الاثنين، 30 مايو 2011

هل تتحقق مقولة أدونيس: موت العرب وصعود إسرائيل وتركيا وإيران؟

منذ سنوات بعيدة والشاعر أدونيس يعلن زوال العرب كحضارة، ويعني بذلك غياب دورهم كقوّة إقليمية ثقافية اقتصادية عسكرية وسياسية موجودة في الجغرافيا، وصعود دول إقليمية غير عربية لملء الفراغ (إيران وإسرائيل وتركيا). وكان ثمة من يرد على أدونيس بأن هناك أملا بعودة العرب واحتمالات نهوضهم ومواجهتهم للتحديات.
 عندما انطلقت الانتفاضات الشعبية في معظم الدول العربية في مطلع 2011 رأى فيها المتفائلون إحياء جديداً للقومية العربية والعمل العربي المشترك المفتقد منذ 1973 على الأقل. ولكنّ الأحداث في الأشهر الأربعة الأولى من هذه السنة تدعو المراقب إلى التروّي في نتائج هذه الانتفاضات. ومن الدروس الأولية أنّ الصراع الحقيقي في المنطقة يدور على مستوى أعلى وما العرب سوى لاعب جانبي أو على الأقل ليسوا لاعباً رئيسياً. وأنّ علم فلسطين لم يرتفع وشعارات العروبة لم تتصاعد في هذه الانتفاضات. وأنّ الفراغ الجيو بوليتكي في الساحة العربية تملأه فعلاً إسرائيل وإيران وتركيا.
ولعل مراجعة سريعة لتحديد المقصود بـ"موت العرب" ستفيد نقاشنا هنا. ذلك أنّ البلدان العربية كانت ولمّدة أربعمئة عام ولايات ضمن السلطنة العثمانية المتعدّدة الإثنية والديانة. إلى أن جاءت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى وأحيت العنصر العربي كعامل تفكيكي للسلطنة، حتى سقطت المنطقة بأيدي الحلفاء وسعت بريطانيا إلى ولادة كيانات عربية. ثم برزت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثلاث دول محورية عربية هي مصر والسعودية والعراق كانت النواة التي اجتمعت حولها الدول الأصغر فأصبح العالم العربي منطقة جغرافية معروفة. ونشأت جامعة الدول العربية بمسعى بريطاني عام 1944. وفي الخمسينات والستينات ارتفعت القومية العربية مع حزب البعث وحركة القوميين العرب وظاهرة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، لتصبح العروبة هوية جامعة لأكثر من 20 دولة.

أولاً، إسرائيل تقضي على القومية العربية

لم تستمر المنطقة العربية طويلاً إذ أنّ بريطانيا زرعت في وسطها أيضاً دولة إسرائيل التي كان لعدوانها منذ 1948 الدور الأول والأكبر في بدء زوال العرب ككتلة بشرية وجغرافية. لقد هزمت إسرائيل العرب عام 1967 ما أدّى إلى نهاية القومية العربية الحداثوية. وعندها بدأ أدونيس مع كثيرين من جيله مراجعة شاملة لحقبة العروبة ومثالياتها التي أوصلت العرب إلى الطريق المسدود. ثم عاد الأمل مع حرب تشرين الأول 1973، التي كان من نتائجها صعود سوريا كدولة محورية عربية رابعة. ولكن الإحباط عاد مع دخول مصر في نفق "كمب ديفيد" ومع اجتياح إسرائيل للبنان في 1978 و1982. وكان المثقفون والعقائديون العرب يعتقدون أنّ صعود المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة 1967 سيرّد الكرامة العربية ويعوّض عن الهزيمة. ولكنّه كان صعوداً مبتوراً وقصيراً سرعان ما غرق في حروب أهلية في الأردن ولبنان. وعام 1974 حلّ مكان الأنظمة والحركات العروبية والثورية، في نظر أدونيس، المحافظون العرب بثرواتهم وعودتهم إلى عروبة تقليدية سنيّة قمعت العروبة العلمانية وطردتها من وسطها وسعت لهزيمتها أمام إسرائيل عام 1967.

