الخميس، 29 يوليو 2010

أبعد من شهود الزور1: وقائع غير منشورة من التحقيقات في اغتيال الحريري

منذ 14 شباط 2005، لا تزال البلاد تلملم آثار ارتدادات اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ومنذ ذلك الحين، بات التحقيق في الجريمة محركاً رئيسياً للعلاقات السياسية، سواء بين اللبنانيين أنفسهم، أو بين مجموعاتهم والقوى الإقليمية والدولية، رغم كل ما اعتراه من نواقص في الشكل وفي المضمون. سنوات خمس، أغفلت خلالها الأجهزة الأمنية اللبنانية والمحقّقون الدوليون مسارات تحقيقية جدية، رغم وجود وقائع بين أيديها تمكنها من كشف الكثير من الخبايا، أو على الأقل، تجنب إبقاء بعض المسائل من دون أجوبة واضحة. ولعلّ أكبر شائبة ظهرت من التحقيقات باغتيال الحريري، هي قضية شهود الزور التي وجّهت التحقيق لفترة طويلة، وبني عليها لتنفيذ قرارات سياسية وأمنية، قبل سَجن أفراد من دون أي دليل قانوني. وهؤلاء الشهود يحظون بحماية سياسة وأمنية تمنع محاسبتهم وكشف من يقف خلفهم. ما ستعرضه «الأخبار» هو محاولة للإضاءة على بعض «الشهود»، وعلى أدلّة تُظهر ما يحيط بهم من رعاية يكادون يُحسدون عليها. وأبرزهم، محمد زهير الصديق، الشاهد الملك الذي يجري دوماً تجاهل أنّه وقّع وثيقة يقرّ فيها بأنه شارك في التحضير لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. وما سينشر ابتداءً من اليوم مستقى بمعظمه من مصادره الأصلية، أو من وثائق رسمية معظمها غير منشور سابقاً. هي محاولة لفتح الباب أمام أسئلة لا تتعلق بالاستناد إلى شهادات الزور وحسب، بل أيضاً بأداء تحقيقي وسياسي يجعل أمنيين بارزين يقولون إن «ثمة ما نعجز عن فهمه»، رغم أنهم كانوا في قلب الحدث طوال السنوات الخمس الماضية. في هذه الحلقة الأولى من الملف، تُروى قصة فيصل أكبر، الشاب السعودي الذي اعترف بالمشاركة في اغتيال الحريري قبل التراجع عن إفادته. وحتى اليوم، لم يتمكن المعنيون من شرح ملابسات ما حدث معه في إحدى غرف التحقيق داخل مبنى فرع المعلومات، ذات ليلة من بداية عام 2006. رواية تضيء جزءاً مظلماً مما جرى، بعيداً عن توجيه الاتهام إلى أي كان

الأخبار عدد الثلاثاء ٢٧ تموز ٢٠١٠
..........
حكاية فيصل السعودي الذي سبق المحقّقين إلى المعلومات











شاهد على الجريمة (أرشيف)

بداية عام 2006، اعترف السعودي فيصل أكبر بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم تراجع عن إفادته، مخلفاً وراءه أسئلة يصعب أن تجد من يجيب عنها. فمن السهل تبرير معرفته ببعض تفاصيل عملية الاغتيال، لكن ما يصعب تفسيره هو أن فيصل أورد خلال استجوابه معلومات تتعلق بجريمة الاغتيال قبل أربعة أشهر من توصل المحققين إلى معرفتها!

ليس محمد زهير الصديق الشخص الوحيد الذي اعترف بمشاركته في التخطيط لاغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ فثمة مَن أقرّ بأنه شارك في التنفيذ المباشر للجريمة، ضمن خلية تبين أن لها صلات تنظيمية وفكرية مع تنظيم «القاعدة» العالمي. هو السعودي فيصل أكبر الذي أوقف في نهاية عام 2005، وحقق معه فرع المعلومات لأيام عديدة (نشرت «الأخبار» محضر التحقيق معه بعد صدور القرار الاتهامي بحقّه، ابتداءً من يوم 9 تشرين الأول 2007) لأنه أحد أفراد ما بات يعرف باسم مجموعة الـ13 التي أوقف أفرادها خلال الأيام الأخيرة من عام 2005 والأيام الأولى من عام 2006. وبحسب محاضر التحقيق مع أفراد المجموعة، فإن أميرها، اللبناني حسن نبعة، كان «أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام»، أي في لبنان وسوريا، وكان على صلة مباشرة بأمير التنظيم في العراق، أبو مصعب الزرقاوي.

توقيف مجموعة الـ13 أتى في سياق بحث القوى الأمنية عن أحمد أبو عدس، الشاب الذي تبنى في شريط مصوّر عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد ساعات قليلة على وقوع الجريمة يوم 14 شباط 2005، ولم يظهر له أثر منذ ذلك الحين. فبعض أفراد المجموعة يعرفون أبو عدس (لقبه أبو تراب) معرفة وثيقة، وثمة من تربطهم صلة قوية بخالد طه. والأخير يُعد في قاموس التحقيق باغتيال الحريري، مفتاحَ الوصول إلى أبو عدس. فهو صديقه وتلميذه. وقبل الجريمة بنحو شهر (تحديداً يوم 15 كانون الثاني 2005) دخل خالد طه الأراضي اللبنانية آتياً من دمشق، بحسب ما يظهر في سجلات الأمن العام اللبناني. في اليوم التالي، عاد خالد طه إلى سوريا، واختفى أبو عدس!

توقيف حسن نبعة جاء من طريق الصدفة. كان محققو فرع المعلومات يطاردون أحد أفراد المجموعة، طارق الناصر، عندما كان يتصل من هاتف عمومي قرب صيدلية مازن في منطقة كورنيش المزرعة. انتبه المحققون أثناء المراقبة إلى وجود شخص يقف على مسافة غير بعيدة من كشك الهاتف. وعندما انقضّت الدورية على طارق، اتجه محقق صوب هذا الرجل وأوقفه، قبل أن يصل رئيس الدورية ليسأله عما يفعله في هذا المكان. فأجاب نبعة بأنه في طريقه إلى منزله. وقدم هويته باسم مزور، وعلى أساس أنه مهندس لبناني، تبين لاحقاً أنه استشهد في العراق. وعند تفتيشه، عثر معه على بخاخ من الغاز الذي قال إنه يستخدمه للدفاع عن النفس. لكنه لم ينتبه إلى أن مصدر الإنتاج هو قوات حلف شمالي الأطلسي، فتقرر تكبيله وسوقه إلى مقر فرع المعلومات. هناك، وُضع في إحدى النظارات، فيما وضعت صورته على حائط يراها بقية الموقوفين أثناء التحقيق. وعندما شاهد فيصل صورته دُهش وقال: الأمير هنا؟ عندها تنبه المحققون إلى أن الموقوف ـــــ بالصدفة ـــــ ليس سوى أمير هذه المجموعة، وهو اللبناني حسن نبعة، قبل أن تتكشف تفاصيل كثيرة تخص هويته ودوره وموقعه.

على محضر التحقيق مع المجموعة، يخيّم طيفا أحمد أبو عدس وخالد طه. معظم الأفراد الرئيسيين في المجموعة يعرفونهما. أحدهم، هاني الشنطي، قال في إحدى مراحل الاستجواب إنه استضاف، في منزل عائلته بخلدة، خالد طه خلال زيارته لبنان يومي 15 و16 كانون الثاني 2005 (عندما اختفى أحمد أبو عدس)، مؤكداً أن زيارة طه تلك أحيطت بالسرية. وتكشف المحاضر أن طه انتقل نهاية عام 2005 من سوريا إلى لبنان، بعدما اشتدت حملة الأمن السوري على مجموعات القاعدة في سوريا، وأن أفراداً من مجموعة الـ13 ساعدوه على التواري عن الأنظار في مخيم عين الحلوة.

لكن الحديث عن خالد طه يصبح ثانوياً أمام إفادة فيصل أكبر. فالشاب السعودي يصل مباشرة إلى بيت القصيد، معلناً خلال التحقيق معه أنه كان أحد أفراد المجموعة التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري، والتي كان يرأسها جميل السوري، نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام (يتولى أيضاً منصب المسؤول الأمني للتنظيم). إلا أن محاضر التحقيق سرعان ما تُظهر أن فيصل تراجع عن إفادته، مدعياً أنه كذب في كل ما قاله، رغم أنه ذكر معلومات لا يعرفها غير المحققين، إضافة إلى بعض الوقائع التي لم يكن المحققون أنفسهم قد توصلوا إليها.

كيف اعترف فيصل أكبر؟ وكيف تراجع؟

أحد المعنيين بالتحقيق باغتيال الحريري ينقل عن مصادر مقربة من فرع المعلومات رواية تفصيلية لما جرى في إحدى غرف التحقيق. تقول الرواية إن محققي فرع المعلومات، عندما كانوا يستجوبون أفراد مجموعة الـ13 (ابتداءً من يوم 3/1/2006، المحضر الرقم 17/302) أوهموا فيصل أكبر بأن خالد طه صار في قبضتهم. تضيف الرواية إن فيصل انهار وقال للمحققين: سأخبركم بكل شيء.

كان في غرفة التحقيق ستة عاملين في فرع المعلومات، ثلاثة ضباط وثلاثة رتباء. سريعاً، روى فيصل أكبر الرواية كاملة. تحدّث عن عملية اغتيال الحريري والإعداد لها. قال إنه استقبل أحمد أبو عدس وخالد طه في دمشق يوم 18/1/2005 (بعد يومين على اختفاء أبو عدس)، وإن الفيلم الذي تبنى فيه أبو عدس عملية التفجير صُوِّر في إحدى الشقق التي يستخدمها تنظيم القاعدة في حي ركن الدين بدمشق. حدّد شقة في الضاحية الجنوبية لبيروت (المريجة) استُخدمت خلال الإعداد للجريمة. قال إنه رافق جميل (نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام) يوم اغتيال الحريري إلى منطقة عين المريسة، حيث كان جميل يتلقى اتصالات من فريق مراقبة مكون من 5 أشخاص. أضف إلى ذلك أن محاضر التحقيق تنقل عن فيصل قوله إن شاحنة الميتسوبيشي التي فخخت وفجرت بموكب الحريري اشتُريت من منطقة شمال لبنان.


عند الخامسة فجراً من اليوم التالي لبداية التحقيق، كان الرجل قد أنهى الرواية كاملة. خرج اثنان من الرتباء إلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، ليُحضروا «السودة النية» من المسلخ الذي يقع أول برج البراجنة (نزلة العاملية). بعد عودتهما، جلس الرتباء الثلاثة والضباط الثلاثة ليتناولوا الطعام داخل الغرفة التي يجلس فيها فيصل أكبر. دعا أحد الرتباء النقيب وسام عيد لمشاركتهم تناول الطعام. لكن عيد خرج من الغرفة. لحق به الرتيب قائلاً: لماذا غضبتَ سيدي؟ ألا تريد تناول الطعام معنا؟ أجابه عيد: «كلا، لقد قرفت منه. هل تريدني أن أتناول الطعام مع من قتل الرئيس الشهيد؟».

فيصل أكبر لم يأكل. يكاد يكون أكل اللحم النيء محرماً بالنسبة إليه. لكنه قال للمحققين: الآن فهمت ماذا كان يعني قول زبائن أبو أحمد (صاحب مطعم صغير في منطقة كورنيش المزرعة): نريد سندويش رجالي!

كان التحقيق الأولي قد انتهى. اتصل وسام عيد بأحد الأشخاص، ثم عاد وقال لأحد الرتباء: حُلت مشكلتك. اشترينا لك شقة. فُتح نقاش بين الرتباء والنقيب عيد، عن أحقية كل منهم بالحصول على مكافأة. كان الحديث في إطار المزاح، لكنه لم يخل من الجدية، وخلاصته أن جميع الموجودين في غرفة التحقيق مقتنعون بأنهم تمكنوا من كشف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

كان الأمنيون بانتظار وصول رئيس الفرع، الرائد سمير شحادة، من أجل أن يتصل الأخير بالقاضي سعيد ميرزا لنيل إذنه بالتوجه إلى الضاحية الجنوبية بهدف تحديد الشقة التي ذكرها فيصل. عندما حضر سمير شحادة، أبلغه المحققون بتفاصيل ما جرى. سريعاً، بدأت الحركة تتغير داخل مبنى فرع المعلومات. حضر وسام الحسن وتوجه إلى مكتب سمير شحادة. وبعد قليل أُدخِل فيصل أكبر إلى المكتب ذاته. دام اجتماع شحادة والحسن بفيصل أكثر من 6 ساعات، أحضروا خلالها الطعام من أحد المطاعم البيروتية الشهيرة. لم يعرف أحد ماذا دار خلال تلك المدة بين الضابطين والموقوف. لكن ما جرى بعد ذلك يخلّف وراءه أسئلة من دون أي جواب مقنع. فبعد خروج وسام الحسن من مبنى فرع المعلومات، أرسل سمير شحادة خلف عدد من المحققين قائلاً لهم: فيصل يريد التراجع عن إفادته. أسقط في أيدي رجال الأمن الذين قضوا الليلة السابقة مقتنعين بأنهم أمسكوا بالخيط الأول الذي سيوصلهم إلى كشف من قتلوا الرئيس رفيق الحريري. فإفادة فيصل لا تزال في بدايتها. ورغم ما تحويه من ثغر كبيرة لا بد من توضيحها، يبقى فيها من المتانة ما يمكن الاستناد إليه لفتح مسارات تحقيقية جدية.

سأل أحد المحققين الموقوفَ، بحضور شحادة، قائلاً: لماذا ستتراجع؟ رد فيصل: أُخِذت أقوالي مني تحت الضغط. وعبارة «تحت الضغط» توقف عندها عدد من الحاضرين. فهي لا يستخدمها عادة الموقوفون، بل يستخدمها رجال الأمن والتحقيق اللبنانيون.

حكاية فيصل السعودي الذي سبق المحقّقين إلى المعلومات















محقق دولي وأمنيون لبنانيون خلال إجراء مسح ثلاثي الأبعاد لمسرح الجريمة (أرشيف)

دار «حوار» بين فيصل والمحققين. لكن في النهاية، أصر فيصل على تراجعه. ومعه، خفَت التحقيق الذي لم يتوصل إلى تحديد مكان أحمد أبو عدس، ولا إلى الحصول على معلومات ذات أهمية عنه. أما خالد طه، فكل ما عُرِف بشأنه أنه توارى عن الأنظار في مخيم عين الحلوة خلال الشهر الأخير من عام 2005.

وبعد تراجع أكبر عن اعترافه بالمشاركة في اغتيال الحريري، ترك أمام المحققين باباً مفتوحاً لم يحسنوا استغلاله. قال لهم، بحسب محضر التحقيق، إنه سمع أميره حسن نبعة يوصي عدداً من أفراد المجموعة بألا يبوحوا بمعلومات عن أحمد أبو عدس إذا أوقفتهم القوى الأمنية.

ثمة أكثر من رأي لتبرير ما جرى. المقربون من فيصل أكبر، وعلى رأسهم حسن نبعة الموجود في سجن رومية، يقولون إن فيصل لم يعترف، ولم يتراجع، بل إن المحققين الذين عرّضوه لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، هم الذين دوّنوا كلاماً لم يقله، ثم دونوا كلاماً مناقضاً، وأجبروه على توقيع المحضر. وعندما يُسألون عن السبب، يجيبون بالقول: نحن لا نعرف الدافع الحقيقي لذلك، بل لدينا تحليل يدلنا على ثلاثة أسباب. ربما هي رغبة المحقق في تسجيل إنجاز، وربما هو تأثره المذهبي بما يجري في العراق (يقصدون الملازم أول ر. ف.). وقد تكون ثمة رغبة في إحدى الدوائر بتقديم أوراق للمساومة، وإبقاء ملف التحقيق مع مجموعة الـ13 جاهزاً لتقديمه ككبش فداء في أي لحظة تصل فيها الصفقة السياسية إلى خاتمتها.

ريفي والحسن: تضليل التحقيق













فيصل أكبر

هذه خلاصة رواية المجموعة. أما في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات، فالمسؤولون الذين كانوا مشرفين على التحقيق (وخاصة اللواء أشرف ريفي والعقيد وسام الحسن) يؤكدون أن فيصل لم يتعرض لأي ضغط أو تعذيب، سواء خلال الاعتراف أو عند التراجع. ويقول المعني الأول بهذا الملف إن فيصل أكبر اعترف باغتيال الحريري لتضليل التحقيق، وكان «يريد إلهاء المحققين بهذا الحدث الكبير للتهرب من الإجابة عن أسئلة عن عمل تنظيمه». لكن أيعقل أن يعترف إنسان ما باقتراف جريمة بهذا القدر من الخطورة لتضليل التحقيق؟ يجيب المسؤول ذاته: نعم، هكذا هم جماعة تنظيم القاعدة.

ثم يعطي المسؤول دليلاً على كلامه بالقول: عندما اعترف الرجل واتصل سمير شحادة بوسام الحسن ليخبره بتطورات التحقيق، قال له الحسن: دوّنوا الإفادة. وفي الصباح، حضر وسام الحسن إلى مبنى فرع المعلومات ليقابل شحادة. وفور وصوله، أخبره شحادة بأن فيصل تراجع، فقال له وسام الحسن: دوّنوا الإفادة. وينفي الحسن أن يكون قد التقى فيصل أكبر في ذلك الصباح. يضيف المسؤول: كان بإمكاننا، لو كانت لدينا نية سيئة، أن نتجاهل الإفادة الأولى وألا ندونها. لكننا دوناها رغم معرفتنا بأنها ستتحول إلى إفادة علنية بعد إحالتها على القضاء.













خالد طه

إلا أن تبرير المشرفين على التحقيق تنقضه التفاصيل التي أوردها فيصل أكبر في إفاداته، والمطابقة لمضمون التحقيقات الدولية والمحلية باغتيال الحريري، مثل تاريخ دخول خالد طه إلى لبنان وعودته إلى سوريا وتاريخ اختفاء أحمد أبو عدس وتفاصيل التفجير، إضافة إلى عدد الهواتف الخلوية التي يعتقد أن المجموعة التي اغتالت الحريري استخدمتها خلال مراقبته حتى الدقائق الأخيرة السابقة لاغتياله. فمن أين استقى فيصل هذه المعلومات التي تطابق ما هو وارد في التحقيقات الأولية بجريمة اغتيال الحريري؟ يقول المشرفون على التحقيق في فرع المعلومات إن التفاصيل التي أوردها فيصل في إفادته مستقاة بكاملها من التقريرين الصادرين عن لجنة التحقيق (الأول والثاني) اللذين كانا قد نُشرا قبل توقيفه. يضيف هؤلاء إن حاسوب فيصل أكبر يحوي نسخة عن كل واحد من التقريرين. ويقول الأمنيون ذاتهم إن فيصل أكبر، عندما استمعت إليه لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام على التحقيق معه في فرع المعلومات، لم يتعرف إلى الصور التي عرضها عليه المحققون الدوليون، والتي تظهر فيها شوارع تحدّث عنها وربطها بجريمة اغتيال الحريري، كأحد شوارع منطقة ركن الدين في دمشق. ويلفت أحد الأمنيين اللبنانيين المعنيين بالتحقيق مع فيصل أكبر قائلاً: عندما أنهى المحققون الدوليون استجواب فيصل، قال لهم ضاحكاً: هل صدقتم أنتم أيضاً ما قلته في التحقيق عن المعلومات؟

«مصادفات» غريبة













هاني الشنطي

رواية المعنيين في فرع المعلومات تجد من يفندها ويرد عليها بسهولة. يقول أحد المعنيين بالتحقيق: في البداية، لم تكن دائرة القرار عند آل الحريري وفي فرع المعلومات قادرة على تجاهل تدوين الإفادة، وخاصة أن اعتراف فيصل جرى بحضور ستة محققين، بينهم أمنيون غير مأموني الجانب، من الناحية السياسية على الأقل.

وما يقوله المشرفون على التحقيق مع فيصل أكبر تعتريه ثُغر عدة، أبرزها اثنتان. الأولى أن ثمة في رواياته «مصادفات» غريبة، لناحية تزامن بعض المحطات في إفادته مع التوقيت الذي ظهر في بيانات الهواتف الخلوية التي استخدمها مراقبو تحركات الحريري. وفي إفادته، قال فيصل أكبر إن مجموعة المراقبة مؤلفة من خمسة أشخاص، وإنهم كانوا يتواصلون مع جميل، مساعد أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام الذي كان فيصل يرافقه يوم الجريمة. وعندما سئل فيصل عن عدد الهواتف الخلوية المستخدمة، قال إنها سبعة: خمسة للمراقبين، وسادس مع جميل والسابع في حوزته هو (فيصل). وقال فيصل إن جميل كان يتلقى الاتصالات من المراقبين. ولم يذكر ورود اتصالات إليه هو (فيصل) من مجموعة رصد الحريري. بل أكد أن جميل أوصاه بعدم الاتصال به إلا في الحالات الطارئة. نتيجة لذلك، يصبح عدد الأرقام الهاتفية التي تحدث عنها فيصل مطابقة للعدد الحقيقي الذي استخدم لمراقبة الحريري حتى يوم اغتياله. فرغم أن لجنة التحقيق الدولية تحدثت في تقريريها الأول والثاني عن استخدام 8 هواتف خلوية لمراقبة الحريري، فإن التحقيقات التي أجرتها مديرية استخبارات الجيش وفرع المعلومات (قبل لجنة التحقيق الدولية) أظهرت أن المجموعة التي يعتقد أنها راقبت الحريري استخدمت 8 خطوط خلوية هي: 03129893 ـــــ 03129678 ــــــ 03129652 ـــــــ 03127946 ـــــــ 03125636 ـــــــــ 03123741 ــــــ 03478662 ــــــ و03292572.

وتظهر التحقيقات ذاتها أن الرقمين الأخيرين لم يستخدما إلا لإجراء 13 اتصالاً من أصل 432 اتصالاً أجراها أفراد المجموعة في ما بينهم وبخدمة التشغيل في شركة ألفا. ويعتقد الأمنيون الذين عملوا في هذا المسار التحقيقي أن الرقمين الإضافيين أُبقيا احتياطاً، وخاصة أنهما لم يستخدما مطلقاً خلال الأسابيع الثلاثة السابقة لاغتيال الحريري.

ما ذكر عن إفادة فيصل بخصوص عدد الخطوط الخلوية هيّن وضعه في خانة المصادفات. وتزداد المصادفة غرابة عندما يتحدث عن الوقت الذي ترك فيه، مع جميل وخالد طه وأحمد أبو عدس، شقة الضاحية الجنوبية. فهو يقول إنهم عادوا للنوم بعدما صلّوا الفجر، واستيقظوا عند العاشرة صباحاً، وخرجوا لتنفيذ العملية. هذا في إفادته. أما بيانات الاتصالات، فتظهر أن أول اتصال أجرته المجموعة التي يعتقد أنها كانت تراقب الحريري صباح اغتياله، جرى عند الساعة 11:00:55 قبل الظهر، من منطقة تشملها محطة إرسال في شارع كاراكاس.

ذلك كله، يضعه المشرفون على التحقيق في خانة المصادفات. إلا أن ما لا يجدون جواباً له هو المعلومات التي أدلى بها فيصل، رغم أن المحققين أنفسهم كانوا يجهلونها، ولم يتمكنوا من الحصول عليها إلا بعد مضي أربعة أشهر على ختم التحقيق معه، كقصة شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت في اغتيال الحريري. فطوال عام 2005، والثلث الأول من عام 2006، لم يكن لدى فريق التحقيق اللبناني أو الدولي أي معلومات عن الشاحنة سوى أنها سرقت من اليابان في تشرين الأول 2004. ولم يتمكن المحققون من تحديد المسار الدقيق الذي سلكته قبل إدخالها الأراضي اللبنانية، ولا كيفية عبورها الحدود.


لكن فيصل أكبر، في الشهر الأول من عام 2006، قال خلال التحقيق معه لدى فرع المعلومات إن جميل أخبره بأن الشاحنة اشتُريت من طرابلس! وبعدما تراجع عن اعترافه، أُهمل هذا الجانب من إفادته، وخاصة أن الفكرة التي كانت تسري كحقيقة مطلقة بين المحققين هي أن الشاحنة أدخلت إلى لبنان بطريقة غير مشروعة. كان على المحققين أن ينتظروا حتى يوم 24 نيسان 2006 حتى تثبت لهم الوقائع أن ما قاله فيصل أكبر بشأن الميتسوبيشي صحيح. ففي ذلك التاريخ، نظم فرع المعلومات محضراً ظهر فيه أن الشاحنة دخلت لبنان براً محمولة على مقطورة كبيرة، مع شاحنة أخرى. وقد استقدمت من الإمارات العربية المتحدة براً عبر السعودية ثم الأردن فسوريا، واستقرت في معرض للسيارات قرب طرابلس، حيث اشتُريت بطريقة شرعية، لكن باستخدام أوراق ثبوتية مزورة. وهذه الحقيقة لم تظهر إلى العلن إلا عندما أعلنتها لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام، أي في التقرير الثامن الصادر يوم 12 تموز 2007 (الفقرة 24).

وبعيداً عن التحليل والاستنتاج، ثمة ثغرة في التحقيق باغتيال الحريري، مرتبطة بإفادة فيصل أكبر، لا تجد من يسدها. فصحيح أن لجنة التحقيق الدولية استمعت إلى إفادات عدد من أفراد مجموعة الـ13. وقد استدعي بعضهم لنحو ست مرات، فيما اكتفى المحققون الدوليون باستجواب أحد أبرز أفراد المجموعة مرتين اثنتين فقط، مدة كل واحدة منهما ساعتان، بينها الوقت الذي استهلكه الشاب في الوضوء والصلاة. كل ذلك يمكن تبريره. لكن ما لا يمكن أن تعثر على تفسير منطقي له، هو أن لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدوليّة من بعدها، لم تستمعا إلى أي من المحققين الستة الذين استجوبوا فيصل أكبر، والذين شهدوا تراجعه، لمعرفة ملابسات ما جرى خلال التحقيق معه. كذلك، فإنها لم تستمع إلى إفادة كل من سمير شحادة أو وسام الحسن.

(غداً: أحمد مرعي في مسرح الجريمة)

رسالة إلى خالد طه

خلال التحقيق مع فيصل أكبر، لجأ فرع المعلومات إلى خطوة شديدة الغرابة. فبناءً على أوامر قيادة الفرع، طلب أحد المحققين من الموقوف هاني الشنطي كتابة رسالة إلى خالد طه يطلب منه فيها تسليم نفسه إلى القوى الأمنية اللبنانية! وقد سُمح للموقوف بنشر هذه الرسالة على موقع «الحسبة» الإلكتروني، الذي كان يعدّ في تلك المرحلة أحد المنابر التي يستخدمها تنظيم القاعدة لإعلان إنجازاته. الرسالة التي يذكر فيها الشنطي أحمد أبو عدس (مستخدماً لقبه، أي أبو تراب) بقيت منشورة لأيام عدة قبل أن يحذفها المشرفون على الموقع.

في تلك الرسالة، يقول هاني الشنطي (اسمه الأمني مروان المهاجر):

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته الأخيار، أما بعد، فهذه يا أخي الحبيب خالد طه رسالة من أخيك مروان المهاجر (هاني)، أطلب فيها أن تسلم نفسك للسلطات، لا على أنك متهم، بل لتجيب عن بعض الملابسات والمساءلات التي تخص موضوع أبي تراب. فهم لا يريدون منك تراجعاً عن فكرة ومنهاج وتوجه تعتقده وتقتنع به، فأنا بحمد الله على فكري ثابت. فالأمر بإذن الله هين وسهل، ولا داعي لتعقيده. فالاستمرار على إصرارك على عدم تسليم نفسك يمثّل تعقيداً للموضوع واتهاماً لك على أنك تخفي شيئاً ولا تريد إظهاره. ولا تستهن بأي معلومة قد تعلمها تجعلك متهماً، لكن هي في الحقيقة قد تكون خيطاً يدل على المجرم الحقيقي، وخيطاً يدل على براءتك من تهم تكون قد ظنت بك بسبب إصرارك على عدم المجيء والإدلاء بشهادتك، وهذا ما تمنيت لو أني فعلته. فلو أني جئت وأدليت بما أعلمه وما اختفيت لما أصبحت الآن موقوفاً ومتهماً بأني أخفي معلومات والله يشهد أني لا أخفي شيئاً، فلا تضع نفسك في هذا الموقف المحرج، فلا تتأخر ولا لحظة وسارع بالأمر، فالأمر هيّن فلا تعقّده كما كان يوماً من الأيام هيناً عليّ وعقّدته بسبب تشبثي كما أنت اليوم متشبث، لكن مع الفارق وهو أن الأوان لم يفتك، فهلمّ وأرح إخوانك أراحك الله دنيا وآخرة، ولا تظن بذلك أني أطلب ما يتناقض مع ما تآخينا عليه من الجهاد وحب الشهادة، فالله وحده يشهد كم تتوق نفسي إلى ساحات الجهاد ونيل الشهادة ورضوان الله، وإنما كلامي على أمر لا يناقض الشريعة، فالصحابة عندما هاجروا إلى الحبشة وقفوا وأجابوا بكل صراحة عن معتقدهم وما يدينون به، وبرأوا أنفسهم من الاتهامات فاستخر الله عز وجل ولا تستصعب الأمر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوك المحب ورفيق عمرك مروان المهاجر

ملاحظة: أطلب من مشرفي المنتديات تثبيت الموضوع، وعدم حذفه وإني سائلهم أمام الله على إيصال هذه الرسالة وإبقائها حتى تصل إلى أهلها وإني خصيمه يوم الحساب إن حذفها أو ساعد على عدم إيصالها وجزاكم الله خيراً.

الفقير لعفو ربه

مروان المهاجر

(انتهت رسالة هاني الشنطي).

رسالة هاني الشنطي إلى خالد طه، إن دلت على شيء، فإنما تدل على خفة بالتعامل مع هذا الملف، من جانب فرع المعلومات. ويرى أحد الأمنيين المتابعين لقضايا تنظيم القاعدة أن هذه الرسالة، بمجرد وصولها إلى خالد طه، فإنها ستدفعه إلى الحذر، هذا إن لم تكن قد تضمنت رسالة مبطنة له يقول له فيها الشنطي إن فرع المعلومات لا يعرف شيئاً عنه أو عن أحمد أبو عدس.

ويربط الأمني ذاته بين رسالة الشنطي والرسالة التي ضبطت في حوزة حسن نبعة، والموجهة من شقيقه مالك إلى خالد طه. فبعد استدعاء مالك نبعة للتحقيق في تموز 2005، ثم إطلاق سراحه، كتب مالك رسالة إلى خالد طه يقول له فيها إن ما يعرفه المحققون عنه وعن أبو عدس ليس سوى «اجتهادات وظنون». وعندما سئل مالك نبعة خلال التحقيق الثاني معه عن سبب بعثه بهذه الرسالة، قال للمحققين: أردت إقناع خالد طه بالمثول أمامكم!

أبو مصعب الزرقاوي



بين مضبوطات المجموعة، عثر الأمنيون على رسالة موجهة من أبو مصعب الزرقاوي إلى حسن نبعة في منتصف عام 2005، يطلب منه فيها التوجه إلى لبنان، مستخدماً عبارة «اذهب إلى الضيعة».

وخلال التحقيق مع بعض أفراد المجموعة، أفادوا بأن الزرقاوي نحّى حسن نبعة عن الإمارة، لأنه غضب منه بسبب الصراع الذي وقع على الأراضي السورية بين المجموعات التابعة لنبعة وتلك التابعة لتنظيم جند الشام (غير التنظيم الموجود في مخيم عين الحلوة)، محملاً إياه المسؤولية عن تقصير المجاهدين. وبناءً على رسالة الزرقاوي، توجه فيصل أكبر في حزيران 2005 إلى العراق لمقابلة أبو مصعب.

وبحسب ما تظهر وثائق اطّلعت عليها «الأخبار»، فإن فرع المعلومات زوّد أجهزة أمنية أميركية بمعلومات عن الزرقاوي حصل عليها المحققون اللبنانيون من استجواب أفراد المجموعة. وتضمنت إحدى الرسائل التي بعث بها الأميركيون إلى فرع المعلومات أسئلة لطرحها على الموقوفين، بهدف المساعدة على تحديد مكان وجود أبي مصعب الزرقاوي في العراق!

لؤي السقا

في محضر التحقيق مع مجموعة الـ13، يبرز فجأة اسم لؤي السقا. الشاب السوري الموقوف في تركيا، والمتهم بأنه يعمل لحساب تنظيم القاعدة. وقد حكم على السقا في شباط 2007 بالسجن المؤبد، لإدانته بالضلوع في تفجيرات إسطنبول عام 2003. وبحسب إفادات عدد من أفراد المجموعة، فإن السقا كان في إحدى المراحل مرشحاً لتولي منصب أمير التنظيم في بلاد الشام.

وكان اسم السقا قد وضع قيد التداول الإعلامي والسياسي ابتداءً من يوم 8/11/2005، عندما بعث برسالة عبر محاميه من داخل سجنه في تركيا، يقول فيها إن ثلاثة أشخاص أجانب زاروه في سجنه، وعرضوا عليه الإدلاء بإفادة أمام لجنة التحقيق الدولية يقول فيها إن العماد آصف شوكت طلب منه إحضار انتحاري من العراق مباشرة قبل اغتيال الحريري. وقال السقا إن زائريه عرضوا عليه الحماية ومبلغاً كبيراً من المال، إلا أنه رفض.

بعد إعلان رسالة السقا، أعلن وزير العدل التركي حينذاك فتح تحقيق مع محامي السقا، عثمان قره هان، مؤكداً أن كل ما أدلى به وموكله ليس سوى محض افتراء وكذب.

نتائج التحقيق التركي لم تعلن. أما لجنة التحقيق الدولية باغتيال الحريري، فقد استجوبت لؤي السقا في سجنه في آذار 2007، بحسب ما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية آنذاك.

حسن عليق - الأخبار عدد الثلاثاء ٢٧ تموز ٢٠١٠

....................
الشاهد المكتوم أحمد مرعي: رجل كل الاستخبارات من 11 أيلول إلى 14 شباط













بايع مرعي شاكر العبسي بداية عام 2007 (أرشيف)

من المستحيل الجزم بالجهة التي كان أحمد مرعي يعمل لحسابها. من الاستخبارات الأميركية إلى نظيرتها الدنماركية فالبريطانية، قبل السورية وتنظيم القاعدة وفتح الإسلام. ومستنداً إلى هذه الخلفية، صار أحمد مرعي شاهداً في جريمة اغتيال الحريري. وما لم يدقق المحققون فيه إلى النهاية هو تحركاته يوم اغتيال الحريري، قبل الجريمة وبعدها

ما نشرته «الأخبار» أمس عن ملابسات اعتراف فيصل أكبر باغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم تراجعه، ليس سوى عيّنة من الأداء الأمني الذي حكم عمل أجهزة التحقيق اللبنانية والدولية في واحدة من أخطر القضايا الأمنية التي شهدها لبنان خلال العقود الماضية. ذلك الأداء مثّل الحاضنة التحقيقية للاتهام السياسي الذي رُفع يوم اغتيال الحريري، ثم وُجد له سند في إفادات شهود جاؤوا، أو جيء بهم، لإثبات التهمة المسبقة، التي أسهمت جهات سياسية وإعلامية وأمنية وقضائية في تحويلها إلى ما يشبه الحقيقة التي تنتظر بعض الأدلة لإثباتها.

بعض هؤلاء الشهود سرعان ما ظهر إلى العلن، قبل أن يسلّم الرئيس الثاني للجنة التحقيق الدولية، سيرج براميرتس، القضاءَ اللبناني رأيه فيهم، يوم 8/12/2006. أضف إلى ذلك أن جهازاً أمنياً أوروبياً سلّم السلطات اللبنانية ولجنة التحقيق الدولية «دراسة صدقية» لهؤلاء الشهود، بيّنت أن أعلى معدل للصدقية حصل عليه أحدهم لم يتجاوز نسبة 2 من 10.

أسماء عدد من هؤلاء باتت معروفة. من زهير الصديق إلى هسام هسام وعبد الباسط بني عودة وإبراهيم جرجورة وأكرم شكيب مراد. ورغم ثبوت عدم أهلية هؤلاء لتقديم شهادات يعتد بها، حظي معظمهم بما يشبه الحصانة التي تمنع مساءلتهم وكشف من يقف خلفهم. إلا أن سلسلة الشهود لم تقف عند هذا الحد. فبعد انكشاف من سبق ذكرهم، ظهر عدد من الشهود الجدد، كشف أمر أبرزهم، أحمد مرعي، الذي تورد «الأخبار» قصته اليوم.

كما في تلك الروايات التي يصعب فيها فصل التأريخ عن الخيال، كذلك هي قصة أحمد مرعي. هو موقوف في لبنان منذ 29 أيار 2007 بتهمة الانتماء إلى تنظيم «فتح الإسلام»، قبل أن يبرز اسمه في العام التالي واحداً من «الشهود» في التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ابن منطقة وادي خالد اللبنانية في أقاصي الشمال الفقير، اعتقل للمرة الأولى ولم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين من عمره. لكنه من الأهمية بمكان إلى حد أن قرار توقيفه صدر بعد اجتماع ضمّ اثنين من أرفع الضباط الأمنيين اللبنانيين إلى مسؤول استخباري أميركي وآخر دنماركي، بمواكبة من ضابط استخبارات بريطاني.

حَصْرُ تهمة مرعي بالانتماء إلى «فتح الإسلام» فيه شيء من الظلم. فعلاقاته أوسع من أن تحصر في محضر تحقيق. من الاستخبارات الأميركية إلى السورية وبعض الأجهزة اللبنانية، وصولاً إلى الاستخبارات الدنماركية. وبين هذه وتلك، صلات وثيقة برجال أقوياء في تنظيم القاعدة. ومن أبرز ما يخطف اهتمام من يدقق في رواية مرعي، هو حركته يوم 14 شباط 2005، قبل اغتيال الحريري وبعده.

المعلومات التي أدلى بها في العدد الكبير من المحاضر التي نظّمت معه لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية، تبدأ من أعمال التهريب على الحدود اللبنانية السورية وسرقة السيارات، ولا تنتهي عند التواصل مع مقربين من القيادي السابق في القاعدة أبو مصعب الزرقاوي وآخرين على صلة بخلية هامبورغ المتهمة بتنفيذ عمليات 11 أيلول.

له «في كل عرس قرص». ولا مبالغة في القول إن التدقيق في إفاداته التي أدلى بها لدى فرع المعلومات بحاجة إلى تخصيصه بجهاز أمني يحصر عمله في هذه المهمة. وما يصعّب فصل غثّ أقواله عن سمينها، هو تعرضه للتعذيب خلال التحقيق معه (بحسب ما يؤكد أمنيون وقضاة لبنانيون كانوا على صلة بالتحقيق، مع العلم بأن معنيين بالقضية يؤكدون أنه تعرض لضرب مبرّح لا يرقى إلى مستوى التعذيب!).

تبدأ رواية أحمد مرعي من عام 2002، عندما بدأ يعمل لحساب جهاز استخبارات أميركي، من خلال السفارة الأميركية في بيروت. يقول إنه كان يزوّد الأميركيين معلومات تفصيلية عن نشاطات الإسلاميين والسلفيين والجهاديين في لبنان، وخاصة في الشمال. وقد افتتح، بأموال مشغليه الأميركيين، محلاً لبيع أجهزة الكمبيوتر وصيانتها، ليكون المحل واجهة تجارية لعمله الاستخباري.

ويؤكد أن الأميركيين حافظوا على صلتهم به مخبراً مدفوع الأجر حتى يوم 7 تموز 2005 (قال إنه يذكر التاريخ لأنه يصادف عيد ميلاد ابنته). وأبرز ما زوّد الأميركيين به، هو معلومات عن شاب «برازيلي ـــــ ألماني من أصل لبناني يدعى سامر م.، يعمل في تجارة السيارات بين ألمانيا ولبنان والبرازيل». وقال مرعي للأميركيين إن سامر ناشط في تنظيم القاعدة، وإنه «كان على معرفة بمحمد عطا (المتهم بأنه الرأس التنفيذي لهجمات 11 أيلول)». ونقل مرعي عن سامر قوله إن «خالد المصري هو من وفّر منازل في هامبورغ لرمزي بن الشيبة (أوقف في باكستان في أيلول 2002، واتُّهِم بأنه صلة الوصل بين أسامة بن لادن ومجموعة 11 أيلول) بالاشتراك مع محمد عطا». (يذكر أن الاستخبارات الأميركية اختطفت في كانون الأول 2003 من مقدونيا مواطناً ألمانياً من أصل لبناني، يدعى خالد المصري، ونقلته إلى سجن سري في أفغانستان، قبل أن تعيد إطلاقه بعد نحو خمسة أشهر لعدم ثبوت أي صلات له بالمنظمات «الإرهابية». وتردد أن غيرهارد ليمان، مساعد ديتليف ميليس في لجنة التحقيق الدولية، كان بين المحققين الذين استجوبوه في أفغانستان، وهو ما نفاه ليمان).

مرعي الدنماركي

من إفادة أحمد مرعي، يبدو أنه كان يعطي كل جهاز أمني ما يهوى سماعه. ففي نيسان 2006، سافر إلى روسيا، وانتقل منها إلى أرمينيا. ومن هناك، تواصل عبر الإنترنت مع الاستخبارات الدنماركية عارضاً خدماته لتزويدها بمعلومات عن المنظمات الأصولية التي تريد مهاجمة المصالح الدنماركية، انتقاماً منها لنشر الرسوم المسيئة إلى الرسول.

مباشرة، استجابت الاستخبارات الدنماركية للعرض، وطلبت من مرعي الانتقال إلى دبي. وهناك، سهّلت له أمر الدخول ليلتقي ضابطاً دنماركياً. كانت ذاكرة الدنماركيين مثقلة بصور الهجوم الذي تعرّضت له قنصليتهم في بيروت في شباط 2006. طلبوا معلومات عن إسلاميي لبنان، وبالتحديد في الشمال. لم يبخل عليهم مرعي، فأعطاهم معلومات تفصيلية، ونفّذ لهم خدمات جعلتهم يطالبون لاحقاً الأجهزة الأمنية اللبنانية بإطلاق سراحه، بحسب ما يؤكد مسؤولون أمنيون لبنانيون.


وبين من زوّد مرعي الدنماركيين بمعلومات عنهم، معظم الأسماء الرنانة، بدءاً من داعي الإسلام الشهال وكنعان ناجي وزكريا المصري، وصولاً إلى الشيخ رائد حليحل في الدنمارك، ومعظم البارزين من الذين أوقفتهم السلطات اللبنانية أو لاحقتهم ابتداءً من عام 2006، كالشيخ نبيل رحيم. وفي الأردن، تقرّب مرعي من ناشط مقرّب من أبي مصعب الزرقاوي، قبل أن يزوّد الدنماركيين، بحسب إفادته، معلومات عن أشخاص كانوا من الصف الأول في المقاومة العراقية، كأحد أعضاء مجلس شورى المجاهدين الذي تعرّف إليه في سوريا.

من الدنماركيين إلى فتح الإسلام

اعترف مرعي خلال التحقيق معه بأنه بايع أمير «فتح الإسلام» شاكر العبسي بداية عام 2007، بحضور عدد كبير من قادة التنظيم. وعقب المبايعة، تركز عمله على تهريب عدد كبير من الذين التحقوا بتنظيم العبسي، وبينهم أبرز اثنين من رجال القاعدة الذين اتصلوا بفتح الإسلام، السعودي عبد الرحمن بن عبد العزيز اليحيى (طلحة السعودي، الذي ورد في إفادة الموقوف محمد صالح الزواوي أنه رسول أيمن الظواهري إلى شاكر العبسي، وأنه دفع مبلغاً من المال للأخير وأنفق مبلغاً آخر على غير مجموعة مرتبطة بالقاعدة في لبنان) والأردني أبو الأفغان (لقبه أيضاً أبو عبد الرحمن الأفغاني). الأول، يصفه مرعي بأنه من المجاهدين الذين انتقلوا إلى أفغانستان منذ صغره، وأنه ممن بايعوا الشيخ أسامة بن لادن من دون وسيط. وبحسب مرعي، فإن طلحة هو المسؤول الأول عن جمع التبرعات في السعودية لمصلحة فتح الإسلام والقاعدة، وكان يرسل الأموال إلى أوروبا واليمن وإيران وتونس والجزائر. وقد نقله مرعي إلى سوريا في نيسان 2007، بعدما أوقف الجيش اللبناني شاباً يعرف مكان وجود السعودي. أما أبو الأفغان، فكان أميراً للقاعدة في محافظة الأنبار العراقية، قبل إصابته بجروح بالغة في معركة مع قوات الاحتلال الأميركي. وهو الذي وضع خطة لتنفيذ 30 عملية استشهادية، على حدّ قول مرعي، داخل الأراضي اللبنانية بهدف «إقامة إمارة إسلامية في الشمال، بالاشتراك بين فتح الإسلام والقاعدة وجماعة الشيخ نبيل رحيم». كذلك اقترح أبو الأفغان على بعض قيادات فتح الإسلام استقدام «قناص ماهر» من العراق، لقتل عدد من المعتصمين في وسط بيروت، بهدف خلق فتنة سُنّية ـــــ شيعية.

ومن الشقة التي استأجرها أحمد مرعي في شارع المئتين في طرابلس، اندلعت شرارة المعارك بين الجيش وفتح الإسلام في مخيم نهر البارد ليل 19ـــــ20 أيار 2007. وقبل 5 أسابيع على ذلك، أراد الجيش اللبناني دهم الشقة بحثاً عن أحمد مرعي الذي كان يستخدم أكثر من اسم مستعار: طوني، عباس خليل، رامي الحسن، علي ديوب، عياش والطويل. كان أبو الأفغان موجوداً في الشقة. لكن أحمد مرعي، بحسب إفادته، اتصل بمشغله الدنماركي طالباً التوسط لدى المؤسسة العسكرية لوقف عملية الدهم. يضيف مرعي أن الدنماركيين اتصلوا بمسؤول أمني لبناني كبير، ووعدوه بأن يصبح مرعي عين الأجهزة اللبنانية داخل تنظيم «فتح الإسلام». وبناءً على ذلك، فُكَّ الطوق الأمني عن الشقة التي عادت لتشهد موت مجموعة بدأت معها معارك نهر البارد. أما أبو الأفغان، فغادر لبنان «الذي لا يشبه بلاد الرافدين».

أرادت اجهزة استخبارات غربية توقيف منفذي تفجيرات فردان وعاليه والاشرفية (أرشيف)وفيما يؤكد مرعي أنه كان يفضّل القاعدة على الدنماركيين، فإنه يقرّ في مكان آخر من إفادته بأنه زوّد مشغّله الدنماركي صورتين شمسيتين لكل من طلحة وأبو الأفغان. إضافة إلى ذلك، كان مرعي قد أسهم في نقل كمية كبيرة من المتفجرات الشديدة العصف من سوريا إلى لبنان، قبل أن يبلغ الدنماركيين بمكان وجودها.

الاتصالات الأمنيّة لمرعي نشطت يوم اندلاع معارك نهر البارد. فحينذاك، أجرى سلسلة من الاتصالات بالدنماركيين، وبالعميد في الاستخبارات السورية جودت الحسن. ولعلاقة مرعي بالعميد جودت الحسن قصة طويلة. يقول أحد الأمنيين إن مرعي زار العميد الحسن خلال حرب تموز 2006، معرّفاً نفسه باسم عباس خليل، وبأنه رجل أعمال من جنوب لبنان. استقبله الحسن، قبل أن تتوطد العلاقة بين مرعي وابنة الحسن، مبدياً رغبته في الزواج بها. وعندما اندلعت الاشتباكات بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام، كان مرعي داخل الأراضي السورية. وقد حاولت الاستخبارات السورية استدراجه عبر جودت الحسن، إلا أنه تمكّن من الفرار بعدما استشعر الخطر، بحسب ما يقول في إفادته. لم يقتصر تواصله على مشغّله الدنماركي والعميد السوري، إذ عرضت قناة الجديد قبل أكثر من عام تسجيلات لعدد من المكالمات الهاتفية التي جرت بين مرعي والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، خلال الساعات الأولى لعملية الدهم في شارع المئتين. وكان مرعي يطلب من ريفي تخفيف الطوق عن مجموعة «فتح الإسلام» المحاصرة في شارع المئتين، إلا أن ريفي لم يستجب.

لكنّ دور أحمد مرعي لم ينته عند هذا الحد. ففي الأيام الأولى لمعارك نهر البارد، اتصل بضباط من الاستخبارات الأميركية والدنماركية والبريطانية (وهذا ما يؤكد مسؤولون أمنيون لبنانيون صحته). وقد زوّده الأميركي والدنماركي بطاقات هاتف خلوي من أجل تسليمها إلى أمير فتح الإسلام في مخيم عين الحلوة، عبد الرحمن عوض، بهدف التنصّت على الأخير. وحاول هؤلاء الضباط استغلال مرعي لتمكين القوى الأمنية اللبنانية من القبض على المجموعة التابعة لعوض، التي تتهم بأنها نفذت تفجيرات في الأشرفية وفردان وعاليه. وقد استأجر الدنماركيون له غرفة في فندق بارك تاور في الأشرفية.












جواز سفر مرعي وختم الامن العام يوم 14 شباط 2005

وفي اجتماع ضمّ ضباطاً لبنانيين ودنماركيين وأميركيين وبريطانيين، كان الضباط الأجانب ينصحون بترك أحمد مرعي طليقاً، لاستثمار معلوماته في المعركة ضد فتح الإسلام. لكنّ الجانب اللبناني أصرّ على توقيفه. وبعدما كانت مجموعة أمنية لبنانية قد رصدت اتصالاته في الفندق المذكور، حدد لهم الضابط الدنماركي رقم الغرفة التي ينزل فيها مرعي (307)، فأوقفته دورية من فرع المعلومات بمؤازرة دورية من فرع المكافحة في استخبارات الجيش اللبناني.











وبعد توقيفه، أدلى مرعي بإفادة عن عملية اغتيال الوزير بيار الجميل، قال فيها إن مجموعة مؤلفة من ناشطين انضموا لاحقاً إلى تنظيم «فتح الإسلام» نفذوا عملية الاغتيال. روى مرعي تفاصيل دقيقة، أوحت لعدد من الأمنيين المشرفين على التحقيق بأنه كان أحد المشاركين في العملية. لكن اللافت في رواية مرعي أنها منقولة عن أبو ريتاج، الذي قتل في معارك نهر البارد. وجميع الذين قال مرعي إن أبو ريتاج أخبره بتفاصيل مشاركتهم في اغتيال الجميّل، قتلوا في المعارك أيضاً، وخاصة في اشتباكات اليوم الأول. ويقول مسؤولون أمنيون لبنانيون إن أي دليل حسي لم يؤكد رواية مرعي، رغم وجود بعض الأدلة الظرفية التي توجب التوقف عندها (قوله إن واحدة من سيارتَي مجموعة الاغتيال اصطدمت بسيارة في منطقة الحازمية بعد أقل من نصف ساعة على حصول الجريمة، وهو ما تطابق مع محضر لقوى الأمن الداخلي كان قد ادّعى فيه أحد المواطنين أن سيارة رباعية الدفع صدمت سيارته في المنطقة ذاتها وبالتاريخ ذاته، وفي توقيت مطابق تقريباً لما ذكره مرعي!).

إفادات مرعي متنوّعة ولا تقف عند حدود الاغتيالات. ففي إحدى جلسات التحقيق، قال إن القناصين الذين كانوا يطلقون النار يوم أحداث الجامعة العربية (25 كانون الثاني 2007) ينتمون إلى فتح الإسلام، مسمّياً عدداً منهم، أبرزهم أبو يزن وأبو الشهيد. قبل ذلك، تحدّث مرعي عن اثنين من أفراد فتح الإسلام كانوا يتحركون في محيط مطار بيروت يوم وصول الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بيروت خلال حرب تموز 2006. وبحسب مرعي، فإنهما أرادا استهداف طائرة موسى بصاروخ!

مرعي واغتيال الحريري

في المحصلة، يصعب أن تجد أمنياً لبنانياً يجزم بالجهة التي كان مرعي مخلصاً لها. وفي ظل الصداع الذي تخلفه قراءة إفادته، خرج أحمد مرعي ليقول إنه يملك معلومات عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري. حصل ذلك في منتصف عام 2008. تحدّث مرعي أمام المحقق العدلي القاضي صقر صقر عن معلومات يملكها تثبت تورّط اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج في اغتيال الحريري. حاولت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي استغلال الأمر لنقل السيّد والحاج من سجن رومية إلى قصر العدل في بيروت وهما مقيّدا الأيدي. لكنهما رفضا أن يكبّل رجال الأمن أيديهما، ولم يواجها أحمد مرعي أمام القاضي صقر، لأن من واجب قاضي التحقيق «التحقق من صدقية ما زوّده به الشاهد قبل الانتقال إلى إجراء مقابلة بينه وبين الموقوف». إفادة مرعي عن اغتيال الحريري كانت مبنية على علاقته بضباط من الاستخبارات السورية، إذ ذكر فيها أن اجتماعاً بين العماد آصف شوكت واللواءين جميل السيّد وعلي الحاج خُطِّط فيه لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأنه اطّلع على جزء من هذه الرواية من خلال صلاته بضباط من الاستخبارات السورية. وقال مرعي إن أحد هؤلاء الضباط كلّفه مراقبة منطقة السان جورج صبيحة اغتيال الحريري، يوم 14 شباط 2005.


تلك الإفادة لم تكن بنت ساعتها. فبعد توقيفه (عام 2007، وقبل عام من تحوله إلى شاهد في قضية الحريري)، تبيّن لمحققي فرع المعلومات أن بيانات الهاتف الخلوي تشير إلى أن أحمد مرعي كان موجوداً في منطقة السان جورج صباح 14 شباط 2005، قبل ارتكاب الجريمة. كذلك سُجّل حضوره في المكان بعد ظهر اليوم ذاته. وعندما سئل مرعي عن هذا الأمر روى روايتين. في الأولى، قال إنه كان قد افتتح في بداية عام 2005 محلاً لبيع «السبحات» والأحجار الكريمة في منطقة الحمرا، وإنه كان يوم الجريمة آتياً من منطقة الشمال إلى المحل، فمرّ في منطقة عين المريسة. أما وجوده في مكان الجريمة بعد الاغتيال، فأعاده إلى أنه أحضر سيدتين من أفراد عائلته إلى مسرح الجريمة بهدف «الفرجة».

أما الرواية الثانية التي أدلى بها، فيقول فيها إن ضابطاً من الاستخبارات السورية، يدعى فارس عصورة، كلفه بالذهاب إلى منطقة السان جورج صباح 14 شباط 2005 ورصد المنطقة. في المرحلة الأولى من التحقيق، لم يُدقَّق في أي من روايتيه.

لكن المفاجأة الثانية في قصة أحمد مرعي، أتت من جواز سفره اللبناني (يحمل الرقم RL0030035، صادر يوم 6 آذار 2003). في الصفحة 44 منه، خَتْم للأمن العام اللبناني، أسود اللون. إنه ختم مغادرة مطار رفيق الحريري الدولي، ويحمل تاريخ 14 شباط 2005! أما العودة، فيوم 18 شباط 2005. وكانت وجهته مطار دبي الدولي. ليست الصدفة في تاريخ الرحلة وحسب، بل تتعداه إلى الرحلة نفسها. فقد غادر مرعي بيروت على متن الطائرة ذاتها التي استقلّها «الحجاج الأوستراليون». ولمن لا يذكر هؤلاء، فهم الذين غادروا بيروت من دون أمتعة بعد اغتيال الحريري، متوجهين إلى دبي، ومنها إلى أوستراليا. وحينذاك، وردت رسالة من الشرطة الأوسترالية تقول إن مقعد أحدهم (في الطائرة التي استقلوها من الإمارات إلى أوستراليا) يحمل آثار متفجرات. وبعدما طلبت السلطات اللبنانية التوسع في التحقيق، وردتها رسالة مناقضة من الشرطة الأوسترالية، فأُقفِل التحقيق في هذا المسار. أما أحمد مرعي، فعندما سأله محقّقو فرع المعلومات عن سبب سفره يوم الجريمة إلى الإمارات، أجاب بأن ثمة رجلاً إماراتياً أراد شراء «سبحة» ماسية بمئات آلاف الدولارات، فقصد الإمارات لإتمام عملية البيع. وبالنسبة إلى الحجاج الأوستراليين، فقد «كان اللقاء بهم على الطائرة ذاتها محض صدفة».

غداً: الشاهد الملك

رعاية خاصة داخل مركز توقيف

يؤكد أحد المعنيين بالتحقيقات مع شهود الزور أن أحمد مرعي سجّل في مكان توقيفه داخل سجن رومية رسالةً صوتيةً يقول فيها إن اثنين من ضباط المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أقنعاه بالإدلاء بشهادة زور لدى سلطات التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويقول المصدر إن مرعي، دون غيره من اللبنانيين الموقوفين بتهمة الانتماء إلى فتح الإسلام والقاعدة، كان موقوفاً داخل المبنى الخاضع لسلطة فرع المعلومات في سجن رومية. وفي المبنى ذاته، كانت السلطات اللبنانية قد اعتقلت الضباط الأربعة (اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج، والعميدين ريمون عازار ومصطفى حمدان) والأخوين أحمد ومحمود عبد العال ومصطفى مستو وأيمن طربيه. والستة الأخيرون هم الذين أبقوا رهن التحقيق في قضية اغتيال الحريري، من دون تقديم أي دليل قانوني لاتهامهم، علماً بأن مستو وطربيه كانا قد باعا خطوطاً خلوية قبل أسابيع من وقوع الجريمة، وبالطريقة التي كان يتّبعها جزء كبير من تجار الهاتف الخلوي، أي من دون وثائق ثبوتية رسمية، وهي الطريقة التي لا يزال بعض التجار يعتمدونها حتى اليوم.

تضيف مصادر متعددة أن أحمد مرعي كان يحظى بـ«رعاية خاصة داخل مركز توقيفه، إذ كان بإمكانه الخروج من زنزانته ساعة يشاء، وإجراء اتصالات هاتفية بعلم سجّانيه».

حسن عليق  - الأخبار عدد الاربعاء ٢٨ تموز ٢٠١٠

 
...........
 
عن إدارة حزب اللّه لملف التحقيق الدولي

منذ زمن غير قصير تملك الجهات المعنية في حزب اللّه معلومات وافرة عما يجري في لجنة التحقيق الدولية، منذ أيام ديتليف ميليس وبعده سيرج براميرتس، ثم مع مجيء دانيال بلمار. كان حزب الله في قلب الموضوع. عناصر الاتهام التي عمل فريق الادعاء السياسي على جمعها، احتاجت إلى جهود بُذل قسم كبير منها في لبنان. وهذه الجهود معروفة بحدها الأدنى من حانب الحزب، إن لم يكن أكثر. وجهاز المقاومة الأمني لم يتوقف عن متابعة كل ما من شأنه تكوين خطر على المقاومة، بما في ذلك ملف التحقيق نفسه، وخصوصاً أنّ المعطيات السياسية لم تكن تحتاج إلى كثير شرح ليعرف الحزب أنه المستهدف الأول والأخير.

إلا أنّ طريقة مواجهة قيادة الحزب لهذا الملف تبدّلت بعد عدوان تموز عام 2006 عمّا كانت عليه قبل ذلك التاريخ. وهو ما لمسه الطرف الآخر الذي تصرّف بارتباك إضافي، بعدما أظهر الحزب خلال مواجهات تموز قدرات مفاجئة على إدارة الملفات الميدانية والسياسية والدبلوماسية. كما أبرز خبرة أمنية خاصة، ربما كان كثيرون في لبنان ـــــ كما في إسرائيل ـــــ يشكّكون في أصل وجودها. وكانت نتائج الحرب وحدها كفيلة بتنبّه الأجهزة الأمنية اللبنانية والعربية والدولية للتعامل بطريقة مختلفة مع الحزب. وخصوصاً أنّ فرع المعلومات ـــــ على سبيل المثال ـــــ تصرّف في مرحلة معيّنة على أنه مخترق من أمن حزب الله، وأن الكثير من المعلومات التي يعمل عليها الفرع تصل إلى الحزب عبر مصادر بشرية وربما غير بشرية، أو هذا على الأقل ما يردّده ضباط كبار في الفرع، من الذين يشكون من استمرار أزمة الثقة بينهم وبين الحزب، رغم ملف التعاون الكبير في ملاحقة شبكات التجسّس لمصلحة إسرائيل.

وإلى جانب التحقيقات التي شملت العشرات من أصدقاء الحزب وحلفائه، من موظفين وشخصيات سياسية وإعلامية وإدارية وغيرها، فإنّ الحزب تعامل مع ملف الاعتقال التعسفي للضباط الأربعة على أنه قضية تخصّه. وإن كان هناك سيل كبير من الملاحظات التي يبديها معنيون بالأمر على بعض الأمور، لكن المحصّلة تشير إلى أن الحزب تبنّى قضية هؤلاء الذين ظُلموا، وعمل بقوة على دعمهم ومنع التعرّض لعائلاتهم، وسعى مراراً إلى إنضاج تسوية سياسية تخرجهم من السجن، لكنه كان يحاذر الاصطدام المباشر بالرئيس سعد الحريري قبل توليه رئاسة الحكومة وبعدها. حتى عندما وقعت أحداث السابع من أيار، لم يبادر الحزب ـــــ وكان بمقدوره أن يفعل، لو أراد ـــــ إلى ممارسة شكل آخر من الضغط لإطلاق سراحهم. عدا أنّ الضبّاط أنفسهم كانوا قد رفضوا أمراً من هذا النوع، لأنهم كانوا يسعون بعد فترة من الاعتقال إلى الحصول على براءة من المحكمة الدولية نفسها، لا من القضاء اللبناني الذي أظهرت التطورات أنه لم يكن خارج دائرة قرار اعتقالهم التعسفي لنحو 4 سنوات.

قبل أكثر من عام، عندما قرّر قاضي الأمور التمهيدية إطلاق سراح الضباط الأربعة بناءً على توصية المدعي العام في المحكمة الدولية، تصرّف الحزب ـــــ كما قوى سياسية أخرى في البلاد ـــــ على أساس ان ما حصل قد يكون كافياً لطيّ صفحة. لكن الحزب أخطأ كما قوى أخرى في المعارضة، من الرئيس نبيه بري إلى آخرين ـــــ ما عدا العماد ميشال عون ـــــ عندما لم يبادر إلى طرح الموضوع على الحكومة وأمام رئيس الجمهورية وعلى طاولة الحوار الوطني. يومها قيل كلام كثير عن أهمية الهجوم على الفريق اللبناني والإقليمي والدولي الذي سبّب اعتقال هؤلاء، والضغط لطرح قضية شهود الزور وفبركة الأدلّة وتورّط موظفين وشخصيات لبنانية في الأمر، على طاولة المراجعة والمحاسبة. وكانت نتيجة هذا الخطأ، أن استعاد فريق الادّعاء وجيش المفبركين حيويته وإمساكه بزمام المبادرة ليصل بالأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.

كانت هناك وجهات نظر مختلفة حيال طريقة التصرف. والأكيد بعد مراجعة أربعة أعوام، أن في قيادة الحزب، العليا أو التنفيذية، من كان يملك رأياً لا يستند إلى حقائق كبيرة، أو كان لديه تقويم غير دقيق لوضع الفريق الآخر، إلا إذا كانت هناك اعتبارات ليست معروفة للمتابعين. وقد أدّى ذلك إلى تراكم الأمور إلى حدود باتت معها الدعوة إلى المحاسبة أو المراجعة صعبة، حتى وصلنا إلى يومنا هذا، حيث يعتقد كثيرون أن المطالبة بالتحقيق ما كانت لتحصل لولا وصول الحزب إلى قناعة معلوماتية وتحليلية بأن قرار اتهامه قد اتُّخذ. وهو أمر يؤثّر سلباً في أصل هذه الدعوة، وإن كان لا يمسّ أحقيتها وشرعيتها وضرورة السير بها حتى النهاية.

الآن، ثمّة معركة مفتوحة بشأن المحكمة والقرار الاتهامي، وقد ينقص أن ينشر حزب الله ما لديه من وثائق ومعلومات عن عمل أجهزة أمنية لبنانية وعربية ودولية في فبركة أدلة وتقديم معلومات تخدم فكرة اتهام عناصر من الحزب بالتورّط في جريمة اغتيال الحريري. لكن الأمر لن يكون على هذه الصورة، وخصوصاً عندما يكون الحزب في وارد البقاء ـــــ الآن على الأقل ـــــ في مرحلة تنبيه الطرف الآخر إلى خطورة ما يقوم به على هذا الصعيد. لكنّ ردود الفعل الحقيقية الآتية من الجانب الآخر، لا تشير إلى استعداد حقيقي للتراجع عن الجريمة القائمة، بل هناك معلومات ومؤشرات تدل على نية هذا الفريق التصعيد والمضيّ حتى النهاية في لعبته، آملاً دعماً إقليمياً وخارجياً يعوّض ما فاته في أيار عام 2008، وهو الأمر الذي سيدفع الحزب إلى خيارات غير محمودة.


وفي هذا السياق، لم يتأخر الوقت كي يقوم الحزب بحملة واسعة، تشمل فئات مختلفة من الشعب اللبناني، وقواه الفاعلة على اختلاف مواقعها، وتتوجّه إلى جهات عربية ودولية، وخصوصاً ما يتعلق بالرأي العام، في سياق توضيح حقيقة ما يجري، وتهيئة المسرح لأي خطوة قاسية، يبدو أننا نتجه إليها ما لم يحمل الملك السعودي دلواً كبيراً من المياه الباردة يلقيها على الرؤوس الحامية المنتشرة في «الوسخ التجاري» ومحيطه، لأنه متى أمكن إشراك كثيرين في معركة رفض المؤامرة على المقاومة، فسيشعر عملاء أميركا وإسرائيل الكبار والصغار على حد سواء بدرجة أعلى من العزلة، وسيشعر الجمهور الراكض خلف هؤلاء بأنّ الخيارات العشوائية باتت تمسّ المصالح الأساسية للعيش بأمان.

المهم في ما سبق ألّا يخرج بعض القادة في الحزب معتبراً هذا الكلام «أسْتَذة في الوقت الضائع»، وخصوصاً أولئك الذين يرفضون الاستفادة من تجارب غيرهم.

ابراهيم الأمين - عدد الاربعاء ٢٨ تموز ٢٠١٠
 
............
 
المُفبركون أنفسهم والكذّابون أيضاً

مَن يعرض سيناريوات الأطراف المعنية بالمحكمة الدولية، داخلياً وخارجياً، يجد نفسه أمام مشهد سوريالي، لا قاعدة له سوى الحسابات السياسية التي لا تتّصل بأيّ عمل مهني ـــــ احترافي ذي صدقية. ومن أبدى إعجابه وموافقته وثقته بمن جيء بهم من الخارج لتحقيق العدالة في لبنان، هو نفسه الفريق الذي يحتاج بين وقت وآخر إلى تعديل في صياغاته وفي معلوماته وفي أدلّته المفترضة، التي تقود إلى نتيجة واحدة هي: تصفية الحسابات بدل الوصول إلى الحقيقة.

بعد أيام قليلة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، سارع فريق سياسي وإعلامي وأمني محسوب على الولايات المتحدة الأميركية والأجهزة الأمنية الغربية قبل أن يتألف في إطار لبناني، إلى وضع لائحته الاتهامية. قرر فوراً أن كل خصوم الحريري في لبنان وسوريا والمنطقة هم من يقف خلف الجريمة. ولم يمض وقت طويل حتى تحوّل الاتهام إلى شعار واحد أحد لكل نشاط سياسي أو مدني أو إعلامي أو اجتماعي. وصدر نوع من الحرم على كل من يخالف هذا الاستنتاج. وهو أمر قاده فريق بشري، له اسم وله عنوان وله هوية وظيفية. وهو لا يزال حتى اللحظة ينتشر بيننا، بالأسماء والعناوين والوظيفة نفسها، لكن مع لسان آخر، وشكل آخر من الحديث والإعلان.

هل يتذكر اللبنانيون السجال الذي دار حول ما إذا كان انفجار السان جورج قد وقع من تحت الأرض أو من فوقها؟ هل تتذكرون تلفزيون «المستقبل» وبرامج التسلية المسائية وهي تعرض الوثائق والمعلومات والخرائط؟ هل تذكرون محمد قباني، كيف كان يعرض رأيه بصفته مهندساً وخبيراً أمنياً محلفاً؟ أو تذكرون تصريحات بهية الحريري عن أن الدرك أتوا بقطع سيارة ورموها في أرض الجريمة لتعمية الحقيقة التي تقول بأن الانفجار حدث من خلال عبوة زرعت تحت الطريق؟ هل تذكرون فريق الحريري ووليد جنبلاط وآخرين من أبناء وأولاد غازي كنعان، وهم يشرحون لنا كيف أن رئيس الجمهورية إميل لحود وقائد حرسه الجمهوري مصطفى حمدان أدارا الأشغال قرب مكان الانفجار ومررا المتفجرات؟ وكيف أن الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية تولت عملية التنسيق؟ هل تذكرون كيف امتلأت الشاشات والصحف والمنابر التي تشرح لنا كيف أن قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية، ومعهم قادة من أجهزة أمنية سورية، قد اجتمعوا في شقة في الضاحية الجنوبية وخططوا للعملية ثم عمدوا إلى تنفيذها، لذلك قرر القضاء اللبناني تنفيذ توصية ديتليف ميليس باعتقال الضباط الأربعة والعمل على طلب اعتقال ضباط سوريين آخرين؟ هل تذكرون كيف أنّ قادة الأجهزة هؤلاء هم الذين خططوا ونفذوا ومسحوا آثار الجريمة من دون أن يعاونهم أي شخص آخر، لا مرافق ولا سائق ولا مخبر ولا عامل ولا أي أحد؟ هل تذكرون كيف اعتقل الأخوان عبد العال لأنهما تحدثا على الهاتف مع القصر الجمهوري أكثر من مرة بعد حصول الجريمة؟

هل تذكرون كيف تطابقت وجهة الاتهام ومشاعر الجماهير قبل حصول الاعتقال، بأن رفعت صور الضباط الأربعة في التظاهرات؟ هل تعرفون كيف طُبعت هذه الصور ومن تولى الأمر ومن رتّب شعارات الحقيقة وغيرها؟ أو هل عرفتم من كان يقف خلف كل هذه الحيلة التي انطلت على الناس وأوقعتهم في رعب العدالة ما عدا قلة قليلة صمدت وسرعان ما توسعت لتمنع تنفيذ مؤامرة قذرة شارك فيها وزراء حاليون ونواب حاليون وسياسيون حاليون وقضاة حاليون وأمنيون حاليون وإعلاميون حاليون ومخبرون حاليون؟

هل تذكرون كيف وصل ديتليف ميليس إلى بيروت، وكيف رُتبت أموره على عجل، من اللقاءات الاجتماعية على أنواعها، الى رحلات الاستجمام على اختلافها، إلى كل أنواع الإحاطة التي يشتهر بها ثوار الأرز وعملاء أميركا وغيرها؟

هل تذكرون كيف عُدّ كل من يعارض حكم 14 آذار شريكاً في قتل الحريري؟ وكيف أن كل تحقيق أمني أو قضائي أو علمي يخالف نتيجة الاتهام السياسي هو تحقيق مشبوه ومرفوض وملعون؟ هل تتذكرون كيف شُغل الناس في إعطاء تفاصيل لحكايات ليست معروفة المصدر، ثم كيف كانوا يتوقعون الخطوات اللاحقة من الحرب على المقاومة في لبنان؟ هل تذكرون كيف كان مقرراً إغلاق صحف بالمال أو القمع، وكيف كان مطلوباً الحجز على محطات إعلامية تلفزيونية، وكيف كانت قوى سياسية وشخصيات معرضة للاعتقال والتشهير لأنها لا توافق على الاتهام السياسي؟

هل تذكرون كيف عاش اللبنانيون أشهراً طويلة في ظل استنفار لا سابق له أمنياً وسياسياً وإعلامياً؟ هل تذكرون كيف وُجِّهت التحيات إلى الجيش اللبناني لأنّه سهّل التظاهرات ثمّ كاد يُمنَع من التحرّك والعمل وأُغلقت الأبواب أمام أي مساهمة لاستخباراته في التحقيق وخلافه؟

هل تذكرون شهود الزور الذين يجري تداول أسمائهم الآن، أو الذين لا يزالون إلى اليوم طيّ الكتمان، وهم يقدمون لنا روايات لم يجرؤ كاتب بوليسي على تخيّلها؟ وهل تذكرون كيف صار الناس يشتم بعضهم بعضاً في الشوارع، ويُطرد هذا من عمله، ويُمنع آخر من دخول مدرسته أو جامعته، وكيف يُنقل هذا الموظف من دائرته لأن أصحاب الياقات البيضاء لا يوافقون على وجهه ومحيّاه؟

كل ذلك حصل تحت ستار الغبار الكثيف لأكبر جريمة عرفها لبنان منذ نهاية القرن الماضي. تلك الجريمة التي جرّت على لبنان ويلات ولا تزال، فيما نحن الآن على عتبة فصل جديد من هذه الجريمة المتمادية.

خلال السنوات التي مرّت، شارك وزراء في الحكومات الثلاث السابقة، ونواب بعضهم لا يزال في المجلس النيابي، وموظفون كبار لا يزال بعضهم في الخدمة الفعلية، وقضاة لا يزالون يشغلون مناصب رفيعة، وضباط كبار من الجيش وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية، وكوادر ناشطون في أحزاب سياسية وجمعيات أهلية ومنظمات غير حكومية، وإعلاميون ينتشرون كالفطر في وسائل إعلامية داخلية وخارجية... كل هؤلاء شاركوا في أقذر عمل استهدف النيل من أشخاص ومجموعات بأكملها، ومن دولة وجمهور ومن مقاومة كانت ولا تزال هي الهدف. كل ذلك، ولم يرفّ جفن لأحد من هؤلاء.

هؤلاء هم الذين كذبوا على الناس وتبنّاهم سعد الحريري، ثم صار يكذب مثلهم على نفسه وعلى أهل بيته وعلى ناسه وجمهوره وعلى مواطني بلده. هؤلاء هم الذين فبركوا الاتهامات والأدلة. هؤلاء أنفسهم يعملون اليوم على نقل الاتهام مباشرة إلى المقاومة، وهم أنفسهم الذين يريدون جر البلاد إلى أكبر الفتن والحرب الأهلية التي تنفخ في نارها خطابات السفهاء وقليلي الحياء.

هل يتحمّل لبنان مغامرة جديدة، أم وجب تكنيس هؤلاء من مواقع المسؤوليّة لمرّة واحدة وأخيرة؟

ابراهيم الأمين - عدد الثلاثاء ٢٧ تموز 2010
 
...............
 
ثُغَر في قواعد المحكمة تتيح التلاعب بالحقيقة

نُشرت قواعد الإجراءات والإثبات الخاصّة بالمحكمة الدولية الخاصّة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في 20 آذار 2009، وخضعت لسلسلتين من التعديلات (في 10 حزيران وفي 30 تشرين الأول 2009). غير أن تلك التعديلات لم تصحّح الثُّغر التي تتيح التلاعب بالتحقيقات الجنائية عبر فبركة معلومات واختلاق شهود وتشويه الحقيقة.

وقبل الدخول في مراجعة نقدية لبعض القواعد المثيرة للشكوك، لا بدّ من توضيح أن مراجع «تفسير القواعد» محدّدة في القاعدة الثالثة على النحو الآتي: «تُفسَّر أحكام النظام الحاضر على نحو يتوافق مع روح النظام الأساسي، وعلى نحو يتوافق مع (أ) المبادئ المحددة في القانون العرفي الدولي (...)، و(ب) المعايير الدولية لحقوق الإنسان، و(ج) المبادئ العامة للقانون الجنائي الدولي وقواعد الإجراءات، وعند الاقتضاء (د) قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، على أن تُحترم القواعد المذكورة بحسب أولوية ترتيبها». يعني ذلك أن معايير قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني تأتي في المرتبة الرابعة والأخيرة. رغم ذلك، لا ينفكّ البعض يصف المحكمة بالمختلطة وبأنها تعتمد روحية القانون اللبناني.

ورد في نصّ القاعدة 133 من قواعد الإجراءات والإثبات: احتمال اعتماد «تدابیر خاصة لمنع الكشف للجمهور أو لوسائل الإعلام عن هویة أو مكان وجود متضرر أو شاهد أو أقاربه أو شركائه». وبالتالي تسمح القواعد بشاهد سرّي يعمل لمصلحة جهاز استخباري معاد للبنان (إسرائيلي أو حليف للإسرائيلي) وتسمح القواعد بإخفاء ذلك عن «الجمهور» وعن الأشخاص الذين سيُتّهمون وقد يرفضون المثول أمام المحكمة.

ومن التدابير التي يمكن أن تتخذها المحكمة للحفاظ على سرّية الشاهد: «أ. شطب الأسماء وبیانات تحدید الهویة من السجلات العامة للمحكمة»، ما يعني إخفاء أي أثر لهوية ذلك الشاهد في المستندات العلنية وغير العلنية. «ب. عدم الكشف للجمهور عن أیة سجلات تحدد هویة الشاهد. ج. استعمال وسائل تقنیة لتحویر الصورة أو الصوت. د. الإدلاء بالشهادة عبر نظام تلفزيوني مغلق أو نظام المؤتمرات التلفزيونية. هـ. واستخدام أسماء مستعارة». ولا تحديد في القواعد لمنهجية اختيار الأسماء المستعارة، ما يفتح المجال لاستخدام إيحاءات وتلاعب في تحديد الهوية. وأخيراً، تشير القاعدة 133 إلى إمكان «عقد جلسات سریة».

أما القاعدة 155، فتذكر: «تقرر غرفة الدرجة الأولى، بعد الاستماع إلى الفريقين، ما إذا كان يتعيّن أن تطلب من الشاهد المثول أمامها للاستجواب المضاد. ولها أن تقرر أن مصلحة العدالة ومقتضيات المحاكمة العادلة والسريعة تبرر استثنائياً قبول الإفادة أو النص المدوّن، كلياً أو جزئياً، بدون إجراء استجواب مضاد». وهنا نسأل كيف يمكن أن تحرم غرفة الدرجة الأولى فريق الدفاع الصادق حقّه في الاستجواب المضاد للشهود، وتكون الإجراءات عادلة؟

لا بدّ من التنويه بأن القاعدتين 133 و155 تنطبقان على الشهود الذين يمثلون أمام غرفة الدرجة الأولى (هيئة المحكمة) أي بعد صدور القرارات الاتهامية وبعد إحالتها من مكتب المدعي العام إلى قاضي الإجراءات التمهيدية، ومنه إلى غرفة الدرجة الأولى. غير أن القاعدة 159 تتناول «الشاهد» من دون تحديد مرحلة الإجراءات القضائية. فالمادة تشير إلى أن الإدانة لا يمكن أن تستند إلى إفادة أدلى بها شاهد سرّي، بينما لا إشارة إلى مرحلة الاتهام، ما يعني أن القرار الاتهامي يمكن أن يستند إلى تلك الإفادة.

لكن أبرز الثُّغَر في قواعد الإجراءات والإثبات تظهر بوضوح في نصّ القواعد 74 و115 و116 و117 و118 و137.

فالقاعدة 74 تجيز «لقاضي الإجراءات التمهيدية، وفقاً لما تقتضيه مصلحة العدالة، أن يأمر بعدم إعلان قرار الاتهام للعموم أو أية مستندات أو معلومات مرتبطة به» بينما «يجوز للمدعي العام إعلان قرار الاتهام أو جزء منه لسلطات دولة معيّنة إذا رأى في ذلك ضرورة لغرض التحقیق أو الملاحقة». ويمكن أن تكون تلك الدولة معادية للبنان (أو دولة حليفة لدولة معادية للبنان) فالقواعد لا تستثني أياً من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.

كذلك فإن القاعدة 74 لا تحدّد «ما تقتضيه مصلحة العدالة»، بل قد يخضع ذلك لاقتناع قاضي الإجراءات التمهيدية البلجيكي دانيال فرانسين والمدّعي العام الكندي دانيال بلمار ورئيس مكتب الدفاع الفرنسي فرانسوا رو.

القاعدة 115 تجيز «للمدعي العام، في ظروف استثنائية، الطلب من قاضي الإجراءات التمهيدية أو من غرفة الدرجة الأولى إصدار أمر بعدم الكشف مؤقتاً عن هوية المتضرر أو الشاهد الذي قد يكون مهدّداً أو معرضاً للخطر». لا تحدّد القاعدة «الظروف الاستثنائية»، ما يفتح الباب واسعاً لاعتبارات لا علاقة لها بمعايير العدالة. فكيف يُحدَّد كونُ الشاهد مهدّداً أو معرّضاً للخطر؟ هل يُفتح تحقيق بذلك أم يُعتمد على إفادة الشاهد؟ هنا أيضاً يفتح الباب واسعاً أمام اعتبارات لا علاقة لها بتحقيق العدالة.

وإذا كان الإبلاغ عن هوية شاهد «قد يؤدّي إلى المساس بالمصالح الأمنية لإحدى الدول أو لإحدى الهيئات الدولية، يجوز للمدعي العام الطلب من قاضي الإجراءات التمهيدية في غرفة المذاكرة، بصورة غير وجاهية، إعفاءه كلياً أو جزئياً من موجب الإبلاغ الملحوظ في القواعد» (القادة 117). من هي الجهة التي تحدد ما إذا كان هناك احتمال «مساس بالمصالح الأمنية»؟ وماذا تشمل «المصالح الأمنية»؟ الكشف عن معلومات استخبارية؟ ألا يمكن أن تكون إحدى هذه الدول (الأعضاء في الأمم المتحدة) إسرائيل؟ فتكون بذلك المحكمة الخاصة بلبنان حريصة على مصالح إسرائيل الأمنية؟

وتتابع المادة 118 «عندما تكون بحوزة المدعي العام معلومات قدّمت له بصفة سرية وتمس بالمصالح الأمنية لدولة ما أو هيئة دولية أو ممثل عنها، لا يعمد المدعي العام إلى إبلاغ تلك المعلومات ومصدرها إلا بموافقة الشخص أو الهيئة التي قدّمتها».

ويمكن المدعي العام «اقتراح تدابير موازية (للإبلاغ عن هوية الشاهد السرّي) تتضمّن خصوصاً معلومات جديدة ذات طبيعة مشابهة أو إبلاغ هذه المعلومات بشكل مختصر أو مموّه أو عرض الوقائع المهمة». يفتح ذلك المجال واسعاً أمام التلاعب بالشهادة السرية أو المعلومات المقدمة، ويمكن التأثير على القضاة من خلال ذلك «التمويه».

«إذا طلب المدّعي العام شاهداً ليقدم كوسيلة إثبات أية معلومات معطاة بموجب هذه المادة (118)، فلا يجوز لقاضي الإجراءات التمهيدية ولا لغرفة الدرجة الأولى إلزام هذا الشاهد بالإجابة عن أي سؤال يتعلق بالمعلومات أو مصدرها إذا امتنع الشاهد عن الإجابة بداعي السرية». القاعدة 137 تتناول كذلك «الجلسات السرية» فتنصّ: «لأسباب تتعلق بالمصالح الأمنية الوطنية لدولة معينة» يجوز لغرفة الدرجة الأولى أن تأمر «بإخراج الصحافة والجمهور من قاعة المحكمة خلال جميع الجلسات أو بعضها».


القاعدة 116 تشير إلى أنه إذا كان الإبلاغ عن مصادر بعض المعلومات التي جمعها المدعي العام «لسبب أو لآخر هو مخالف للمصلحة العامة، يجوز للمدعي العام الطلب من غرفة الدرجة الأولى (...) إعفاءه كلياً أو جزئياً من موجب إبلاغ المعلومات المنصوص عليه في القواعد الحاضرة. على المدعي العام، عند تقديمه هذا الطلب، أن يطلع غرفة الدرجة الأولى على المعلومات التي يطلب بقاءها سرية وترفق ببيان يقترح فيه تدابير موازية تشمل خصوصاً تحديد معلومات جديدة وذات طبيعة مماثلة، وتقديم هذه المعلومات مختصرة أو مموّهة، أو عرض الشق الأهم من الوقائع». وبالتالي، يمكن التلاعب عبر التمويه وعبر «اختيار» الشقّ الأهم من «الوقائع». واللافت هنا استخدام مصطلح «الوقائع»، بينما لم تثبت حقيقتها إلا بعد عرضها على المحكمة واتخاذ القرار المناسب بخصوص صدقيتها. لكن قبل كلّ ذلك نسأل: من يحدّد «المصلحة العامة»؟ هل هي مصلحة مجلس الأمن الدولي الذي أنشأ المحكمة؟ وماذا لو تناقضت «المصلحة العامة» مع المصالح اللبنانية؟

(غداً: مراجعة نقديّة لنظام المحكمة المرفق بالقرار 1757)

عمر نشّابة - عدد الاربعاء ٢٨ تموز ٢٠١٠
 
................
 
ما علاقة وسام الحسن وعدنان البابا بالصدّيق؟













من الاحتجاجات اللاحقة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

إنه نجم النجوم، زهير محمد الصديق، الشاهد الذي أدلى بإفادة مطابقة للاتهام السياسي الذي رفع في اللحظة التالية لاغتيال الحريري. حصانته أقوى من أن يُسمح لأي سلطة بالمسّ به، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمحاولة كشف من يرعاه ويقف خلفه ويحميه. وأبرز ما في قصته، هو مسار التحقيق الذي نُسِج حول إفادته، حيث التحقيق يخدم الشاهد لا العكس

يوم 20 تشرين الأول 2005، صدر التقرير الأول للجنة التحقيق الدولية التي كان يرأسها القاضي الألماني ديتليف ميليس. في ذلك التقرير، أوحى ميليس أنه اقترب من كشف المتورطين باغتيال الرئيس رفيق الحريري. بدا واثقاً من النتيجة التي توصل إليها. كيف لا، وهو الذي يحمل بين يديه ورقة يقرّ كاتبها بأنه أحد الذين شاركوا «في مرحلة التخطيط المباشر التي سبقت الاغتيال»، بحسب ما ورد حرفياً في الفقرة 112 من التقرير. صاحب هذه الإفادة هو زهير محمد الصدّيق، الشخص الذي حمل يوماً لقب الشاهد الملك، ويكاد يكون الشخص الأكثر إثارة للجدل في ملف التحقيق باغتيال الحريري. ورغم أن التحقيقين اللبناني والدولي أثبتا أن ما ذكره الصدّيق هو محض تلفيق، فإن الرجل لا يزال حتى اليوم يحظى بمظلة تقيه المساءلة القضائية، رغم أن إفادته سبّبت إضراراً بالتحقيق أولاً، وبأشخاص سجنوا لفترات طويلة ثانياً.

في إفادته التي أدلى بها في إسبانيا، حيث كان يقيم في فندق بلازا سويتس في منطقة بورتو بانوس بمرابيا (كان الفندق مملوكاً من رفعت الأسد)، قال الصدّيق إن الضباط اللبنانيين الأربعة (اللواءين جميل السيد وعلي الحاج والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار)، إضافة إلى العميدين السوريين عبد الكريم عباس وظافر يوسف، عقدوا اجتماعات في منزله بخلدة، ولاحقاً في شقة يملكها رجل أعمال لبناني اسمه مالك المحمد في شارع معوض في الضاحية الجنوبية لبيروت، من أجل الإعداد لتنفيذ الجريمة، وذلك بناءً على قرار اتخذته القيادة السورية كما أفاد الصدّيق، الذي أضاف أسماء آخرين، بينهم العماد آصف شوكت والنائب السابق ناصر قنديل. وحدد الصدّيق توقيت الاجتماعات بأنها جرت في الفترة ما بين تموز 2004 وبداية عام 2005.

إفادة الصدّيق كانت شاملة، واستحق معها لقب الشاهد الملك. فإضافة إلى حضوره اجتماعات التخطيط للجريمة، قال إنه شاهد شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت لاغتيال الحريري في معسكر الزبداني داخل الأراضي السورية، عندما كان عسكريون سوريون يجهزونها بكمية كبيرة من المتفجرات. ولم تقتصر مشاهداته على ذلك، بل إنه ذكر في إفادته أنه رأى بأمّ عينيه، في المعسكر ذاته، أحمد أبو عدس. في الخلاصة، كانت الشهادة كافية لاتهام سوريا بتنفيذ الجريمة، ولإصدار قرار بتوقيف الضباط اللبنانيين الأربعة. ولإضفاء الصدقية على كلامه، وقّع الشاهد إفادة خطية يقول فيها إنه أحد المشاركين في التخطيط للجريمة.

استندت إفادة الصدّيق إلى معرفته اللصيقة بالضابطين السوريين عبد الكريم عباس وظافر يوسف، وخاصة أنه ادعى أنه ضابط في الاستخبارات السورية. لكن عارفيه اللبنانيين، وبينهم ضباط من القيادة الحالية لفرع المعلومات، يؤكدون أنه كان يعمل سائقاً (بشكل غير رسمي) للعميد السوري عبد الكريم عباس، منذ أن تقرب من الأخير الذي ساعده على تخطي مشاكل قانونية في سوريا ناتجة من فراره من الخدمة العسكرية. هو مجنّد فارّ من الجيش السوري، وليس رائداً في الاستخبارات العسكرية. حتى تموز 2004 كان عباس ويوسف يتابعان دورة أركان في لبنان، مع عدد من زملائهم السوريين، وفقاً لما هو متبع بين الجيشين اللبناني والسوري. وقد سكن الضابطان، عباس ويوسف، في الشقة التي تحدث عنها الصدّيق، الكائنة في شارع معوض. وقد استفادا من كون صاحب الشقة على علاقة قوية وشخصية بالضابط السوري جامع جامع الذي كان يخدم في لبنان. وكان الصدّيق يتولى الخدمات العامة والخاصة بالضابط عباس، ومن بينها متابعة علاج ابنه من مرض في الكلى، في مستشفى الساحل الواقع في محلة الغبيري.

لكن الضابطين غادرا الشقة المذكورة في حزيران 2004، ولم يعودا إليها. وقد ثبت ذلك في التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات ولجنة التحقيق الدولية. فهذا ما أكده الشهود، وهو ما أثبتته سجلات وزارة الدفاع اللبنانية (تاريخ تخرج الضابطين من دورة الأركان وصوَر حفل التخرج)، وكذلك بينت سجلات مستشفى الساحل وإفادات العاملين فيها، إضافة إلى رسالة الشكر التي وجهها الضابطان إلى مالك المحمد وزوجته في تموز 2004، والتي كان المحمد لا يزال يحتفظ بها. وأبرز ما ظهر في التحقيقات أن الفحوص المخبرية المعمّقة التي أجرتها لجنة التحقيق الدولية لم تظهر أي أثر لوجود الضباط اللبنانيين الأربعة في شقة معوض. وفي نيسان 2006، كشف المحققون اللبنانيون في فرع المعلومات أن شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت لاغتيال الحريري بيعت في معرض للسيارات قرب طرابلس، ما تناقض مع التوقيت الذي كان الصدّيق قد قال إنه شاهدها فيه خلف أسوار معسكر الزبداني في سوريا.


وفي فرع المعلومات في بيروت، كان غير محقق قد أكد لقيادة الفرع الذي كان يقوده المقدم سمير شحادة ويشرف على عمله المقدم وسام الحسن، أن الصدّيق غير صادق، وأن له سجلاً إجرامياً يضعف صدقيّته. وثمة من المحققين الذين تحدثوا لـ«الأخبار» من أكد أن شحادة والحسن كانا مقتنعين، على الأقل حتى نهاية عام 2005، بأن الصدّيق يقول الحقيقة. ووصل الأمر بشحادة إلى حد أنه طلب من أحد المحققين عدم تدوين إفادات شهود في محاضر رسمية، لأن إفاداتهم تدحض كلام الصدّيق. ففي إحدى المرات، أخذت إفادات عدد من الشهود في منطقة معوض. وأكد جميعهم أن العميدين السوريين لم يترددا إلى شقة مالك المحمد في النصف الثاني من عام 2004. وحده فتى صغير السن قال إنه يعتقد أنه رآهما قبل رأس السنة. فقال المقدم سمير شحادة لأحد المحققين: دَوِّن إفادة الفتى وأهمِل الإفادات الأخرى، إنهم يكذبون. لكن المحقق أصر على تدوين كل الإفادات. وفي السياق ذاته، استدعى فرع المعلومات أحد الموظفين في مستشفى الساحل. كان شحادة يريد الاستماع إلى إفادته. عندما وصل الموظف، تعمّد شحادة تركه ينتظر أكثر من خمس ساعات. وعندما استمع إلى إفادته، أكد الموظف أن ابن العميد عبد الكريم عباس لم يدخل المستشفى في النصف الثاني من عام 2004. لكن عدداً من العاملين في فرع المعلومات فوجئوا بالمقدم شحادة يقول لهم: إنه يكذب. ربما زوّر السجلات بناءً على طلب الاستخبارات السورية.

أضف إلى ذلك أن مالك المحمد ووجه بإفادة الصدّيق خلال التحقيق معه في فرع المعلومات وأمام لجنة التحقيق الدولية. وعندما كان ينفي ما أورده الصدّيق، بالأدلة الحسية أحياناً (ككتاب الشكر مثلاً)، كان المحققون يصدّقون إفادة الصدّيق ويكذّبون المحمد، الى أن قيل له في إحدى الجلسات: «سنوفر لك ولعائلتك الحماية لقاء الشهادة ضد الضباط السوريين واللبنانيين». وقد أدى هذا السلوك التحقيقي إلى توقيف المحمد في عدد من السجون اللبنانية مدة تجاوزت ستة أشهر. وفي إحدى المرات استدعيت زوجته إلى التحقيق ضمن مسلسل الضغط عليه، وتعرّضت لترهيب يقول المحمد إنه أدى إلى وفاتها.

وجهة وحيدة للتحقيق















ديتليف ميليس (أرشيف)

في الخلاصة، كان المسؤولون الأمنيون الذين يشرفون على التحقيق باغتيال الحريري، وخاصة في فرع المعلومات، مقتنعين بأن الصدّيق يقول الحقيقة، وأن سوريا هي التي نفذت جريمة اغتيال الحريري. والأمر لا يستند بالضرورة إلى نتائج تحقيقية. بل هي في معظمها اقتناعات مسبقة. ويروي أحد الأمنيين الذين كانوا قريبين من سمير شحادة حواراً جرى بينه وبين الأخير، مباشرة عقب محاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق. لم يكن المحققون قد تمكنوا بعد من جمع أي معلومات تفيد التحقيق. كانوا لا يزالون في بداية عملهم. في الحوار بينهما، كان الأمنيّان يضعان احتمالات عن الجهات التي قد تكون متورطة بالاغتيال. مباشرة، قال سمير شحادة إنها سوريا. ردّ الأمني الآخر بالقول: لماذا لا نفتح الاحتمالات؟ أليس من الأفضل أن نقول إن احتمال أن تكون الاستخبارات السورية قد نفذت الجريمة لا يزيد على 50 في المئة؟ أضاف الأمني: ما أقوله نابع من المعطيات الأولية المرتبطة بمكان حصول الجريمة وضرورة أن يكون منفذها عارفاً بالمنطقة، وأن يتمكن من التحرك فيها بحرية. ويختم الأمني روايته لـ«الأخبار»: عندما قلت ذلك، انتفض شحادة وقال لي: «ما في غيرهم إخوات (....) السوريين».

في الواقع، لم يكن سمير شحادة وحده الذي يحمل هذا الاقتناع. فوسام الحسن ومن خلفه السواد الأعظم من فريقه السياسي كان يحمّل سوريا مسؤولية كل الشرور التي تقع في البلاد. ولم يكن أي من هؤلاء يقبل النقاش في هذا الأمر. وعندما كانوا يُسألون عن الدليل، كانوا يجيبون بأن لديهم معلومات لا يمكنهم الإفصاح عنها حالياً، لأن ذلك سيضر بسير التحقيقات. وفي أحسن الأحوال، كانوا يتحدثون عن وجود معلومات في عهدة لجنة التحقيق الدولية لا يعرفون مضمونها، لكنهم على يقين من أنها تثبت التورط السوري.

الصدّيق بين الحسن وسلمان

ويؤكد عدد من العاملين في فرع المعلومات أن العقيد وسام الحسن، الذي لم تكن لديه في ذلك الحين صفة رسمية في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (استقال عندما خرج الرئيس رفيق الحريري من الحكم نهاية عام 2004، وعاد عن استقالته بعد وصول اللواء أشرف ريفي إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي) كان يتابع، شخصياً، التحقيقات في المسار المبني على إفادة الصدّيق. وفي إحدى مراحل التحقيق مع مالك المحمد، كان الحسن يتصل هاتفياً بالصدّيق (الموجود في فرنسا) لطرح أسئلة عليه تتعلق بإفادة مالك المحمد، بحسب ما يؤكد محققون تحدثوا لـ«الأخبار». ففي إحدى المرات، طلب الحسن من المؤهل ع.ب. شراء بطاقة هاتف خلوي مسبقة الدفع، واستخدمها للتحدث مباشرة مع الصدّيق، وطرح أسئلة عليه مستقاة من إفادة مالك المحمد.

وللحسن صلة بقضية زهير محمد الصدّيق تعود إلى أيلول 2005. ففي السادس والعشرين من ذلك الشهر، استمعت لجنة التحقيق الدولية إلى إفادة الصدّيق. وكان الحسن حاضراً في جلسة الاستماع. وقد عقد المحققون الدوليون جلسات عدة مع الصدّيق ابتداءً من السادس والعشرين من أيلول. وفي اليوم التالي، كتب الصدّيق إقراراً بمشاركته في التحضيرات المباشرة لاغتيال الحريري. وقد وقّع الحسن على إفادة الصدّيق. ومنذ ذلك الحين، تُوجه إلى الحسن تهمة المشاركة في تلفيق الإفادة. ولا يقنِع مطلقي التهمة تأكيد اللواء أشرف ريفي والعقيد وسام الحسن أن الأخير شارك كمترجم بين الصدّيق والمحققين الدوليين، بناءً على طلب من لجنة التحقيق الدولية التي كانت تعاني نقصاً في المترجمين، بعدما استغنت اللجنة عن خدمات عدد منهم بسبب الشك في تسريبهم مضمون التحقيق، فضلاً عن مغادرة بعضهم طوعاً. يضيف المسؤولون المعنيون في المديرية قائلين إن الصدّيق كان يعيش في فرنسا تحت رعاية مباشرة من لجنة التحقيق الدولية، «وكان يتولى هذه الرعاية بصورة مباشرة، معن سلمان»، المحقق اللبناني الأصل في لجنة التحقيق الدولية، الذي لا يزال يمارس وظيفته ضمن فريق التحقيق التابع لمكتب المدعي العام الدولي. عودة إلى الحلقة ذاتها. فمعن سلمان مقرب من سياسيين لبنانيين، حتى إن تقريراً ورد إلى زعيم إحدى الطوائف عن أن سلمان كان على صلة بالوزير مروان حمادة ويضعه في الأجواء أولاً بأول. وهو أمر ينفيه حمادة، من دون أن ينفي تماماً معرفته بالمحقق. كذلك كانت لسلمان علاقة ببعض من وردت أسماؤهم في قضايا شهود الزور التي ظهرت إلى العلن، كهسام هسام وإبراهيم جرجورة.


ويؤكد المعنيون في القيادة الحالية لفرع المعلومات أنهم، في النصف الأول من عام 2006، رفعوا مذكرة خطية إلى المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا وإلى لجنة التحقيق الدولية يؤكدون فيها أن الصدّيق شخص فاقد للصدقية.

لكن بعض المتضررين من إفادة الصدّيق يؤكدون أن الأخير كان يحظى برعاية مباشرة من الفريق الأمني والمالي لآل الحريري. يتحدثون عن شخصيتين رئيسيتين في هذا المجال، العقيد وسام الحسن والموظف في فريق الحريري الإداري عدنان البابا، الذي ورد اسمه في العديد من التقارير والمواقف، لكنه لم يعلق على الأمر نهائياً، رغم أن مقربين منه ينفون ذلك قطعاً. ويسأل أحد المعنيين مباشرة بقضية الصدّيق: «ليفسروا لنا لماذا كان الصدّيق يستأجر السيارات من مكتب في الدائرة العاشرة في باريس، يملكه شخص مصري يدعى أ.ع. والأخير هو المزود الرئيسي لآل الحريري بالسيارات في فرنسا. والهاتف الذي استخدمه الصدّيق قدم من الشخص نفسه، حتى إن رقم الهاتف كان قد استخدمه موظف يعمل عند الحريري، وإن هذا الموظف هو مَن كان يدفع بدل إيجار سيارات الصدّيق».

في النهاية، أثبتت الإفادات والفحوص المخبرية والتحليلات عدم صحة إفادة زهير الصدّيق. لكن الجميع ينفضون يدهم منه. في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، يقول مسؤول معنيّ بالقضية إن التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات عام 2005 في ما أدلى به الصدّيق جرت «بناءً على طلب من لجنة التحقيق الدولية وبإشارة من النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، وباستنابات قضائية صادرة عن المحقق العدلي القاضي الياس عيد. وبالتالي، اقتصر دورنا على الجانب التنفيذي».

في المحصلة، يتقاذف المعنيون المسؤولية عن الأداء التحقيقي الذي أرسته إفادة زهير الصدّيق. وثمة محاولة اليوم للقول إن ما قام به الرجل لم يكن نابعاً إلا من قرار شخصي يقصد من خلاله الرجل الانتقام من القيادة السورية، إضافة إلى رغبته في تحقيق مجد شخصي زائف.

الحماية الدولية

لكن هذا القول يناقض واقع «الحماية الدولية» التي يحظى بها الصدّيق، والتي تحول دون مساءلته، إضافة إلى الرعاية المالية التي تُغدَق عليه حيث يصل ويقيم. وعند الحديث عن الحصانة، لا بد من العودة إلى عام 2005، وبالتحديد إلى يوم 13 تشرين الأول. ففي ذلك اليوم، بناءً على اقتراح لجنة التحقيق الدولية، ادعى المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا على الصدّيق بجرم المشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأحال الادعاء على المحقق العدلي القاضي الياس عيد، الذي أصدر مذكرة توقيف غيابية، سرعان ما تحولت إلى مذكرة توقيف دولية. وإنفاذاً لها، أوقفت السلطات الفرنسية الصدّيق يوم 16 تشرين الأول 2005، بعدما تقدمت السلطات اللبنانية بطلب لاسترداده. لكن السلطات الفرنسية، وبالتحديد محكمة استئناف فرساي، رفضت الطلب يوم 24 شباط 2006، معللة قرارها بغياب الضمانات التي تحول دون تنفيذ عقوبة الإعدام بحق الصدّيق. بعد ذلك، أطلقت السلطات الفرنسية سراح الصدّيق، ليبقى في عهدة لجنة التحقيق الدولية. لكن من كان يوفر الحماية له هو الجهاز ذاته الذي يوفر حماية كبار الشخصيات الفرنسية. ورغم أن رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وقّع يوم 27/7/2006، تعهداً بمنح الصدّيق عفواً خاصاً في حال الحكم عليه بالإعدام، إلا أن السلطات الفرنسية بقيت ترفض نقل المدعى عليه إلى لبنان. لكن ما تغير بعد خروج الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك من الحكم هو نقل الصدّيق من عهدة جهاز حماية كبار الشخصيات الفرنسية (RAID) إلى جهاز حماية تابع للشرطة الفرنسية (CRS). وفي آذار 2008، اختفى الصدّيق من فرنسا، ليظهر في ما بعد في الإمارات العربية المتحدة، حيث أوقفته السلطات في نيسان من العام نفسه، بتهمة حيازة جواز سفر تشيكي مزوّر استخدمه لدخول البلاد.


الصدّيق يتحول إلى سامي السيد

مرة جديدة، تظهر الحماية التي يتمتع بها الرجل. فبحسب المعلومات الموثقة التي حصلت عليها «الأخبار»، انتقل الرجل من فرنسا إلى المغرب يوم 11/3/2008، مستخدماً جواز سفر تشيكياً (رقمه 3664380) يحمل صورته الشمسية واسم «سامي السيد». بعد أربعة أيام، غادر المغرب قاصداً الإمارات. وصل إلى مطار أبو ظبي يوم 15 آذار (بحسب الختم الموجود على الصفحة العاشرة من جواز السفر).

حينذاك، أكدت السلطات الفرنسية مغادرته الأراضي الفرنسية، من دون أن تكشف الوجهة. وما لم تكشفه أيضاً هو أن شخصين فرنسيين يعملان لحساب جهاز أمني رسمي في بلادهما كانا برفقة الصدّيق. والشابان يحملان جوازي سفر باسمي «سيدي محمد ماريف» و«طارق دريوش».

وفي مصادفة لافتة، ظهر الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال يوم 18 آذار 2008 ليوجه انتقادات قاسية إلى خلفه سيرج براميرتس، معلناً أن الصدّيق لا يزال يمثّل ركيزة أساسية لأي تحقيق في اغتيال الحريري!

من أبو ظبي، انتقل الصدّيق إلى إمارة الشارقة، ونزل في جناح أحد الفنادق، حيث كانت زوجته وأولاده بانتظاره. في اليوم ذاته، استأجر ثلاث سيارات، وضع اثنتين منها بتصرف مرافقيه الفرنسيين اللذين مكثا في الإمارات أسبوعاً واحداً فقط. وبعد رحيلهما، خصّته السفارة المصرية في الإمارات بمرافق يدعى إسماعيل ع.ي. وقال الصدّيق إنه تمكن من التوسط لدى السلطات المصرية لإحضار زوجة إسماعيل وأولاده من مصر إلى الإمارات.

تبدلت ملامح الصدّيق بعض الشيء. غيّر تسريحة شعره الشهيرة، وأطلق «سكسوكة خفيفة»، وبدت على وجهه زيادة الوزن. في الإمارات، لم يلتزم الشاهد الملك الصمت طويلاً. في الفترة الأولى، ادّعى أمام مقربين منه أنه تاجر كبير، وأنه من عائلةٍ صادَرَ النظام السوري ممتلكاتها، مشيراً إلى قربه من رجال أعمال سوريين من آل العظم يعيشون في المملكة العربية السعودية. لاحقاً، قال الصدّيق لأحد أصدقائه إن شخصاً يدعى عدنان، يعمل في شركة «سعودي أوجيه»، هو من يتولّى تغطية نفقاته المالية.

في الأيام الأولى التي تلت وصوله إلى الإمارات، دفع الصدّيق ثمانية آلاف دولار لقاء الحصول على إقامة عمل، قبل أن يؤسس شركة بكفالة وصلت إلى 100 ألف درهم (نحو 27 ألف دولار أميركي)، إضافة إلى الحصول على رخصة تجارة عامة درجة أولى. وقد كلفه الأمر نحو 350 ألف درهم (نحو 90 ألف دولار).

وفي الأسابيع اللاحقة لدخوله الإمارات، حاول فتح حساب مصرفي بمبلغ 200 ألف درهم إماراتي، إلا أن إدارة المصرف طلبت توضيح مصدر الأموال قبل فتح الحساب، وخاصة أن المبلغ كان نقداً. لكن مدير المصرف (س.غ.) تلقى اتصالاً من مسؤول رسمي كبير في الدولة، فسوّي الأمر.

سريعاً بدأ الصدّيق يكشف هويته الحقيقية. أسرّ لأحد المقربين منه بأنه أدلى أمام التحقيق الدولي بنحو 10 في المئة فقط مما في حوزته، وأن الباقي سيقوله في المحكمة. وفي بعض الأحيان، كان يقول إنه أدلى بإفادته لأن النظام السوري صادَرَ أملاكَ عائلته، و«الحرب خدعة، والنبي خدع الكفار في الحرب».

وفي إحدى المراحل، قال الصدّيق لأحد المقربين منه: «المحكمة في يد أبو متعب»، وعندما سئل عمّن يعني بكلامه، أجاب: «الملك عبد الله (بن عبد العزيز). هو الأب الروحي للمحكمة». لاحقاً، بعدما وصلت إلى السلطات الإماراتية معلومات مؤكدة عن أن من يحمل جواز السفر التشيكي باسم «سامي السيد» ليس إلا زهير محمد الصدّيق، أوقفته السلطات الإماراتية (منتصف نيسان 2009)، قبل أن تصدر يوم 5 تشرين الأول 2009 حكماً بسجنه ستة أشهر، وبإبعاده بعد انقضاء مدة الحكم.


انتهت محكومية الصدّيق بعد نحو 10 أيام من صدور الحكم (لأنه كان قد سجن في نيسان). ومنذ ذلك الحين، لا يزال مكان وجوده لغزاً. قيل إنه لا يزال في الإمارات حياً. وقيل إنه قتل فيها، وقيل إنه يعيش في هولندا بحماية المحكمة الدولية، أو في بلجيكا. وفي تشرين الثاني من العام ذاته طلبت السلطات السورية استرداده لكونه ملاحقاً أمام القضاء السوري. ورغم أن الدولتين السورية والإماراتية ملزمتان بحسب معاهدة موقعة عام 1983 بتبادل المطلوبين، إلا أن السلطات الإماراتية لم تستجب للطلب السوري. وفي أيار الفائت، أعادت السلطات القضائية السورية مطالبة الإمارات بالكشف عن مصير الصدّيق، من دون أن يردها أي جواب.

وبينما عادت صحيفة «السياسة» الكويتية إلى نشر أخبار عن التحقيقات، فقد تولت إعادة الاعتبار الى الرجل، ونشرت تصريحات للصديق رداً على ما جرى في المحكمة الدولية من جلسة بناءً على طلب اللواء جميل السيد، ثم للحديث عن دور لحزب الله في جريمة اغتيال الحريري. وترافقت التصريحات مع نشر معلومات عن أن الصدّيق سافر من الإمارات وهو موجود في مقر سري وفي عهدة المحكمة الدولية.

لكن المفاجأة ظهرت من جديد؛ إذ ذكر شخص معنيّ بإفادة الصدّيق لـ«الأخبار» أن الشاهد الملك لا يزال موجوداً في الإمارات، وأنه شوهد خلال الأسبوع الماضي ساهراً في ملهى ليلي تابع لأحد الفنادق المعروفة في دبي.

(غداً: ماذا قال الشاهد الإسرائيلي في التحقيق؟)

الصدّيق واتهام حزب الله



استناداً إلى رواية زهير محمد الصدّيق، كان ضباط لجنة التحقيق الدولية يركزون خلال استجوابهم للأشخاص الذين لهم صلة بشقة معوض على دور حزب الله. كانوا يسألون عما إذا كان الحزب هو من يحمي الضباط السوريين، مستفسرين عن عدد من الشخصيات المعروفة في الحزب، بينهم قادة بارزون في المقاومة.

ولفت بعض الذين استجوبوا في هذه القضية إلى أن المحققين الدوليين، منذ آب 2005، كانوا يستفسرون عن عدد من قادة المقاومة الذين لا يظهرون إلى العلن، وعلى رأسهم القائد الجهادي عماد مغنية. كان ذلك قبل أن تخرج فرضية اتهام أفراد من حزب الله إلى النور، وقبل أن يكفّ التحقيق الدولي عن محاولة إثبات صلة الاستخبارات السورية بالجريمة. وكشف أحد الذين استجوبتهم اللجنة حينذاك عن أن المحققين الدوليين سألوه خلال استجوابه عمّا إذا كان يعرف مكان وجود مغنية، ومكان وجود أحد قادة المقاومة المقربين منه.

نيّوف والصدّيق

باريس ـــ الأخبار

نزار نيّوف، المعارض السوري الذي رفض معظم معارضي النظام في الخارج التعامل معه، واتهموه بأنه لا يبتعد كثيراً عن النظام، تخصص موقعه الإلكتروني (الحقيقة) بنشر تقارير معادية للنظام في سوريا، مع أخبار يصعب التثبت منها. ومع الوقت، صار ينشر تقارير ضد معارضي سوريا في لبنان والمنطقة، ما جعل معارضي سوريا في لبنان يتهمونه بأنه على صلة بالاستخبارات السورية، علماً بأن نيّوف كان من أوائل الصحافيين الذين كشفوا النقاب عن تفاصيل تخص زهير محمد الصدّيق.

تربط نيّوف بلجنة التحقيق الدولية في ملف الحريري علاقات غامضة. العاملون في اللجنة يقولون إنهم استمعوا إلى إفادته في باريس، بناءً على تقارير تشير إلى أنه نشر معلومات «قيّمة» تفيد التحقيق.

ويقول نيّوف إنه كان قد أخبر الرئيس الثاني للجنة التحقيق، سيرج براميرتس، بمراسلاته مع سمير قصير وجبران تويني، التي جرت بعد اغتيال الحريري، وإنه سلم اللجنة الدولية نسخاً منها. كذلك نصحه بوجوب الاستماع إلى شهادة الصحافية الأميركية ـــــ الفرنسية لارا مارلو (الزوجة السابقة لروبرت فيسك)، التي كانت آخر من التقى الحريري قبل اغتياله، لأنها أخبرت نيوف ـــــ كما يزعم ـــــ بما قاله لها الحريري لجهة أنه غير مهدد.

أما العلاقة مع جبران تويني، فيقول نيوف: «هذه قصة أخرى. وهي محض إنسانية. فحين كنت في السجن (في سوريا)، أدى جبران ووالده دوراً محورياً في مساعدتي. كان جبران مكلفاً من رئيس «الجمعية العالمية للصحف» تيموثي بالدنيغ متابعة ملفي. وقد بذل جهوداً كبيرة للضغط من أجل إطلاق سراحي، وقبل ذلك، لتأمين عقار العلاج (من مرض سرطان الدم) لي (من موازنة الجمعية) بعدما رفض النظام معالجتي. وبهذا المعنى، أنا مدين لجبران. كذلك تعرض لعتاب من جماعة 14 آذار لأنه كان أول من سلمني سر وجود شخص اسمه زهير محمد الصدّيق، وأنه في الطريق لتقديم شهادة كاذبة، وأنا فضحت الأمر. والواقع أن جبران، وقبله سمير قصير، قد طلبا مني استشارة بشأن هذا الشخص عما إذا كان فعلاً ضابط استخبارات وذا صدقية، وأبلغاني بحكايته كلها».

جوازات سفر الصديق ومرافقيه الفرنسيين ونسخة عن طلب إقامته في الإمارات














حسن عليق - عدد الخميس ٢٩ تموز ٢٠١٠

................

اتّهام «أفراد غير منضبطين» يعني اتّهام نصر اللّه


استلزم صدور قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1757 يوم 30 أيار 2007 في نيويورك اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فذلك الفصل يتيح للمجلس تخطّي السيادة اللبنانية وإلزام الجمهورية احترام مقتضيات اتفاق دولي لم يقرّه مجلس النواب اللبناني. الاتفاق الدولي الذي بني نظام المحكمة الدولية على أساسه، بقيت آخر صفحة منه من دون توقيع الى جانب عبارة «عن الجمهورية اللبنانية». رغم ذلك، أكّد القرار «دعوته إلى الاحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت السلطة الوحيدة والحصرية للحكومة اللبنانية».

إحدى مغالطات نصّ القرار 1757 تكمن في المصطلحات المستخدمة، إذ إن السيادة لا تنحصر بسلطة الحكومة (دستورية كانت أو «بتراء»)، بل بالسلطات الثلاث المذكورة في الدستور. فبينما أغفل قرار مجلس الأمن موقع السلطتين التشريعية والقضائية، أشار «إلى الرسالة الموجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة من رئيس وزراء لبنان، التي أشار فيها إلى أن الأغلبية البرلمانية أعربت عن تأييدها للمحكمة، والتمس عرض طلبه بإنشاء المحكمة الخاصة على اﻟﻤﺠلس على سبيل الاستعجال». وكأن رئيس مجلس الوزراء، وهو جزء من السلطة التنفيذية (أو الإجرائية)، مخوّل مخاطبة هيئة دولية نيابة عن «الأغلبية البرلمانية». وهنا التجاوز الفاضح لمبدأ ديموقراطي أساسي يقضي بفصل السلطات واستقلالية كلّ منها.

قبل الدخول في مراجعة نقدية للنظام الأساسي للمحكمة، لا بدّ من التذكير بالربط بين قرار مجلس الأمن الرقم 1595 الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية والقرار 1757 الذي أنشأ المحكمة. إذ يرد في نصّ هذا الأخير «تبدأ المحكمة الخاصة عملها في تاريخ يحدده الأمين العام بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، مع مراعاة التقدم المحرز في أعمال لجنة التحقيق الدولية المستقلة». يثير ذلك تساؤلات عن أسباب انطلاق عمل المحكمة في آذار 2009، بينما لا يزال المدعي العام دانيال بلمار عاجزاً عن إثبات أي تقدّم. فلقد مرّ على انطلاق المحكمة أكثر من 15 شهراً، ولم تصدر القرارات الاتهامية بعد. هل يدلّ ذلك التجاوز للقرار 1757 على تأجيل سياسي لصدور القرارات الاتهامية؟ أم أن المدعي العام الذي كان يشغل منصب رئيس لجنة التحقيق ضلّل الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة عبر تأكيده إحراز تقدّم في التحقيقات، بينما مرّ عام وثلاثة أشهر وليس هناك حتى مشتبه فيهم قيد التحقيق؟

الخلل في المسار العدلي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري يذهب الى أبعد من ذلك. ويبدو أنه يتقاطع مع بعض المناورات السياسية. ننطلق من قراءة المادة الثالثة من نظام المحكمة التي تحدّد «المسؤولية الجنائية» لفهم المقصود من «تسريب» معلومات عن اتهام «أفراد غير منضبطين» من حزب الله بالضلوع في جريمة اغتيال الحريري.

الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يُعدّ «رئيس» الحزب، و«في ما يتصل بالعلاقة بين الرئيس والمرؤوس، يتحمّل الرئيس المسؤولية الجنائية عن أي من الجرائم، التي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين، نتيجة لعدم سيطرته سيطرة سليمة على هؤلاء المرؤوسين، حيث: أ) يكون الرئيس قد عرف أو تجاهل عن عمد أي معلومات تبيّن بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو هم على وشك أن يرتكبوا تلك الجرائم؛ ب) تتعلق الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس؛ ج) لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيه لتلك الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائية» (المادة 3). يعني ذلك أن أي قرار يصدر عن المدعي العام، يتّهم «أفراداً غير منضبطين» من حزب الله، سيستدعي التحقيق مع الأمين العام لحزب الله وغيره من قادة الحزب. كما يمكن اعتبار ذلك الاتهام موجّهاً الى القائد الشهيد عماد مغنية، بحيث إنه كان يشغل، يوم وقوع الجريمة، مركز رئيس المجلس الجهادي في حزب الله، إذ إن نقل أكثر من طن من المتفجّرات وتوضيبها في شاحنة وتفجيرها، إضافة الى عمليات المراقبة والتنسيق والتخطيط، تحتاج الى جهود كبيرة يُستبعد أن تُبذل من دون علم «الرئيس». فهي «أنشطة تندرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس». (ب)، وبالتالي قد يُتّهم السيد نصر الله والشهيد الحاج عماد مغنية بعدم اتخاذهما «جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطتهما لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيهما لتلك الجرائم»، بحسب المادة 3 من نظام المحكمة.

المادة ١٦ تتناول «حقوق المتهم»، ومن بينها حقّ دراسة «جميع الأدلة التي تستخدم ضده خلال المحاكمة وفقاً لأحكام القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات للمحكمة الخاصة». لكن قواعد الإجراءات والإثبات، التي أقرّت النسخة الأولى منها في 20 آذار 2009، أي بعد نحو عامين على صدور القرار 1757، تستثني حقوق المتّهم في بعض الحالات. فتذكر القاعدة 155: «تقرر غرفة الدرجة الأولى، بعد الاستماع إلى الفريقين، ما إذا كان يتعين أن تطلب من الشاهد المثول أمامها للاستجواب المضاد. ولها أن تقرر أن مصلحة العدالة ومقتضيات المحاكمة العادلة والسريعة تبرر استثنائياً قبول الإفادة أو النص المدون، كلياً أو جزئياً، بدون إجراء استجواب مضاد». وهنا كنّا قد سألنا («الأخبار»، 27/7/2010، ص 5) كيف يمكن أن تحرم غرفة الدرجة الأولى المتهم، عبر وكيله القانوني، حقّه في الاستجواب المضاد للشهود، وتكون الإجراءات عادلة؟

تنصّ الفقرة الرابعة من المادة ٢٠ على: «تكون الجلسات علنية ما لم تقرر الدائرة الابتدائية عقد الإجراءات في غرفة المذاكرة وفقاً للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات». لكن القاعدة 133 تشير الى إمكان «عقد جلسات سریة». أما القاعدة 137، فتتناول كذلك «الجلسات السرية»، فتنصّ على: «لأسباب تتعلق بالمصالح الأمنية الوطنية لدولة معينة»، يجوز لغرفة الدرجة الأولى أن تأمر «بإخراج الصحافة والجمهور من قاعة المحكمة خلال جميع الجلسات أو بعضها».

إن الفوارق التي تُلحظ، بحسب ما أوردناه، بين مضمون نظام المحكمة من جهة، وقواعد الإجراءات والإثبات من جهة أخرى، تثير تساؤلات، لا بل شكوكاً في آلية العدالة الدولية في قضية اغتيال الحريري، إذ يبدو أن ما كان مطلوباً عام 2007 هو الموافقة على نظام أساسي، لكن أدخلت على ذلك النظام لاحقاً (عام 2009)، من باب قواعد الإجراءات والإثبات، استثناءات وتعديلات أقلّ ما يقال فيها أنها تستدعي المراجعة.

إضافة الى ذلك، يتضمّن نظام المحكمة الأساسي أخطاءً وتناقضاً واضحاً بين الفقرة (ب) من المادة 2 والمادة 24. فجاء في نصّ الفقرة (ب) من المادة ٢ من النظام، المعنونة «القانون الجنائي الواجب التطبيق»: «المادتان ٦ و٧ من القانون اللبناني المؤرخ في ١١ كانون الثاني/ يناير ١٩٥٨ بشأن «تشديد العقوبات على العصيان والحرب الأهلية والتقاتل بين الأديان». أولاً، لا يذكر القانون اللبناني الصادر في 11-1-1958 الكلام الوارد بين مزدوجين في المادة 2 من نظام المحكمة (أي الكلام المفترض أن يكون منقولاً حرفياً من القانون). ويعدّ ذلك تلاعباً بنصّ القانون اللبناني. فالمادة 6 منه تنصّ على: «كل عمل إرهابي يستوجب الأشغال الشاقة المؤبدة، وهو يستوجب الإعدام إذا أفضى الى موت إنسان أو هدم بنيان بعضه أو كلّه وفيه إنسان، أو إذا نتج من التخريب ولو جزئياً في بناية عامة أو مؤسسة صناعية أو سفينة أو منشآت أخرى أو التعطيل في سبل المخابرات والمواصلات والنقل». أما المادة 7، فتنصّ على: «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة من أقدم على مؤامرة بقصد ارتكاب إحدى الجنايات المذكورة في المواد السابقة».

يبدو أن المقصود في نصّ الفقرة (ب) من المادة ٢ من نظام المحكمة الدولية هو مضمون المادة الثانية من قانون 1958، التي تنصّ على «يعاقب بالإعدام على الاعتداء أو محاولة الاعتداء التي تستهدف إما إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي بتسليح اللبنانيين أو بحملهم على التسلّح بعضهم ضدّ بعض، وإما بالحضّ على التقتيل والنهب والتخريب». ويكمن التناقض في عدم سماح المادة ٢٤ من نظام المحكمة الدولية بإنزال عقوبة الإعدام بالمدانين، إذ «تفرض الدائرة الابتدائية عقوبة السجن مدى الحياة أو لسنوات محددة على الشخص المدان».

(غداً: مراجعة نقدية لنصّ مذكرة التفاهم بين لجنة التحقيق الدولية والجمهورية اللبنانية)

عمر نشّابة - عدد الخميس ٢٩ تموز ٢٠١٠

0 تعليقات::

إرسال تعليق