الأحد، 26 يونيو 2011

محمد أركون... وأسئلة "الفكر النقدي المغاربي"

محمد أركون... وأسئلة "الفكر النقدي المغاربي"

الإسلام، الحداثة والمستقبل


ألقى المفكر محمد أركون محاضرة بالمعهد الثقافي بمراكش يوم 21 مارس 2006 تحت عنوان "الفكر النقدي المغاربي". وذلك في إطار الجامعة المواطنة، استجابة لدعوة خاصة من المدرسة العليا للتسيير، وقد شهدت حضورا مكثفا من قبل الجمهور المهتم والفعاليات الثقافية والفكرية بالمدينة الحمراء.
افتتح محمد أركون حديثه بالسؤال التالي: هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن فكر نقدي مغاربي؟
لقد أكد أركون في معرض إجابته عن السؤال على أهمية المقاربة النقدية لماضي (المغرب بالجمع). من أجل رصد الدينامية التاريخية لمسار المغرب ضمن التاريخ الشامل، في محاولة لتحديد الشروط الممكنة لإدخال المغرب ضمن الدينامية التاريخية، ومن أجل المضي نحو إنتاج طرق أخرى لإبداع التاريخ. مركزا على التحولات الثقافية والتكنولوجية والعلمية التي يشهدها التاريخ الكوني والتي تظل البلدان المغاربية، رغم ذلك، عاجزة عن التفاعل معها رغم الوضعية الجيو تاريخية للفضاء المغاربي، مبينا أن شروط الاستقلال لم تمكن هذه البلدان من فتح آفاق جديدة من أجل تجاوز الوضعية التاريخية واللسانية والثقافية التي توجد عليها.
إن إمكانية التفكير في مستقبل جديد تـظل مرتبطة بسؤال الانتماء المغاربي للفضاء المتوسطي والإفريقي والعربي الإسلامي. وذلك في أفق استعادة التضامن التاريخي مع دول إفريقيا جنوب الصحراء ومع الدول المتوسطية ولاحظ أن هذه الرؤية لم تؤخذ بعين الاعتبار. ومن ثم يلزمنا اليوم أخذ المسؤولية من أجل الخروج من الوضعية التي توجد عليها البلدان المغاربية بكل تناقضاتها، وفي سبيل المقارنة والتحليل بين مرحلة النضال من أجل الاستقلال المغاربي وبين ما شهدته أوروبا من حروب خاصة بعد 1945"
لاحظ المفكر محمد أركون أن بلدان المغرب لم تؤسس لخطاب تأسيسي، بقدر ما أسست لخطاب وطني مهووس بالإيديولوجيا، في حين فإن أوروبا التي خرجت من حروبها بوعي مجروح. لكنها أسهمت في التنوير وأسست لمجتمع الحداثة، كما عملت على إعادة بناء علاقة الإنسان بالإنسان، فعبر التنوير أحدثت القطيعة من المراحل السالفة، وأعادت النظر في التأسيس لهذه العلاقة وفقا لمبادئ العقل محدثة القطعية مع المرجعية الدينية. ومعنى هذا أن المغرب (بالجمع) تأخر في الدخول إلى الحداثة، ومن هنا ضرورة إعادة كتابة التاريخ المغاربي بكل أحداثه والأمة وإحباطاته، وبدون الخوض في المعارك الاجتماعية لن تحصل أية انطلاقة باتجاه المستقبل والحداثة.
إن قراءة نقدية في نظر أركون لاستعادة الفكر النقدي المغاربي تتطلب فهم وضعنا ضمن هذا الفضاء الدولي الذي يخوض صراعا ضد الإرهاب، وبما أن الإرهاب ظاهرة يمكن أن تشهدها كل المجتمعات بما فيها الحداثية، إلا أن المساءلة الثقافية للتحرر من منظور ارتكاسي يسهم في تغذية الشعور بالعداء هذا الإطار يقترح أركون التخلص من المنظور الفقهي التيولوجي المؤسس لمفهوم المدينة، ومن ثم وجبت قراءة ثانية "لسورة التوبة" بما هي أساس المنظور التيولوجي الذي اعتمده الفقهاء والمتمثل في قتال المشتركين الذين هم أمام خيارين، إما اعتناق الإسلام أو القتل، كما يتوجب إعادة قراءة السورة 29 التي تحدد وضعية أهل الكتاب الذين يجب أن يؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون... فهناك المؤمنون/ المسلمون، وأهل الكتاب، كما أن هناك فئة الأعراب الذين تم وسمهم بالنفاق والكفر.

إن الفقهاء بنوا تصوراتهم استنادا للنص القرآني من أجل وضع تشريع تيولوجي، كما استندوا إلى وثيقة ثانية هي صحيفة المدينة.
إن الالتباس الحاصل اليوم نتيجة لعدم قيام فكر نقدي يستعيد قراءة الخطاب الديني، بناء على المعطيات التأويلية الهرمينوطيقية، وهي قراءة تستند إلى فهم تاريخية النص القرآني، وهو ما قامت به المسيحية سالفا لتتخلص من الدوغمائية.
وفي هذا السياق دعا إلى بناء نوع من التحليل النقدي يكون مبرمجا في المناهج التعليمية. وهي عملية ضرورية لبناء تحليل للخطاب بجميع أنواعه، تحليل يضع مسافة نقدية بين الذات وبين الخطاب، ذلك لأن الخطاب هو في حد ذاته فخ، إنه لا يقول ما يظهره، إنه يخفي أكثر مما يظهر
سياق هذا التصور، في نظر أركون، ناتج عن الضعف الشديد والواضح للفكر النقدي المغاربي. وهذا الضعف يتجلى في عدم الجرأة على إعادة تحليل علاقة المغاربة بين الإسلام. فالإسلام تحول بطريقة راديكالية إلى طقوس جماعية في المساجد، في الحج، في التعلق بمظهرية الحجاب.
إن الإسلام لم يوضع بعد ضمن ورش القراءة بقصد التساؤل عن الكيفية التي يجب أن نعيد من خلالها تأسيس الإسلام داخل التوحيدية في الفضاء المتوسطي.
إنه شرط أساسي للانتماء المشترك والإيجابي. لقد تخلف المغاربيون عن مجرى الحداثة منذ القرن 16 إلى اليوم، ورفضوا الأخذ بالوسائل التحليلية لمناقشة الحداثة. عبر صراعهم ضد العلوم الدخيلة والعلوم الفلسفية، وانحيازهم الدوغمائي للعلوم الدينية والنقلية. وهو ما يعني فقدان الحد الأدنى للوعي التاريخي.
إذن كيف يمكن إبداع فكر نقدي من أجل الدخول إلى السيرورة التاريخية الدينامية وما هي رهانات إعادة البناء.
إن الرهان يتمثل في تجاوز خطاب الدولة الوطنية واستعادة التعددية الثقافية والفكرية، والتخلص من النزعة الواحدية المسؤولية عن اجتثات الفكر العقلاني (الرشدي نموذجا) من اللغة العربية، والتي أسهمت في أسطرة المجتمع من خلال تحويلها للدين إلى عامل للأسطرة وليس للعقلنة.
ويرى أركون أنه بدون الرؤية النقدية فسنظل مغمورين بالواقع الأسطوري لتاريخنا. فاللغة العربية تظل في وظيفتها (المتصورة أسطوريا) تعمل وفق وبالتوازي مع الخطاب الإيديولوجي. ووفق هذه الشروط تم ما يسمى بالتعريب الذي يؤدي المغاربيون ثمنه اليوم. إن هذه الرؤية لا تعمل إلا على تغذية اليوتوبيا بوصفها فقدان المكان، الإحساس بالموضع، فقدان يسهم في غياب فضاء الحوار والنقد، إن اليوتوبيا مجبرة على الإخصاب والتطور في اللامكان، فهي تقدم ذاتها على أنها لا تقبل التفسير، هذا الاستلهام لوظيفة الأسطورة يتجلى في ما تمارسه الرقابة الدينية اليوم التي أضحت بمثابة حجر على العقول، وتحولت إلى الدفع بإدماج الدين في معترك السياسة بهدف دحض النقد والحفاظ على مشروعيتها، أي الإبقاء على حالة الوصاية.
وفي إجابته عن سؤال حول ما يمكن للصوفية أن تلعبه كوسيلة تنويرية للدخول للفضاء المتوسطي، أجاب أركون، بأن الصوفية هي تجربة باطنية بالعلاقة مع الألوهي، وما يمكن أن يعد تجربة باطنية لا يمكن أن يقوم الظاهرة الدينية. إن التحليل النفسي للواقعة. النفسية يعلمنا أن تحليل الخطابات اللسانية يستند إلى المرجعيات الكبرى التالية:
الوظيفة الرمزية ـ المخيال ـ الواقع الموضوعي. إن الوظيفة الرمزية والمخيال تنظران إلى الواقع من أجل بناء مثال3/ واقع رمزي. ومن هنا يتم الكلام عن الواقع بإنتاج تخيلات، ومن أجل التأثير على المخيال وبناء نماذج. فالصوفية لا يمكن أن تحل المشكل المفكر فيه الذي يحيل إلى اللامفكر فيه، والذي لم يسمح بتناوله سواء في المدرسة أو في المجتمع. وهذا نموذج جيد للالتباس الذي يوجد عليه المواطنون المغاربيون.
في ختام أجوبته دعا محمد أركون ـ الذي كانت تحليلاته مثار صمت شديد وصفه أركون بالصمت الرائع الذي يمكن من التواصل ـ دعا إلى مزيد من الانفتاح على العلوم الانسانية والاجتماعية، والمشاركة على الأقل في الحد الأدني للثقافة بالمعنى الاجتماعي الذي يهم مسألة الإنسان. عوض التقوقع داخل خطابات تسجن الفكر من أجل دعم الفكر النقدي بشرط عدم انتظار الدولة والسياسيين والتيولوجيين.
وهناك إمكانية لتجاوز حالة الانتظارية. إنها إمكانية لفتح آفاق المستقبل.

الجمعية الفلسفية المغربية

ليلنا طويل والنجوم قليلة..!!

يقول معلّق إسلاموي النـزعة في معرض نقده لمحمد أركون إن أعمال الأخير تؤدي إلى النتيجة التالية: "لا يخضع القارئ لضوابط سوى ما يمليه عليه عقله". وهذه النتيجة، في نظره، سلبية تماما، لأن في العقائد الدينية ما لا يخضع، بالضرورة، لأحكام العقل.

وأعتقد، من جانبي، بأن في الحقل الدلالي لهذه النتيجة، وتأمل ما نطقت به، وما سكتت عنه، ما يُشكل مدخلا بالغ الثراء للكلام عن مشروع المفكر الجزائري الكبير، محمد أركون، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، وعن نقّاده ومبغضيه من حرّاس ما أسماه أركون نفسه بالسياج الدوغمائي للتراث.

والواقع أن كل كلمة في هذه النتيجة تحتاج إلى تحليل خاص. فالقارئ، مثلا، مُحاصر بين مفردتي الخضوع والضوابط. وبين ما تنطوي عليه هاتان المفردتان من دلالات تحالف وتكافل وتعاضد. فالأولى تستمد شرعيتها من الثانية، ولا تحضر الثانية إذا غابت الأولى. وهذا ينطبق على أشياء كثيرة بدءا من الخضوع لقوانين المرور، مثلا، وانتهاء بما شئت من سلطات: دينية وسياسية ورياضية ومالية وأبوية..الخ.

ففي كافة تجليات الاجتماع البشري ثمة ما يستوجب الخضوع، وما لا يتحقق باعتباره خضوعا إلا إذا توفرت الضوابط. ربما لهذا السبب: رأى هيغل في الدولة، وهي أرقى أشكال الاجتماع البشري، قيدا على الحرية، وتكلّم فرويد عن خطر الدافع الجنسي على الحضارة.

فلنتوقف عند هذا القدر، ولننتقل إلى منفذ الهرب الذي فتحه أركون أمام القارئ المُحاصر بين مفردتي الخضوع والضوابط، أي إلى "سوى ما يمليه عليه عقله"، وهذا من المآخذ في نظر المعلّق. لماذا؟، لأنه يهدد بخلخلة العلاقة التقليدية والمألوفة، كما استقرت في النسق الثقافي الإسلامي، ويشترط تحكيم العقل. وهذه مُعضلة حقيقية لأن الإملاء ينطوي بدوره على دلالة الخضوع والإخضاع، لكنه أصبح هذه المرّة مشروطا بالعقل.

وهنا، قد يقول قائل: وما المشكلة، فقد كان العقل حاضرا في النسق الثقافي الإسلامي، وهناك ما لا يحصى من الشواهد التي تحض على ضرورة الاحتكام إلى العقل.

والمشكلة أن المُحاصر بين الخضوع والضوابط اسمه "القارئ"، فالكلام يدور، هنا، عن القارئ. والقارئ دلالة حديثة تماما، تنتمي إلى الأزمنة الحديثة، وقد أصبح مع انتشار الطباعة، والكتب والجرائد، ووسائل الاتصال، كينونة مستقلة، وموضوعا للتنافس.

كم كان عدد من يجيدون القراءة والكتابة في ما أصبح لاحقا العالم العربي في القرن الخامس للهجرة؟ بل كم كان عددهم قبل مائة عام؟ في العالم العربي اليوم مائة مليون من الأميين، فما أدراك بما كان عليه الحال في الماضي. وبالمناسبة، هذا يصدق، في أزمنة مضت، على أوروبا، وعلى الصين، وعلى بني البشر في كل مكان.

الثورة التي أحدثتها الطباعة في تاريخ بني البشر بلا حدود، وبلا نهاية معلومة. القارئ كينونة جديدة وحديثة. هذه الكينونة تخضع لمنطق السوق، مرّة باعتباره مستهلكا لمنتجات كتابية تستدعي امتلاك القدرة على القراءة، ومرّة باعتباره مواطنا يملك، نظريا على الأقل، حق المشاركة في الانتخابات، وإبداء الرأي في الشأن العام. وكما في كل ما يخضع لمنطق السوق، تحتدم المنافسة على القارئ.

وإذا استخدمنا فكرة ذائعة لماكس فيبر عن الأزمنة الحديثة باعتبارها لحظة نـزع السحر عن العالم، فإن اكتشاف وتعميم المطبعة كان وما يزال في طليعة المُنجزات التي نـزعت السحر عن العالم.

بيد أن الأمر لا يتوقف عند القارئ باعتباره مستهلكا لمنتجات كتابية وموضوعا للتنافس والصراع، بل يتعداه إلى حقيقة ما طرأ على مفهوم العقل نفسه من تطوّر، فما كان عقلا في أزمنة مضت لا يعتبر اليوم كذلك، إلا باعتباره موضوعا للعلوم الإنسانية.

والعقل، بهذا المعنى، مفهوم حديث، أيضا. فالمعرفة، والتأويل، واستنباط الأحكام، وبلورة المفاهيم، عمليات تحدث في التاريخ، وفي اللغة، وتتخلّق في حاضنات اجتماعية، وهي مشروطة بالسياسة وعلاقات القوّة.

ويكفي الوصول، في التحليل، إلى هذا الحد لاكتشاف أمرين أولهما أن عبارة: "لا يخضع القارئ لضوابط سوى ما يمليه عليه عقله" تختزل ما يعتمل في نفوس حرّاس السياج الدوغمائي من مخاوف، وتنم في ثانيهما عن علاقتهم الملتبسة والمأزومة بالقارئ والعقل في آن. فحرّاس السياج الدوغمائي في الحقل الثقافي الإسلامي، المتمثل في علوم وأفكار ومناهج كلاسيكية مُعتمدة، أغلقوا باب الاجتهاد منذ ألف عام. وهذا السياج يتعرّض لضغط هائل منذ أواسط القرن التاسع عشر من الداخل والخارج.

في الداخل أصبح ما لا يحصى من الناس قرّاء بعد إنشاء المدارس والجامعات، وأصبحت الضرورة تستدعي التعامل معهم كقرّاء (وهذا ما يفسر في جانب منه محاولة الاستعانة بمنجزات العلوم الطبيعية للتدليل على عدم التناقض بين العلم والدين، بل والتدليل على أسبقية المعرفة الدينية في حقل العلوم الطبيعية) ناهيك طبعا عن ظاهرة نشوء الدولة الحديثة، حتى وإن كانت هجينة، وعن الميراث الكولونيالي، وميراث الأيديولوجيات القومية والعلمنة..الخ.

ومن الخارج يضغط النجاح المادي والثقافي والعسكري والسياسي والعلمي للغرب، ويترافق ذلك مع صراعات للقوّة تميل كفتها منذ قرن ونصف القرن لصالح الغرب نفسه. ورغم محاولات متفاوتة من حيث القوة والوضوح للتأقلم، أو لبلورة دفاعات للمقاومة، إلا أن السلاح الأمضى في يد حرّاس السياج الدوغمائي يتمثل منذ سبعينيات القرن الماضي في سياسات الهوية، ويميل أكثر فأكثر إلى العنف. والمفارقة، في هذا الشأن، أن ظهور التلفزيون أنقذ حرّاس السياج من ورطة التعامل مع القارئ باعتباره كينونة جديدة وحديثة، فتحوّل الأخير إلى مُتفرج، وهذا، على أية حال، مبحث آخر.

المهم أن ما فعله أركون لا يتعدى أكثر من محاولة شجاعة لزعزعة الدعامات الأيديولوجية التي أقيم عليها ذلك السياج، في سياق مشروع أطلق عليه تسمية "الإسلاميات التطبيقية"، بمعنى التعامل مع ما أسماه "الظاهرة الدينية" باعتبارها ظاهرة تاريخية أولا، وتحليل شروط نشأتها وتطوّر منطقها الداخلي، وتفاعلها مع الحاضنة الاجتماعية، استنادا إلى معطيات ومناهج علوم التاريخ والاجتماع واللغة والنفس والإنسان ثانيا، ونقد الخطابات ذات الصلة سواء صدرت عن مستشرقين أو عن مسلمين ثالثا.

والمقصود بالظاهرة الدينية لدى أركون الأديان التوحيدية نفسها، فلا يمكن فهم الإسلام، في نظره، دون دراسة مقارنة. لذلك، لم يجد نفسه في مواجهة حرّاس السياج الدوغمائي وحسب، بل كان عليه مجابهة المستشرقين ومناهجهم من ناحية ثانية.

بيد أن مشكلة أركون في العمق لا تتمثل في نقد الحرّاس، وفي تشخيص السياج، وتفكيك الدوغما، بل في استقصاء الديناميات الأصلية التي تتمكن الظاهرة الدينية بفضلها من توليد الحرّاس، وتشييد السياج، وتخليق الدوغما، والعمل على حمايتها، وضمان ديمومتها. هنا يتداخل الميثولوجي، باللا مفكر به، والرمزي بالمادي المُعاش، واللا عقلاني بالمخيّلة الإنسانية في سعيها إلى اكتشاف المجهول.

وفي هذا كله ما يستدعي، وما يحرّض على، قراءة النصوص المؤسِسة، والسرديات الكلاسيكية، باعتبارها نتاجا لزمن بعينه، وهذا ما لا يمكن عمله، والتحقق منه، دون الاستعانة بعلوم التاريخ والأنثروبولوجيا والنفس والاجتماع، والفلسفة، واللغة، أي بما أصبح متوفرا لدينا من مناهج وأدوات تحليلية حديثة.

وما يترتب على ذلك من معرفة ليس نهائيا بطبيعة الحال، بل عرضة لتحوّلات دائمة تفرضها حقيقة التطوّر في مناهج العلوم، وبهذا المعنى لا تكف النصوص والسرديات عن الحياة، بل تكتسب حياة ودلالات جديدة، مصدرها التوتر الدائم بين المعرفة وموضوعها وسبل تحقيقها. وفي هذا تحرير للعقل.

وفي جميع الأحوال، انخرط أركون في مشروعه الكبير باعتباره أستاذا في الجامعة، لم يكن النشاط السياسي بالمعنى اليومي هما من همومه، ومارس وظيفته كمنوّر ومجتهد. كان واسع الاطلاع وثاقب النظر في العلوم الإسلامية، والعلوم الغربية الحديثة، على حد سواء. ولا يمكن الكلام عن ميراث محمد أركون المعروف لدى القارئ العربي دون الإشارة إلى ما بذله هاشم صالح، وهو مثقف معروف، وتلميذ من تلامذة أركون، من جهد، وما أنفقه من وقت، على مدر عقود، في ترجمة محاضرات ومقالات ودراسات أركون ونشرها باللغة العربية.

ومن اللافت للنظر ملاحظة أركون، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول "سبتمبر" الإرهابية في الولايات المتحدة، وبداية ما سيعرف لاحقا بالحرب على الإرهاب، فقد لاحظ أن الحكومات الغربية والأنظمة القائمة في العالمين العربي والإسلامي تعمل على تنشيط وإحياء وتعميم الإسلام المسالم والشعبي للطرق الصوفية لمواجهة إسلام القاعدة.

ويتجاهل القائمون على هذه المحاولة، في نظره، حقيقة أن ذلك ما تمرّد عليه القوميون والاشتراكيون العرب والأتراك، في عقود سبقت، وما اعتبروه مصدرا للتخلف والعزلة والانغلاق. ويرى أركون من جانبه بأن ما يدعونه بالإسلام المعتدل يجهل التحرير الفكري ويعرقله.

وفي المقابل يرفض أركون تجزئة الظاهرة الدينية، أو التمييز بين المذاهب والفرق والنحل، ويدعو إلى: "الإضاءة التاريخية واللغوية والأنثروبولوجية والفلسفية للخصومات العقائدية المتراكمة منذ قرون وقرون بين الأديان التوحيدية من جهة، وبين هذه الأديان مجتمعة والحداثة العلمانية العالمية من جهة أخرى. هذا هو العمل الضخم الذي ينتظرنا كلنا لكي ننجزه من أجل التوصل إلى التحرير الفكري المنشود والخروج من السياج الدوغائي المُغلق لكل الظلاميات أو كل الأصوليات أيا تكن".

أخيرا، ثمة حادثة تستحق الذكر. التقيت بمحمد أركون قبل عامين على هامش ندوة في جامعة "توبنغن" الألمانية العريقة، واقترح مشكورا أن نذهب في اليوم التالي لزيارة عمدة المستشرقين الألمان الأستاذ "جوزيف فان إس". كان من الواضح أن أركون يزور "فان إس" في بيته للمرّة الأولى، وكان من الواضح، أيضا، بأنه يكن إعجابا لم يكف عن التعبير عنه في الطريق إلى البيت، وفي حضرة الأستاذ، وبعد انتهاء الزيارة. فهو أعظم من كتب عن الإسلام وتاريخه في القرنين الثاني والثالث للهجرة. استخدم "فان إس" المنهج الفيلولوجي، الذي انتقده أركون في مناسبات كثيرة، لكن مكانة الأستاذ لم تتزعزع.

وأذكر، في هذا الصدد، كيف طلب أركون من "فان إس" أن يريه مكتبته، أو الصومعة، كما قال. وعندما هبطنا إلى الطابق الأرضي في بيت يضيق على ساكنيه من تراكم الكتب، وصلنا إلى قاعة متوّسطة الحجم يتوسطها مكتب صغير، وبمحاذاة الجدران خزانات تضم أمهات الكتب باللغة العربية، وربما كل ما أنتجه المسلمون والمستشرقون من كتب وأبحاث يعتد بها. وقف أركون مذهولا ومبتهجا كطفل نال جائزة، كان في الثمانين من العمر، ولم يكف عن طرح أسئلة عن كتب بعينها، وعن لمسها بيديه.

كان أركون، المفكر الكبير، قارئا كبيرا، شغوفا بالمعرفة، وشجاعا في استخدام مبضع النقد، وبغيابه أفل نجم من النجوم الساطعة في ليل العرب. على السياج حرّاس جدد: الدولارات النفطية، وسلاح الإرهاب الشعبي والمُنظم، وأنظمة الطغاة. أما القارئ غير المطحون ما بين الخضوع والضوابط، فغريب الوجه واليد واللسان، كالفتى العرب في شعب بوان. ليلنا طويل، والنجوم قليلة.

حسن خضر Khaderhas1@hotmail.com كاتب فلسطيني يقيم في برلين - جريدة الأيام الثلثاء 21 أيلول (سبتمبر) 2010

نص محاضرة لمحمد أركون ينشر للمرة الأولى: "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية..."

تقديم

في العام 2002 استضافت جامعة البلمند المفكّر محمد أركون، فدعت إلى لقاءات حوارية عديدة مع مفكّرين وجامعيين لبنانيين، ونظّمت حلقات نقاش مع أساتذتها وطلابها في إطار برنامج "الحضارات والثقافات". وقد ألقى خلال وجوده في الجامعة محاضرة عامة بعنوان "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية بعد 11 أيلول".
تكلّم المفكّر الجزائري الأصل محمد أركون أمام حشد من الأساتذة والطلاب الجامعيين والمثقفين والمهتمين بالشؤون الفكرية والثقافية في أوديتوريوم جامعة البلمند، وبدعوة منها. استهل أركون محاضرته شارحًا ضرورة إعادة التفكير في الظاهرة الدينية بعد 11 أيلول، حيث لا بد من استنتاج الكثير من الأفكار والبرامج الجديدة للبحث العلمي عن الأديان. ذلك أن الحروب بعامة كانت تبرّر استنادًا إلى معايير دينية، مقدّمًا مثلين: ما استند إليه الرئيس الفرنسي ميتران تمهيدًا لحرب الخليج، وما قدّمه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش من تبرير تمهيدًا للحرب على أفغانستان بعد أحداث 11 أيلول.
وتابع قائلاً: "علينا إعادة النظر في المعجم الديني لنسأل أين الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب والعكس من دون إيجاد حل، أو اعتماد معجم آخر نتّفق حوله جميعًا لنفكر من جديد في ما نسميه بالقيم، ونوجد معجمًا ودراسات جديدة للكلام على الثقافات والحضارات، تستند إلى ما نعلّمه في الإنسانيات والتاريخ المقارن للأديان".
ارتكز أركون في توضيح فكرته على ثلاث مقاربات، شارحاً أبعادها ومعانيها، بدءًا بالسؤال عن إرادة السيطرة على منطقة البحر المتوسط ومغزاها، حيث ظهرت أديان تستعمل القيم والإطار الفكري نفسها. فالمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من فهم العلاقات الثقافية بين الأديان التي تطورت معاجمها منذ القرون الوسطى حتى اليوم.
وشرح ظاهرة ترابط الأديان، والقراءة العمودية لها في ما يسمّى التنزيل، وضرورة وأهمية القراءة الأفقية، أي التاريخية، وذلك لأن الكتب المنزلة اعتمدت على التاريخ الذي سبقها، ما يحيلنا إلى الاطلاع على الثقافات القديمة ودراستها، مستشهدًا بأمثال من الكتب الدينية، كقصة أهل الكهف الواردة في القرآن، إشارة إلى المسيحيين الذين اضطهدوا في عهد ديوكلسيان، وقد استخدمها القرآن للاستشهاد والتدليل على الذين يقدمون حياتهم في سبيل المعتقد.
وتحدث أركون عن الخلافة كإطار سياسي للثقافة العربية، والمطلوب دراستها للتحرر من كثير من التأويلات والنصوص القديمة التي فرضها السلف، ملحًّا على وضع هذه الفكرة في برنامج للبحوث والتعليم لاستخلاص المعلومات المحقّقة للبحث. كما دعا إلى التفريق بين أوروبا والغرب في حوار هادئ. فبعد 11 أيلول يتحدث العرب عن الغرب، كمستعمر ومهيمن وما شابه، ولا يقصد بذلك أوروبا كمفهوم جغرافي - سياسي وتاريخي المختلف عمّا نسميه الغرب، أي الولايات المتحدة، المهيمنة حتى على أوروبا اليوم، والتي بدأت تناضل ضد هذه الهيمنة، في عملية انتقال تشهدها المرحلة الجديدة من مفهوم الدولة-الأمة إلى مفهوم أوسع ذي أبعاد فكرية وكيانية وسياسية لا نجدها في المفهوم السياسي الذي نستعمله للغرب.
ولاحظ نقصًا في دراسة فترة الثورة العربية-الاشتراكية، وما تلاها من فترات، أو ما انبثق منها من ظواهر نضالات سياسية.
ثم دعا، في مقاربة ثانية عنوانها "إبداع الأفكار والمجتمع، والبناء الانتروبولوجي له"، إلى بناء مفاهيم من خلال العقل تعبّر عن الواقع السياسي والديني في المجتمعات... والبقاء في مجال العملية الإنتاجية-الإبداعية للأفكار (Ideation) والتمييز بين إنتاج مفهوم لتحليل الواقع، والصراع الإيديولوجي والسياسي.
قارن أركون منحيين في تطور المجتمعات التاريخية، بين مجتمعات قبلية ومجتمعات كوّنت أنظمتها السياسية. فتحدّث عن الانتقال من المشافهة إلى الكتابة، ومن الثقافة الشعبية إلى الثقافة العالمة، ومن الهرطقة إلى القوانين، شارحًا تفاصيلها، ومقدمًا أمثلة ونماذج عنها، وكذلك عن الجدلية المستمرة في كل مجتمع في الإطار المذكور، مركزًا على ضرورة الاعتماد على الانتروبولوجيا في البحث العلمي عن المجتمعات.
في المقاربة الثالثة تحدث عن الظاهرة القرآنية، شارحًا معنى كلمة "ظاهرة" كشيء موجود لكننا لا نفهمه أو ندركه بحواسنا، ولا نملك مفاتيح تفاسيره. غير أننا عندما نتخاطب، نبدو عالمين يقيناً في ما يخص الدين، ونحن في الحقيقة جاهلين لأشياء أساسية يعبر عنها الدين.
وانطلق عارضًا ظاهرة البحث في الكتب السماوية التي انتشرت في الشرق الأوسط في القرون الوسيطة، وفي مناخات علم تلك العصور، ولم يعد يكتب عنها إلا القليل بما هو مثبت علميًا في تطور العقل اليوم.
شكا أركون من نقص لغوي بسبب عدم طرح إشكالات الظاهرة الدينية. ثم تطرّق إلى عبارة "كلام الله". أما الخطاب القرآني، والنصوص المثبتة رسميًا عند كل الأديان، فوصفها أركون بالمقفلة، أي أنها لم تعد مطروحة للنقاش والنقد. في هذا السياق تحدّث عن العصور التي مرّت بها الأديان من مرحلة النشوء، إلى الكلاسيكية، فالمدرسية الأخوية، فالنهضة الإصلاحية، فالأصولية، مقدماً أمثلة من الأديان المختلفة ومبرزًا الجمود الذي يعتري البحث منذ ظهور النصوص الرسمية المتداولة حتى اليوم. وأخيرًا تساءل أركون عن قدرة العقل اليوم في ما يمكن أن يقدمه، وهو يمرّ في طور أزمة معرفية تمسّ الفكر الديني والأخلاقي والعلمي… وهذا ما يستدعي ضرورة استنباط طرح جديد للظاهرة الدينية لكي ندرسها دراسة علمية، في موقف لا ينفي العقائد، ولا يعرض عن إعطائها الأهمية التي تستحق، كما لا ينفي الدراسة اللاهوتية، على أن تكون دراسات جدّية واسعة الأفق ومعمّقة تهيئ أساتذة يعلّمون الدين من منظور علماني، علمي، تاريخي، أنتروبولوجي، تعطي الذاكرات الجماعية ما تستحقه من اهتمام، والحق في أن تعبّر عن نفسها باللهجة التي تتكلم بها.

جورج دورليان 24/ 9/ 2010

النص:

عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.

1. معاني الرمزية

لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.

أ) المقاربة التاريخية للظاهرة الدينية

كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.

ب) البحث عن المعنى وإرادة الهيمنة

هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.

جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام

لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.

د) أوروبا والغرب

أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.

2. إبداع الأفكار والمجتمع

هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.

هناك أربعة مفاهيم:

• تكوين الدولة:

تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.

• الكتابة:

الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.

• تكوين الدولة (State formation)

مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.

النهار 23 سبتمبر 2010

نص محاضرة لمحمد أركون ينشر للمرة الاولى [2]

المعطى المنزّل و... العقل

الحلقة الثانية الاخيرة من المحاضرة غير المنشورة للمفكر محمد اركون والتي القاها في جامعة البلمند في العام 2002 تحت عنوان "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية بعد 11 أيلول":

هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.

• "كلام الله":

أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.

3. النصوص

ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.

4. الخطاب الديني

المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.

النهار 28 سبتمبر 2010

هزمهم الموت ولمّا يكسبوا معركة «التنوير»

يا لِيُتْم العقلانية العربية وهي تنظر إلى ثلاثة من آبائها يُوارون في الترابَ في أقل من أربعة شهور: محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. يا لسوء حظ معتزلة القرن العشرين: هزمهم الموت من دون أن يكسبوا معركة «التنوير» في بلدانهم. بدأ المعتزلة قلةً قليلةً، لكنّ الزمن ـــــ على قسوته عليهم ـــــ كان أرقّ عليهم منه على خلفائهم المعاصرين. قالوا إن «القرآن مخلوق». مع ذلك، لم «يجمع العلماء» على تكفيرهم. معتزلةُ القرن العشرين لم تحمهم كثرتُهم (النسبية). بدأت محنتُهم حالَ تغريدهم خارج السرب. بعضهم كأركون، غادر بلَده طويلاً، ولمّا عاد إليه منتصف الثمانينيات مدعواً إلى «مؤتمرات الفكر الإسلامي»، فهم أنه لم يؤت به إلا ليُسبغ عليها صفة الشرعية الأكاديمية. البعضُ الآخر، كأبو زيد، أُجبر على اللجوء إلى المنفى بعدما كُفّر وطُلّق من زوجته بحكم سوريالي من محكمة سوريالية. ومن لم يتعرض للنفي كالجابري، لم يسلم من ألسنة المتطاولين.

سبّب المعتزلةُ «محنة ابن حنبل» وشارك بعض أقطابهم في «محاكم التفتيش» المأمونية. الجابري وأبو زيد وأركون، عكسَ ما يُروّج له بعض من يخلطون بينهم وبين غلاة «التنوير» التسلطي، لم يسبّبوا محنة أحد. لم يعذّب أحدٌ بسببهم، لكنّ براءتَهم لم تحمهم من إهانات أهونُها اتهامُهم بأنهم في خدمة الحكومات الجاثمة على صدور أوطانهم.
عاش المعتزلة في أوج مجد دولة تمتد أطرافها من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. لم يكن فكرُهم، على أهميته، شرطاً ضرورياً لبقائها. مع ذلك، ما أعظم أثَرهم في تاريخ الدولة العباسية. معتزلةُ اليوم، ممن يغيّبهم الموت واحداً تلو الآخر، نشأوا في بلاد مستعمرة، العقلانيةُ فيها شرط أساسيٌ لنهضتها. مع ذلك، تبدو كتاباتُهم فيها ترفاً بالغاً إن لم يعدّها بعضهم كفراً لا عقابَ عليه سوى الموت.
انتُقد المعتزلة أشد الانتقاد، لكنّ بغداد في عهدهم لم تكن تحت سلطة بيزنطة، فلم يُجابَهوا إلا نادراً بأن فكرهم «مستوردٌ دخيل». أما ورثتُهم اليوم، فما إن ينطقوا حتى يهبَّ المتزمتون ليصفوهم بأنهم «رأسُ حربة الغزو الثقافي»، ناسين أن لا أحدَ غيرهم انتقد الاستشراقَ وحجّم تأثيرَه في مؤسسات أكاديمية ذات تأثير كبير في القرار السياسي الأوروبي والأميركي.
هذه محنةُ معتزلة القرن العشرين، اجتهدوا فحوربوا وشرّدوا، وقضى كثيرون منهم في المنفى. ماتوا غرباء. هذه محنةُ ولادتهم في زمن تُقهر فيه بلدانهم باسم الرقي، وتقاد باسم العقلانية إلى المعتقل.

ياسين تملالي الأخبار عدد الخميس ١٦ أيلول ٢٠١٠

بين التكفير والاضطهاد الرسمي

ترك محمد أركون خلفه الباب مفتوحاً على تأويلات عديدة. غيابه سيحرمنا صوتاً، طعن على امتداد العقود الثلاثة الماضية في مشروعية أنظمة سياسية عربية تستمد حضورها من اللّعب على وتر الدّين. «الدّول العربيّة التي ظهرت مباشرةً بعد نهاية المرحلة الكولونيالية، تحاول فرض سلطة دينية، وتوجيه حرية المعتقد لخدمة مصالحها، مانعةً الخوض في نقاشات حرّة حول النص القرآني». أمام هذه المواقف الحادّة، قد يُفرح رحيل أركون الكثير من معارضيه في الجزائر.
بين تكفير الجماعات الإسلامية المحافظة، وانتقادات الدوائر السياسية، وخصوصاً في الجزائر، عاش محمد أركون حياة منفى. بقي موطنه الجزائر خالياً من أي تشكيل ديني يتبنّى أطروحاته، في مقابل اتساع حضور الطرق الصوفية التي اتهمها الراحل بالتواطؤ مع القوى الاستعمارية، مطلع القرن التاسع عشر. طرح كلّفه انتقادات واسعة، من مختلف زعماء التوجه الصوفي، في بلد المليون ونصف المليون شهيد، وهم يستحوذون على عدد مهم من المقاعد، في البرلمان، وحقيبة وزارية ثابتة. معطيات أسهمت في منع تداول مؤلفات أركون في الجزائر، وعدم اعتماد نصوصه ضمن الكتب المدرسية.
في عام 1991، عندما تدخّل الجيش الجزائري لمنع «الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ» من تسلّم مقاليد الحكم التي حصلت عليها بعد الانتخابات التشريعيّة، انتصر أركون لمنطق الروح الديموقراطية رغم موقفه النقدي الصريح من الإسلاميين.

عايش أركون مختلف التحوّلات التي عرفها تاريخ الجزائر المعاصر، من الثورة التحريرية، إلى الحرب الأهلية. وأصرّ دوماً على أهميّة إعادة تعريف الهويّة المغاربية إجمالاً، وعدم حصرها في بعديها الإيديولوجي والجغرافي. محمد أركون لم يرمِ شخصيته الأمازيغية الجزائرية، المتمتعة بروح العناد. ولم يرضخ أمام مواقف المنع التي أعلنتها في وجهه الجهات الرسمية في بلاده. بقي مؤمناً بأنّ الاعتراف به سيبلغ يوماً ما أرض الأجداد، بعدما طاف مختلف بقاع العالم، ونال جوائز مهمة منها «جائزة ابن رشد للفكر الحرّ» (2003).

الجزائر ــ سعيد خطيبي الأخبار عدد الخميس ١٦ أيلول ٢٠١٠

هكذا تكلّم... آخر المعتزلة
كأنّ رحيل العلّامة محمد أركون المباغت هو بمثابة اغتيال للعقل العربي الناقد. مَن هم ورثته من المجدّدين العرب الذين اجتهدوا في زعزعة اليقينيات والدوغمائيات العقائدية؟
العالِم الجزائري وأستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في «السوربون»، قارع المسكوت عنه في الإسلام التاريخي. أسّس لمشروع نقد الفكر الإسلامي في أكثر من أطروحة أثارت جدلاً ثقافياً قلّ نظيره بالنسبة إلى أقرانه ممن حفروا في أركيولوجيا التاريخ. تعود مكانته المعرفية والأكاديمية إلى كونه اعتمد في قراءته للنصوص التأسيسية على المناهج الغربية الحديثة، من اللسانيات والسيميائيات، وصولاً إلى وضع الظاهرة المدروسة ضمن سياقها الزمكاني. كلّ أدواته النقديّة وظّفها لإخراج الإسلام من الدوغما التي تكبّله.
«الإسلام أوروبا الغرب»، و«العلمنة والدين»، و«الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، و«الأنسنة والإسلام مدخل تاريخي نقدي»، أطروحات صاغها صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي على مدار عقود، وبذل جهده الفكري في تأكيد حيوية «الحدث الإسلامي» و«الحدث القرآني» ـــــ لجهة الحركية، والتفاعل مع المتحوّل ـــــ بعدما ميّز بينهما، من دون أن يعني ذلك أنَّه لم يموضع «القرآن» في تجلياته التاريخية. تحرّى أركون بعقل العقل عن المسبّبات التي عاقت محاكاة الإسلام للعصر، كما فعلت المسيحية الغربية حين أعدّت عدّتها مع ديكارت، رائد العقلانية الأوروبية.
المقارنة بين «الديانات التوحيدية الثلاث» ـــــ وهو المصطلح الذي ابتكره صاحب «نحو نقد العقل الإسلامي» ـــــ مثّلت أحد أبرز المناهج التي عمل عليها، بعدما خلص إلى أنّ الحقبة التي يمر بها الإسلام الراهن لا ترتبط فقط بالتفسيرات الخاطئة للنص المقدس. الإسلام اليوم يعيش الأزمة نفسها التي خبرتها المسيحية الغربية في قرونها الوسطى، حين «أجبرت بعد مقاومات عنيدة وتأخر زمني، على هضم مكتسبات الحداثة العلمية والفلسفية والقبول بها».
منذ خرقه المسكوت عنه في إسلام النص وإسلام التاريخ، كرّس أركون جهده الأكاديمي (نقلت غالبية كتبه إلى العربية عن «دار الطليعة» و«الساقي» بجهد تلميذه هاشم صالح) في التحري الأنثروبولوجي والأركيولوجي عن العوامل التي تعوق المواءمة بين الإسلام والحداثة، متأثراً بطريقة فوكو. لم يكتفِ بهذا الحدّ، بل رأى أن الإسلام لا يتناقض مع العلمانيّة، لأنّه خبرها منذ التأسيس لأواصر الدولة الأموية تحت عنوان «إيديولوجيا التدبير»، لتبلغ ذروتها مع الفكر المعتزلي (المذهب الرسمي في عهد الخليفة المأمون). «فالإسلام بذاته ليس مغلقاً على العلمانية»، لكنّ الدوغمائيات المعاصرة أوصلته إلى الانسداد اللاهوتي الراهن.
على إيقاع اللطف الإلهي الذي يعني بالمعنى القرآني «نور العقل»، جادل أركون عقائد الانغلاقيين الذين مثّلوا امتداداً للأشاعرة. هو شديد التأثر بالمعتزلة، روّاد الاجتهاد.
يمثّل أركون حلقة الوصل التاريخية لمعارك الإصلاحيين من أمثال الأفغاني والكواكبي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده التي تابعت مسيرتها مع طه حسين ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي وهشام جعيط. لم ترهبه يوماً فوضى العنف باسم الإسلام. الواقع المأزوم فرض عليه خوض معركة الفكر على أكثر من جبهة. التحديث بالنسبة إليه حاجة ملحة، وقراءة التراث وتأويله يحتاجان إلى قواعد تستنطق النص المقدس. قواعد لا يفقهها سوى الحداثيين، أو الحركيين كما يصنِّفهم الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
أركون الذي تمرَّس في دراسة ظاهرة الوحي القرآني بمدلولها التاريخي، كان السبّاق في هذا المجال. الاتجاه الإسلامي الرسمي الذي لا يقبل تاريخية الوحي والقرآن، لا بد من أنّه انزعج من اجتهاداته. غير أن المواءمة بين القرآن والتاريخ، وبين الإسلام والحداثة، لم تكن وحدها التي شغلته. ردَّ على بعض المستشرقين الذين شوّهوا صورة الإسلام في الغرب كرمز للعنف واضطهاد المرأة. كانت له في هذا المجال أفكار علمية من دون أن يدخل في جدلية هدم علم الاستشراق وتصويره في السياق الإمبريالي كما فعل إدوارد سعيد في أطروحته الشهيرة.
يكرّس المسار المعرفي عند أركون جهده لإدخال علم الإسلاميات التطبيقية على التراث، بغية تفكيكه وتعريته من الأوهام التي تكبله، وهو في هذا المجال تأثر بمدرسة الحوليات الفرنسية وأضاف إليها مناهج جديدة. لقد فاجأنا أركون برحيله، تاركاً إرثاً علمياً لا يوازيه فيه أحد من ناحية الإعداد لمشروع متكامل عنوانه نقد العقل الإسلامي.

ريتا فرج عدد الخميس ١٦ أيلول ٢٠١٠

محمد أركون: علامة فارقة في درس التراث العربي الإسلامي

أتجنب، ما وسعني الأمر، ذلك التهويل في إطلاق الأوصاف والإسراف في إغداق التقريظ على الأشخاص؛ فلا أزال أعد ذلك من سمات التأخر والإسفاف معا، تلازمان القول العربي أحايين كثيرة. غير أنني أجدني اليوم أقول (فيما أحسب أنه قول صادق، فيما أتمنى على كل، وكذا من واجب الاعتراف بالخير لأهله) إن محمد أركون، رحمه الله، يشكل في درس التراث العربي الإسلامي - أي في النظر إليه قراءة وفحصا وتوظيفا معا - علامة فارقة. والعلامة الفارقة هي تلك التي تضطرك إلى الوقوف عندها وقفة يكون بها التمييز بين ما قبل العلامة وما بعدها. وحديثي اليوم عن محمد أركون حديث عن الجيل الذي أنتمي إليه بحكم العمل الجامعي والبحث الأكاديمي، أقصد بذلك زمرة المنتسبين إلى الدراسات الإسلامية في بلدان المغرب العربي خاصة. لا غرو أن هناك تأثيرا قويا بل أثرا حاسما مارسه على وعي هذه الزمرة المذكورة مؤلف «الإنسية العربية في القرن الهجري الرابع: مسكويه، مؤرخا وفيلسوفا». والحديث عن العلامة الفارقة في سيرورة البحث في الفكر العربي الإسلامي منذ «عصر النهضة»، ومنذ مطالع القرن العشرين على وجه التحديد، يحمل على الاعتقاد بأن هذا البحث لم يشهد سوى محطات قليلة من التطور، فهو بالتالي، لم يعرف من النقلات النوعية في مساره سوى النذر القليل. نقلات كيفية معدودة في مسار تكييف الوعي العربي المعاصر بالتراث العربي الإسلامي تأريخا، ومنهجا، ومقاربة في الفهم والتحليل. والرأي عندي أن المحطات التي مر بها البحث العلمي في التراث العربي الإسلامي في الفترة السابقة على مستهل سبعينات القرن المنصرم محطات قليلة يمكن عدها والإحاطة بها.

عرفت الدراسات الإسلامية محاولات تجديد، قليلة معدودة، توخت التوسل في البحث بمناهج أبانت عن نجاعتها في حقول معرفية أخرى، وفي التأريخ لها خاصة (علم الاجتماع، علم النفس الاجتماعي، التاريخ...). ولعل أبرز تلك المحاولات ما اجتهد في عمله ثلة من أساتذة الجامعة المصرية في أربعينات وخمسينات، وشطر قليل من ستينات القرن العشرين، نذكر منهم - تمثيلا لا إحصاء شاملا - محمود قاسم، عبد الهادي أبو ريدة، عثمان أمين، وعلي سامي النشار، إلى حد ما. غير أن تلك الدراسات ظلت، في مجموعها، محاولات جزئية تنقصها الحبكة ويشوبها نقص المعرفة بالفكر الغربي في مظانه الأصلية ومن ثم فإنها لم تقدر على الذهاب بعيدا في مقارباتها المنهجية فهي لم تفد كثيرا من المكتسبات المنهجية التي تحققت في العلوم الإنسانية.

موازاة مع هذه الدراسات ظهر نوعان آخران من الأبحاث؛ نوع أول تصح تسميته بالمنهج التفاخري أو التمجيدي (وهذا النوع من النظر إلى الفكر لا يملك أن يحيد عن طريق البكائيات والتغني بأمجاد السلف، وبالتالي فهو لا يدفع في التقدم إلى الأمام قيد أنملة. إنه يفيد في العزاء لا في البحث العلمي). ونوع ثان يمكن نعته بالمنهج المقارن مع انعدام شروط المقارنة التي تفيد في المعرفة العلمية. فأما النوع الأول (التمجيدي أو التفاخري) فمبلغ العلم فيه هو القول بأن الفكر العربي الإسلامي، ممثلا في رموزه الكبرى، كان له قصب السبق في العلوم كلها. الحق أننا نجد هذا النوع من البحث، في صورته النمطية وصيغته النسقية الكاملة، عند ساطع الحصري. ذلك أن أبو خلدون (وهو النعت الذي كان يحبذ أن يقرن به اسمه) يأتي بكل عجيب وغريب في كتابه «دراسات في مقدمة ابن خلدون»؛ فصاحب «المقدمة» كان سابقا على جمهرة غفيرة من الفلاسفة والمفكرين الحديثين والمعاصرين (فيكو، هردر، أوجست كونت، مونتسكيو، كارل ماركس...). كما أن مفكرنا الفذ كان، في عين الحصري، سباقا في تشييد صرح علوم جديدة، كثيرة، لم يكن من الممكن قيامها إلا بحدوث تحولات معرفية كثيرة وتوافر شروط اجتماعية وتاريخية متعددة ما كان في الإمكان توافرها في عصر ابن خلدون. وأما النوع الثاني فهو ما نعتناه بالمقارنات الصعبة أو المتعذرة بالأحرى. كذلك تعددت المقارنات بين الغزالي وباسكال طورا، وبينه وبين ديكارت طورا آخر، وبينه وبين هيوم طورا ثالثا. وكذلك توالت أبحاث أخرى تقارن - مع الحفاظ على نفحة قوية من النزعة «التفاخرية» - بين ليبنتز ومحيي الدين ابن عربي وبين أبو حيان التوحيدي تارة وصاحب «المقابسات» وكارل ياسبرز تارة، وكيركيغارد تارة أخرى.

على أننا، إذ نرجع القهقرى إلى مطالع القرن العشرين، نجد عند جيل الرواد جهدا كبيرا في مقاربة التراث العربي الإسلامي، في جوانب منه، إنه جهد يجدر بنا التذكير به حين الحديث عن تطور الوعي بدرس التراث العربي الإسلامي. القصد هنا كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق «تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية»، ثم طه حسين «في الشعر الجاهلي» وفي مجمل دراساته التي أفاد فيها من الدرس الديكارتي في اعتماد الشك المنهجي طريقا إلى اليقين، ومن ثم الدعوة إلى إعمال سلاح النقد وعدم القطع باليقين إلا فيما كان لا يحتمل الشك فيه.

الحق أننا بالتذكير بهذه الأسماء والمؤلفات نكون قد أحطنا، بالجملة - دون الغوص في التفاصيل - فيما يصح اعتباره محطات كبرى في درس التراث العربي الإسلامي وفي تطوير الوعي في النظر إليه. مع أركون سيظهر جديد مختلف ومغاير. فنحن إذ نقرأ «الإنسية العربية».. نجد حضورا قويا لمفاهيم غير مألوفة من قبيل «الشخصية القاعدية» (اعتبار مجال ثقافي مشترك يفعل فعله في تكوين الوعي في فترة معلومة)، «العقل الإسلامي»، و«نقد العقل الإسلامي»...كما أننا نجد أدوات مفاهيمية تستمد من القاموس الابستمولوجي (= غاستون باشلار، ومفاهيم «العوائق المعرفية»، «القطيعة الابستمولوجية»، «اللاشعور المعرفي» - ميشال فوكو ومفاهيم «الخطاب»، «المفكر فيه»، «غير القابل لأن يكون مفكرا فيه»، «الإبستمي» أو البنية المعرفية الثاوية في أعماق «العقل الجماعي...»). ونجد، موازاة مع هذا كله، إفادة غير يسيرة من فتوحات المنهجية العلمية المعاصرة في حقول اللسانية والأنثروبولوجيا والتحليل النفساني وعلم الاجتماع وكذا تقنيات تحليل الأسطورة.. أدوات معرفية توسل بها صاحبها في دراساته الكثيرة وفي مشاريع الدراسات (فأركون كان صاحب مشاريع كثيرة لم تنجز).

لا يتسع المجال لمزيد تطويل، وليس الإسهاب مما تحتمله طبيعة هذه الأحاديث. غير أنني أجمل الكلام فأقول: إن محمد أركون – باحثا ومدرسا ومشرفا على رسائل جامعية - تمكن من إحداث خلخلة في درس التراث الإسلامي، خلخلة فعلت فعلها في تكوين الوعي العلمي وتطويره، فحق القول إذن إنه علامة فارقة. كما أنني أقول، اعترافا بالجميل ودعوة إلى مزيد تمعن في منهجية متعددة الأدوات، إن محمد أركون له شرف الريادة إذ دلنا على أول الدرب وحمل المشعل الكشاف.

رحم الله أستاذنا محمد أركون، محييا للتراث العربي الإسلامي، ومنافحا عنه بلغة العصر، بل ومدافعا عن الإسلام والمسلمين. وقديما قيل: «لا تعرف حقيقة الرجل حتى يموت».

سعيد بنسعيد العلوي - الشرق الأوسط - السبـت 17 شـوال 1431 هـ 25 سبتمبر 2010 العدد 11624

اليونسكو يكرم قامة فكرية شامخة في الفكر الإسلامي

أركون منتج الأسئلة المحرّضة على قراءة حديثة للنص الديني

بمناسبة جائزة اليونسكو للثقافة العربية، تخصص المؤسسة المذكورة، الجمعة، تكريما لأحد رؤسائها السابقين، والذي أتى بمنهجيته في قراءة النص الديني، عادة ما أثير حولها الكثير من اللغط.الأمر يتعلق بالمفكر الجزائري الأصل والذي اختار أن يدفن عند رحيله، قبل مدة، في العاصمة الاقتصادية للمغرب الدار البيضاء.

يقول المثقف الجزائري ع الكريم حاج مهدي عن هذا الاسم، اللامع في عالم الفكر الإسلامي الحديث، في حوار خاص بإيلاف، إن أركون ظل يدعو إلى "الحوار بين الثقافات، على سعة أفق وشمولية وتنوُّر..." و أضاف "يتمثَّل مشروعُه الفكري الرصين في إنتاج ثقافة الأسئلة، بمنأى عن كافة المسلَّمات الجاهزة، وصولاً إلى المسكوت عنه واللا مفكر فيه في الثقافة العربية الإسلامية.
ويحرص أركون، بحسبه، "على كشف المعوقات الذهنية والعراقيل التاريخية والاجتماعية التي تعوق التقدم وتعرقله. يقضُّه سؤال العقل الإسلامي، في شرطيه المعرفي والتاريخي، وكيفية تجاوز الواقع الراهن لدخول معمعان الحداثة".
و اعتبر هذا الإعلامي الجزائري صاحب كتاب "نحو نقد العقل الإسلامي"، "طفرة تاريخية لم توظف في عالمنا العربي والإسلامي – للأسف - على الرغم من الثورة الفكرية التي دعا إليها في كتاباته، و أراد من خلالها تغيير المسكوت عنه في ثقافتنا بشكل عام".

أركون و التصالح مع الحداثة

ويستعير حاج مهدي تفسير أركون في فهم حاضر الشعوب الإسلامية، و ذلك بالقول، " لكي نخرج من أزمتنا ومأزقنا التاريخ.. لابد من مرحلة تنوير تضيء تراثنا الديني بمناهج حديثة من أجل التصالح مع الحداثة الكونية..."
و أضاف "لكن مشكلة النزعة الإنسانية في الفكر العربي.. قديمه وحديثه.. هي هذا الهجوم الشديد الذي يلاقيه من يحاول مسّ المسألة بعمق أو حتى سطحيا.. "
و في السياق نفسه يتابع "فقد تعرض طه حسين حديثا لهجوم أخذ به الرجل ولم يترك حتى تراجع.. أو ادعى التراجع.. تفاديا لعواقب تنتظر كل من يحاول خلخلة هذا الثقل الفوق إنساني في الثقافة العربية.. وربما يكون الأمل هو في تلك القوانين التي تحكم اتجاه حركة التاريخ.. تتوقع بها النتائج طبقا لمقدمات مشابهة حدثت من قبل."
ليصل حاج مهدي "إلى أن أركون أشار إلى أن المسيحية الأوروبية هي وحدها التي اجتهدت للتصالح مع الحداثة علما بأن ذلك حدث مؤخرا. لأنها في البداية عارضت الحداثة والأنسنة. وكانت توجد في أوروبا أصولية مخيفة أعاقت النهضة كثيرا قبل أن تنهزم أمامها..."

المجتمعات العربية و القطيعة

يستدل ع الكريم حاج مهدي بالمفكر السوري هاشم صالح، مترجم وشارح أعمال أركون، لكي يؤكد أن أركون شغل موقع "الوسيط بين ثقافتين، بل فكرين مختلفين حتى لا نقول إن هناك صدامات في فهم كل فكر على حدة لشدة التعارض بينهما، إلا أن أركون عمل على أن يكون وسيطا ومقربا فكريا لكل من المفاهيم التي كانت تشير إلي صراع ضمني داخل الفكر الواحد..."
و يوضح، خريج معهد الفلسفة و العلوم الاجتماعية في الجزائر، "أن المجتمعات العربية تعاني قطيعتين لا قطيعة واحدة. الأولى، مع تلك الفترة المبدعة من تراثها الإسلامي والتي بدأت بسيطرة السلاجقة على الحكم (بداية القرن الحادي عشر ميلادية) حيث انتشر الفكر المدرساني (الإجتراري / التكراري) القائم على نشر مذهب واحد وإغلاق الباب أمام الأفكار الحرة، والاجتهادات التي أسست لفكر إنساني إسلامي (حداثي في وقته) وفيه تصالح مع العقل."
و يستطرد حاج مهدي "تعاني المجتمعات العربية والإسلامية أيضا من قطيعة مع عصر النهضة الأوربية والحداثة.ويذهب البعض أيضا إلى إضافة قطيعة ثالثة، وهي القطيعة مع مرحلة ما بعد الحداثة الأوروبية. لذلك تبدو مشكلة المثقف العربي (الطامح في التغير) في غاية التعقيد..."
و يرى أركون، يقول حاج مهدي، "أن الإصلاح الآن غير ممكن باستعمال الوسائل الفكرية القديمة.وأن على حركة التنوير الإسلامية المنتظرة أن تجيب على سؤال محير: هل نحتاج إلى إصلاح المفاهيم القديمة، أم أن الحلّ يكون بالقطيعة معها".
فأركون، يوضح الحاج مهدي، يقول إن "المسيحية الأوروبية أجبرت، ودائماً بعد مقاومات عنيدة وتأخر زمني، على هضم مكتسبات الحداثة العلمية والفلسفية والقبول بها. ولكن ليست هذه هي حالة الإسلام، ولا اليهودية، ولا المسيحية الشرقية الأرثوذكسية التي لم تشهد مجتمعاتها الخطة العلمية والفلسفية نفسها التي شهدتها مجتمعات أوروبا الغربية بدءاً من القرن السادس عشر".

أركون و منتقدوه

يفسر الإعلامي الجزائري بلسان أركون نفسه، الانتقادات التي يتعرضون لها من الرافضين لأفكاره، بكون "المعركة قديمة جديدة. والأزمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ العربي ـ الإسلامي. ومثلما أن ابن قتيبة كان يهاجم «العلوم الدخيلة» في وقته (أي الفلسفة اليونانية)، فإن أصوليي اليوم يهاجمون «الغزو الفكري» للغرب..."
و يستطرد في السياق ذاته أنه "على هذا المستوى من العمق ينبغي أن تموضع المشكلة لكي نفهمها على حقيقتها. وبالتالي فلا تكفي التحليلات السطحية السريعة لتقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي بمواجهة الوضع المستفحل خطورة. فالمرض أكثر عمقاً وتجذراً مما يظنون..."
محمد أركون لم يدع يوما، بحسب المنافحين عن فكره، إلى القضاء على الدين، و إنما حملت أعماله رؤية حداثية لأي إمكانية في استقراء وضع المسلمين، وعبر عن ذلك في أكثر من مناسبة.
وهذا حصل "في ندوة نظمت في جامعة السربون في باريس عام 2007 دعا فيها، يقول حاج مهدي، صراحة، إلى ضرورة أن يعود المسلمون إلى إعادة قراءة تاريخ علاقاتهم بأوروبا وتطوير مناهجهم الدراسية " للحاق بركب الحضارة الذي فاتهم".
في هذه المحاضرة التي ألقاها أركون، يفيد حاج المهدي، وكانت تحت عنوان " نقد العلاقة بين أوروبا والإسلام والعالم العربي "، قال أركون "لقد تخلينا عن الحداثة ونرفض الحداثة وأوصدنا في وجهها الباب بحجة الدفاع عن معتقداتنا وهويتنا..."
كما تحسر أركون على "التفريط في نصوص الحداثة ودعا إلى انفتاح الجامعات على تدريس ودراسة التاريخ المقارن لعلم اللاهوت "، وتساءل في هذا الإطار، "ماذا حدث لمقدمة ابن خلدون وهل قرأها المؤرخون وهل درّسوها لتلاميذهم....أعتقد أنها دفنت كما دفن ابن رشد..."

أركون و الآخر
وأشار الكاتب والإعلامي الجزائري، في الوقت نفسه، إلى "أن محمد أركون إلى جانب المفكرين التونسي هشام جعيط والمغربي محمد العابد الجابري من أبرز دعاة تحديث الخطاب الديني، وكثيرا ما تثير مؤلفاتهم الجريئة جدلا كبيرا في العالم الإسلامي، وهذا راجع إلى ما قلته...".
و قال حاج مهدي إنه "كثيرا ما تحدث أركون عن المستقبل بين الفضاء المغاربي والأوروبي"، و نسب إلى المفكر الراحل قوله، "علينا أولا أن نقيم بشكل علمي ما حدث في الفضاء الأوروبي ".

و يعتبر أركون، يقول الكاتب و الإعلامي الجزائري "بناء الاتحاد الأوروبي حدث فكري سياسي يعادل ظهور عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، لأن بناء الاتحاد الأوروبي يعني الانفصال عن الدولة الأمة بعد أن قرروا أن يجعلوا كامل المنطقة الأوروبية فضاء مفتوحا للمواطنة ".
وفي المقابل ظل يتساءل المفكر العربي لما "أمام هذه الثورة الفكرية والإنسانية في أوروبا، ما زلنا نحن ننظر لما حصل وكأنه أمر لا يعنينا ولم نستخلص أي عبرة منه، و يخلص في الغالب، يضيف مهدي، إلى القول " نحن في المنطقة المغاربية وجب علينا أن نسأل أنفسنا لماذا فشلنا في بناء الاتحاد المغاربي".

أركون يحمّل المسؤولية للمتعلمين و النخبة

و لم يخف أركون مسؤولية المتعلمين و النخبة في وضع المسلمين، كما يؤكد الكاتب الجزائري ع الكريم حاج مهدي "لأن المفكر أركون كان يهدف إلى بناء "إسلاميات تطبيقية" و ذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية على القرآن الكريم..."

و من ضمنها، يضيف حاج مهدي، "تلك التي طبقت على النصوص المسيحية، وهي التي أخضعت النص الديني لمحك النقد التاريخي المقارن و التحليل الألسني التفكيكي و للتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى و توسعاته و تحولاته".
و قال في الإطار نفسه "لقد طرح أركون هذا المشروع في الدراسات الإسلامية لكي يهتم به الباحثون العرب و المسلمون عموما، لا سيما و هو مشروع متصل بالبحوث في النص الديني بصفة عامة.
ويعتبر حاج مهدي هكذا مشروع أنه "مبني بالأساس على التعرف إلى الظاهرة الدينية حتى تحل في أفق أوسع من الأفق الإسلامي. ولا سيما أنه يتم الاكتفاء بالنظر إلى تاريخ الإسلام كدين، كإطار فكري دون مراعاة ما حدث و ما يحدث في الأديان الأخرى".
ويفصل أكثر حاج مهدي هذه المسألة بكون "مشروع أركون يفتح بابا أوسع لتاريخ الأديان إذا انطلقنا من القرآن ومن منطقه الذي يطرح قضية تاريخ النجاة، أي كيف نعيش حياتنا كمؤمنين متلقين كلام الله تعالى حتى نطبقه في حياتنا قصد النجاة من العذاب..."
و يوضح أكثر "أن فكرة النجاة موجودة في التوراة مع موسى والأنبياء الذين ذكرهم القرآن. وهذا يدعونا إلى الاهتمام بالتاريخ الروحاني الذي يختلف عن التاريخ السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي. والتاريخ الروحاني يتعلق بوجوب كلام الله على البشر".
وفي السياق نفسه يتابع، "يؤكد محمد أركون أن المسلمين مازالوا لم يمارسوا بعد تاريخ الأديان، لأنه غير موجود لديهم.كما يشير إلى أن ما كتبه الشهرستاني عن الملل والنحل، وما كتبه ابن حزم كذلك، تخلى وأعرض عنه المسلمون، إذ ركزوا كثيرا على ما ورد في تاريخ الإسلام أكثر مما ركزوا على ما ورد في القرآن نفسه".
ويستطرد "فهناك، حسب أركون، فرق بين القرآن الذي هو كلام الله ونزل إلى الجميع وما قام به الفقهاء المسلمون من جهد نعتمد عليه لفهم الإسلام، و هو بطبيعة الحال فهم متغير الظروف التاريخية و الظروف الثقافية في المجتمع و خاضع أيضا للقوة السياسية العاملة في المجتمع".
ويخلص الكاتب والإعلامي الجزائري إلى أن "محمد أركون ركز على ضرورة تفهم القرآن - كلام الله - و الذي يفتح للبشر – وللمؤمنين بالخصوص - آفاقا للتدبر والتفكر والتفقه والتعقل. فكم من مرة تكررت "أفلا تتدبرون" و "أفلا تعقلون" في القرآن الكريم؟ لكن هذا النوع من التفكير المتوسع تم تهميشه وضيقت مجالاته".

بوعلام غبشي GMT 9:30:00 2011 الخميس 14 أبريل

0 تعليقات::

إرسال تعليق