ثانياً، ثورة إيران شرارة الحرب الأهلية داخل الإسلام

ثم جاء الدور الثاني لإيران في محو الكتلة العربية. فقد أطاحت ثورتها عام 1979 الشاه وسرعان ما سعت كما فعل ثوار روسيا وفرنسا سابقاً، إلى نشر ثورتها في الدول العربية. ليبدأ صراع داخل الإسلام بين نظام إسلامي تقليدي تمثّله أنظمة سنيّة عربية كبرى كالسعودية ومصر السادات والعراق، ونظام إسلامي ثوري ثمثّله إيران الشيعية بامتداداتها في العالم العربي وآسيا. فساهم التحدي الإيراني في صعود إسلام أصولي مسلّح يشنّ حرباً ضروساً ملأت الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، تاركاً صرح العروبة أشلاء ممزقة. فأخذ المثقفون ينعون العرب والعروبة، وتكلّم نزار قباني عن "موت العرب" (مثلاً في قصيدة بلقيس) وأعلن أدونيس "وفاة الحضارة العربية". وكان من ملامح فيضان ثورة إيران سهولة تدخّلها في عمق القضايا العربية لتصبح هي، لا العرب، حاملة مشعل فلسطين - قضيّة العرب الأولى – ومدافعة عن قضايا المهمّشين والأقليات في العالم العربي (كالشيعة في العراق والجزيرة العربية ولبنان). وكان خطر إيران على النظام العربي أنّها عرّته من إدّعاء العروبة، وكشفت أنّ عروبته لم تكن سوى غطاء للإسلام السنّي التقليدي. وعبّر أدونيس عن تعاطفه مع الثورة الإيرانية التي أمل أن يأتي التغيير من طريقها ما وضعه في حالة خصام مع زملاء وأصدقاء اعتبروه منهم. فاتهمه صادق جلال العظم أنّه وقع في سحر الخميني وكاريزميته وأنّ أدونيس العصري العلماني فعل ذلك من اليأس ومن رومنطيقية تحنّ إلى العصب الديني. واتهم آخرون أدونيس بالعودة إلى المذهبية والعداء للعروبة، وأنّ تعاطفه مع إيران الشيعية هو دعوة "الأقلوية العلوية" التي أتى منها.
لم يعر أدونيس كثير انتباه إلى نقّاده. فلم يشر مثلاً إلى أنّ اليسار العربي برمّته تفاءل بثورة إيران وأنّ الاتحاد السوفياتي والشيوعيين العرب رأوا في الجمهورية الإسلامية انتصاراً لشعوب العالم الثالث ضد الامبريالية، وأنّ أول خطوة لإيران كانت إقفال سفارة إسرائيل في طهران. بل اتهم أدونيس نقّاده أنّهم لا ينظرون إلى البنية الاجتماعية والفكرية المهترئة التي يعيشون فيها في العالم العربي والتي أصبحت قاحلة في ظل القمع والاضطهاد، وأنّ مجتمعهم بات أرضاً جرداء تأثيرهم فيها هو صفر. وأنّ العرب تكلّموا عن الوحدة العربية منذ خمسين عاماً ولكنّهم بقوا مفرّقين مشتتين وفي عداء دائم في ما بينهم. وأنّ التقبّل السطحي للعلمانية في الأنظمة الجمهورية كان رياءً أخفى ولاءات طائفية حتى في الدول التي ادّعت التقدمية. وأنّ تجربتهم في الاشتراكية العربية كانت في حقيقتها هيمنة أفراد وعائلات الحزب الحاكم أو العائلة الحاكمة للإثراء والفساد ونهب البلاد لمصلحتهم الشخصية. وحتى الأدباء والمثقفون باتوا كتبة وموظفين لدى الأنظمة الرجعية. ولكن أدونيس لم يكن متأكّداً أنّ ثورة إيران ستنجح في تغيير الواقع العربي والإسلامي نحو الأفضل. فقد تتغيّر الشعارات ويتغيّر الخطاب الرسمي ولكن العبرة بالنسبة لأدونيس كانت في ما يجنيه الشعب وقضية الحريّة والعدالة.
اعتبر أدونيس أنّ ما يحصل في الشرق الأوسط منذ 1979 هو حرب أهلية داخل الإسلام بين إيران الشيعية والعرب السنّة الذين هالهم أن تكشف إيران عوراتهم في أنّ عروبتهم كانت غلافاً يخفي تخلّفاً وبداوة قبلية وطائفية مذهبية وإثنيات غاضبة وصراعات عائلية وقمع للمرأة. لقد كانت مواجهة إيران الأولى مع العروبة السنيّة دموياً عندما اختار النظام العربي العراق - وليس مصر الضعيفة ضحية إسرائيل - للقضاء على إيران الثورية. فشنّ صدّام حسين تحت لواء العروبة الحرب على "الفرس - المجوس". واستمرّت الحرب الأهلية داخل الإسلام حتى انكسر العراق وانتشر النفوذ الإيراني في المشرق العربي. وتجّلت ملامح هذه الحرب في العراق بعدما سقط بأيدي الاحتلال الأميركي عام 2003 حيث ظهر النفور والتباعد بين السنّة والشيعة، وفي لبنان تحت مسميّات 8 و14 آذار، وفي فلسطين بين "فتح" و"حماس" وعبر حركات أصغر في بلدان عربية أخرى.
ولم تكن إيران على ما تدّعيه من صفاء ثوري إسلامي. فهي في القرن العشرين ليست تلك الحضارة الإسلامية العريقة التي نهضت في قرون الإسلام الأولى وكانت مدنها مراكز الثقل الثقافي الإسلامي يوم كان معظم نتاج شعراء وأدباء إيران باللغة العربية. إيران الخميني كانت فارسية - كما في عهد الشاه - ولم تتخلّ عن شعورها القومي المحلي. وفوق ذلك كانت ثورة شيعية تريد أن تنتشر في عالم إسلامي معظمه من السنّة. وإذ صمتت إيران طويلاً وتواطأت مع الاحتلال الأميركي لأفغانستان عام 2001 وللعراق عام 2003، كان ثمّة رياء أن تهاجم طهران السعودية وتسمّي تدخّلها في البحرين احتلالاً وتريد أن تشتعل الثورات في كل مكان ثم لا تفعل شيئاً داخل العراق المحتل.

ثالثاً، تركيا تتسلّم قيادة العرب السنّة؟

لم يستشرف أدونيس صعود تركيا، الدولة غير العربية، بعد سقوط مصر والعراق (لم تنجل انتفاضة مصر عن اتجاه ما ولا عن موقف جذري في قضية فلسطين). فقد ولّد غياب أي قوّة عربية جدية لإيران فراغاً سمح بصعود تركيا التي أخذت دور رأس الحربة السنيّة في المنطقة. فادّعت تركيا نصرة فلسطين لأنّ ذلك يجلب عاطفة الشارع العربي، ولكنّها حافظت على علاقات وثيقة مع إسرائيل وأميركا واكتفت بالمواقف الكلامية في الإعلام والمؤتمرات والتظاهر بالغضب الذي لم يرافقه أي إجراء عملي من مقتل 9 أتراك على أيدي جيش إسرائيل في بحر غزّة صيف 2010، رغم أنّ الفلسطينيين يُقتلون بالمئات والألوف منذ 60 عاماً. وفي 2010 حضر كل من أحمدي نجّاد وطيب أردوغان إلى لبنان وكان لكل منهما جمهوره الطائفي وساحته ويقف إلى جانبه الزعيم المحلي السني أو الشيعي.
لقد أقنعت تركيا أميركا والغرب أنّ باستطاعتها تزعّم "حركة اعتدال إسلامي" كتلك التي سيطرت على تركيا تحت مسميّات الرفاه والعدالة والنهضة منذ التسعينات وهو اعتدال يعني مهادنة إسرائيل وتبادل السفارات معها. ولئن كانت ممالك وإمارات العرب في الجزيرة العربية إسلامية ومعتدلة بالفطرة وتقف تحت لواء واشنطن وتحارب ضد إيران منذ 1979، فقد برزت واحتدمت انتفاضات 2011 على الأنظمة الجمهورية التي ترتدي غشاءً علمانياً في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والجزائر. وكانت تركيا في طليعة الضاغطين لتغيير هذه الأنظمة، من التحرّك جهاراً ضد القذافي في ليبيا أو سرّاً وضغطاً في سوريا لكي يتنازل الرئيس بشّار الأسد للإخوان. وأصبحت أنقرة محطة للإسلاميين السنّة وبعض الزعماء العرب السنّة المعتدلين ومنهم سعوديون ولبنانيون. فيما استعمل رجب أردوغان وعبد الله غلّ وأحمد أوغلو لغة غير معتادة في قسوتها ضد سوريا. هذا من دولة تسعى سوريا أن تصبح حليفةً للعرب ضد التهديد الإسرائيلي. فها هي تركيا تريد القضاء على دولة عربية محورية من أجل مستقبل سوري غامض.
لقد أصبح أي دعم لقضية فلسطين في تظاهرات 2011 وكأنّه تهمة جاهزة بالإيرانية، وتواصل تقلّص النظام العربي مع زوال وتفكيك الدول المحورية العربية الواحدة بعد الأخرى. ولذلك لا بد من إعادة النظر في الوضع العربي وقد بقي من النواة العربية الأصلية السعودية وسوريا. ويبقى الأمل أن تلعب السعودية مع سوريا الدور المنطقي في إنقاذ الوجود العربي ومنعه من الزوال. وهذا المنطق يقضي أن تلتقي هاتان الدولتين على تعزيز محور عربي للدفاع عن مصالح العرب والتصدّي للتحديات. وإلا على الجميع التسليم جدلاً بمقولة أدونيس عن موت العرب كحضارة وتكتّل فعّال. فيكون أوضح تعبير عن موت العرب هو نكهة "ثورات" 2011 "الإخوانية" غير العروبية بنسختها المعتدلة التي "تجنح للسلم".

كمال ديب (أستاذ جامعي لبناني في كندا) النهار 30 أيار 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق