«إبان الحروب تصبح الكراهية شعورا محترما.. ولكن لا بد أن تتستر بستار الوطنية» (هوارد ثورمان)
قد لا ترى دول الاتحاد الأوروبي أن تركيا تستحقّ أن تكون عضوا كامل العضوية فيه، وقد يتصور بعض المتابعين أن لدى تركيا من المعوقات البنيوية الداخلية ما يحول دون لعبها أدوارا متقدمة على المسرح الدولي، لكن الواقع يشير إلى أن التطورات في كل المناطق المحيطة تدفعها دفعا لاستعادة شيء من ماضيها كقوة عالمية كبرى.
في الحقيقة، جزء أساسي من التمنع الأوروبي يعود إلى حجم تركيا وماضيها وهويتها العقائدية الحالية بعدما خبا بريق الأتاتوركية العلمانية، بالتوازي مع تراجع العلمانيتين العربية والإيرانية. فالعالم الغربي بأسره، لم ينسَ، ولا يمكن أن ينسى، أنه في يوم من الأيام دقّ الأتراك العثمانيون على أبواب فيينا. كذلك لا يمكن أن ينسى أن الباب العالي في إسطنبول كان مسيطرا على معظم جنوب البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب كل شرقه وشماله الشرقي.
اليوم تركيا عائدة بحكم توالي الأحداث، طموحا أو اضطرارا - لا فرق - إلى استعادة موقعها التاريخي في شرق المتوسط. فالأزمة السورية أخطر بالنسبة إلى تركيا بكثير من أن تترك لتصرف الآخرين.
إنها قضية مصلحة حيوية مباشرة تتشابك فيها عوامل عدة ليس أقلها العامل الحدودي والعامل الإثني والعامل المذهبي وعامل التوازنات الإقليمية الكبرى.
وسوريا، كما تشير كل المعطيات الآن، ما عاد ممكنا أن تعود إلى ما كانت عليه. لقد راهن الجيل الثاني في نظامها على حل مشكلاته المتراكمة بالطريقة الوحيدة التي يعرفها ويجيدها، أي القمع والتخويف بشبح الأصولية الطائفية، غير أنه أثبت أنه أقل دراية من الجيل الأول في كيفية تغليف هذه الطريقة وتنميقها.. تمهيدا لطمسها وذر التراب عليها.
صحيح لم يسجل، حتى الآن، على صعيد عدد ضحايا الانتفاضة السورية ما سجله الجيل الأول من نظام دمشق في «أحداث حماه» عام 1982. غير أن الجيل الثاني يواجه «انتفاضة 2011» في ظروف مختلفة تماما مع أنه يعتمد منطق القمع ذاته، ولذا جاءت النتيجة مختلفة.
في حماه عام 1982 تعمد النظام تركيز معركته في مكان واحد اختار أن يجعل منه «أمثولة» مأساوية تتعلم منها باقي مناطق سوريا الطاعة والإذعان. وفي درعا عام 2011 جرب النظام تطبيق «الأمثولة» مجددا، ولكن هذه المرة من دون نجاح يذكر بعدما خذله تقدم تكنولوجيا الاتصالات أولا، ثم سقوط حاجز الخوف عند المواطن السوري ثانيا، وهو ما ساعد على تمدد «الانتفاضة» خارج نطاق حوران لتشمل كل أنحاء البلاد.
تمدد «الانتفاضة» دفع النظام نحو تجربة سلاحه الثاني الذي هو تكتيك إثارة المخاوف الطائفية والمذهبية، وكان اعتماد هذا الخيار مجازفة أكيدة تتبين تبعاتها الآن. ذلك أن دور دمشق المحوري في استراتيجية إيران الإقليمية المتكاملة، والسكوت الإسرائيلي عن هذا الدور طالما بقي ضامنا لسكون جبهة الجولان وتأزيم مناخ المذهبية في المنطقة، واقعان يقومان على توازنات دقيقة للغاية. وبالتالي، فإن إفلات عنصر واحد من عناصر التوازن عن نطاق السيطرة قد يخلخل كل المعطيات.
عودة إلى تركيا.
تركيا في عهد رجب طيب أردوغان وحزبه، كما تبين من تجربة «قافلة الحرية» إلى غزة في العام الماضي، وقبلها بسنة موقف أردوغان من شيمعون بيريس في دافوس، ترى أن صدقيتها تعتمد إلى حد كبير على مكانتها ونفوذها في العالم الإسلامي.
وبناء عليه، فحزبها الحاكم لا يستطيع السكوت إلى ما لا نهاية عن سياسات إسرائيل القمعية والمتطرفة في رفض السلام العادل. ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من حرص أنقرة على «وحدة العالم الإسلامي»، فإنها لا تستطيع تقبل أن تقرر قوة واحدة، ومنافسة لها تاريخيا، احتكار التكلم باسم المسلمين.
قدر تركيا، اليوم، أن يكون هذان التحديان قريبين جدا من أرضها. وهكذا، تجد تركيا نفسها الآن أولا مجبرة على التحرك، وثانيا مطلوب منها التحرك، ولا سيما، بعدما حركت الانتفاضات العربية المياه الراكدة طويلا.
كان بديهيا أن يؤدي التغيير في مصر، بالذات، إلى تنشيط ما للدور التركي، وبالأخص بعدما اعتبرت إيران أن سقوط النظام المصري السابق جاء لمصلحة استراتيجيتها الإقليمية. غير أن انزلاق الانتفاضتين الليبية، ثم السورية، إلى حمامات دم عجّل في تنشيط الدور التركي وجعله ضروريا في أعين كثيرين، على رأسهم القوى الغربية. وها هي أنقرة اليوم تقود، فعلا، عملية ترتيب الفصل الأخير من عهد معمر القذافي.
بالنسبة لسوريا، المسألة بالنسبة لتركيا أكثر حساسية بمراحل. فلتركيا حدود طويلة مع سوريا يبلغ طولها 877 كلم، يعيش الأكراد في مناطق واسعة من المنطقة الحدودية، سواء في الشرق بمناطق القامشلي وعامودا والدرباسية، أو الغرب في منطقة عفرين. وسبق لأنقرة - كما هو معروف - أن وجهت رسالة حازمة إلى دمشق عام 1998 بشأن إخراج القيادي الكردي عبد الله أوجلان من الأراضي السورية واللبنانية (المسيطر عليها سوريا)، أدت حينذاك إلى خروج أوجلان وإلقاء السلطات التركية القبض عليه عام 1999 إثر عملية استخباراتية في أفريقيا.
أيضا في سوريا وجود تركماني لا بأس به، وبالأخص في محافظة حلب حيث توجد 135 قرية يسكنها التركمان، يضاف إليها 15 قرية في محافظة حمص. بل كان التركمان يسكنون 12 قرية من قرى الجولان قبل نكسة 1967، ناهيك من وجودهم في المدن ومناطق أخرى من سوريا.
وأخيرا وليس آخرا، تشكل سوريا راهنا «جسر» إيران الجيو - سياسي إلى العالم العربي والبحر المتوسط. وتاريخ القلق التركي من تمدد إيران نحو المتوسط، بما في ذلك احتمالات «فصل» تركيا عن العمقين العربي والإسلامي، معروف منذ أيام الدولة العثمانية. وبالتالي، يتكرر هذا القلق اليوم في عهد حزب حاكم إسلامي التوجه.
وإذا أضيف إلى كل ما سبق، قلة ارتياح أنقرة لما رسخته دمشق في لبنان من حالة طائفية غير مرغوب بها.. تجلت أبعادها تماما بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، ثم ما أفرزه القمع الدموي في منطقة جسر الشغور المتاخمة للواء الإسكندرونة (محافظة هاتاي التركية) من أزمة لجوء حادة.. لا يعود صعبا على المراقبين فهم لماذا تصدر عن القيادة التركية اللهجة التي نسمعها هذه الأيام.
إياد أبو شقرا – الشرق الأوسط 13 حزيران 2011
قد لا ترى دول الاتحاد الأوروبي أن تركيا تستحقّ أن تكون عضوا كامل العضوية فيه، وقد يتصور بعض المتابعين أن لدى تركيا من المعوقات البنيوية الداخلية ما يحول دون لعبها أدوارا متقدمة على المسرح الدولي، لكن الواقع يشير إلى أن التطورات في كل المناطق المحيطة تدفعها دفعا لاستعادة شيء من ماضيها كقوة عالمية كبرى.
في الحقيقة، جزء أساسي من التمنع الأوروبي يعود إلى حجم تركيا وماضيها وهويتها العقائدية الحالية بعدما خبا بريق الأتاتوركية العلمانية، بالتوازي مع تراجع العلمانيتين العربية والإيرانية. فالعالم الغربي بأسره، لم ينسَ، ولا يمكن أن ينسى، أنه في يوم من الأيام دقّ الأتراك العثمانيون على أبواب فيينا. كذلك لا يمكن أن ينسى أن الباب العالي في إسطنبول كان مسيطرا على معظم جنوب البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب كل شرقه وشماله الشرقي.
اليوم تركيا عائدة بحكم توالي الأحداث، طموحا أو اضطرارا - لا فرق - إلى استعادة موقعها التاريخي في شرق المتوسط. فالأزمة السورية أخطر بالنسبة إلى تركيا بكثير من أن تترك لتصرف الآخرين.
إنها قضية مصلحة حيوية مباشرة تتشابك فيها عوامل عدة ليس أقلها العامل الحدودي والعامل الإثني والعامل المذهبي وعامل التوازنات الإقليمية الكبرى.
وسوريا، كما تشير كل المعطيات الآن، ما عاد ممكنا أن تعود إلى ما كانت عليه. لقد راهن الجيل الثاني في نظامها على حل مشكلاته المتراكمة بالطريقة الوحيدة التي يعرفها ويجيدها، أي القمع والتخويف بشبح الأصولية الطائفية، غير أنه أثبت أنه أقل دراية من الجيل الأول في كيفية تغليف هذه الطريقة وتنميقها.. تمهيدا لطمسها وذر التراب عليها.
صحيح لم يسجل، حتى الآن، على صعيد عدد ضحايا الانتفاضة السورية ما سجله الجيل الأول من نظام دمشق في «أحداث حماه» عام 1982. غير أن الجيل الثاني يواجه «انتفاضة 2011» في ظروف مختلفة تماما مع أنه يعتمد منطق القمع ذاته، ولذا جاءت النتيجة مختلفة.
في حماه عام 1982 تعمد النظام تركيز معركته في مكان واحد اختار أن يجعل منه «أمثولة» مأساوية تتعلم منها باقي مناطق سوريا الطاعة والإذعان. وفي درعا عام 2011 جرب النظام تطبيق «الأمثولة» مجددا، ولكن هذه المرة من دون نجاح يذكر بعدما خذله تقدم تكنولوجيا الاتصالات أولا، ثم سقوط حاجز الخوف عند المواطن السوري ثانيا، وهو ما ساعد على تمدد «الانتفاضة» خارج نطاق حوران لتشمل كل أنحاء البلاد.
تمدد «الانتفاضة» دفع النظام نحو تجربة سلاحه الثاني الذي هو تكتيك إثارة المخاوف الطائفية والمذهبية، وكان اعتماد هذا الخيار مجازفة أكيدة تتبين تبعاتها الآن. ذلك أن دور دمشق المحوري في استراتيجية إيران الإقليمية المتكاملة، والسكوت الإسرائيلي عن هذا الدور طالما بقي ضامنا لسكون جبهة الجولان وتأزيم مناخ المذهبية في المنطقة، واقعان يقومان على توازنات دقيقة للغاية. وبالتالي، فإن إفلات عنصر واحد من عناصر التوازن عن نطاق السيطرة قد يخلخل كل المعطيات.
عودة إلى تركيا.
تركيا في عهد رجب طيب أردوغان وحزبه، كما تبين من تجربة «قافلة الحرية» إلى غزة في العام الماضي، وقبلها بسنة موقف أردوغان من شيمعون بيريس في دافوس، ترى أن صدقيتها تعتمد إلى حد كبير على مكانتها ونفوذها في العالم الإسلامي.
وبناء عليه، فحزبها الحاكم لا يستطيع السكوت إلى ما لا نهاية عن سياسات إسرائيل القمعية والمتطرفة في رفض السلام العادل. ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من حرص أنقرة على «وحدة العالم الإسلامي»، فإنها لا تستطيع تقبل أن تقرر قوة واحدة، ومنافسة لها تاريخيا، احتكار التكلم باسم المسلمين.
قدر تركيا، اليوم، أن يكون هذان التحديان قريبين جدا من أرضها. وهكذا، تجد تركيا نفسها الآن أولا مجبرة على التحرك، وثانيا مطلوب منها التحرك، ولا سيما، بعدما حركت الانتفاضات العربية المياه الراكدة طويلا.
كان بديهيا أن يؤدي التغيير في مصر، بالذات، إلى تنشيط ما للدور التركي، وبالأخص بعدما اعتبرت إيران أن سقوط النظام المصري السابق جاء لمصلحة استراتيجيتها الإقليمية. غير أن انزلاق الانتفاضتين الليبية، ثم السورية، إلى حمامات دم عجّل في تنشيط الدور التركي وجعله ضروريا في أعين كثيرين، على رأسهم القوى الغربية. وها هي أنقرة اليوم تقود، فعلا، عملية ترتيب الفصل الأخير من عهد معمر القذافي.
بالنسبة لسوريا، المسألة بالنسبة لتركيا أكثر حساسية بمراحل. فلتركيا حدود طويلة مع سوريا يبلغ طولها 877 كلم، يعيش الأكراد في مناطق واسعة من المنطقة الحدودية، سواء في الشرق بمناطق القامشلي وعامودا والدرباسية، أو الغرب في منطقة عفرين. وسبق لأنقرة - كما هو معروف - أن وجهت رسالة حازمة إلى دمشق عام 1998 بشأن إخراج القيادي الكردي عبد الله أوجلان من الأراضي السورية واللبنانية (المسيطر عليها سوريا)، أدت حينذاك إلى خروج أوجلان وإلقاء السلطات التركية القبض عليه عام 1999 إثر عملية استخباراتية في أفريقيا.
أيضا في سوريا وجود تركماني لا بأس به، وبالأخص في محافظة حلب حيث توجد 135 قرية يسكنها التركمان، يضاف إليها 15 قرية في محافظة حمص. بل كان التركمان يسكنون 12 قرية من قرى الجولان قبل نكسة 1967، ناهيك من وجودهم في المدن ومناطق أخرى من سوريا.
وأخيرا وليس آخرا، تشكل سوريا راهنا «جسر» إيران الجيو - سياسي إلى العالم العربي والبحر المتوسط. وتاريخ القلق التركي من تمدد إيران نحو المتوسط، بما في ذلك احتمالات «فصل» تركيا عن العمقين العربي والإسلامي، معروف منذ أيام الدولة العثمانية. وبالتالي، يتكرر هذا القلق اليوم في عهد حزب حاكم إسلامي التوجه.
وإذا أضيف إلى كل ما سبق، قلة ارتياح أنقرة لما رسخته دمشق في لبنان من حالة طائفية غير مرغوب بها.. تجلت أبعادها تماما بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، ثم ما أفرزه القمع الدموي في منطقة جسر الشغور المتاخمة للواء الإسكندرونة (محافظة هاتاي التركية) من أزمة لجوء حادة.. لا يعود صعبا على المراقبين فهم لماذا تصدر عن القيادة التركية اللهجة التي نسمعها هذه الأيام.
إياد أبو شقرا – الشرق الأوسط 13 حزيران 2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق