السبت، 30 أبريل 2011

الانتفاضات العربية في لحظتها السورية

هل لدينا بوادر تشير إلى تحول عراقي الطابع في سوريا، تحول ترعاه الدولة يحول الأزمات الداخلية إلى مناسبة لوأد ولادة جسم سياسي سوري، وتحويل مساره إلى نظام لا يستتبع شبكات المصالح فقط بل يعيد الاعتبار العملي إلى الروابط العشائرية والضوابط الدينية على نحو لا مسار مستقبلياً له إلا خلق نظام تتحول فيه الجماعات الأهلية الطائفية وغيرها إلى أحزاب سياسية أو ما شابه ذلك؟

قد يدل تأخر الحركات الاحتجاجية السورية عن غيرها في أقطار عربية أخرى على رهبة كانت للدولة قبل سقوط هذا الحاجز منذ أسابيع قليلة، وعلى تخوف من سيناريو عراقي أو لبناني في سوريا، وقد يدل على جو من الانعزال والتقوقع على الذات تأتّى عن مسار التخلف والانحسار التاريخي المؤسسي والخلقي والعقلي لسورية الذي قام برعاية الدولة والحزب الحاكم في العقود الأخيرة. وإن ردود فعل الدول التي لم تستقر فيها الأوضاع بعد على وتائر ومسارات واضحة - اليمن وليبيا والبحرين وسوريا- تشي، ليس باستعادة الروح على نحو مرض لأصحابه، بل بمنازعات قد تطول وقد تستفحل: في ليبيا على شاكلة معدّلة لنموذج إفريقي (ساحل العاج، إن توفرت الظروف الخارجية لذلك) أو على نموذج عراق صدام حسين ما بعد ١٩٩١؛ في اليمن على نحو قد تكون نتائجه كارثية وقد يتخذ في بعض المناطق صورة صومالية؛ في البحرين على صورة مفتوحة على احتمالات لا ضوابط لها إلا الرهان على حكمة أو صفاقة الدولة من جهة، وحكمة أو تهور الحركات ذات الطابع الطائفي من جهة أخرى.
أما في سوريا، فإن الخطاب الثاني لرئيس الدولة أمام حكومته الجديدة، والسلوك المعدل نسبياً لأجهزة الأمن تجاه تظاهرات يوم الجمعة ١٥/٤ (وتخبط أقوال بعض المسؤولين في تلك الأيام) قد يدل على أنه قد ابتدأ باستيعاب ما هو حاصل على نحو لم يشِ به في خطابه الأول أمام ما يسمى بمجلس الشعب. لسنا على بينة مما هو حاصل من خلافات أو توافقات داخل السلطة وأجهزتها، إلا أن الأكيد والمقلق أن النظام السياسي يبدو عاجزا بنيوياً عن تجديد نفسه وعن الإتيان بإصلاحات جديَّة وان مقتلة يوم الجمعة الحزينة والأيام التي تلتها دليل مقلق على أن السلطة قد تكون قد قررت أنها غير قادرة على استيعاب ما هو حاصل.
لهذا مؤشرات بالغة الوضوح مما شهدناه في الأسبوعين الأخيرين تشي ليس فقط بتلكؤ في فهم ما يجري، بل باستصعاب فهم عالم - سوري وعربي وعالمي- تَشَكَّل على صورة لا يمكن استيعابها في إطار عادات خطابية مُتخشِّبة وأساليب سلطوية تعود إلى عقود قد انطوت. تشكَّل الزمان العربي الراهن وانفتح ليس فقط على الأزمات، بل على المستقبل، وابتدأ بالانصراف عن الدوائر المغلقة التي حادت بنا عن مسارات التاريخ وحنطتنا في الستينات والثمانينات. إن سياق العجز هذا هو ما يبلور طبيعة فهم وممارسة السلطة في سوريا البعث، وفي لب هذا السياق تغليب منطق السلطة على منطق الدولة. ولا يبدو أن هناك حلا يرتجى، أو إنقاذاً لسوريا من الخراب، ولا خطوات تحد من رفع سقف المطالب التي تزداد سعة وراديكالية، دون قرارات جريئة على حساب الأجهزة والحزب الحاكم.
إذا كان منطق الدولة قد تغلب على منطق السلطة في تونس وفي مصر، فإن ذلك يعود إلى درجة أرفع من التطور الاجتماعي والسياسي (خصوصاً في تونس) الذي سمحت به الدولتان الأكثر انفتاحا وانكشافا من سوريا على سياق التطورات العالمية؛ والتي أُثبِتَت فيها تمايزات بين المؤسسات. الترجمة العملية لذلك التمايز الوظيفي بين السلطة والجيش: ذلك عماد النظام في مصر التي اسْتَنْقَذ النظام فيها نفسه عبر التضحية بطاقم جهازه المعلن، وجعل نفسه منفتحاً على تطوراتٍ ليست حدودها واضحة حتى الآن: وذلك عماد تآلف الجيش وطاقم العهد البورقيبي في تونس في تحالفٍ ناظمٍ لمسارات التحول التي ما زالت تبدو عليها البلبلة، ولا سيّما اصطياد الجماعات الإسلامية المختلفة في المياه العكرة. أما في سوريا البعث، فقد شهدنا في العقود الأخيرة نكوصاً تنظيمياً على صورة سلطة تتخذ موقعا محوريا من السياسة والمجتمع، سلطة مجردة تتخذ لنفسها نظاما استتباعياً شكَّل شبكة من المصالح السلطوية والاقتصادية، ثم اتَّخذ من الدولة ومن الحزب الحاكم أداتين لها ولنظامها معاً.
يترتب على ذلك قيام الدولة على خدمة جهاز سلطة متشكل على شاكلة الدولة المملوكية، مع بيوتاتها وأوجاقات عساكرها، مع اعتبار هذه البيوتات والأوجاقات أسياد الشعب ومالكي البلد بدلا من كونهم ممثلين له. يترتب على ذلك أن جُماع المواطنين ما هو إلا طحين اجتماعي وموضوع للرصّ والاستهلاك والابتزاز. وعلى ذلك، فليس غريبا أن نرى السلطة السورية رافضة اعتبار الأزمة الحالية على أنها أزمة سياسية بل قضية احتجاجات مطلبية ومصالح جزئية خاصة بالمناطق والفئات المختلفة، وقضية أمنية تحتاج إلى معالجة تطاول المواطنين على رؤسائهم وكبرائهم. وهي تبدو عاجزة عن استيعاب أن المطالبة بالحرية والخبز والكرامة وسيادة القانون وكفاءة الإدارة ولجم إرهاب وابتزاز المواطنين من قبل الأجهزة الأمنية بل ومن أصغر موظف في الدولة لأكبرهم، إلا تآمرا على السلطة ومشروع انفراط لإمكانية الاستمرار في سياسة استباحة المواطن والوطن معاً؛ وإلاّ استعادة لفترة الثمانينات التي تجاوزها البلد ولكنها مازالت  حابسة لمنطق السلطة. بعبارات أخرى- نرى السلطة السورية عاجزة عن فهم الآتي: تشكلت في سوريا سبل جديدة وفتحت فيها مبادرات جديدة لمعالجة الشأن العام على نحو يعيد للبلد شأن السياسة، بعد أن كانت قطاعات واسعة من الشعب قد اضطرت إلى الانصراف عن الشأن العام إلى الانشغال بتفاصيل الحياة اليومية، وإلى العياذ العاجز بالله مما هو قائم والانشغال بأحكام الطهارة والنفاس.
أما السلطة في الأسبوعين الأخيرين، فهي قد التفتت مجددا إلى أفيون أحكام النفاس  والطهارة، وهي تباشر البلد وكأنها قوة أجنبية محتلة، متخذة من نهج الانتداب الفرنسي سبيلاً، مستدرةً القوى الدينية ووجهاء الأحياء والمناطق في محاولتها ضبط الأوضاع وممارسة الضبط الاجتماعي. ليس غريباً أن نجد أن السلطة قد وجدت من المناسب أن تتملق المشايخ، وتلغي منع النقاب للمدرسات، وتُيَسِّر إقامة محطة فضائية دينية بالغة الرجعية: ليس استرضاء أرباب الدين أمراً قريب العهد، بل له سوابق في تسهيل إقامة المعاهد الدينية المرخصة وغير المرخص لها، وإغراق السوق بكتب الخرافات، والسماح للمشايخ بالتدخل في منع الكتب والنشاطات الثقافية العلمانية، وهي - أي الأجهزة الأمنية- ترفض طلباتٍ لإقامة جمعياتٍ مدافعةٍ عن العلمانية، وترعى تنظيم تظاهرات غوغائية وتخريبية تالياً لحادثة الكاريكاتورات الدانمركية، وغير ذلك مما هو معلوم للجميع. وإن من المعلوم للجميع أيضاً أن هذه سياسات اجتماعية- سياسية، نكوصيّة، قد برهنت عن كونها انتحارية، وما علينا في هذا المضمار إلا اعتبار سياسات أنور السادات، والسعودية، وباكستان، والولايات المتحدة (وبريطانيا) في تمكينها للقوى السياسية الإسلامية على امتداد عقود، تمكيناً ارتد عليها جميعاً في نهاية المطاف عل صورة بالغة الدموية. على ذلك، فإن السلطة السورية، في سياسة تمكين الدينيين من تمديد النكوص الاجتماعي والعقلي والمعرفي في مفاصل المجتمع، إنما تعمل على خلق الجني والقمقم معاً، في نهج عبثي على نحو بالغ الوضوح والتخبط.              
 
لهذا النهج مكملات هي الأخرى ذات تداعيات مع سياسات فرنسا الانتدابية. فإذا كانت السلطة السورية على الشاكلة التي وصفناها أعلاه، وإذا كان النظام الشبكة الاستتباعية السياسية والاقتصادية للسلطة التي تتخذ من الدولة والحزب أداتين لها (وعلى صورة شبيهة بما حصل في ليبيا القذافي)، فإن من المكملات لنهج محاولة إفراغ الأزمة من طابعها السياسي الأكيد، أي محاولة جعلها غير ذات أثر على التركيبة الحالية للسلطة ولنظامها، هو محاولة استمالة ما يعرف بوجهاء القرى والمدن، مع أن الدولة والمواطنين قد جروا في العقود الأخيرة على اعتبارهم مؤسسة سياسية قد تقادمت. وإن ما يؤكد نزع الصفة السياسية عن هذه العملية هو أن هؤلاء الوجهاء ليسوا مدعوين للإقبال على عملية سياسية بين قوى سياسية - إذ هم لا يمثلون أحداً تمثيلاً سياسياً في مجال سياسي عام- بل هم مدعوون لتقديم التماسات إلى سلطة يمثلها رأسها، رئيس الجمهورية، وعناصرها من ضباط الأمن، في التفاف واضح عن مجال السياسة إلى مجال الاستتباع والصلح العشائري.

عزيز العظمة -  النهار 30 نيسان 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق