الثلاثاء، 17 مايو 2011

15 أيار 2011: فلسطين تعود بدمائها إلى الميدان.. كما ساروا على الأقدام قبل 63 عاما، ساروا أمس: شهداء و112 جريحا في مارون الراس: الدماء ما زالت تخضّب الأرض

حضرت فلسطين والشهداء والراية (عباس سلمان)
ليسوا يملكون سوى دمائهم يقدمونها لها، وبعدما خسروها، لم يعد هناك ما يمكن أن يخسروه. هي كل ما تبقى لهم. منها هم، وإليها سوف يعودون، مهما طال الزمن. وفي سبيلها، لم يبخلوا يوما بدمائهم، مهما كانت المناسبة.

مع ساعات الفجر، خرجوا من مخيمات البؤس التي يحشرهم فيها لبنان الرسمي، بعشرات الآلاف، منهم من يستعيد صورتها التي في باله يوم أرغم على مغادرتها، ومنهم من يتوق لرؤيتها للمرة الأولى. كان من المفترض أن يواكبهم في مسيرتهم، التي تأتي في الذكرى الثالثة والستين على نكبتهم، إخوان لهم في القضية من لبنان. إلا أن حجم المشاركة اللبنانية كان مخيبا.

وبين الفجر والمساء، انقلبت الصورة رأسا على عقب. ففرحة اللقاء المرتقب الصباحية، تحولت إلى دموع تبكي عشرة شهداء، ونحو 112 جريحا، سقطوا بالقرب من أرضها المباركة، في سبيل لمس ترابها، وتثبيت رايتها فوق السياج الشائك، القاسي، الذي يفصلهم عنها.

عشرة شهداء، و112 شهيدا، ومرارة وخيبات كثيرة جديدة، كانت ثمن رؤيتها أمس، ولو لساعات معدودة. خطفت مساعي العناق بين الأرض وبين أبنائها، الضوء من المنصة ومن البرنامج الذي كان معدا لإحياء ذكرى النكبة.

من كان يظن أن بإمكانه أن يردّهم عنها؟

...

يدا محمد مخضبتان بالدماء. يرفعهما عالياً، ويهوي بهما على وجنتيه صارخاً: "لقد قُتل أمامي، رصاصة إسرائيلية أصابته في رأسه. لقد قُتل محمود سالم، ابن السابعة عشرة. استشهد ابن مخيم البص". كانت الساعة الواحدة والنصف ظهراً.

قبل ساعة من رحيل سالم، الشهيد الأول بين الشهداء الذين رحلوا أمس، كانت قوافل المشاركين في مسيرة "العودة" تصل تباعاً إلى تلّة "مارون الراس" ، سيراً على الأقدام من بنت جبيل حيث ركنت الحافلات، في مشهد وصفه كثيرون من الفلسطينيين الكهول، بأنه يشبه مسيرهم من قراهم، قبل 63 عاماً.

كانت أعلام فلسطين مرفوعة في الهواء، ترفرف مع كل خطوة تجاه التلة، والوجوه تعبّر عن توق للوصل، وشوق للقاء. لقاء بصري لا أكثر، وشوق قديم حفر في الذاكرة. ربما كان سالم هو ذلك الفتى الذي راح يركض بين الجموع ليكون أول الواصلين، وربما يكون ابن الرجل الذي بكى لمّا رأى فلسطين.

سالم، والشهداء والجرحى الذين رحلوا أمس، كانوا بيننا.

كانوا يريدون أن يرفعوا راية فلسطين على السياج، فنجحوا. كانوا يريدون أن يقولوا للإسرائيلي "هذه أرضنا"، فقالوا، ثم رحلوا.

قبل رحيلهم، كانت المسيرة تسير بخفر وابتهاج: الأطفال سعداء بما يشاهدون ويسمعون، فيما الأهالي متوجسون من خرق أبنائهم للحواجز البشرية التي شكّلها الجيش اللبناني للوصول إلى الخطّ الأزرق، متجاهلين التحذيرات من وجود قنابل عنقودية.

كانت ساحة المنصة مزدحمة بآلاف الفلسطينيين، فيما عيون بعض الشبان ترنو إلى السياج. "لو كانت أرضك، لما خاطبتنا بهذه الطريقة" قال أحد الشبان، رداً على طلب ضابط في الجيش اللبناني بأن يعود إلى الخلف. بدت اللحظات عادية، ولا تشي بأن مجزرة ستقع بحق من سيكسر حاجز الخوف: أطفال وأهال وشبان يتأملون فلسطين المحتلة. يرمقونها بنظرات حب وتوق، والجيش اللبناني على التلة أمامهم.

بدأت، في لحظات متسارعة، محاولات اختراق حواجز الجيش البشرية، قبل أن تُسمع أصوات العيارات النارية تُطلق بغزارة في الهواء، فراحت الحشود تركض وتتخبط بعضها بالبعض الآخر، اعتقاداً منها بأن الجيش الإسرائيلي قرّر استباق أي هجوم. "إنه الجيش اللبناني، يحاول حثنا على التراجع" صرخ أحدهم، ثم صرخ كثيرون.

عادوا يتقدمون بالسرعة ذاتها التي كانوا ينسحبون بها إلى الخلف. تكثفت رشقات الرصاص، غير أنها لم تصدّ الحشود، بل صارت، مع كل رشق ناري، تُرفع الرايات، والعيون ترنو إلى المُنبسط خلف السياج، خلف الحدود، حيث سقط الشهداء.

"كيف نتسلل والجيش هنا؟" سأل شاب عشريني، دمغ على ذراعه وشم علم فلسطين. هزّ الصديق كتفيه محتاراً، قبل أن يشير بإحدى يديه، كشرطي سير يلوّح لسائقي السيارات بالمرور، قائلاً: "أنظر، بدأوا يتسللون من الجهة الخلفية".

تكثفت رشقات الجيش اللبناني، فيما ازداد عدد الزاحفين إلى الحدود. "أنا خائف عليكم. ثمة قنابل عنقودية في الأسفل. ساعدونا على منع الشبان من النزول" راح ضابط الجيش اللبناني يصرخ، في وجوه واجهته بعلامات حيرة علت محياهم، وعبارات داعمة لموقفه.

ولمّا استشعر الجيش أن معركة حقيقية قد تقع بينه وبين المشاركين، مع تعرّض عناصره لرشق بالحجارة، هتف الضابط المسؤول بوجه العناصر: "ممنوع إطلاق النار. دعوهم ينزلون. لقد حذرناهم، لكنهم لا يريدون أن يستمعوا. هيّا، افتحوا الطريق!".

كان ضباط الجيش اللبناني بين خيارين: إما أن يريقوا الدماء برصاص من بنادقهم، وإما أن يسمحوا لمن يريد بالنزول، من دون أن يرشقهم بالحجارة. وهكذا كان: انحدر المئات فوق العشب الأخضر، وبين دغل الأشجار البرّية، باتجاه الحدود، فيما ساد توجس مصحوب بصمت رهيب بين الجموع الواقفة.

كانت الحشود تنتظر بجزع انفجار قنبلة ما، بوجه أحد الشبان الذين رفضوا نداءات علماء الدين واللجان المنظمة بأن يعودوا أدراجهم.

وقفت أم محمود مستندة إلى عكاز خشبي، وراحت تصرخ منادية ابنها: "يا بديع، عد إلى هنا. الإسرائيلي غدّار. لن تحرّر فلسطين يا أمي. والله لن تحرّرها".

مضى بديع، مخترقاً الحشود، حاملاً بيده علم بلاده المحتلة، وركض خلفه يافعون يبحثون عن طريق يوصلهم إلى السياج. أصبحوا خطاً واحداً، أخذ يكبر شيئاً فشيئاً، من دون انفجار أي قنبلة. "أنظر، علم فلسطين يُرفع على الحدود. الله يحميهم. الله أكبر".

ارتفعت أصوات من المنصة، التي خلت من ناسها بغتة، تعرّف عن فلان الذي سيلقي كلمة باسم اللجنة التنفيذية للرحلة، للمسيرة.. التي تنظم في ذكرى النكبة. بدا أصحاب الكلمات كمن يحدّثون أنفسهم، إذ لا آذان تسمع ما يقولون. ثمة عيون تحدّق في الحشود التي افترشت الحدود. عيون تبحث عن علم فلسطين قرب الآليات الإسرائيلية.

وفيما كانت العيون شاخصة إلى مبتغاها، همس أحد الضباط لزميله: "مصدر هذا الرصاص من الجهة الإسرائيلية. أين عناصرك؟"، فأشار بأنهم منتشرون في الأسفل. هزّ الضابط برأسه مردفاً: "أخبر غرفة العمليات بأن يزودونا بالمزيد. بدأت اللحظات الخطيرة".

بدأت، عند الواحدة وخمس دقائق، لحظات الخطر: رشقات من الجانب الإسرائيلي، أردت سالم، وهزّت الجموع، وأسكتت الكلمات. ساد هرج ومرج بين الأهالي والأطفال، بينما انطلقت سيارات الإسعاف تهبط التلة من الجهة الشرقية، وأخذت تقل الجرحى.. ثم الشهداء.

توقف الثمانيني فضل محمد شحادة، عن تعداد أسماء القرى الماثلة أمامه في الأفق: كفر برعم، الجش، رأس الأحمر، جبل كنعان، سعسع، صفد. صمت ابن قرية لوبيا، لمّا سمع أن شهيدين قد سقطا في الصفوف الأمامية. رفع العصا بقبضة يده، كملك يرفع صولجانه غضباً، وقال: "لقد أتينا لنتذكر نكبتنا، وإذا بنا نتعرّض لنكبة ثانية. أتينا لنشاهد فلسطين عن بعد. نشم رائحتها. وإذا بنا نشاهد الشهداء، ونشم رائحة دمائهم".

تحوّل الوافدون من أسفل الوادي، عند الثانية بعد الظهر، إلى رسل ينقلون آخر الأخبار، بوجوه متجهمة وغاضبة: "سقط ثلاثة شهداء، وأكثر من عشرين جريحاً. غدرونا الكلاب. وين العالم؟ وين الناس؟ وينكن يا بشر؟". تكثفت الرشقات النارية، وتضاعف عدد سيارات الإسعاف.

بمحاذاة جدار اسمنتي، يجاوره طريق ترابي من أعلى التلة، وقفت أمهات يسألن عن أولادهن وهنّ يذرفن الدموع: "هل رأيت طاهر؟ أنت، يا شاب، الله يخليلك أمك، هل رأيت ابني محمود؟ يا جماعة، هل جُرح ابني؟ أنا والدة محمد حسين، هل رأيتموه؟". لا مجيب. شبان، ورجال، يطرقون رؤوسهم، ونسوة ينتحبن. يرتجفن خوفاً.

تجمهرت الحشود، عند الخامسة والنصف عصراً، على رأس التلّة. الوجوه التي حملت أصحابها لترى فلسطين، لم تصدّق بعد أن شهداء من بينهم قد سقطوا في أسفل الوادي. لم تصدّق أنها دفعت ثمن رؤية أراضيها المحتلة، ولو عن بعد. دفعت ضريبة خذلان ذوي القربى. دفعت ثمن إلقاء نظرة حيّة على تلك الأرض التي انتزعت منهم قبل 63 عاماً.

كما ساروا على الأقدام قبل 63 عاما، ساروا أمس من مارون الراس إلى بنت جبيل، وخلفهم دماء خضّبت الرمال. ساروا مطرقي الرؤوس، لا يجيبون عن أسئلة الأطفال: "أين فلسطين؟". لا يريدون النظر إلى الخلف. هل يقولون لهم إن مفاتيح منازلهم ما تزال معهم؟ هل يقولون لهم إن ثمن رحلتهم كان تلك الدماء؟

يدا محمد مخضبتان بالدماء. يرفعهما عالياً، ويهوي بهما على وجنتيه صارخاً: "لقد استشهد محمد سالم".

سالم رفع علم فلسطين.. ورحل مع بقية الشهداء. رحل لينام إلى جانب فارس عودة.

جعفر العطار السفير 16/05/2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق