منذ أيّام وعلى وقع المواجهة المحتدمة بينَ حركات الاحتجاج والسلطة في سوريّا، يحاول فريق 8 آذار – أو "فريق حزب الله" – في لبنان، الإيحاء بأنّ شيئاً لم يتغيّر.
يحاولُ الإيحاء بأنّ النظام السوريّ لا يزال قوياً في الداخل ولم تؤثّر فيه انتفاضات المحافظات السوريّة كافّة، وبأنّ ما يجري هناك ليس سوى "سحابة صيف" وتمّر.
وبهجومه على فريق 14 آذار متبنّياً الاتهامات السوريّة الكاذبة لـ"تيّار المستقبل" بالتدخّل في الشأن الداخلي السوريّ، يحاول "فريق حزب الله" الإيحاء بأنّه هو نفسه لم يتأثّر وبأنّه لا يزال قادراً على تهديد الحركة الاستقلالية اللبنانيّة وتخويفها، وبأن لا حدود لما يمكن أن يقدم عليه. كما يحاول الإيحاء بأنّ أيّ اهتزاز في وضع النظام السوريّ داخلياً سيعرّض لبنان إلى أفدح الأخطار حتى وصل الأمرُ بالرئيس نبيه برّي إلى حدّ التهديد بـ"حريق شرق أوسطيّ". وكلّ ذلك للقول في نهاية المطاف إنّ الأزمة السوريّة "سوف" تتحوّل في أيّ لحظة إلى أزمة لبنانيّة خاصةّ وإقليميّة عامة.
بيدَ أنّ هذا كله ليس واقع الحال.
فالنظام في سوريّا الذي اعتمد الخيار العسكريّ - الأمنيّ لمواجهة الاحتجاجات الشعبيّة، هو نظامٌ يزداد ضعفه. هو بالتعريف نظامٌ يصارع من أجل البقاء، ولا يعوّضُه دعمُ بعض "لبنانييه" له ولا التهديد بإمكانية إشعال لبنان والمنطقة. وعلى أيّ حال، فإنّ الإقدام على ذلك – أي الإشعال – على افتراض أنّه واردٌ نظرياّ، لا يعدو كونه مغامرة انتحارية يقوم بها خاسرٌ "مزنوق" لا يعني التحسّب من أذاه المحتمل، الخطأ في القراءة السياسيّة.
على أنّ ما يهمّ التوكيد عليه في هذا السياق، يتجاوز ما تمتّ الإشارةُ إليّه حتىّ الآن نحو نقطة جوهريّة وهي – تكراراً – حقيقةُ أنّ "سوريّا الإقليميّة"، أي سوريّا المكدّسة لـ"أوراق" في الإقليم تُستخدم عند "اللزوم السوريّ"، قد أفَلت بالفعل وباتت ماضياً.
وخلال الأسبوع الماضي، برز حدثان كبيران يؤكّدان هذا الاستنتاج.
فبالإضافة طبعاً إلى العجز المستمرّ عن تشكيل حكومة الانقلاب في لبنان، كان الحدثُ الأوّل ترّكياً. فأنقرة التي سعت مع الرئيس السوريّ بشاّر الأسد قبل انفجار الاحتجاجات وحتىّ اللحظة، من أجل أن يقوم بإصلاحات جديّة، طالبته في إطار الإصلاح بإجراءات "مؤلمة" داخل النظام كي يستبقي احتمال بقائه. وكانَ الاعتراض التركيّ عالياً حيال إقدامه على "الحسم العسكريّ والأمنيّ"، حتىّ أنّ تركيّا استضافت لقاء موسعاً لمعارضين سوريين.. وهذا فضلاً عن الاتصالات التركيّة – الدوليّة المكثفة بشأن الوضع في سوريّا ومساراته والتي يدور مضمونّها حول حقيقة أنّ النظام الذي لا يعرف كيف يحافظ على نفسه هو خطرٌ على ذاته وعلى شعبه وعلى العالم.
لا شكّ أنّ لتركيّا مصلحةً تحركها إذ لا تناسبُها فوضى سوريّة على حدودها. غير أنّ ما حصل في الأيّام الماضيّة عندما لم يستمع النظام إلى النصائح التركيّة، هو أنّ التحالف التركيّ – السوريّ الذي بشكل ركيزةً إستراتيجيّة للنظام في دمشق ومعطى أساسياً في ما كان يُسمى "سوريّا الإقليميّة"، اهتز اهتزازا عميقاً ومؤثراً على نحو بالغ في هذا النظام الذي لا يزال في فترة سماح نسبيّ من قبل العواصم الدوليّة.
لكنّ الحدث الثاني الكبير بل لعلّه الأكبر في أبعاده، كان فلسطينياً.
في ذروة الأزمة السوريّة، حصلت المصالحة الفلسطينيّة بين "فتح" و "حماس" برعاية مصريّة.
إنّ هذه المصالحة - عودةً إلى أحضان الشرعيّة الوطنيّة - التي تشكّل بلا مبالغة عرساً عربياً تمتّ – بشكل مفاجئ!- على تقاطع عوامل عدّة. فممّا لا شكّ فيه أنّ التطرّف الإسرائيليّ تجاه القضيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني يشكل العامل الأوّل والأساسيّ. لكنّ الضغط الشعبيّ الفلسطينيّ الذي تنفّس من الثورات العربيّة الجارية يشكّل العامل الثاني. ولا بدّ من تسجيل أنّ وعي القيادات الفلسطينيّة بالتطورات وبالمرحلة الجديدة التي تفتتحها لعب دورَ العامل الثالث. ولعلّ العامل الرابع والمهمّ هوَ أنّ هذه المصالحة الفلسطينيّة التي كانت إلى فترة غير بعيدة ممنوعة من سوريّا ومن "محور الممانعة" (!) على أساس أنّ فلسطين "ورقة "، حصلت في لحظة انعدام وزنٍ سوريّ بل من "وراء ظهر" النظام في سوريّا. وهذا معناه - مرّة أخرى – أنّ ما يُسمىّ "سوريّا الإقليميّة" قيد الأفول بالفعل. أمّا العامل الخامس والشديد الأهميّة فهو أنّ التطوّرات الحاصلة في المنطقة العربية والتي تأتي المصالحة الفلسطينيّة في إطارها، تُعطي درساً تاريخياً لكنّه عمليّ – فعليّ – هذه المرّة: إنّ الديموقراطيّة شرط لا بدّ منه لتنتصر القضيّة الفلسطينيّة، وشرط لا بّد منه للاستنهاض العربيّ ككّل (أمّا الحديث عن أنّ الضغوط الخارجيّة على النظام هي لفكّه عن إيران فهو بلا معنى لأنّ هذه الضغوط هي لاستعجاله في الإصلاح حماية لبقائه). وعلى أيّ حال، ها هي إسرائيل ومنذ أن بدأ المخاض العربيّ نحو الديموقراطيّة والحرّية والكرامة تتخبّط في أزمة وجوديّة هي الأولى من نوعها منذ 1948، وهي أزمةٌ ظاهرة رغم أنّ المخاض العربيّ يغطّي عليها إعلامياً.
إنّ المعطيات الآنفة تستدعي بنتائجها الكبرى خلاصتيَن رئيسيتين.
الأولى هي أنّ فريق 8 آذار – "فريق حزب الله" – بدلاً من أن يبقى في الماضي وبدلاً من أن يبقى متخبطاً في الاستقواء والتهويل والتهديد، وبدلاً من أن يخبر "نا" الرئيس برّي مثلاً أنّ تأخير تشكيل الحكومة مؤامرة على سوريّا رابطاً – دائماً – بينَ السياقات اللبنانيّة والسياقات السوريّة.. عليه أن يتمثّل بعمق تجربة "حماس" التي غلّبت في الخطوة الأخيرة مكوّنها الفلسطيني على تحالفها مع سوريّا وتصالحت مع "فتح" لإعادة الاعتبار إلى المؤسسات الشرعيّة. أي إنّ على "فريق حزب الله" أنّ يذهب نحو التاريخ الجديد.. نحو المصالحة مع لبنان الكيان ولبنان الدولة وسائر اللبنانيين. فالتاريخ الجديد المشار إليه يقول إنّ العلاقات بين الدول بعد الآن لن تكون علاقةً بين دولة – مركز و "دول أوراق"، وأن نظاماً عربياً جديداً يفترضُ أن يقوم بينَ دول عربيّة متعاونة ومتساوية في التعامل.. نظام يستطيع أن يفرض على إيران علاقات حسن جوار، ويجعل من الوضع العربي ككلّ ثقلاً إقليمياً بدلاً من دولة إقليميّة بذاتها.
أمّا الخلاصةُ الثانية فبرسم 14 آذار.
فعلى عكس الاتهامات الكاذبة التي ترمى بها، كان واضحاً أنّ 14 آذار ارتبكت بشدّة حيال الثورات العربيّة خاصةً منذ أن دقت أبواب مصر. لا هي توقّعتها ولا هي رحّبت بها "كما يجب"، ولا قدّرت كما ينبغي كيفية التعاطي معها.
في جانب من الجوانب، خضعت 14 آذار للتهويل، بل لتهويلَين: التهويل الأوّل أنّ ما يجري في المنطقة هو في مصلحة "ممانعة" متجددّة في حين أنّ ما يجري هو استنهاض للوضع العربيّ ولقدرته على استعادة الزمام بالديموقراطيّة، والتهويل الثاني على قاعدة أنّ الفريق الآخر بتحالفاته الإقليميّة لا يزال قادراً على إشعال الحرائق متى شاء في حين أنّ هذا التهويل يغطي تأزمات أصحابه الذين يريدون من 14 آذار أن تبقى مصدّقة أنّ "العضلات" لم يطرأ عليها شيء.
وحقيقة الأمر هنا أنّ 14 آذار التي استعادت المبادرة بعد إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني الماضي، والتي أعادت تظهير التوازن السياسيّ – الشعبيّ في لبنان على حقيقته في صالحها بين 14 شباط و13 آذار الماضيين، عادت إلى "المراوحة" من جديد لا سيّما عندما دقّت الثورة أبواب دمشق.
وأغلب الظنّ أنّ عقدتيَن تقفان وراء تلك "المراوحة": عقدةُ ابتزازها بتهمة أنّها مع تغيير النظام السوريّ (وهو أمر ليس من "اختصاصها" أصلاً) وعقدةُ عدم تصديق أنّ "محمد علي كلاي" لم يعد في عالم الملاكمة. والحال أنّ 14 آذار لا تُطالب بإستراتيجيّة خارج بلدها. فكان المطلوب ولا يزال من 14 آذار أن تتصرّف بخلفيّة أنّها معنيّة بـ"الربيع العربيّ" لأنّها في الأصل من رواده وما يهمّها تغيّر الواقع العربيّ، وأن تبقى في موقع المبادرة باعتبارها جزءاً من تلك العروبة الديموقراطيّة. وأن تبقى 14 آذار في المبادرة فذلك يعني تحطيم جدار الخوف لا الاكتفاء بكسره فقط ، ويعني أن تخاطب اللبنانيين على أساسٍ من الثقة بالنفس وبالموقع وبالقدرة.و14 آذار إذ تستطيع بلا أدنى شكّ استلهام "النموذج الفلسطيني" الأخير، عليها أن تقول للجميع أن تعالوا الآن بالتحديد إلى الدولة بشروط الدولة وبثوابتها ومرجعيّاتها إنهاءً للسلاح غير الشرعي واحتكاما إلى الديموقراطية والمؤسسات الدستوريّة، وتجنيباً للبنان المزيد من الأخطار. فلا تجوز "المراوحة" إذاً وذلك ما ينبغي التركيز عليه في المقبل من الأيام.
نصير الأسعد، السبت 30 نيسان 2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق