الثلاثاء، 21 يونيو 2011

شرح لأطروحات ماركس الإحدى عشر عن فيورباخ

للمنظر الماركسي أوغست كورنو في كتابه (أصول الفكر الماركسي) طباعة وإعداد أحمد عبد الستار
إن الهدف من (أطروحات عن فيورباخ) 1845 هو إعطاء أسباب لهذا الهجر الثاني. لقد عرض كتاب (العائلة المقدسة) بشكل غير مترابط نتيجة تطور فكر ماركس خلال إقامته في باريس, وهي فترة خصبة بنوع خاص بالنسبة له. وأصبحت مهمته الآن إيضاح أفكاره وترتيبها وتجميعها وقد قام بهذا بمصطلحات واضحة رائعة في الإحدى عشر أطروحة عن فيورباخ وفيها وضع على غرار نقد مماثل للمثالية والمادية الآلية الخطوط العامة للمادية التاريخية والجدلية. والفكرة الأساسية لهذا النقد المزدوج هي فكرة الفعل الذي فهمه ماركس بمعنى النشاط العملي, أي العمل. فالنقائص الأساسية للمثالية والمادية الآلية تصدر من تجاهلهما لطبيعة الفعل ودوره الثوري حتى إن كلتا هاتين النظريتين عاجزتان عن تفسير تطور العالم وانحدارا إلى التصورات الخيالية.
إن المادية الآلية – على عكس المثالية التي ترد الواقع العيني إلى الفكرة – حريصة على تمييز الشيء – المحسوس عن الفكرة, لكنها لا تعتبر العالم الخارجي إلا على أنه موضوع للإدراك الحسي لا كموضوع للفعل, وتتخذ موقفا تأمليا وسالبا فحسب إزاءه وتفشل في إدراك أن تطور العالم هو نتاج النشاط الإنساني الذي يوّحد بين الإنسان والبيئة التي يغيرها.
وللمثالية الضعف المقابل, فهي تؤكد الدور الكبير للنشاط الإنساني الذي تعتبر الواقع الجوهري. وعلى أية حال, لما كانت قد تخلصت من الواقع العيني كواقع عيني برده إلى الفعل, فإنها قصرت نشاط الإنسان على النشاط الروحاني ومن ثم تجعل من الحياة الإنسانية, وقد سلبت من عنصرها العيني, وهماً (الأطروحة الأولى).
ولا يمكن لوحدة الفكر والواقع العيني, الإنسان والعالم الخارجي, أن تتحقق إلا بمنح العالم الخارجي واقعه الخاص مع الاستمرار في اعتبار البيئة في واقعها العيني كنتاج للنشاط العيني للإنسان. وهذا هو ما تفعله المادية التاريخية والجدلية, وعلى أساس هذه الفكرة الخاصة باعتبار الفعل نشاطا عمليا, يمكن بهذا وحده أن نفسر اندماج الإنسان في العالم ومجرى التاريخ.
وهذه المادية, شأنها شأن أية مادية أخرى, تقف ضد الاعتراض المثالي الرئيسي من أنه لا يمكن البرهنة على أن الأفكار التي لدينا عن الأشياء تنطبق على موضوعات واقعية متميزة عن أنفسنا. إن المثالية تنكر الواقع الموضوعي للعالم الخارجي وتؤكد استحالة حصول الإنسان على الواقع العيني والحقيقة الموضوعية. وقد رّد ماركس على هذا فقال إن الإنسان لا يعرف العالم إلا كموضوع لخبرته, وهذا فأن مشكلة واقعية العالم الموضوعي ليست مشكلة نظرية كما يؤكد المثاليون, بل هي مشكلة عملية. ليس الفكر المجرد بذاته هو الذي يستطيع أن يبرهن على واقع المعرفة وصدقها. فهذا لا يمكن أن يحث إلا بالنشاط العملي, بإظهار تأثير المعرفة. وأن البحث عن وجود ترتسندنتالي خارج المعرفة التي يأتي من النشاط العملي إنما هو بحث عن شيء لا يوجد أو على الأقل لا يملك حقيقة لنا (الأطروحة الثانية).
والنشاط العملي الذي هو أساس اليقين الذي لدينا عن حقيقة العالم الخارجي هو أيضا العامل أو الأداة الثورية التي تمكن الإنسان من تغيير العالم . وعدم اكتراث فيورباخ بالطبيعة ودور العمل هو الذي أفضى به إلى أن يطرح المشكلة الدينية والمشكلة الاجتماعية على المستوى الأيديولوجي ويفسر عدم تمكنه من حلهما. لقد لام فيورباخ الدين والمثالية على فشلهما في أن يدخلا في الاعتبار الطبيعة الحسية العينية للإنسان, وقال إن على الإنسان أن يظل دائما على صلة بالواقع العيني, الذي يجعله هو وحده واعيا بطبيعته الحقة. ولكن, وهو يتماشى مع المادية الآلية, لما كان يرى هذه الصلة بالعالم الخارجي على شكل إدراك حسي أو تأملي لا على شكل نشاط عملي, فقد جرّدها من كل فاعلية (الأطروحة الخامسة).
ومن هنا يأتي عدم نقد فيورباخ للدين والمجتمع , إن تحليله للدين إنما يقيم تشابهاً بين الموجود الديني والموجود الإنساني , أي أنه يقيم تشابها بين ماهية الدين والطبيعة الإنسانية, لكنه لم ير الواقع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية, وتصورّها بشكل تجريدي في ذاتها خارج المجتمع والتاريخ, ورد الإنسانية إلى مفهوم غامض خاص كأنواع أي بمجموع من الأفراد غير المتميزين الذين تؤلف بينهم روابط طبيعية, على حين تتكون الإنسانية بالفعل بجماع العلاقات الاجتماعية (الأطروحة السادسة).
ولما كان لدى فيورباخ تصور مجرد للفرد والمجتمع, فقد طرح مشكلة الاغتراب الديني وازدواج العالم على مستوى تجريدي أيضا وأدلى بتفسير سيكولوجي لهذه الثنائية بدل ا ن يبحث عن أسبابها الاجتماعية. ولما كان قد فشل في تبين أن الوهم الديني ليس إلا صدعا عميقا في المجتمع القائم, فقد ظن أن كل ما هو ضروري لتبديد هذا الوهم هو إظهار أساسه الإنساني, في حين أن التناقضات الاجتماعية التي ينشأ منها هي التي يجب القضاء عليها, ولن يكون هذا ممكنا إلا بعمل النشاط الثوري (الأطروحة الرابعة).
ولما كان فيورباخ قد وضع المشكلة الدينية على المستوى السيكولوجي, فقد أناط بالتربية بصفة خاصة أن تبدد الوهم الديني وان تغير المجتمع. وهكذا قسم المجتمع إلى طبقتين: المربّون, ورجال الإصلاح, وجمهرة الجهلة, أي الحشد السلبي الذي عليهم أن يربوه. وهذه الفكرة الرجعية التي تبرر وجود طبقة سائدة تتجاهل كون أن المربي نفسه يجب أن تربيه بيئته وأن بيئته إنما تتغير دائماً دائماً بالنشاط الإنساني (الأطروحة الثالثة).
والحقيقة أن الظاهرة الدينية هي ظاهرة اجتماعية, والفرد المجرد الذي ارجع إليه فيورباخ الإنسان هو نفسه نتاج شكل خاص للمجتمع (الأطروحة السابعة).
ولكي نتمكن من حل المشكلة الدينية أو أي من المشكلات التي يواجهها الإنسان, علينا أن نتخذ نظرة اجتماعية ونحلل العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين الناس والظروف الحقيقية لحياتهم . وحينئذ سنفهم الأيديولوجيات التي تعبر عن هذه الظروف والعلاقات على المستوى الروحاني, وبالتالي ستتضح أسرار الدين (الأطروحة الثامنة).
ولما كان فيورباخ ينظر إلى علاقات الإنسان بالعالم الخارجي على شكل الإدراك الحسي لا على شكل النشاط العملي, فإنه هو والمادية الآلية, لم يتجاوزا فكرة الإنسان باعتباره فردا معزولاً, ولهذا لم يتمكنا من تفسير لمكان الإنسان في العالم وفعل هذا العالم عليه (الأطروحة التاسعة).
وهذا التصور الفرداني للإنسان, أي التصور المادي الآلي, هو من مميزات المجتمع البرجوازي الذي يكون انعكاسه هذه المادية. أما المادية التاريخية والجدلية فتتجاوز وجهة النظر الفردانية هذه, وتعكس نمطا جديدا للمجتمع تتحقق فيه طبيعة الإنسان الحقة. هذه المادية الجديدة تبين كيف يضفي الإنسان على الطبيعة طابعا إنسانيا, وذلك يجعلها تتكيف مع احتياجاته, وبجعل المجتمع إنسانيا (الأطروحة العاشرة).
ولهذا لا تعلو هذه المادية على المادية الآلية فحسب , بل ترتفع على الفلسفة جميعها بصفة عامة لان الفلسفة, وهي معنيّة أساسا بفهم العالم, ترى أن الفكر هو الرابطة الأولية بين الإنسان والواقع العيني, وهي ترد العالم إلى وجهات نظر مختلفة ترى أن الوعي أو الفكر قد يستوعب العالم ويعطي تفسيرات عديدة له. إن المادية التاريخية والجدلية ترفض وجهة النظر التأملية هذه وتُحل في المحل الأول الفعل الذي يسمح وحده بدخول فعّال للإنسان في العالم الخارجي, إن المادية الجديدة ترى أن النشاط العملي, لا الفكر المجرد, هو الرابطة الحقيقية بين الإنسان والواقع العيني, ولهذا لا يجب أن يكون نشاط الإنسان مجرد نشاط روحاني قاصر على المعرفة: بل إن يهدف أساسا إلى ربط المعرفة بالعمل لكي يمكن تغيير العالم . وهكذا مضى الفلاسفة في (تفسير) العالم فحسب بطرق متعددة, والمهمة هي (تغييره), (الأطروحة الحادية عشرة).
لقد أوضح ماركس ودعم في هذه الأطروحات العناصر الرئيسية لهذا التصور الجديد للمادية الذي به وصل إلى تصور جديد للشيوعية أيضا, وهي شيوعية لا تقوم على رؤية مثالية للمجتمع القادم, بل على تحليل للحركة التاريخية والجدلية للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي. لقد درس ماركس الإنسان العيني, لا كما يُرى في علاقاته, بفكرة ميتافيزيقية, كما عند هيغل وبرونو باور , أو بمفهوم غامض عن الإنسانية, كما عند فيورباخ وهس, بل في علاقاته الاقتصادية والاجتماعية, والنقطة الكلية في أفكار ماركس هي فكرة الفعل, باعتباره نشاطا عينيا عمليا, أي باعتباره عملا بحيث يكون هو الرابطة بين الإنسان والعالم الخارجي ووسيلة تغيير ذلك العالم. ولقد ربط ماركس بفكرة العمل هذه فكرة التخلص من العمل المغترب الذي هو من لوازم الرأسمالية, وهكذا ربط المادية التاريخية والجدلية بالشيوعية في تصور واحد, ورفض المثالية والمادية الآلية وكذلك الاشتراكية الخيالية واعتبرها جميعا غير قادرتين على تفسير اندماج الإنسان في العالم وسير التاريخ.
ولما كان العمل قد اعتبر هو الواقع الجوهري ولم يرد إلى الفعل الروحاني ولم يوضع على مستوى التعارض بين المثالي والواقعي , بل اعتبر نشاطا عمليا يوّحد بين الذات والموضوع ويدمج الإنسان بفعاليته في العالم ويهدف إلى تغيير العالم: لما كان العمل قد نظر إليه على هذا النحو فأن ماركس كان عليه بعدئذ أن يدرس أسباب ذلك التغير ووسيلته, وقد قام بهذا في العمل الكبير الثاني الذي كتبه مع إنجلز وهو (الإيديولوجيا الألمانية).

أوغست كورنو - الحوار المتمدن - العدد: 2635 - 2009 / 5 / 3

0 تعليقات::

إرسال تعليق