الأحد، 1 مايو 2011

لماذا لا يصلون؟

في بادرة فريدة من نوعها، أنتجت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة القصيم ـ  وما أدراك ما القصيم حيث يسود إسلام راديكالي متشدد ـ فيلماً سينمائياً بعنوان "إنها الحياة". الفيلم يستهدف زرع محبة الصلاة في نفوس النشء، والتذكير بأنّ الصلاة أس الإسلام، وتذكرة العبور إلى جنات النعيم. استعانت الهيئة في إيصال رسالتها بأحد مشاهير كرة القدم السعودية وبصوت "مها الشعلان" الكاتبة بجريدة الرياض. ألم يكن صوت المرأة حرام من قبل؟ ما الذي تغير الآن؟!

إن تأمل مثل هذا الخبر يجعلك تخرج بعدد من الاستنتاجات المدهشة: 

أولاً: إن الهيئة تسعى إلى محو الانطباع السائد عنها بأنها جهاز متحجر، وأنها تتبنى أساليب دعوية متكلسة.

ثانياً: إن الهيئة لا تحارب المرأة كما يدعى عليها بدلالة استعانتها بإحدى الكاتبات.

ثالثاً: إن سوق الناس بالعصي، وجرهم إلى الجنة بالسلاسل ما عاد يتلاءم وروح العصر.

رابعاً، وهذا الأهم، إن هناك نسبة لا يستهان بها من الشباب السعودي قد انصرفت عن الصلاة، أو أنها تتهاون في القيام بها على الأقل.

لننطلق من آخر الاستنتاجات في استكمال ما تبقى من المقالة. عندما تتودد الهيئة للشباب بفيلم عن الصلاة، وعندما تحاصرك ملصقات ثابتة ومتحركة ك "صلاتك قبل مماتك" أو "صل قبل أن يصلى عليك"، وعندما تنسج قصصاً تبعث على الرعب بشأن مصائر من تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات في الدنيا، فإننا إزاء ظاهرة آخذة في الاتساع، ألا وهي عزوف قطاع واسع من الشباب السعودي عن أداء الصلاة. قد يوجد من يراهن على أن الأكثرية مازالت – ولله الحمد والمنة – تواظب على أداء الصلاة. أما أنا فأراهن بدوري على أن نصف هذه الأكثرية ما فعلت ذلك عن حب ورضا، وإنما استجابة لضغوطات اجتماعية.

لنتخيل أنك كنت مدعواً لمناسبة اجتماعية، وقام الجميع لأداء الصلاة جماعة. هل بمقدورك الاعتذار عن مشاركتهم هذه الفريضة تحت أي حجة؟ إن فعلت، فقد جلبت لنفسك صنوف التقريع والتوبيخ. ولنتخيل أنك كنت بأحد البنوك لإنهاء معاملة مالية، وفجأة رفع صوت الآذان. أي خيار سيبقى لك بعد أن توصد الأبواب، وتمد سجادة الصلاة الحمراء؟ قبل بضعة أشهر، توجهت لإدارة الجوازات لتجديد جواز السفر. وقبل أن يبلغني الدور، رفع آذان الظهر. ما هي ألا ثوان حتى توارى الموظفون، ثم دخل رجل بزي عسكري آمراً الجميع بمغادرة صالة الانتظار للصلاة. انتظرت دقيقتين أو ثلاثة حتى أصبح المكان شبه فارغٍ. تقدمت منه سائلاً: ماذا لو انتظرت هنا؟ أجاب بقوله: إن التعليمات الرسمية تنص على مغادرة الجميع الصالة وقت الصلاة. ثم أكمل الرجل قائلاً: الخيار المتاح لك إما أن تصلي في المسجد الخارجي الملحق بإدارة الجوازات أو تصلي في المصلى الداخلي. أومأت برأسي، ثم حملت أوراقي وجريدتي، وخرجت للتجول عبر الممرات ريثما يفرغ المصلون من أداء الصلاة. بينما كنت أتمشى، توقفت برهة أرقب المصلين من مراجعين وموظفين وهم يخرجون من دورات المياه. كان المنظر منفراً للغاية، فالماء كان يقطر من وجوههم وأيديهم وأقدامهم. كان يتوجب على المصلي السير فوق أرتال من أحذية خلعها أصحابها بلا مبالاة ليدلف إلى الداخل. شعرت وكأن المصلى يكاد وأن ينفجر من فرط أعدادهم والتصاق أجسادهم ببعضها البعض. تساءلت بيني وبين نفسي: كيف للروح أن تنعتق من جسد صاحبها لتتحد بالمطلق وهي تكاد تعتصر في جسد صاحبها من شدة الزحام. تذكرت حينها ما رواه المفكر "نضال الصالح" في كتابه القيم "المأزق في الفكر الديني: بين النص والواقع" عن تجربته الذاتية عندما ذهب للصلاة بصحبة صديق إلى أحد جوامع العاصمة الأردنية. يقول الكاتب "... قام الإمام وأخذ يدعو لرص الصفوف حتى لا يمر الشيطان من بيننا (كذا) حتى صرت مضغوطاً بين كتفي رجلين ضخمين كقطعة جبن في رغيف ساخن. وبدأت الصلاة وأخذ الإمام يطيل في القراءة وبدأ العرق يتصبب من كل مسامات جسمي، وكانت كل حركة أقوم بها تسبب لي الألم، وشعرت بضيق النفس وأخذ رأسي يدور في حركة لولبية وكدت أقع مغمياً علي. أخذت أنظر إلى ساعتي وأحسب الدقائق وأنتظر نهاية هذا العذاب وخفت أن أقع ويغمى علي وسط المصلين..." يكمل الكاتب حكايته بعد أن انطلق راكضاً إلى خارج الجامع بعد نهاية الصلاة لاستنشاق هواءٍ باردٍ كان سبباً في إصابته بنزلة صدرية استغرق علاجها أسابيع طويلة بالقول، "تساءلت بعدها ما حجة رص الصفوف هذه وبهذه الطريقة التي تخنق المصلي وتضيق عليه حركته وتحرمه من الاسترخاء والتفاعل مع الصلاة؟ أي صلاة هذه التي يقوم بها المصلي وهو في وضع غير مريح يكاد فيه أن يختنق، وأي سمو واقتراب من الخالق في مثل هذه الصلاة؟"

صدقت والله يا سيدي. كيف للروح السجينة أن تطير بلا جناحين؟ كيف للروح الحبيسة أن تنسل من طين الجسد لتغتسل في نهارات النور الإلهية؟ كيف للصلاة أن تكون جسراً تعبر بصاحبها إلى عوالم البهاء الخفية وهو مكبل بكل تلك الأصفاد من الشروط والنواهي والمحرمات. في الصلاة يحضر الفقيه الرقيب فيما يغيب صاحبها ويتلاشى حضوره. في الصلاة لا فسحة لك ولا خيار لك، فالكلمات محددة والحركات مقننة. إن حدت عنها يميناً أو شمالاً، سقطت في المحظور، وردت عليك صلاتك!

منذ الصغر، وهناك أسئلة "شيطانية" تعشش في رأسي. لا قبل لي بكشفها لغيري ولا قبل لغيري بدحضها. ما زلت إلى هذا اليوم أتساءل:

أي لذة روحانية يجدها المصلي وهو يجلد ظهر أبي لهب وزوجه بسياط العذاب كل يوم؟

أي حلاوة وجدانية يحوزها المصلي وهو يخوض في زيجات النبي وهموم بيته وحروبه وصراعاته مع كفار مكة ومنافقي المدينة ويهودها؟

أي صلاة تلك التي تستمطر اللعنات، وتتقلب ما بين أفخاذ حور الجنة وحطب النار؟

أي صلاة تلك التي تحدثني عن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد فيما لا أجد ما أتحدث فيه مع ربي؟

لست وحدي بالتأكيد من تشاغبه أسئلة على هذه الشاكلة. أناس كثر تصطرع بدواخلهم الظنون والشكوك، ولكن ما من أحد يقوى على البوح بها في مجتمعات لم تعرف التسامح مع أسئلة تهدد سكون مياه العقل الآسنة. باعتقادي أن كثيراً منا، وليس الأمر محصوراً على فئة الشباب، أهملت الصلوات لا بسبب الشيطان ووساوسه ولا لكثرة الفروض ولا لطولها. أهملت الصلوات لأنها جعلت نصاً محفوظاً ونمطاً رتيباً. يتثاقل الكثير القيام بالصلاة لأنها لا تتيح له التعبير الحر عن مشاعره الذاتية، ولا تقبل عليه الاستخدام العفوي وغير المتكلف لكلماته الخاصة في بناء جسور الوصل مع الله. ولعلي لا أجافي الحقيقة في شيء لو قلت أن منا بشر لا تعمر بيوت الله لا لتلبية أوامر السماء بقدر ما تفعل ذلك إذعاناً لضغوط اجتماعية تربط بين الصلاة جماعة وبين تحقيق اعتراف اجتماعي وأحياناً قانوني كما هو الحال في عدد من القضايا القانونية التي ترفع للمحاكم الشرعية في السعودية مثلاً.

ما العمل إذن؟ هل يمكن لنا أن نغير شيئاً من الصلاة؟ من المؤكد أننا قد نستطيع أن نغير أي شيء في هذه الدنيا إلا أن نقترب من الصلاة أو أي ممارسة فقهية مهما بدت تافهة اعتاد المسلمون على فعلها قرناً وراء قرن. دعوني اقترح عليكم ما فعله المفكر نضال الصالح في كتابه المذكور أعلاه لكي يحول صلاته من عبء ثقيل لا معنى له إلى تجربة روحانية مثيرة. تعالوا نقرأ سوياً ماذا فعل مفكرنا بعد أن فشل سنوات من صلوات لا حصر لها في فك الشفرة الإلهية والاتحاد بالمتعالي المطلق. يقول نضال "... فجلست في غرفة مظلمة وأغمضت عيني ورحت أخاطب الله بكلمات عفوية تخرج من قلبي وتعبر عن إحساسي الداخلي وتنبع منه وليست عبارات روتينية يرددها لساني، فشعرت وكأن جسدي قد تلاشى وكأنني تحولت إلى روح راحت تسبح في الفضاء الواسع وتندمج معه. فسالت دموعي وشعرت بالطمأنينة تملأ جسدي وروحي، كأنما الله قد شعر بي وباركني. وأعدت الصلاة تلك في أوقات مختلفة ومتخذاً مواضع مختلفة وأجواء مختلفة، تارة أشعل شموعاً وأخرى أحرق بخوراً، وفي مرات أضع موسيقى خافتة، وفي مرات أخرى أضع شريطاً لأحد المقرئين الذين يحسنون قراءة وتجويد القرآن الكريم. وكنت أشعر أنه كلما كانت جلستي مريحة والسكون حولي تاماً، كلما زادت نفسي سمواً وكلما شعرت بالتقرب من الله عز وجل..." ما رأيكم في ذلك؟ اعتقد أنها طريقة تستحق التجربة. لنجربها فلن نخسر شيئاً، فقد تكون هي مفتاحاً لباب الله المغلق في وجوهنا!

بقلم هشام محمد Aug 12, 2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق