الاثنين، 4 يوليو 2011

اليسار والماركسية ... قضايا إشكالية

اليسار والماركسية ... قضايا إشكالية

(إلى عبد الله إبراهيم، الديالكتيك يمشي على قدمين)

تلبّست الأحزاب الشيوعية مصطلح اليسار وصادرته لاعتبارات موضوعية وذاتية، إذ إن الأحزاب الشيوعية وما تحمله من أفكار قال بها ماركس وأنجلز وبنى عليها آخرون، تطويراً وتعديلاً وتصويباً، ومن برامج عملت عليها في بلدانها كانت الأكثر تغييرية قياساً بالأحزاب الليبرالية والاشتراكية فكانت معياراً لليسار في حقل الاجتماع السياسي العام يحكم على يسارية الآخرين بمدى قربهم، فكرياً أو سياسياً، منهم، وكذا في كل مؤسسة وجماعة، دون أن يعني ذلك انتفاء اليسار غير الشيوعي ودون أن يعني أيضاً انتفاء قيام يسار على يسار هذه الأحزاب والذي عرف في أميركا وأوروبا منذ خمسينيات القرن الماضي باسم اليسار الجديد المستلهم لأفكار ماركس وماو تسي تونغ وماركوز ثم كاسترو وغيفارا والناقد للأحزاب الشيوعية وأنظمة حكمها في بعض البلدان.

إلا أن هذا الالتباس بين اليسار، فكراً وممارسة، والماركسية، فكراً وممارسة، ومصادرة الثانية للأول لا يعني تطابقهما؛ فاليسار مصطلح يأخذ معناه من اليمين في لحظة معينة وتبعاً لقضية محددة وفي إطار معرفي وسياسي، فهو مصطلح فضفاض يأخذ معناه من الوضع وبالقياس على آخر، واليساريون تبعاً لذلك، سمتهم التغيير تبعاً للحقل الموجودين فيه وللإطار العاملين فيه.
أما الماركسية فتأخذ معناها من حقل معرفي آخر، إذ تشكل اتجاهاً علمياً يرى المعرفة العلمية هي معرفة الفئة ذات الموقع الأساسي في الإنتاج والهامشي في العلاقات المجتمعية، وتدّعي أن الطبقة العاملة (البروليتاريا) هي هذه الفئة(1)، بخلاف آخرين من الاتجاه نفسه الذين يرون النساء أو الطلاب أو الهامشيين هي هذه الفئة. والماركسيون، تبعاً لهذا، هم العاملون، فكراً أو ممارسة من خلال هذا الاتجاه بأي منهج فكروا أو بأية مؤسسة عملوا.
والماركسية، كاليسار، انبنت في سياق انبناء المجتمعات الحديثة وفي إطار مؤسساتها، وهي مجتمعات صناعية أرسى قيامها نمط الإنتاج الرأسمالي وتطور أدواته ووسائله، حيث تشكلت لحمة مجتمعية على أساس مواقع الإنتاج وسوق العمل وانبنى الإنسان كفرد حر ومواطن في إطار دولة دستورية محددة حدودها ومعالمها.
فهي بهذا المعنى معبرة عن فئة اجتماعية ضمن نمط إنتاج رأسمالي أقصى الانتماءات الأولية وفي إطار دولة حديثة ملبية لحاجة السوق ومحكومة بشروطه، فكانت بذلك حركة هذه الفئة ضمن هذه البيئة وحاملة مشروعها السياسي.
والسؤال المطروح: هل الماركسية في بلدنا، هي فكر البروليتاريا والماركسيون حملة مشروعها، وبكلام آخر أن البروليتاريا كطبقة ذات موقع أساسي في الإنتاج وهامشي في العلاقات المجتمعية تشكلت عبر صيرورة تاريخية للمجتمعات الصناعية انبنت خلالها الفئات المجتمعية والدولة الحديثة والفرد ـ المواطن وهي غير منفصلة عن هذا التشكل؛ فهل هي كذلك في لبنان؟ وإن لم تكن فمن هي الفئة ذات الموقع الأساسي في الإنتاج والموقع الهامشي في العلاقات المجتمعية؟
الإجابة الشائعة: الطبقة العاملة اللبنانية هي الطبقة ذات الموقع الأساسي في الإنتاج والموقع الهامشي في العلاقات المجتمعية ومعرفة هذه الطبقة هي المعرفة العلمية وهي الحامل الاجتماعي للماركسية ولليسار الماركسي وقضاياها المجتمعية وما يستتبعها، سياسياً وثقافياً، هي قضايا الماركسية واليسار الماركسي الأولى.
وقد بُنيت الأحزاب الشيوعية على هذا الأساس وصيغت التحالفات وخيضت المعارك على ضوئه وفي إطار مشروع سياسي لتصحيح الموقع المجتمعي تبعاً للموقع الإنتاجي دون أن يفلح أي تحالف أو مشروع في ذلك، لا بل انتكس الوضع إلى ما دون ذلك.
وتتجاوز هذه الإجابة الشائعة ثلاثة معطيات:
المعطى الأول: اختلاف البيئة التي أُنتج فيها المفهوم عن البيئة في لبنان. فالبروليتاريا انبنت كطبقة وكمفهوم في سياق صعود الرأسمالية وانبنائها، طبقة ومفهوماً، ضمن إطار ناظم لهذا الصعود ومحدداً لآلياته هو إطار الدولة القومية الذي انتقل إلى التوسع الخارجي مع بروز الاحتكارات ودخول الرأسمالية في مرحلة الإمبريالية.
أما البروليتاريا في لبنان، كطبقة وكمفهوم، فقد انبنت في سياق وفود التوسع الرأسمالي إلى بلدنا وضمن تقسيم العمل الدولي دون تبلور لهويتها، ولهوية الرأسمالية أيضاً، ودون إطار ناظم لهذا الصعود ثم أُنتج هذا الإطار لوظائف هذا التقسيم، فكانت الدولة.
المعطى الثاني: التطور الذي أصاب نمط الإنتاج الرأسمالي في الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي من جوانب عدة:
ـ انتقال قوى الإنتاج ووسائله إلى المرحلة الآلية الكاملة.
ـ انتقال المنشأة من المصنع الوحيد للإنتاج إلى المصنع المتعدد الأقسام إلى المؤسسة المتعددة الوحدات الإنتاجية.
ـ انتقال الشركة من شركة التضامن والتوصية إلى الشركة المساهمة والاحتكارية ثم الشركة العابرة للحدود.
ـ انتقال العمالة من الكثافة واليدوية إلى العمالة المجزأة والماهرة.
ـ انتقال رأسمال من الرأسمال الصناعي إلى رأس المال المالي.
ـ انتقال الإطار السياسي من الدولة القومية الحارسة ضمن علاقات دولية تنافسية إلى الدولة المحكومة من الشركات ضمن علاقات دولية تنافسية محكومة بعصبة الأمم ثمَّ إلى الدولة المحكومة بالمؤسسات الدولية الرسمية والمخروقة بالمؤسسات الدولية غير الرسمية.
وقد أدى هذا التطور إلى تغير في طبيعة البروليتاريا إن في تشتتها الجغرافي أو ضعف رصفها الطبقي أو في تفلت إطار نظمها المؤسساتي أو في تراجع العمل اليدوي في صفوفها.
كما أدى إلى تراجع التصنيع، كما عرف في مراحل سابقة، وإلى بروز اقتصاد المعرفة إلى درجة اعتبرت فيه هذه المرحلة مرحلة ما بعد الصناعة.
وسواء أكانت هذه المرحلة مرحلة جديدة ما بعد رأسمالية كما يدعي البعض أو كانت مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية، كما يدّعي آخرون، فإن الثابت فيها تقلص الرصف الطبقي وتشتته قياساً على المرحلتين السابقتين، وتراجع دور العمال اليدويين لمصلحة الخبراء والفنيين والإداريين.
المعطى الثالث يتعلق بلبنان: حيث نظام الإنتاج الصناعي لم يُبنَ فيه تطويراً لنظم إنتاجه السابقة، بل أُدخل عليه دخولاً متوافقاً مع متطلبات السوق الرأسمالية العالمية، فأنتج نظاماً هجيناً تتداخل فيه نظم الإنتاج الحديثة مع القديمة والعلاقات المجتمعية القديمة مع الحديثة ومحدده الأساسي الوظيفة التي حددت لهذا البلد ضمن التقسيم العالمي، فكان الناتج نظاماً إنتاجياً قائماً على الخدمات بشقيها الداخلي والخارجي حيث مردود هذا القطاع 70% من الدخل القومي مقابل 30% للقطاعات المنتجة الأخرى والعاملين فيه 56% مقابل 44% للقطاعات الأخرى وذلك قبل حرب العام 19752.
ولم تفلح محاولتا التصنيع المهمتان في تاريخ لبنان الحديث (صناعة الحرير، منتصف القرن التاسع عشر، والتصنيع قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها) في تحول نظام الإنتاج فيه، لارتباط المحاولتين بعوامل خارجية ولوظيفة أُريدت للبنان، لا بل رأى توفيق كسبار أن الليبرالية الاقتصادية ضد الصناعة، ولم تعدل تطورات ما بعد الحرب اللبنانية حصة الصناعة في الدخل الوطني ونسبة العاملين فيها3.
وتقود هذه المعطيات المتداخلة التي يتراكب فيها الثاني والثالث ليعززا الأول إلى التشكيك بالإجابة الشائعة، وبالتالي بموقع البروليتاريا الأساسي في الإنتاج والهامشي في العلاقات المجتمعية وإلى طرح قضايا جديدة في هذا المجال.
هل يصح طرح موقع البروليتاريا، كأساس في التحليل ومن ثم الممارسة، في بلد لم ينتج فيه هذا الموقع، مادياً ومعرفياً، وفي إطار سياسي ملتبس أساساً، ومخروق على الدوام وفي بنية مجتمعية هجينة؟
وإذا لم تكن البروليتايا في لبنان هي ذات الموقع الأساسي في الإنتاج والهامشي في العلاقات الاجتماعية، فمن هي الفئة التي تحتل هذا الموقع؟ هل هي طائفة من الطوائف الدينية، كما قال البعض في مراحل سابقة، أم هي إحدى الفئات المهمَّشة في المجتمع، حسب اتجاه ما بعد الحداثة؟ أم من؟
وإذا كان من المتعذر تكرار التجربة الأوروبية في التصنيع وبناء الدولة الحديثة، إذ إنها تجربة استغرقت قروناً أنجزت الرأسمالية فيها مهامها وأضحت الدولة والفرد ـ المواطن والمجتمع المدني بديهيات، فعلى ماذا يقاس العمل لتحديد تلك الفئة؟ هل يقاس على تجارب إسلامية رائدة في زمانها وقد تبدّل الزمن وتغيرت طبيعة الإنتاج وتداخل ما أعقب هذا التجارب من تراجع عنها وتلاعب فيها بحيث غدت معطيات الواقع ضربا متنوعا من المؤثرات الوافدة من مراحل تاريخية متعاقبة وأماكن جغرافية متباعدة.
أم يختار نموذجاً يقاس عليه باعتبار لبنان أرضاً بكراً يمكن أن يُعمل فيه بأي نموذج، وفي هذا تجاوز لتجربة تداخل فيها الوافد الرأسمالي مع المقيم الإقطاعي لينتجا نظاماً هجيناً و«خصوصية» مجتمعية وسياسية يقيم فيها الماضيان، الأوروبي والإسلامي، في اللحظة ذاتها.
وما هي القضية الأهم المطروحة على اليساريين وعلى اليسار الماركسي بالتحديد في هذه المرحلة؟
هل المطلوب استلام الفئة الأساسية في الإنتاج والهامشية في العلاقات المجتمعية (ومن هي؟)، السلطة، أم المطلوب بناء الدولة الحديثة والفرد والمواطن والمجتمع المدني؟
أم المطلوب الالتحاق بطبقة عاملة في بلد ما لمواجهة الرأسمالية فيها علّ التخلّص من تلك تخلصاً من مشاكل لبنان!؟
أم المطلوب مواجهة الإمبريالية (وقد تغير معناها ومبناها، والمطلوب تغيير تسميتها؟) في أرض يباب وفي سديم غير محدد المعالم؟
أم المطلوب مواجهة الصهيونية وركيزتها إسرائيل باعتبارها جاراً لنا في الجغرافيا وعدواً في التاريخ والجغرافيا ومهدداً لنا؟
وهل يمكن فصل أية مهمة من هذه المهام عن الوظيفة التي أنيطت بلبنان؟
وهل يمكن العمل بوحي من أي منها دون لحظ حجم لبنان الصغير وموقعه؟
تلك أسئلة تتطلب إجابات يحدد على ضوئها القضية الأساسية التي تنسل منها البرامج والمواقف ومن ثمّ التنظيمات والتحالفات.
قد تتعدد الإجابات عن هذه التساؤلات، فينحو البعض باتجاه مواجهة الصهيونية كقضية أساسية ومركزية أو باتجاه مواجهة الامبريالية أو باتجاه مواجهتهما، كما قد ينحو البعض الآخر باتجاه بناء الدولة المدنية أو القومية والمجتمع المدني أو الحربي، وقد ينحو البعض الثالث باتجاه الوحدة العربية أو السورية أو الإسلامية أو الميني إسلامية، وقد ينحو البعض الرابع باتجاه بناء نظام تقدمي.
