الخميس، 26 مايو 2011

نشتكين الدرزي إفراط في التأويل أم محاولات مبكرة لتشويه مذهب التوحيد

تكاد تتفق كل الروايات والمصادر التي بحثت تاريخياً وسياسياً، على الأصل العربي القح للقبائل التي انتشرت فيها دعوة التوحيد (الدروز) الفاطمية الأصل بعد إعلانها على يد بعض أشهر دعاتها في بداية القرن الخامس الهجري في زمن الخليفة الفاطمي السادس (408 هـ / 1017م ) المنصور ابن العزيز بالله ابن المعز والملقب بالحاكم بأمر الله، فهي؛ أي القبائل عربية يمنية قيسية... استوطنت بلاد الشام قبل الإسلام وكانت من عرب الجنوب هاجرت منذ انهيار سد مأرب. وتؤكد مصادر متفقة أنه واستناداًُ إلى روابط القرابة في تلك القبائل، وهي روابط العصب ثم النسب ثم الهجرة ثم التحالفات، ظلت تلك الجماعات العربية التي استوطنت ساحل بلاد الشام وسهول حلب وحماة محافظة على أصولها العرقية ولم يخالطها كما يزعم بعض المؤرخون أية أصول غير عربية، وأن تنوخ أشهر تلك القبائل التي شكلت أساساًُ تاريخياً عرقياً مهماً للدروز فيما بعد.

لكن الذي لا تتفق عليه مصادر كثيرة هو هل دعوة التوحيد نشأت في أساسها لتزعم احتكارها - وفق مضمون بنيوي فلسفي يتحدث عن جذور ممتدة في عمق التاريخ البشري - لاسبقية عقيدة التوحيد الاسلامية، ولتسقط هذا الأمر عن باقي المذاهب الإسلامية، أم أن ما لحق بهذه الدعوة و"رسائلها" ومنشورات دعاتها من تشويه بالغ بعد انهيار الدولة الفاطمية أدى، خاصة، إلى تحميلها ما لا تحتمل وتقويلها ما لم تقله لدرجة ذهب معها بعض المعادين (المذهبيين) والرافضين أساساً للمفهوم التأويلي للنص الديني، إلى حد إخراج الموحدين- الدروز عن الإسلام كجوهر وعقيدة؟ وهي تهم لم يتمكن فيما بعد أحد من أتباع هذا المذهب ومنظريه ومريديه من النجاح في الرد عليها ودحضها تماماً حتى عبر المحاولات المهمة للأمير السيد - جمال الدين عبد الله التنوخي - التي جاءت بعد أربعة قرون.

في هذه السطور لا نزعم أن لدينا شيئاً حاسما نضيفه لترجيح كفة على أخرى في هذا الجدل (التاريخي)، إلا أننا سنحاول وفق سياق موضوعي واستناداً إلى بعض الوثائق التاريخية والكتابات الموثوقة عن مذهب التوحيد - الدرزي استنتاج عمق الجذور الإسلامية لهذا المذهب التي لا يطالها شك أو يغير من سلامة أغصانها أي تشكيك، وستقتضي محاولتنا هذه العودة سريعاً إلى العقيدة الفاطمية التي نشأ مذهب التوحيد الدرزي في أحضانها، وإلى الدولة الفاطمية التي أدى نجاحها وازدهارها لمدة 250 عاماً إلى تضاعف أعدائها وتنوعهم من حاسد عابر إلى حاقد متربص حوّل حقده بعد انهيارها إلى أيديولوجية شاملة هدفها طمس إنجازات دولة الفاطميين وهدم الأسس المعنوية والأخلاقية والدينية لدعوتهم التي ازدهرت في تلك الأثناء*.

وسيقودنا استعراض ما لحق بالتراث الفاطمي من تجن بعد انهيار الدولة إلى إعادة النظر بطريقة وبصحة السؤال الذي طرحناه في المقدمة والذي يزعم اصحابه أن مذهب التوحيد الدرزي نشأ وأعلن ليواصل التجسيد الاحتكاري الأزلي لفكرة التوحيد... ذلك وصولاً إلى ظروف إعلان هذا المذهب عام 408هـ وظهور الخلاف بين أحد أبزر دعاته الإمام حمزة بن علي والداعي المشؤوم بالنسبة للموحدين الذي ألصق اسمه بهم حتى اليوم المدعو نشتكين الدرزي.

كانت المدة من سنة 297هـ حيث بدأت الدولة الفاطمية على شواطئ تونس على يدي مؤسسها الإمام عبيد الله المهدي، حتى سنة 408هـ حيث أعلن أو كشف (رسمياً) عن مذهب التوحيد، كانت هذه المدة كافية كي تتحول الدولة الفاطمية إلى واحدة من أقوى الكيانات السياسية الحضارية العربية التي نشأت على حساب ضعف وتراجع الخلافة العباسية، لكن الأهم من هذا كله هو القول أن الفاطميين وصلوا إلى الحكم وإلى هذا المجد الحضاري عن طريق دعوة (مذهبية) ناشطة ومحكمة التنظيم ،وقد استمروا على صلة وثيقة بها بعد توليهم الخلافة بل وأمدوها بكل سبل الدعم انطلاقاً من مركزهم القوي على رأس الدولة ووسط تكتم وحذر شديدين.

من المعروف أن الفاطميين يرجعون نسبهم إلى الإمام علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت الرسول محمد (ص)، وهو نسب أكد صحته ثلاثة من كبار المؤرخين العرب، ذلك من أجل القول مثلهم مثل غيرهم من الفرق الشيعية أنهم الأحق بالخلافة. لكن بعيداً عن الدخول في أي نوع من الجدل هنا، فالمؤكد أن الفاطميين كانوا من أشد المهتمين بالجانب الفكري للإنسان، وعكسوا عبر دعائهم مزايا خلقية طيبة جديرة بالاحترام حيث وصفهم المؤرخون "بالحكماء، العقلاء، ذوو الفهم الجيد، واللسان الفصيح، والكلام العذب، أنقياء روحياً، طاهرين جسدياً" وقد كان الفلاسفة والعلماء ورجال الفكر من بين دعاتهم البارزين.

لقد سعى المذهب الفاطمي إلى تدعيم العقيدة الدينية بالفكر الفلسفي بهدف تحصين التوافق بين الفلسفة والوحي، ولقي هذا المذهب بما تضمنه من تأملات فلسفية ودعوات إلى "التفكر" وبما شجع من حرية في البحث قبولاً لدى النفوس المتسائلة، الحائرة ومن هؤلاء أبو العلاء المعري.

كذلك بين الفقراء و المضطهدين سياسيا و اجتماعيا في عصر الدولة العباسية. و كان الخلفاء الفاطميون أنفسهم علماء وكان العلم لديهم من متطلبات الخلافة والمقام فهم أئمة الدعوة الإسماعلية والقيمون عليها، وكان الخليفة يشرف بنفسه على التربية الروحية لخلفه يرشده إلى القراءة في مذهب التأويل ويتابع تقدمه، وهناك كتب عدة في العقيدة الإسماعيلية تنسب إلى الخليفة الفاطمي الرابع المعز باني القاهرة.

باختصار كان العلم هو الحجر الأساس في نشر الدعوة الفاطمية، فهي وقد رفضت الإكراه طريقة لاعتناق العقيدة اعتمدت على قدرة الدعاة في الإقناع والتأثير عن طريق العقل، وقد عُرف الفاطميون بالتسامح الديني إذ نادراً ما تدخلوا ـ رغم قوة دولتهم ـ في معتقدات رعاياها و شمل تسامحهم مسلمين من غير مذهبهم وأهل الذمة.

إذ يقول القلقشندي: كانوا يستميلون قلوب مخالفييهم ويتألفون أهل السنة والجماعة ويمكنونهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم ولا يمنعون إقامة أي صلاة أو شعيرة.

إن كل ما سبق من هذا السرد المطول عن عقيدة الفاطميين ودولتهم، وهو موثق تاريخيا لدى الكثير من المؤرخين، "ابن الأثير وغيره"، هدفه إظهار البيئة التاريخية الإسلامية لمذهب الموحدين - الدروز الذي نشأ من صلب عقيدة إسلامية خالصة، فتاريخيا ليس هناك أي شك أن هذا المذهب أعلن في زمن الحاكم بامر الله، الخليفة الفاطمي السادس حفيد المعز مؤسس الدولة الفاطمية في مصر.

وقد شكلت عمليات التكثيف (المتطرفة ) لمجمل العقيدة الفاطمية صلب الدعوة التوحيدية الجديدة بالإضافة إلى مجموعة من الاجتهادات التي تضمنتها رسائل نشر الدعوة التي أرسلها الدعاة الموحدون والسجل المعلق الذي ظهر في ذي القعدة سنة 411 بعد غياب الحكم بامر الله، وفيه وصف مفصل لتعاليمه وجهوده المتواصلة للإصلاح والعقبات التي واجهها ، ويظهر فيه جليا سبب وكيفية غياب الحاكم.

إن مذهب التوحيد هو الاسم الذي أطلق أساسا على أتباع دعوة الحاكم، وقد سموا أنفسهم بالموحدين، ومصطلح الدروز لحق بهم بعد نحو نصف قرن. وأساس معتقدهم وحدانية الخالق المطلقة، والموحدون شانهم شان أغلب الفرق الشيعية - الإسماعيلية هم تأويليون لا يكتفون بظاهر النص الديني، يعتقدون بعودة (الحاكم ) الإمام، ويؤكد السجل المعلق، الذي عدّ أهم "رسائل الحكمة" في عقيدة الموحدين، أن مذهب التوحيد هو مذهب إسلامي صحيح إذ يقول "بوحدانية الخالق، وبرسالة سيدنا محمد (ص) إلى جميع العالم، وبعمصة القرآن وتنزّله، ويحث بوضوح على القيام باركان الإسلام، بل أن المذهب ارتكز أساسا على القرآن الكريم وأقر إضافة إلى الأركان الأساسية للعقيدة الاسلامية، بأن التوراة والإنجيل كتب سماوية، لكنه في شكله هو مذهب صوفي عرفاني ذو مسلك توحيدي يصفه الموحدون "المتشددون" بالمسلك الثالث؛ أي أن المؤمن الموحد بعد أن يكون قد ارتضى بالعمل بموجب ظاهر الشريعة القرآنية وباطنها يجب ان يصل بسعيه لفهم كنه التوحيد إلى مرحلة من الايمان بوحدانية الخالق يكون عندها مهيأ لتقبل الحقيقة الإلهية دون حاجة إلى شعائر ووسائط.

يقول حمزة - أحد أبرز دعاة المذهب: "إن المسلك الثالث، وهو التوحيد، غاية لا تدرك بل كل واحد يوجده من حيث مبلغ عقله وما تنبسط فيه استطاعته".

"إن ما هو أهم من ظاهر العبادات معناها الحقيقي وهو الرياضة الروحية التي تخضع النفس إلى مراقبة شديدة وتقهر نزعاتها الضارة والتي بها تتم تنقية القلب وتصفية السر فتصبح النفس مهيأة للمثول أمام خالقها وبذلك تحقق ذاتها"، وكما يقول الغزالي في "معارج القدس": ..ومتى قهر الإنسان الشهوات أو آماتها صار حراً نقياً بل آلهياًَ ربانياً..." من هنا يمكن الاستنتاج ان جوهر العقيدة التوحيدية لم يكن ليحتمل أي معان أو مفاهيم احتكارية لأسبقية الإيمان التوحيدي وكذلك لم يحمل أي مفهوم إلغائي لأية أفكار توحيدية سماوية أو غيرها، بل هو يضع النص القرآني شكلياً وتأويلياً كشرط لا بد منه لبلوغ هذا الجوهر (المتطرف إيمانياً) في مضمونه لا في شكله، والمفارقة هنا أن هذا الجوهر الإيماني ذاته الشديد التمسك بفكرة التوحيد هو الذي استخدم وما زال يستخدم في محاولات تشويه مذهب الموحدين تحت حجج ومزاعم شتى منها إهمال شكل الدين. لذلك ما يجب التأكيد عليه أثناء الحديث عن السياق الروحي العام لعقيدة التوحيد التي دعت اتباعها بكثافة للتغذي بالعلوم الروحية هو إنها لم تسقط مسألة ممارسة الشعائر الدينية من متطلباتها، كما زعم الكثير من الذين حاولوا تشويه هذه العقيدة، - وهو إسقاط مزعوم استخدم كثيراً - بل اوصت صراحة بالحفاظ على سنن الشريعة الإسلامية وتكاليفها وحرصت على ذلك، وقد كان هذا الحرص السبب الرئيسي للخلاف الذي حدث بين حمزة بن علي ونشتكين الدرزي بعد سنة على إعلان دعوة لتوحيد، وهو الخلاف الذي أغضب الحاكم بأمر الله من الدرزي واضطره إلى إجراء ما يمكن اعتباره مراجعة جزئية لطرق نشر الدعوة وشروط دخول المستجيبين فيها، والتزامهم بميثاق. وسنتوقف مفصلاً عند هذه المرحلة لأنه فيها جرت أولى المحاولات المبكرة لتشويه الدعوة.

في بداية عام 408 هـ / 1017م دعا الحاكم بأمر الله الناس إلى كشف عقائدهم بلا خوف ولا تستر. ولما تجلى الناسوت؛ في الحاكم انتقلت الإمامة إلى حمزة بن علي بن أحمد الزوزني الذي وصل إلى القاهرة سنة 407هـ قادماً من الشرق وبعد سنة كان حمزة ألف عدة رسائل شرح فيها المذهب الجديد إلا أنه سرعان ما اصطدم بأحد المستجيبين للدعوة المدعو نشتكين الدرزي. فهذا الأخير أقر بادئ الأمر بإمامة حمزة لكنه انقلب فيما بعد وادعى أنه (سيد الهادين) وراح يسعى إلى فرض الدعوة بالقوة الأمر الذي أغضب حمزة بشدة وخاطبه في إحدى رسائله إليه: "ليس الإيمان بحاجة إلى سيف يعينه، بل إلى الإقناع والروية". وقد اكتشف حمزة أن الدرزي ليس فقيه بالمذهب، ولا يملك العلم الحقيقي الذي يجب أن يتمتع به الدعاة. لذلك كانت محاولاته من النوع الهدام وتشبه من يحاول إقامة البناء دون أساس، وهي محاولات لا يمكن الركون إلى أنها غير مقصودة.

لقد كان الدرزي وقلة ممن اتبعوه يظهرون أنفسهم أنهم من المغالين بالتأويلية وهي مغالاة ظاهرية دفعته إلى حد إنكار ظاهر الشريعة وعند هذا الحد الخطير وقف حمزة في محاولة لإبقاء المذهب في إطاره الإيماني السليم، فخاطب الدرزي قائلاً: "أن الظاهر والباطنمتلازمان مثل الجسد والروح، لا غنى لأحدهما عن الآخر"، ثم قاتله بوصفه خارجاً وهزمه في آخر يوم من سنة 409هـ في مسجد ريدان قرب قصر الخليفة الحاكم في القاهرة... وبقي الدرزي متوارياً عن الأنظار إلى أن قتل بعد أيام في بداية سنة 410، وهنا ينفي كثير من المؤرخين الرواية التي تزعم أن الحاكم بعث الدرزي إلى بلاد الشام لينشر الدعوة خاصة في وادي التيم، هي رواية لا تصح وفق السياق التاريخي الموثق الذي جرت فيه الأحداث فالدرزي لم يغادر مصر بل قتل والدعوة لما تزل في بدايتها. وقد تبرأ منه الموحدون. وقد سببت المحاولات المشبوهة التي قام بها آنذاك إلى ضجة (إعلامية) أدت إلى إطلاق اسمه على أتباع الدعوة.

إن انقطاع الدعوة أو توقفها أثناء وبعيد وقوع الخلاف الذي سببه الدرزي يؤكد أمرين أساسييين: الأول أن الحاكم أراد التعبير لأتباعه عن غضبه الشديد من الدرزي واستنكاره لما جرى، وهو ما ينفي بشكل حاسم مزاعم إرساله للدرزي إلى بلاد الشام بعد ما قام به من انحرافات ومخالفات.

والثاني أن الحاكم أراد بوقفه للدعوة التأكد من عدم انتشار أو تسرب الأفكار المغلوطة والمشوهة التي حاول الدرزي نشرها بين أتباع المذهب، وهو أمر يؤكد تالياً أن كل تشويه طال عقيدة التوحيد لم يأت في هذه الفترة بل جاء لاحقاً بعد غياب الحاكم وإقفال الدعوة وتوقفها عند المضمون الإسلامي التوحيدي الذي سبق وشرحناه. وعلى الأغلب بدأ التشويه بعد انتهاء حمزة ومعه الداعي بهاء الدين علي بن أحمد الطائي من كتابة عشرات الرسائل لنشر الدعوة في معظم أرجاء العالم الإسلامي. أي عندما أقفلت الدعوة سنة 343هـ /1042م. إن إرسال بهاء الدين بالإضافة إلى ما ألفه حمزة وعدد قليل كتبه إسماعيل التميمي ثاني الحدود **، مع بضع رسائل من مصادر أخرى تؤلف كتب الموحدين - الدروز وتدعى الحكمة الشريفة، وعدد هذه الرسائل 111 رسالة مجموعة في 6 كتب. لكن روايات متواترة تقول أن الحكمة كافة تتألف أساساً من 24 كتاباً، وهذا يشير بوضوح إلى حجم الضياع الذي لحق بهذا التراث الديني، وتالياً التشويه الذي طاله وهو تشويه بات من المؤكد أن فيه الكثير من التعمد.

أدهم الطويل - تحولات - العدد الثامن - شباط 2006 الأحد 19 آذار (مارس) 2006.

0 تعليقات::

إرسال تعليق