الجمعة، 26 أغسطس 2011

سلاما لمغتالي أحلامنا

إلى صديقي الشاعرأحمد وهبي

خلسة ... يتسلل الموت الجبان إلى شرفة القلب، وبهدوء تام وأعصاب باردة كالمشرط يطعنه ويمضي.

تارة يكون على هيئة صديق، وتارة على هيئة رسالة الكترونية، ومرة على هيئة حمامة أو غصن زيتون، أو حبك لعبة ما في مؤتمرحزبي أو دولي، سري أو علني، داخل الوطن أو خارج حدوده.

الموت..

الموت المدجج بالرغبات والخطط الخائنة للتاريخ والذاكرة..
الموت الخائن الذي يأخد في النهاية شكل المقصلة أو المجزرة أو كتابة تقرير ما... وفي أحسن الحالات مسدسا كاتما للصوت.

هذا الموت .. يترصدنا في الوطن وفي المنافي، في احتجاجاتنا المعلنة وفي صمتنا الغاضب، في المطارات وحواجز التفتيش، في الشوارع والمعتقلات "الوطنية والقومية والاشتراكية والجماهيرية واليسارية واليمينية وما بين بين"، إلى ما هنالك من شعارات لا أحد يقدر على ابتداعها غيرنا نحن العرب "خير أمة أخرجت للناس".

هذا الموت .. يترصدنا خلف أقلامنا وأوراقنا وقصائدنا وأوتار قيثارتنا.

إلا أن الولد المشاغب الذي اعتاد أن يدفع ضريبة حبه للحياة وتوقه إلى الحرية، يواجه الموت ولا يفر منه..

يواجهه بقوة الحلم وعنفوان النشيد.. يواجهه في المدارس والقرى والمخيمات .. في المدن الكبيرة وفي زوايا الأزقة.. في عيون الأمهات المنتظرات عودة أحبة لن يعودوا أبدا.

هذا الولد الشقي يواجه الموت في دفاتر التلامذة وفي جدائل الطالبات.. يواجهه في السنين التي مضت والسنين الآتية إن قدر له أن يعيشها.

ولأنه يدافع عن حقه في الحياة وعن حريته المستلبه، فهو يطعن تارة في القلب وتارة في الظهر ومرارا في الذاكرة.

يطعن بخناجر الأعداء وبأيدي العملاء وبخسة الرفاق ...

وأحيانا يطعن بخيانة صديق أو بغدر حبيبة.

الكل ينتظر منه أن يكف عن الحلم..

لكن نكاية بالكل يظل يحلم.

منذ عز الدين القسام وحتى وديع حداد .. ومنذ غسان كنفاني وحتى معروف سعد .. ومنذ كمال خير بك إلى غارسيا لوركا .. ومنذ فيكتور غارا وحتى ناجي العلي فالشيخ إمام، مرورا بمذابح دير ياسين وكفر قاسم وتل الزعتر والنبعة وجسر الباشا ومخيمي شاتيلا وجنين وقانا وحتى مجزرة الشاطيء في غزة ومن ثم محاصرتها عربيا ..

ومنذ استعارة وليم شكسبير فكرة روميو وجولييت من تاريخ العشق العربي..

ومنذ مجزرة نهر البارد حتى مجزرة حلبا إلى إهانة أضرحة الشهداء في كفر رمان...

ما زال الولد المشاغب يعيش محاصرا بين انكسارات عديدة وشاهدة ..

وبين موت يمضي وآخر يجيء... يسيل حلمه على أرصفة المنافي .. لكن ذاكرته تبقى ندية.

ونكاية بالجميع يظل يحلم.

يحلم .. ويحلم .. ويحلم .. وباتساع أحلامه تتسع المجازر وتمتد ساحات القتل.

ينظر حوله فلا يرى غير الخرائب.

يرفع صوته فلا يعلو إلا التخاذل أو المزايدات أو الصمت أواللهاث وراء سراب.

لكنه نكاية بالكل ... يظل يحلم.

قد تنكسر أحلامه .. لكنه لا ينكسر.

وقد ينكسر، لكنه نكاية بالكل لا يكف عن الحلم.

إنه الحلم ... هذه اللعنة الجميلة المقدسة في وجه هذا العصر القبيح، سارق نار الآلهة وإكسير الحياة في صراعهما المستمر ضد الموت مهما تنوعت أشكاله وتعددت أساليبه.

تلك هي معجزة الولد .. وتلك هي قضية موته اليومي .. فما أبأس المراثي!!!

ومثلما للولد المشاغب أحلامه، كذلك الخائن، الذي يوافق على قضم المدن والقرى وقلوب الأطفال كما يقضم قطعة من الشوكولاتة، أحلامه المدهشة أيضا.

بكوفية الثوار المضحكة، أو بربطة عنق سينييه حمراء ولكن بروليتارية.

أو... بيدين مثقلتين بالجرائم وصدر طافح بالأحقاد، يتمدد طاغية ما على عرشه ويحلم.

يحلم بأراض قليلة ومدن وقرى مسلوخة عن بعضها، تتحول فيها الأشجار إلى هراوات والعصافير إلى جلاوزة، ورسائل الحب إلى عبوات ناسفة، والمدارس إلى معتقلات، والقصائد إلى أحذية، وتجريم كلمة "لا" كونها تخالف الوصايا العشر.

يحلم الخائن بقصور وجماجم وشعوب تمجد مفاوضاته الخاسرة ليل نهار، لكنها تزيد من أرصدته في البنوك.

يحلم في يوم تكون فيه الخيانة انتصارا، والغدر شجاعة، والدسائس بطولة..

وبين حلم الخائن وحلم الولد المشاغب تبرز قيمة أن تكون مع الحياة أو مع الذين يتسابقون إلى قطف زهرتها أو سحقها بأحذيتهم ومسدساتهم اللامعة.

بين الخائن المهووس دوما بالدفاع عن أحلامه الخاصة ومشاريعه الرخيصة حتى الرمق الأخير، والولد الذي يدافع عن حلم "لن يتحقق في المدى المنظور"، تبرز قيمة أن تنحني وتذل، أو أن تتمسك بالحلم.

واحد هو الخائن والعميل، أيا كان دينه ومعتقده وحزبه ولون الباسبور الذي يحمله، لكن أشباهه يتماهون فيه ويتقمصونه. لذا فهم يتكاثرون تكاثر الذباب .. ويتبارون في إثبات مهاراتهم في إطلاق المكائد وكتابة التقارير، وإن اختلفت الأدوار بين واحد وآخر وتعددت الأساليب والأشكال.

من هنا، فإن المعركة قاسية ومريرة بين الولد وبينهم .. قاسية لأنها معركة أن تكون جديرا بالحياة أو لا تكون.

فسلاما لمن يمنحوننا القدرة على الحلم..

سلاما لمغتالي أحلامنا وأقلامنا وأغانينا الخاسرة، الذين يمنحوننا القدرة على تجاوز مدارات الموت.. مهما امتد وطال.

د. وليم نصار - الحوار المتمدن - العدد: 2492 - 2008 / 12 / 11

0 تعليقات::

إرسال تعليق