وبعيداً عن الحكم على صحة أي من هذه الإجابات، يتطلب مراجعتها وقد اختُبرت على مدى أكثر من نصف قرن دون أن يؤتي أي منها ثماره، لا بل أُتي عكسه، وذلك لتقديم قراءة نقدية للتجربة الماضية، وطنياً وقومياً ويسارياً، تُبنى عليها رؤية للمستقبل تحدد فيه الحامل المجتمعي لقوى التغيير والقضية المركزية في التغيير والبرامج للنضال من أجلها.
وهنا يحسن العودة إلى التمييز بين اليسار واليسار الماركسي ثمّ التمييز ضمن اليسار الماركسي بين الماركسية كاتجاه، والماركسيين كمدارس وقوى.
وإذا كان اليسار ـ تبعاً للتحديد السابق ـ موجوداً على مستوى كل قوة سياسية وعلى مستوى النصاب السياسي، ووجوده مرتبطٌ بالصراع على السلطة، يقدّم ضمن كلِّ قوة موقفاً أكثر تغييرية ويقدم كقوى موقفاً أكثر معارضة للسائد، فإن اليسار الماركسي ومن لفّ لفّه وأخذ بمقولاته، قومياً وإسلامياً ، مرتبكٌ يحاول بعضه العمل بمنطق اليسار واستعجال المشاركة في لعبة السلطة ويحاول بعضه الآخر مراجعة التجربة السابقة وينتظر الآخذين به خارجهما بوصلة للعمل، بعد تضعضع عاشوه ورأوه، ماضياً وحاضراً.
وإذا كان اليسار والمستعجلون للوصول إلى السلطة من اليسار الماركسي غير مهتمين، وربما غير معنيين، بالمراجعة لتقديم رؤية جديدة، فإنّ ذلك لا يعفيهم من تمايز في القضية المركزية وفي الأولويات وفي صياغة البرنامج، بما يعنيه من دقة في تحديد ميزان القوى والقدرة على الإنجاز في المدى الزمني والجغرافي.
وقد تكون الطائفية، باعتبارها نظاماً لتوزيع الحصص وباعتبارها ذهنية للتعاطي مع القضايا العامة، هي القضية الأهم، فهي المدخل للتدخل الخارجي وهي عدة الحروب الأهلية وغير الأهلية وهي العائق أمام بناء الدولة المدنية.
ومواجهة الطائفية هي، بشكل من الأشكال مواجهة للإمبريالية وللرأسمالية المتوحشة وللصهيونية وهي، بشكل من الأشكال، مواجهة للاحتكار ودعم للمحرومين والهامشيين والعمال والفلاحين، وهي المدخل للحداثة والتقدم.
هذه المواجهة الرافضة للطائفية ضمن مشروع سلطوي، أي الرافضة لها والمستعجلة للوصول إلى موقع سلطوي، هي بغض النظر عن نوايا العاملين فيها اللاطائفية طائفية بحكم ما يفترضه المشروع السلطوي من انغماس بالتحالفات مع قوى طائفية، واستجداء لقواعد طائفية، وهذا ما حصل مع قوى وأحزاب شيوعية وتقدمية وقومية ولاطائفية قبيل حرب 1975 وأثناءها وهو ما يحصل مع قوى شيوعية وتقدمية وقومية ولاطائفية إبان الأزمة الراهنة.
وقد يكون مطلب بناء الدولة المدنية هو القضية المركزية في مواجهة الطائفية والمدخل الضروري لتطوير النظام السياسي ولمواجهة العدو الصهيوني ولمقارعة الامبريالية.
أما اليسار الماركسي فيفترض به إعادة قراءة التجربة السابقة وهزّ المسلمات السائدة باتجاه الإجابة عما طرح من تساؤلات وما قد يطرح وقد تكون هذه المهمة الأولى له لا التسابق للالتحاق بالسلطة أو للوصول إلى موقع فيها أو عند أحد أوليائها.
أما المهمة الثانية فهي بث الوعي النقدي للسائد من الأفكار والممارسات واستنهاض اللاطائفيين، أفراداً ومجموعات متناثرة، وبناء المرجعية التي يقيس على ضوئها التغييريون ممارساتهم وإنتاج الذهنية الموصلة إلى بناء مشروع سياسي لا طائفي.
1 ـ تستخدم الفئة المجتمعية في هذا النص بمعنى الفئة المعرفية، لا الإحصائية، راجع: عبد الله إبراهيم، الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، المركز الثقافي العربي – بيروت، ط. 1، 2005، ص. 125 - 126.
2 ـ وردت هذه النسب في كتاب كمال حمدان «في الأزمة اللبنانية» الصادر عن دار الفارابي، بيروت 1998، ويبين الجدول على الصفحة 92 تطور التوزيع القطاعي للناتج القومي وللسكان الناشطين
3 ـ عرض كسبار في كتابه اقتصاد لبنان السياسي 1948 – 2002 في حدود الليبرالية الاقتصادية، دار النهار، بيروت، الوضع الاقتصادي اللبناني هذا.

فارس أشتي السفير 27 آذار 2010

اليسار: بين الترميم وإعادة التأسيس

نُشِرت في الآونة الأخيرة عدة مقالات تتعاطى شؤون واقع اليسار اللبناني وشجونه، وخاصة الحزب الشيوعي كونه الأعرق و الأبرز ـ سابقا وحاضراً ـ بين قوى اليسار على الساحة اللبنانيّة. فالكل يتفق على أنّ حالة اليسار ودوره الراهن ليست شبه غائبة فحسب بل غائبة كليّاً، بعد أن كان حضوره مميزاً وفاعلاً لسنوات طويلة، عن التأثير في مجريات الأحداث التي ترسم حاضر لبنان والمنطقة العربيّة ومستقبلهما لقادم السنين. كما أنّ الكل يتفق على أنّ دوراً ليسار ما قد أصبح أكثر من ضرورة ملحّة نظراً لطبيعة المعضلات والأزمات السياسيّة والاجتماعيّة التي يمرّ بها لبنان. لقد برهنت التجارب الملموسة ليس فقط عن عجز النظام السياسي الحالي ـ بـ«موالاته» و«معارضته» ـ عن إيجاد الحلول لأزمته حتى المؤقت منها، بل أيضا برهنت على أن طبيعة هذه الأزمة ترتقي إلى مستوى الخطر الوجودي على لبنان كوطن موحد لكل أبنائه.
ليس بجديد القول إنّ الطبقة الحاكمة ـ بطوائفها ومؤسّساتها، «معارضة» و«موالاة» ـ في أزمة. ميزة الأزمة تكمن ليس فقط في عجز البرجوازيّة اللبنانيّة تاريخيا عن بناء دولة حديثة ـ كما فعلت البرجوازية الأوروبيّة ـ على حساب النظام الطائفي، وهذا ما تطرق إليه مهدي عامل في كتاباته حول الطائفيّة؛ بل راهنا في عجز الطبقة الحاكمة عن إعادة إنتاج سلطتها وهيمنتها بشكل «طبيعي» كما كان يجري في العقود الماضية. بدءا بعدم إمكانيّة انتخاب رئيس جمهوريّة بشكل طبيعي إلى عدم إمكانيّة تشكيل حكومة بشكل طبيعي أيضاً خير دليل على أن الأزمة بلغت مرحلة متقدمة. من هنا بدأ تساؤل مشروع من كتّاب كثيرين على صفحات جريدتي «الأخبار» و«السفير»، وخاصة بمناسبة العيد الخامس والثمانين للحزب الشيوعي، عن اليسار ودوره الراهن/الغائب والمستقبلي في عمليّة إنقاذ الوطن.
فبينما دعا سماح إدريس إلى ترميم اليسار (الأخبار 10/9/2009)، من خلال «القيام بنقد موضوعي وذاتي صارم لتجربة العمل المشترك في السنوات الماضية» كخطوة أولى وضروريّة من أجل نجاح أي مشروع أو تحالف يساري مستقبلي، جاءت دعوة فواز طرابلسي لإعادة تأسيس اليسار بدلاً من ترميمه: «دعوة لترميم اليسار؟ الأحرى لإعادة تأسيسه. أو البدء من البدايات. والبدء من البداية يعني المزج الخلاق بين حكمة السنوات المتراكمة وحماسة البدايات» («السفير» 21/10/2009) بالنسبة لفواز الطرابلسي لقد ولى زمن الترميم وحان زمن إعادة التأسيس أو زمن البدايات. إعادة التأسيس تختلف عن الترميم. فالأول يرفض الأساس ويدعو لأساس آخر جديد. أو قل لبداية جديدة؛ لا بل إلى «البدء من البدايات.» فالبداية تعني طريقاً واحداً ونصاً واحداً وقراءة واحدة. أما البدايات فتعني تعدد الطرق والنصوص والقراءات. أما الثاني، الترميم، فيدعو لإعادة البناء على الأنقاض دون أن يرفض الأساس. إذاً الترميم إعادة بناء ما تهدم دون المسّ بالأساس القديم المتجدد من خلال ممارسة النقد الصارم الجاد الذي يقوم على المساءلة والمحاسبة. لقد حدد إدريس خارطة طريق لـ«ترميم اليسار» ـ دون المسّ بهياكل التنظيمات اليساريّة ـ قائمة على النقد الذاتي الصارم للتجارب الماضية. وساهم في هذا المجال من خلال قراءة نقديّة متواضعة لتجربته في نادي الساحة (1999ـ2006) فبالرغم من التأثير المحلي والمحدود جداً لهذا النادي فإنه يختصر أيضا قضيّة أساسيّة لازمت القوى اليساريّة الفاعلة على مساحة الوطن وهي العلاقة الملتبسة بين «القومي» و«الوطني» حيث بنظره «غلّب القضيّة القوميّة (الفلسطينيّة بوجه خاص) على القضايا المحليّة (العلمنة ، الزواج المدني، المسألة الاقتصاديّة)».
