها أنَّ يقوم المتعلمون باختيار موضوع واحد ودراسته من عدة جوانب كأن يذهب المتعلمون إلى مزرعة وفيها يتعلمون كيفية الزراعة ويستمعون إلى تاريخ الزراعة في تلك المنطقة ويتعاون كل فرد من المجموعة بعمل جزء من المشروع. في عملية تنفيذ المشروع يقوم الطالب بجمع البيانات المطلوبة من المكتبة أو مقابلة الأساتذة. من أهم سمات طريقة المشروع كنشاط شامل أن المتعلم عادة سيتفاعل معه لأنه قد يكون شارك في اختيار الموضوع. طريقة المشروع تشبع حاجة المتعلم النفسية لأنها تراعي الفروق الفردية، وتدفعه إلى التعلم الجماعي، وتحرره من قيود الكتاب المدرسي.
لم يوضح ديوي تفاصيل طريقة المشروع في التدريس ولكن تلميذه كلباترك قام بوضع التفاصيل. من أهم خطوات طريقة المشروع للفرد أو للمجموعة:

وجود الغرض.
رسم الخطة.
تنفيذ الخطة.
تقويم الخطة (الحصري والعنيزي، 2000 م، ص 194).

يُعرِّف جون ديوي الديمقراطية التربوية بأنها طريقة شخصية للحياة، وهي بالتالي ليست مجرد شيء خارجي يحيط بنا فهي جملة من الاتجاهات والمواقف التي تشكل السمات الشخصية للفرد والتي تحدد ميوله وأهدافه في مجال علاقاته الوجودية. ويترتب على هذا التصور ضرورة المشاركة في إبداء الرأي وصنع القرار، وتأسيس الحياة المدرسية والأسرية على هذه المضامين الديمقراطية لتنظيم الحياة (قمبر، 2001 م، الحرية الأكاديمية، ص 337). في ظل هذه المنظومة نرى أن الديمقراطية في الحقل التربوي تعني ممارسات اجتماعية تؤكد قيمة الفرد وكرامته، وتجسد شخصيته الإنسانية، وتقوم على أساس مشاركة أعضاء الأسرة والجماعات في إدارة شئوونها ديمقراطياً (نذر، 2001 م، ص 413).
من الواضح أن كتابات ديوي تحمل في طياتها نقداً لاذعاً للتربية التقليدية السائدة في عصره وعلى مر العصور. انتقد التربية التي تعتمد على حفظ المعلومات عن ظهر قلب، وإعداد المتعلم للمستقبل مع تجاهل الحاضر وتهميش المرحلة التي يعيشها المتعلم. كانت القاعدة هي أن المعلم هو أساس العملية التربوية وجاء ديوي ليقلب الموازين وينقل الفكر التربوي إلى شمس التربية أي إلى المتعلم واحتياجاته.
كانت كتابات ديوي دعوة قوية حطمت سيادة الأسلوب التقليدي الذي ساد التاريخ الإنساني لفترات طويلة وفي مقابل ذلك جاء المذهب البراغماتي ليؤكد على دور كل من الأسرة والمدرسة والمجتمع في تنمية المتعلم ليعيش حراً مفكراً منتجاً. التربية عند ديوي هي الحياة في حاضرها أولاً ثم تهتم بالمستقبل.
معاينة الدراسات الغربية تدل على أن الغربيين في معظمهم ينكرون فضل الحضارة الإسلامية وأثرها في النهضة الغربية إلا أن ديوي في محاضراته كان يؤكد على أن الغرب لا يذكر فضل الحضارة الإسلامية فقال: إننا عادة نغض الطرف عن الاعتراف بفضل الحضارة المحمدية وأثرها في الحضارة النصرانية فلقد كانت الحضارة الإسلامية متقدمة بشكل كبير. هذا كان صحيحا في ميدان الفلسفة وأيضا في الميادين الأخرى" .(Dewey 1993, p.105)
في كتابه نظرية الحياة الأخلاقية تحدث ديوي عن دور الإقناع العقلي في غرس القيم والأخلاق إذ يرى أنه لا يكفي المدح والذم، والثواب والعقاب، والتحليل والتحريم. أساس الأخلاق ومضمونه هو معرفة أسباب العادات التي نقوم بها لنتأكد من المعايير التي تضمن أنها عادلة…الذين يضعون القانون ويشاركون في إيجاد العادات المفترض أن تكون، لديهم رؤية ثاقبة لحقيقة تلك الأسس وإلا فإنَّ الأعمى سيقود الأعمى.
في كتابه الحرية والثقافة Freedom and Culture يناقش الماركسية كفلسفة سياسية واقتصادية ويخالفها من حيث حرية الفرد ويؤكد على أن البيت أول مكان يتعلم فيه الفرد الديمقراطية ويعتبرها منهج حياة ثم في نهاية الكتاب يتحدث عن أمريكا كنموذج عالمي يقوم على البحث العلمي والتجربة والإيمان بالتعددية الثقافية.

من خلال مراجعة كتابات جون ديوي يمكن استخلاص فلسفته التربوية في ضوء النقاط الآتية:

أولاً في ميدان العقيدة التربوية لجون ديوي:

1- كل تربية فاعلة تقوم على مشاركة الفرد في الوعي الاجتماعي للجنس البشري.
2- المدرسة مؤسسة اجتماعية بالدرجة الأولى وينبغي أن تعكس صورة الحياة الجماعية:
"I believe that the school is primarily a social institution.”
3- الحياة الاجتماعية للطفل هي الأساس لجميع الأنشطة التعليمية.
4- نمط التعلم يجب أن يعتمد على طبيعة نمو قوى الطفل واهتماماته.
5-التربية هي الطريقة الأساسية للتقدم والإصلاح الاجتماعي.
أعلى ديوي من شأن الخبرة الإنسانية واعتبرها مصدر العلوم والقيم وبخلاف المدرسة المثالية فإن يرى أن المعرفة والقيم نسبية غير ثابتة فالعقل البشري هو الحاكم الذي يقرر الصواب والخطأ.

ثانياً أهم وظائف المدرسة:

1- تبسيط وترتيب عناصر ميول الطفل التي يراد إنماؤها.
2- تطهير المتعلم من العادات الاجتماعية المذمومة وتهذيبه.
3- تحقيق الانفتاح المتوازن للناشئين كي يعيشوا في بيئة مصغرة فيها مشاركة وتآلف وتكاتف.

المدرسة عند ديوي بيئة ديمقراطية تسعى لإيجاد المواطن الديمقراطي والتربية عملية دائمة للفرد ليساهم في بناء المجتمع مع مراعاة الفروق الفردية في التدريس ووضع المنهج الدراسي.

ثالثاً: جوانب تساهم في التقليل من دور التربية المنظمة :

1- تكوين العادات اللغوية فإن "التعليم المقصود في المدارس قد يصلح من هذه العادات اللغوية أو يبدلها، ولكن ما أن يتهيج الأفراد حتى تغيب عنهم في كثير من الأحيان الأساليب الحديثة التي تعلموها عن عمد، ويرتدون إلى لغتهم الأصلية الحقيقية".
2- القدوة أشد فعلاً في النفس من النصيحة "فالتعليم المقصود لا يكاد يكون قوي الأثر إلا على قدر مطابقته السيرة" للأفراد الذين يكونون في بيئة الطفل الاجتماعية.
3- ينمو الجانب الجمالي والذوقي حسب البيئة المحيطة والتعليم المقصود والمباشر يستطيع أن يقدم معلومات لا خبرات.

رابعاً: أسس التفكير العلمي:

1- وجود خبرة تهم الطالب.
2- ظهور مشكلة وعند المتعلم الحافز لحلها من خلال عملية التفكير.
3- ملاحظة المشكلة وربطها بالمعلومات السابقة عند المتعلم.
4- وضع الفروض والاحتمالات لحلها.
5- اختبار الفروض واقعياً ليتحقق المتعلم من صدقها. قائد السيارة مثلا إذا توقفت سيارته ولم يعرف السبب فإن هذه المشكلة تُعتبر خبرة حية وموقف يدفعه إلى التفكير في سبب المشكلة وهذا يدعوه إلى استرجاع معلوماته عند سبب توقف السيارات عموماً. حرص السائق على تصليح العطل وعلاج الخلل أيضاً يدفعه إلى وضع احتمالات وفروض مثل (نفاذ الوقود- عطل في البطارية…).
كيف يعمل هذا؟ كيف يصلح هذا هنا … هذه الأسئلة التجريبية هي أساس فلسفة ديوي الذي لم يتّبع الأسئلة النظرية التجريدية (Solomon & Higgins, 1996, p. 262). يرى ديوي أن التفكير العلمي المبني على القدرة على الفهم والتحليل وحل المشكلات العملية أفضل من حشو أذهان المتعلم بحشد من المعلومات فالأصل في التعليم غرس المنهج العلمي في التفكير.

تعليق على أفكار جون ديوي

يقوم التفكير العلمي كنشاط إنساني على مبدأ الإيمان بقدرة الحواس والعقل والبرهان من أجل الوصول للحقائق بصورة موضوعية تعتمد على إجراء التجارب، واثبات النتائج تحت مجهر الاختبار. هذا المنهج الذي ينادي به الإسلام يعمل على كسر احتكار العلم على فئة ما كما يعمل على نبذ الأوهام والغيبيات التي لا سند لها. جاء جون ديوي ليركز على الحواس وكل ما يمكن قياسه مادياً وبذلك أخذ جانباً من المنهج العلمي السليم في حين أنه فرَّط في قدرة العقل على الاستنباط والاستدلال فما يتصل بأمر الدين فأخل ديوي بالمنهج العلمي الشامل للتفكير من المنظور الإسلامي.
إن أسلوب حل المشكلات الحاضرة خير مهارة يتعلمها الإنسان لمستقبله ولمواجهة تغيرات الحياة والتغلب على مشكلاتها. يجمع الباحثون على أن فكر ديوي مازال يلعب دورا حيوياً وعلمياً وعملياً في الميدان التربوي المعاصر رغم الانتقادات الموجهة والتحديات المتزايدة.
الكثير من أعلام الفكر التربوي العربي المعاصر لا يثيرون نقطة جوهرية هامة عند حديثهم عن فلسفة ديوي وهي أنه غرس في أعماق التربية فلسفته الإلحادية(Atheistic Philosophy) حيث أصبحت القيم نسبية.
كتب ديوي تقريراً عن طرق إصلاح التعليم في تركيا. لم نعثر على أي دراسة تحليلية لهذا الموضوع علماً بأن ديوي لمس جوانب هامة في كيفية إصلاح مؤسسات التعليم في تركيا وذلك من المنظور الغربي. اهتم تقرير ديوي بضرورة توسيع دائرة التعليم المهني وتوجيه التعليم في تركيا نحو الدراسات العملية. التقرير هو ثمرة لزيارة ميدانية قام بها ديوي لتركيا ووجد أن العلوم النظرية هي السائدة في حين أن العلوم العصرية مهملة. كما طالب بإنشاء مؤسسات وتخصصات تلبي التطورات في ذلك العصر الصناعي.
طريقة المشروع فيها إبداع وكسر للجمود في نمط التعليم ولكن من العقبات التي واجهت ديوي ومازالت تواجه فكرته أن طريقة المشروع تستلزم تكاليف مالية ومتطلبات إدارية غير متوفرة في المدارس العادية. ومن سلبيات هذه الطريقة أن بعض الطلاب في المجموعة سيقومون في أداء المشروع وإنجاز الشطر الأكبر منه فيصعب التحقق من مشاركة الجميع في إعداد وتنفيذ المشروع. يميل بعض الطلاب للعمل الفردي والتربية يجب أن تهتم بالفروق الفردية. ومن الثغرات أن المواد الدراسية تتداخل ويقع فيها التكرار في بعض الموضوعات أو الإهمال في موضوعات أخرى. وأهم عقبة أننا من الصعب أن نقيس مدى استيعاب الطالب للمادة العلمية المطلوبة إذا كان في المشروع مراحل كثيرة. إضافة لذلك فإن بعض المشاريع قد تستغرق وقتاً طويلاً مما يصعب معه تقييم مستوى الفائدة المرجوة.
تعرض ديوي للنقد عندما اقترح طريقة حل المشكلات كطريقة من طرائق التدريس في المدرسة. ويمكننا أن نوجز بعض التحديات العملية التي قد تواجه أسلوب حل المشكلات فيما يلي:
أسلوب حل المشكلات يحتاج بلا شك إلى معلم له إلمام بمسائل متنوعة وله ثقافة واسعة وتجربة متجددة وهذا النمط من المعلمين المحترفين قلة لأن المدارس التقليدية لا تعتني بهم ولا تمتلك مصادر متنوعة لتنمية ثقافتهم.
الطالب الطموح المحب للاستكشاف سوف يستفيد من هذا البرنامج أكثر من الطالب الذي يحتاج إلى عون المعلم.
المدارس ذات الموارد المحدودة ستحصر مشكلاتها (الأنشطة) داخل الأسوار المدرسية.
حل بعض المشكلات سيولد أحياناً المزيد من التساؤلات والمتاهات.
المبالغة في التأكيد على حرية المتعلم، ومرونة المناهج، وديمقراطية القرار قد تؤثر في المخرجات النهائية ولا تتحقق الأهداف المرجوة.
هذه التحديات لا تقلل من قيمة هذه الطريقة فلكل وسيلة تربوية نقاط ايجابية وأخرى سلبية ولا تسلم أي نظرية من التحديات وهذه طبيعة الحياة التربوية. إننا نتوقع نمو متزايد لأفكار ديوي لأن التكنولوجيا الحديثة ستفتح المزيد من آفاق البحث الحر والمشاريع الإبداعية والانفتاح الثقافي. كما أن سقوط الشيوعية أنعش الديمقراطية مما يدل على أن أفكار ديوي ستكون أكثر قبولا على المستوى العالمي.
لقد تعلم ديوي من إسهامات الفلسفة الكلاسيكية ثم رسم مدرسته الحديثة على أسس نفسية واجتماعية مختلفة. لقد أخذ من سقراط صفة الصبر، ومن أفلاطون عمق التأمل، ومن أرسطو فكرة الواقعية ثم قدم لنا - مع غيره - الفلسفة البراجماتية بغية تكوين الفرد الليبرالي والمجتمع الديمقراطي. ربط ديوي الفلسفة بالتربية ثم ربط التربية بالحياة العملية ومشكلاتها وتحدياتها بشبكة فكرية ذات نزعة عملية. هذه الشبكة هي نظرياته الشاملة التي تعتبر من أبرز نظريات التربية الحديثة القائمة على مبدأ البحث الحر المستمر عن المعرفة النابعة من الخبرة المباشرة والنشاط الذاتي.
..........

جون ديوي والفلسفة في العالم الجديد

لم يكن هذا المفكر ببعيد ولا بمنأى عن سهام النقد المنصفة وغير المنصفة, الصحيحة وغير الصحيحة التي كانت موجهة إليه من اليسار عموماً والشيوعيين خصوصاً. وقد كان كاتب هذه المقالة من هؤلاء وأولئك, إلى أن قرأ كتاب له حول الحرية والتعليم. فاقتنع بصواب الكثير من آرائه. وقد رأى من الضروري تناول هذا المفكر والفيلسوف في مقالة قصيرة. وتقسيم تلك المقالة إلى ثلاث أقسام, القسم الأول نتناول فيه سيرة حياته والقسم الثاني يكرس لأهم أفكاره والقسم الثالث يتناول التعليق على تلك الأفكار.

1- القسم الأول / سيرة حياة جون ديوي :-

ولد - ديوي - في بريلنجتون في ولاية فير مونت في عام 1859 وتلقى دراسته فيها. وقد التفت واهتم في بداية حياته بدراسة واستيعاب الثقافة القديمة . ثم اتجه إلى دراسة الثقافة الجديدة . وبناءً على نصيحة المفكر - جريلي- اتجه إلى الغرب الأمريكي. وأخذ يعلم الفلسفة في جامعة - مينيسوتا - الأمريكية في العامين 1888 و 1889 . ثم انتقل بعدها إلى ميشيغان في الأعوام 1889 و 1894. ثم انتقل إلى شيكاغو - من عام 1894 ولغاية عام 1904 . وعاد بعد ذلك إلى الشرق الأمريكي. فأنضم إلى قسم التدريس في الفلسفة في جامعة - كولومبيا - وترأس هذا القسم بعد ذلك. لقد أكسبته العشرون سنة الأولى التي قضاها في - فير مونت - بساطة الحياة التي ميزت هذه المنطقة وقد لازمته هذه البساطة طيلة حياته, وحتى في أيام مجده وذيوع شهرته وتمجيد العالم له. وقد استطاع خلال هذه الفترة التي قضاها في الغرب الأوسط الأمريكي, من رؤية أمريكا الفسيحة الواسعة التي يجهلها العقل الشرقي الأمريكي جهلاً يكاد يكون تاماً. لذلك نراه قد درس عن كثب إمكانيات أمريكا وحدودها وقواها. وعندما بدأ يكتب فلسفته قدَم لتلاميذه وقرائه تفسيراً وشرحاً وافياً عن تلك المنطقة من الولايات المتحدة الأمريكية. لقد كتب - ديوي - بجدارة واقتدار فلسفة القارة الأمريكية كلها لا فلسفة ولاية - نيو إنجلاند- وحدها فقد كتب - ديوي - فلسفة هذه القارة مثلما كتب - ويتمان - شعرها. لقد لفت - ديوي- أنظار العالم له لأول مرة حين كان يقوم بالتدريس في جامعة - شيكاغو- حيث استطاع إيصال أفكاره إلى الناس في السنوات التي قضاها هناك. ويعتبر أعظم كتاب له هو - الديمقراطية والتعليم - حيث جمع فيه خطوط فلسفته وركزها حول مهمة النهوض بجيل أفضل. مما جعله يفرض زعامته على جميع الأساتذة والمعلمين دون منازع. لقد ترك بصماته على معظم المدارس والجامعات الأمريكية. كما أبدى نشاطاً فائقاً وجهوداً كبيرة في تجديد المدارس في أنحاء مختلفة في العالم وأمضى سنتين في الصين كان يحاضر خلالها أمام المعلمين حول إصلاح التعليم. إضافة إلى ذلك قدَم تقريراً تربوياً وتعليمياً إلى الحكومة التركية حول تجديد تنظيم المدارس الوطنية في تركيا. لقد ولد هذا المفكر والفيلسوف - جون ديوي - ومات في الولايات المتحدة الأمريكية التي أنجبته. وهو بذلك يعتبر أمريكيا قلباًً وقالباًً. وهو بخلاف المفكرين والفلاسفة الأمريكان الذين عاصروه. صحيح أنه انحدر من أصل انكليزي إلا أن روحه ووجدانه تشربتا بتربة وتقاليد حياة الأرض الجديدة فهو مزيج متجانس من هذه الأرض الجديدة وأصله ومنبعه الإنكليزي .

2- القسم الثاني / أهم أفكار - جون ديوي - :-

قبل كل شيء لابد من القول إن هناك أكثر من خلاف بين المفكرين والفلاسفة الأمريكان, يصل إلى حد الصراع. وهذا الصراع بدوره يوزعهم إلى فريقين, الفريق الأول الذي يحمل الروح - الإنجلوسكسونية الرصينة الدمثة - التي تتمتع بالقديم الارستقراطي وبين الفريق الآخر المطبوع بروح المهاجرين الجدد المبدعة المتوثبة المتبرمة دائماً والتي تنظر إلى الفريق الأول نظرة تتهمه بالتزمت والعنجهية . ولعل من أبرز ممثلي هذا الفريق - جون ديوي - فهو إلى جانب كل ما تقدم يتميز عن غيره بأن تأثير الثقافة الأوروبية عموماً والإنجليزية خصوصاً ضعيف وغير مباشر عليه. بخلاف بيئته الجديدة فأنها مارست عليه وعلى أمثاله تأثيراً طاغياً ومباشراً. وبهذا الشأن يمكن اعتبار الفلسفة البراغماتية ليست فلسفة أمريكية صرفة. من حيث المضمون ولو ظهرت من حيث الشكل هناك ((فهي لم تصور الروح الأمريكية العظمى الكامنة في جنوب وغرب ولايات - نيو إنجلاند -, بل دعت إلى الأخذ بالنتائج العملية والأمور الواقعية)). إلا ((أنها قفزت بعد ذلك بسرعة من أرض أمريكا وحلقت بسمائها)). فهي ((بدأت برد فعل سليم ضد الميتافيزيقا وفلسفة المعرفة)). وكان من المتوقع منها تقديم فلسفة عن الطبيعة والمجتمع. ورغم أنها انتهت نهاية واقعية جيدة بدعواها ((إلى احترام كل عقيدة دينية وتبجيل كل إيمان وهذا حسن وجيد إلا أنها اكتفت ووقفت عند هذا الحد. إذ كان عليها أن توجه الفكر والفلسفة وتجعلهما يتركان المسائل المحيرة للعقل ((حول الحياة الأخرى للدين وتترك لعلم النفس مشاكل عملية المعرفة ومصاعبها وتتوجه - أي الفلسفة - إلى ((تصوير الأهداف الإنسانية وتنسيق الحياة الإنسانية والنهوض بها)). وهذا ما هيأ - لجون ديوي - القيام به خير قيام, عندما اشبع الحاجات الإنسانية الحديثة واوجد ((فلسفة تعبِر عن روح أمريكا الجديدة الواعية والمدركة والمثقفة)). ولعل أبرز ما اهتم به وركزَ عليه هو إيمانه بالتطور والنمو في كل شيء. وبالتربية العملية القائمة على التجربة ورأيه في الدين والسياسة وحاول أن يميز مهمة الفلسفة عن مهمة اللاهوت والدين وإذا كان الفيلسوف والمفكر - سبنسر- قد طالب ((بزيادة تدريس العلوم)) وتقليل دراسة الآداب في برامج التعليم)). نجد - جون ديوي - يضيف ((على ذلك وجوب تدريس العلوم بطريقة عملية تأتي عن طريق الممارسة الحقيقية النافعة للحرف والمهن, لا عن طريق تعليم الكتب فقط - بل ينبغي أن تكون المدارس - بنظر ديوي - في المجتمع الصناعي)) أشبه شيء بالمصنع الصغير. وهي تقوم بتعليم طلابها بطريقة عملية من خلالها يتدرب التلاميذ عن طريق إقامة التجارب العلمية والاستفادة من أخطاء هذه التجارب أو بعبارة أوضح وأدق ((تطبيق نظرية التجربة والخطأ , وتدريس الفنون والنظم اللازمة بالنسبة إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي)) وان ينظر إلى التعليم لا على أساس كونه مجرد إعداد للنضوج بل للنمو وللنهوض المستمر للعقل وتنوير مستمر للحياة. فالمدارس مهما بلغت من تطور, فهي لا تستطيع أن تقدم سوى وسائل النمو العقلي. أما باقي المهمات الأخرى فينبغي أن تعتمد على مدى استيعابنا وتفسيرنا لتجاربنا. وعنده أن التعليم الحقيقي يأتي بعد تخرجنا من المدارس والجامعات وليس قبله وضرورة استمراره معنا طيلة حياتنا وبخاصة عن طريق التعليم والتثقيف الذاتي. وأن أهم ما يميز - جون ديوي - عن غيره من الفلاسفة والمفكرين هو ((قبوله لنظرية التطور قبولاً تاماً وسافراً لا غموض فيه ولا تستر )) ليس هذا فحسب وإنما التزامه المطلق بالتطور كأساس للحياة الإنسانية فهو يعتبر ((العقل والجسم عضوان تطورا)) من خلال التنازع على البقاء حتى وصلا إلى شكلهما الحالي من أحط مرتبة ((لقد كانت بدايته لكل موضوع هو تناوله كبداية تطورية دارونية. لقد اظهر - ديوي - وهو على حق شكوكه بإرادة شوبنهاور وبدافع برغسون الحيوي. وقال بخصوص الإرادة ((إنها قد تكون موجودة ولكن لا حاجة بنا إلى عبادتها و تقديسها)) وبخصوص الإله فيعتبره موجود في نفوسنا وليس في هذه القوى الكونية المحايدة. وهو يدعو إلى أن نخلص لهذه الأرض التي نعيش عليها. وبهذا فهو يتمسك بمبدأ الدين لله والوطن للجميع. وعلى هذا الأساس فقد كان يرفض الميتافيزيقا ويعتبرها صدى لعلم اللاهوت المختفي وراءها وهو ((يعتقد أن مشكلة الفلسفة دائماً هي اختلاط أبحاثها بالأبحاث الدينية. ولإيمانه بالتطور والنمو جعلهما أفضل الأشياء وأجدرها بالاحترام والتبجيل واعتبرها بنفس الوقت المقياس الأخلاقي السليم. فالنمو في نظره هو المقياس السليم وليس الخير المطلق . والعقل بنظره هو ((وحده الذي يمكِننا من الاشتراك في تكوين مصيرنا)). أما حرية الإرادة فهي ((استضاءة السلوك بالمعرفة)). وبخصوص الديمقراطية نجد ديوي وبخلاف معظم الفلاسفة يقبل الديمقراطية كوسيلة مجدية ونافعة وقيمة إنسانية نبيلة بقوة ((على الرغم من إدراكه لأخطائها فهي من الأساليب والوسائل ولعلها أبرزها والتي من خلالها تجعل النظام السياسي يهدف إلى مساعدة الفرد على التطور والنهوض بنفسه تطوراً تاماً . وهو يدرك ويعي أن الارستقراطية والملكية هي أكثر مقدرة وكفاءة من الديمقراطية لكنها في الوقت نفسه أكثر خطورة من الديمقراطية . و- ديوي- لا يثق بالدولة وعلى هذا الأساس نجده ينأى بنفسه عنها ويفضل نظاماً متعدداً يقوم فيه بعمل المجتمع ((بقدر المستطاع جمعيات طوعية اختيارية)) وهو بذلك يعود بفكره إلى المفكر الانكليزي - روبرت أوين - . وهو يرى - أي ديوي - أن تعدد المنظمات والأحزاب والشركات والنقابات وغيرها هو توفيقاً بين الفردية والعمل المشترك وعنده - أي ديوي - أن تجديد البناء السياسي لن يتم إلا إذا طبقنا على مشاكلنا الوسائل التجريبية والآراء التي ثبت نجاحها في العلوم الطبيعية. وفي معرض حديثه عن الفلسفة السياسية , نجده يعتبر أمريكا لا زالت في المرحلة الميتافيزيقية منها. وهي - أي أمريكا - لا زالت غارقة بالآراء المجردة ورؤوس الناس فيها محشوة بتلك الأفكار وأن معركة هذه الأفكار لا توصلهم إلى شيء جاد ومفيد. إذ هم لا يستطيعون معالجة أمراضهم الاجتماعية بتلك الآراء المجردة. وعنده أن الحل لكل مشكلة من هذه المشاكل لا يكمن في النظريات العامة الشاملة. وإنما يكمن في الافتراضات الخاصة بكل مشكلة. وأن تقدم الحياة المثمر مرهون بأسلوب وطريقة التجربة والخطأ فهذه الوسيلة التجريبية تعتمد على الأبحاث والتحليلات المفصلة بدلاً من النظريات العامة. وهذه الطريقة بنفس الوقت تعتمد على التحقيقات الخاصة البعيدة عن الاعتقادات العاطفية والرومانسية, وعلى الحقائق الجزئية لا على الآراء التي يتناسب حجمها مع غموضها . ومن الواضح أن تقدم الوسائل التجريبية, أصبحت هي الطريقة التجريبية التي تتضمن إجراء التجربة على كل موضوع وبحثه جزءً بعد جزء بغية الوصول إلى حل أي غموض فيه وفي خضم تطبيق المعرفة الإنسانية على خلافاتنا الاجتماعية ينبغي أن يكون دور الفلسفة العمل على الدخول في المشاكل والمصاعب الراهنة في السياسة بدلاً من فرار الفلسفة أمام العلم. كما حدث سابقاً ويحدث الآن . فالعلوم الحالية وبعد تطورها أخذت تهرب من الفلسفة الواحد بعد الآخر متوجهة منها إلى عالم الإنتاج . وتاركتها وحدها (( كأم مهجورة نضبت حيويتها وتركها أولادها - أي العلوم - كما يقول - ديوي - . وهذا الواقع يعود إلى انسحابها وابتعادها عن الاهتمام بشؤون الإنسان في هذا العالم . وبذلك انزوت في زاوية متداعية أطلق عليها (( فلسفة المعرفة )) وهي الآن بنظر - ديوي - تواجه خطراً جسيماً قد يؤدي إلى طردها من هذه الزاوية , بسبب افتقاد المشاكل القديمة لمعناها بالنسبة للبشر. لذلك ينبغي على الفلسفة الآن وفي المستقبل أن تتناول قبل أي شيء آخر في بحوثها الأمور الدنيوية وتبقى متشبثة بهذه الأرض التي نعيش عليها بدلاً من التحليق في السماوات. وهي تعتبر كمشعل يضيء الحياة وينيرها وينبغي بنظر ديوي أن تلبي الفلسفة الحاجة الماسة للحركات الصناعية والسياسية والعلمية . أما فلسفة المستقبل عند ديوي فتكون مهمتها الأساسية هي توضيح آراء الناس بضرورة الكفاح الاجتماعي والأخلاقي. وأن تكون هذه المهمة إنسانية وأداة لتناول المنازعات والمشاكل الدولية والداخلية وأخيرا فالفلسفة بنظره - أي ديوي - ((هي التوفيق والانسجام بين العوامل المتصارعة في الحياة. إن مثل هذه الفلسفة قد تنجب للعالم فلاسفة جديرين بالحكم كما أراد أفلاطون منهم.

3- القسم الثالث / التعليق على آراء - ديوي - : -

لقد علَمت أوروبا العالم منذ عصر النهضة وحتى هذه اللحظة المفاهيم الحديثة في السياسة والعلوم وحتى في الفلسفة وباقي فروع المعرفة الأخرى ووضع تلك المفاهيم في إطار وواقع الحياة المعاشة لذلك استحقت بجدارة أن تتزعم وتقود العالم . ورغم أن مسيرة العالم المتطور وبخاصة في أوربا وأمريكا قد اعتراها الكثير من الأخطاء والنواقص و العيوب. وقد وصل الأمر ببعض هذه النواقص ولا زال حد الجريمة والجريمة المنظمة. وبخاصة ظاهرة الاستعمار والامبريالية والكولونيالية . وما صاحب تلك الظواهر من انتهاكات لحقوق الإنسان وقبل ذلك ما أصاب البشرية من كوارث ونكبات وحروب على يد الامبريالية والاستعمار وبخاصة في الحربين الأخيرتين - العالمية الأولى والثانية وما تلاها وما حدث قبلها ولكن مع ذلك فان قيم ومبادئ الحضارة الحديثة وبخاصة قيم الحرية والمساواة في كافة المجالات ولو أن تلك المفاهيم وخصوصاً في البلدان غير المتطورة لا زال الكثير منها مقتصراً على أوربا وأمريكا وبعض البلدان الآسيوية والأفريقية. ومحرومة من هذه القيم والمبادئ الكثير من الدول الأخرى وبخاصة في آسيا وأفريقيا ومنها العالم الإسلامي ,من هنا لابد من نظرة سريعة على أفكار - ديوي - لعلاقتها بهذا الشأن فأفكاره بشأن الدول المتطورة تعتبر في اغلبها واقعية وممكنة التطبيق إلا أنها في العالم الإسلامي والشرق الأوسط تعتبر لا زالت بعيدة عن التطبيق وربما تعتبر بعيدة المنال وخصوصاً في الحرية والديمقراطية وبخاصة ديمقراطية التعليم. ومع ذلك فأفكار هذا الفيلسوف لها أهمية بالنسبة للشرق عموماً والعراق خصوصاً ورغم اختلافنا مع هذا المفكر في بعض أفكاره. إلا أن الدول المتطورة وفي مقدمتها أوربا الغربية وأمريكا الشمالية تعتبر واعدة لكي تقدم إلى العالم ما هو مفيد وجديد بعد أن تتخلص من عقدة الاستعمار والامبريالية. ولعل العالم الآن وفي المستقبل بأمس الحاجة إلى التوفيق بين الحرية التي دعى لها ديوي ويدعو لها الكثير من المفكرين والفلاسفة في البلدان المتطورة. والعدالة الاجتماعية ولعل في أفكار - ديوي - ما يمكن اعتباره بداية وأساس لهذا التوفيق وخصوصاً في دعوته إلى ((نظام متعدد يقوم فيه بعمل المجتمع بقدر المستطاع جمعيات طوعية واختيارية ويرى في تعدد المنظمات والأحزاب والشركات والنقابات وغيرها توفيقاً بين الفردية والعمل العام المشترك)) ورغم المثالية والتناقض في هذه الدعوى . إلا أنها كما قلنا بداية وأساس وهي بحاجة إلى الدراسة العميقة لاستخراج واستنتاج ما يفيد الإنسانية في تقدم مسيرتها إلى الأمام. وأخيرا يمكن القول أن البلدان غير المتطورة وبخاصة العراق هي بأمس الحاجة إلى التعلم والاستفادة من أفكار ديوي في دعوته إلى التعليم القائم على التجربة والخبرة والابتعاد عن حرمان من يرغب ولديه الاستعداد مهما بلغ من العمر.

علي مردي السوداني - 16 سبتمبر - taakhinews.org

2 تعليقات::

غير معرف يقول...

جزيت خيراً

غير معرف يقول...

نفع الله بك

إرسال تعليق