إنّ هذه العلاقة الملتبسة رافقت مجمل العمل السياسي اليساري بكل مراحله وصوره وخاصة في مرحلة الحركة الوطنيّة حيث غلبت البعد الفلسطيني، بأولوياته وهمومه وصراعاته الداخليّة، لأنه كان المستهدف أولاً من قبل إسرائيل وثانيا من قبل من أراد إلحاق منظمة التحرير في ذلك الوقت بالقيادة القطريّة، على مجمل العمل الوطني اللبناني برنامجا وممارسة، فغابت القضيّة الوطنيّة اللبنانيّة عن الأولويات، فخسرت فلسطين وخسر لبنان.
أما دعوة فواز طرابلسي لإعادة تأسيس اليسار فدعوة غامضة تحتاج إلى شرح وتوضيح ونقاش. هل هي دعوة إلى مؤتمر تأسيسي ليسار جديد يكون الحزب الشيوعي في قلبه من خلال حزب الشعب؟ أم دعوة لتأسيس يسار جديد مستقل عن الحزب الشيوعي ومتفاعل معه، والتي تطرق إليها بعض اليساريين واعتبرها سليمان تقي الدين فكرة ما زالت صالحة وأكثر واقعيّة. خيار إعادة تأسيس اليسار من خلال حزب الشعب أو بشكل مستقل أو ترميم اليسار لا يلغي طرح ومناقشة الأسئلة الأساسيّة الملحّة، التي تضمنتها، بالإضافة إلى مقالة فواز طرابلسي، مقالة سليمان تقي الدين في «السفير» (/11/5/209)، كسؤال «الهويّة والموقع والدور» حيث يرى تقي الدين أنه أولاً: ليس هناك «تناقض بين المسألة الاجتماعيّة والمسألتين الوطنيّة والقوميّة»، وثانياً: أنّ الانحياز المسبق «إلى جانب الفئات الاجتماعيّة الفقيرة والمهمشة» وبناء الدولة الحديثة هو من معالم اليسار المطلوب. إذا كان «لبنان بحاجة إلى يسار» كما يقول طرابلسي، يصبح السؤال ما سر الغياب الفاعل، أو بلغة أوضح الانحسار، لهذا اليسار عن الساحة السياسيّة والثقافيّة؟ الجواب بالنسبة إلى طرابلسي يكمن في كون فعل الإرادة هو الغائب الأكبر حيث كرّر في مقالة «لبنان بحاجة إلى يسار» تعبير: «اليسار قادر إن شاء واستطاع ....» عدة مرات. فـ«اليسار قادر إن شاء...»، في نظر طرابلسي إعادة الاعتبار «للعلمانيّة بما هي الحياد الديني للدولة ـ للدولة لا للمجتمع». وكذلك هو «قادر إن شاء .....» على أن يطرح مقاربة جديدة للمسألة الطائفيّة؛ كما أنه «قادر إن شاء واستطاع ...» على أن يقول بدعم «القطاعات الإنتاجيّة وتخليصها من هيمنة حزب المستوردين والمصرفيين» كخطوة لتأمين السيادة والاستقلال. السؤال إذاً متى يحزم اليسار أمره ويشاء؟ هذا السؤال يبقى دون جواب من قبل فواز طرابلسي ومن قبل أكثر العاملين في حقل العمل السياسي اليساري. هنا لنا بعض الملاحظات عن اليسار المنشود وهويته.
أولاًً: اليسار المنشود لن يكون فقط نتيجة حوار، أو كما يقول سماح إدريس «مثاقفة يساريّة»، بالرغم من أهميتها وضرورتها، بين قوى اليسار على اختلاف مراجعها ومشاربها الفكريّة. فكما للحوار منافعه فللحوار أيضا حدود لا يستطيع القفز فوقها وتخطيها. فبرنامج اليسار المنشود وهمومه النظريّة وطروحاته السياسيّة والاجتماعيّة لن تحسم بين قوى اليسار على طاولة النقاش، بل من خلال العلاقة الحيّة والتأثير المتبادل بين النقاشات الفكريّة والنظريّة من جهة والممارسة السياسيّة من خلال التجارب المعيشة من جهة أخرى. هكذا يكون اليسار يساراً حركيا، ينصت لنبضات الواقع وهمومه، يتأثر ويؤثر به، يحاول من خلال الممارسة السياسيّة «المندعكة» بالتجارب المعيشة إعادة قراءة برنامجه السياسي باستمرار وبالتالي إعادة صياغة الواقع وصنعه.
ثانياً: انّ النشاطات الاحتجاجيّة والمطلبيّة التي دعا إليها سابقا كل من الحزب الشيوعي وحركة الشعب والتنظيم الشعبي الناصري واللقاء اليساري التشاوري خطوة إن تلتها خطوات تشكل خارطة طريق لقوى اليسار. إن هذه النشاطات التي يتجلّى في صلبها ليس فقط البعد الطبقي لأزمة الحكم في لبنان بل أيضا تحديد طريق لمّ شمل الوطن المفتَتْ والمُمَزَّق على يد الطبقة الحاكمة، «معارضة» و«موالاة»، بطوائفها المختلفة، الطوائف التي ما فتئت تمارس إحدى مهماتها التاريخيّة وهي حجب البعد الطبقي، وإن يكن ليس البعد الوحيد، عن طبيعة الأزمة الراهنة، للتمكن من إعادة إنتاج هيمنتها وإحكام السيطرة لزمن أطول. لذلك نرى أن دعوات الحزب الشيوعي على لسان أمينه العام خالد حدادة لتصعيد النشاط السياسي ـ الاجتماعي لها أبعاد عدة يكمن في صلبها 1ـ عودة اليسار للعب دوره الأصيل والذي هو مبرر وجوده كيسار. 2ـ اعتبار النضال الطبقي أرضيّة مشتركة لقوى اليسار مجتمعة منها يستمد تجاربه الجديدة كمادة خام للنقاشات والحوارات السياسيّة والفكريّة بين مختلف تياراته. و3ـ إعادة لملمة ما تبقى من حس وممارسة نقابيين خارج إطار الهيمنة الطائفيّة كخطوة أولى نحو نقابات حرة موحَّدة وموحِّدة، عرفها لبنان طيلة تاريخه منذ بداية القرن العشرين، شكلت محطات مضيئة من تاريخ لبنان الحديث. وما تحرّك الأساتذة الأخير سوى دليل قاطع على أن شعلة العمل النقابي الحر بالرغم من الضربات التي تعرضت له خلال العشرين سنة الماضية ما زالت حيّة.
ثالثاً ـ تطرقت بعض الكتابات الأخيرة عن غياب الثقافة عن نشاطات اليسار اللبناني وخاصة الحزب الشيوعي خلال العقدين الأخيرين على الأقل. ليس هناك تجنّي على اليسار وخاصة على الحزب الشيوعي اللبناني من قبل القائلين بغياب البعد الثقافي نشاطا وإنتاجاً عن اهتمامات الحزب. فهذا واقع يعرفه الناشط ويلمسه القارئ ويتساءل عنه، بحيرة، المثقّفون على اختلاف مشاربهم الفكريّة.
كانت مؤتمرات الحزب الشيوعي ورشات سياسيّة وفكريّة وثقافيّة، همها زعزعة وخلخلة ثقافة الهيمنة والرضوخ وقبول الواقع كما هو من جهة، وطرح الأسئلة الصعبة على الذات والغير من جهة أخرى؛ بالإضافة إلى رصد كل ما هو جديد والانفتاح عليه دون تردد قراءة ونقداً. فغابت تلك المؤتمرات وأصبحت مهمة المؤتمر تقتصر على انتخاب المسؤولين وتوزيع «المهام». كانت هناك صحف يوميّة ومجلات أسبوعيّة ودوريات شهريّة منبراً لأهل الفكر والثقافة من اليساريين وأصدقائهم من الديموقراطيين الوطنيين. أسماء لامعة في سماء الثقافة العربيّة خطت أولى خطواتها ـ فكراً وأدبا وشعراً ـ على صفحات «الدهور» و«المكشوف» و«الطريق» و«الثقافة الوطنيّة» و«صوت الشعب» و«النداء» و«الأخبار». اليسار بحاجة ملحّة لإعادة الاعتبار للعمل الفكري والثقافي اللذين يشكلان «وقوداً نضالياً» ـ على حد قول محمد دكروب ـ من يفقدهما خسر المعركة السياسيّة بكل أبعادها. أين مثقفو اليسار من دراسة الفكر السياسي الإسلامي وتحدّياته ورسم طريق الحوار معه والتلاقي والافتراق؟ أين مثقفو اليسار من دراسة العولمة والثورة المعلوماتيّة الجديدة وأثرهما سلبا وإيجابا ليس فقط في التغيّرات الاجتماعيّة وتفكك روابط القديم وأواصره بل في المساهمة بدفع عمليّة التغيير إلى الأمام وإنضاجها. أين مثقفو اليسار من تحليل المسألة الطائفيّة في ضوء الواقع اللبناني الناشئ عن بروز المقاومة على الساحة اللبنانيّة بحلتها الأخيرة /المذهبيّة من جهة وكثرة الدعوات المؤيدة والمعارضة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة ـ بعضها كلام حق يراد به باطل ـ في غياب تام للقوى الاجتماعيّة والسياسيّة الحاضنة والضامنة لعمليّة إلغاء الطائفيّة السياسية لئلا تضل الطريق وتتحول إلى هيمنة جديدة ذات بعد طائفي.
رابعاً: تكمن صياغة التحالفات والتفاهمات السياسيّة في قلب عمليّة «إعادة تأسيس» أو «ترميم اليسار» وبرنامجه. لقد ارتفعت في أوساط اليسار وبعض كتّابه وتيرة خطاب «جديد» وبعيد عن التراث اليساري اللبناني، في صلبه تكمن دعوة واضحة وصريحة بأنّ كل القوى السياسيّة الفاعلة على الساحة اللبنانيّة هي جزء من تحالف «طبقي ـ طائفي»، ما يجمعهم جوهري وما يفرقهم عرضي. وبناء على هذا التحديد الساكن ليس هناك ما يجمع بين التيارات اليساريّة الصادقة بعلمانيتها وبانحيازها نحو الفئات الاجتماعيّة المهمشة من جهة وسائر قوى التحالف «الطبقي ـ الطائفي» من جهة أخرى. هكذا يصبح اليسار بخياره خارج دائرة الفعل والتأثير والاحتكاك والتواصل مع شرائح واسعة من اللبنانيين، لا بل مع الأكثريّة الساحقة، يتقاطعون مع الخطاب اليساري بأكثر من موقع.
خامساً: النقاش في شؤون اليسار وشجونه هو نقاش حول المستقبل. إنه نقاش في التحرير والديموقراطيّة والاشتراكيّة والحداثة والعولمة والدولة والعلمانيّة وحريّة التعبير وحقوق المرأة والعمل النقابي وبرامج التربيّة والتعليم. إنه نقاش ونقد لجميع التجارب السابقة على الساحتين اللبنانيّة والعربية؛ وخاصة تجربة الفكر القومي المحقَّق وممارسته وما حملته من مآس وخراب للعالم العربي وخاصة في صيغتها الصداميّة. إن مشاركة الحزب الشيوعي اللبناني أبرز قوى اليسار اللبنانية في الذكرى الثالثة لصدام حسين بشخص رياض صوما، الذي قال إن تكريم صدام حسين هو «تكريم لمواقفه الوطنيّة والقوميّة وإصراره على خيار المواجهة للقوى الاستعماريّة المتغطرسة في العالم»، تثير معاً الاستغراب والاستفزاز لكل يساري، عراقيا كان أم عربيا. فإن كانت مواقف صدام حسين وتجربته وممارسته بوصلة اليسار المنشود، فهذا يعني أن هذا اليسار ليس جدياً، إن كان في دعوته وتشديده على الديموقراطية أو في مقاربته لموضوع الوحدة العربيّة خارج إطار الضمّ القسري أو الوصاية، أو في تعاطيه مع «الأقليات» غير العربية في إطار فكر قومي عربي إنساني.

إسكندر منصور [ كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة

السفير 27 آذار 2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق