الثلاثاء، 24 مايو 2011

تعددية التأسيس في فلسفة جيل دولوز

تعددية التأسيس في فلسفة جيل دولوز

لا شك أن العنوان الذي اخترناه لهذه المداخلة يثير تساؤلا أساسيا. إنه يفيد البحث في عملية التأسيس وبالضبط في شكلها المتعدد. وحينما نقول إن العنوان يثير تساؤلا فذلك لا يرجع إلى كون الموضوع المطروح هنا يقر بتأسيس متعدد في الوقت الذي عودتنا فيه الفلسفة على ربط التأسيس بالوحدة والواحد، وإنما يرجع إلى كون الموضوع الذي نطرحه يقر بمسألة التأسيس ذاتها عند فيلسوف اهتم بالاختلاف. ونحن نعلم أن الفلسفة المعاصرة المتمثلة في الاختلاف تقوم على مفاهيم مغايرة، إن لم نقل مناهضة ومناهضة لمفهوم التأسيس. إنها تستند إلى الهدم والتفكيك واللاتأسيس (Défondation-déstruction-déconstruction) كيف يمكن الحديث عن التأسيس عند دولوز إذن؟ هل ظلت فلسفته بعيدة عن هذه المفاهيم المذكورة أعلاه والتي تحتل مكانة رئيسية في فلسفة الاختلاف؟ ثم بأي معنى يمكن الحديث عن التأسيس في فلسفة دولوز أو انطلاقا من فلسفة دولوز؟

* نعتقد أن مسألة التأسيس واردة بشكل واضح في فلسفة دولوز، وأن ما يميزه بالضبط عن باقي فلاسفة الاختلاف، وبالخصوص عن هيدجر، هو منحاه نحو إمكانية التأسيس، وربما نحو ضرورة التأسيس، ولكن انطلاقا من مبادئ تتناقض بشكل كلي مع فلسفة الهوية وتسمح للاختلاف بأن يكون المبدأ الأول.

لا ندعي طبعا الدفاع عن هذه الفكرة انطلاقا من كل كتابات دولوز. إننا سنقتصر على نصوص معدودة جدا وهي الاختلاف والتكرار والريزوم وحوارات.

كما لا ندعي أن هذه الكتابات تطرح مسألة التأسيس بطريقة واحدة. سنحاول أن نبين كيف ينتقد فيلسوفنا فكرة الأساس في الكتاب الأول وكيف يذهب في المقال الثاني إلى محاولة التأسيس انطلاقا من الفلسفة الجديدة أي فلسفة الاختلاف. وإذا أشرنا أعلاه إلى وجود فرق بين دولوز وفلاسفة الاختلاف فذلك لأن دولوز، في نظرنا، لا يبعد الفلسفة عن المسألة الإيتيقية والسياسية كما هو الشأن مثلا بالنسبة لهيدجر، هذا بالإضافة إلى أن الاهتمام بالتأسيس عنده لا ينفصل عن الاهتمام بالديمقراطية كإطار وكفضاء لممارسة الاختلاف أو لتحقيق الاختلاف. فبقدر ما يؤكد هيدجر على عدم اقتناعه بانسجام الديمقراطية كنظام سياسي مع عصر التقنية (Réponses et questions P:42)، بقدر ما يميل دولوز إلى اعتبار الديموقراطية النظام المناسب للتطور الحالي للمجتمع. (Qu’est-ce que la philosophie? Instituts et institutions/ introduction).

سنتابع موضوع التأسيس عند دولوز في كتابه الاختلاف والتكرار لننتقل فيما بعد إلى النص المنشور كمقدمة لكتابه Mille plateaux بعد أن تم نشره كمقال مستقل.

لا يتحدث دولوز بشكل مباشر عن التأسيس في الاختلاف والتكرار. إنه يثير بالأحرى مسألة الأساس في إطار تناوله للطرح القديم للاختلاف، وبالضبط للطرح الذي يربطه دائما بالهوية وبالمتطابق (Identité-le même) أي بفلسفة التمثيل (la représentation). ولا يتناول مفهوم الأساس بشكل مباشر إلا في خاتمة الكتاب. ما علاقة الأساس بالهوية أو المتطابق؟ أو ما علاقته بالتمثيل؟

لا يخفى على المهتمين بتاريخ الفلسفة المكانة التي يحتلها كل من النموذج والكل والواحد والمتطابق والهوهو والمتساوي في الفكر الفلسفي. غالبا ما يخصص الفيلسوف جزء هاما من كتاباته لقديم تصوره لهذه المفاهيم، أو لأحدها، باعتبارها الموضوع الحق للفلسفة. وإذا كان الفيلسوف يبتدئ بهذا العمل فذلك لأن صياغة معرفة بصدد هذا الموضوع تكون مسألة أساسية لضمان منطلق للمعرفة والفعل معا. وهذا هو معنى إيجاد أساس. لا يفيد الأمر طبعا بالنسبة للفيلسوف أن يقوم بمجرد افتراض. إنه مقتنع (ويسعى إلى إقناع الآخرين بذلك) بأن الأساس هو بالضبط، بالنسبة إليه وللآخرين، بالنسبة لعصره ولعصر غيره، ذلك الموضوع الذي كشف عنه وحدد مميزاته التي تأتي الهوية والوحدة والتساوي والتطابق في مقدمتها.

وبعد صياغة الفيلسوف لمعرفة إيجابية ووضعية بصدد الأساس، تصبح معرفة المواضيع الأخرى ممكنة وسهلة في الوقت ذاته. تكون المقاييس آن ذلك واضحة. فالمواضيع المراد معرفتها ستقاس على الواحد والمتطابق. وإذا كانت مخالفة له فإن محمولاتها ستكون متعارضة مع محمولات الواحد، كما أن الأحكام التي ستصدر بصددها ستكون قائمة على التماثل، أي تعمل على تحديد درجة مماثلتها للأساس.

هكذا سميت المعرفة المقدمة بصدد الأساس وبصدد المواضيع التي تقاس على الأساس بالمعرفة التمثيلية. إنها معرفة تتجاوز التقديم، ويرفض أصحابها أن تكون مجرد تقديم، لأنها ستكون بذلك مجرد معرفة تجريبية. إنها معرفة تمثيلية لأنها تسعى إلى تمثيل الأساس، أي إلى أن تتمتع بالخصائص المذكورة أعلاه والتي يتمتع بها الأساس. فتحل بذلك محله ويصبح الحصول عليها بمثابة الحصول على الأساس ذاته. إنها معرفة تقرب الموضوع الذي تهتم به من الأساس بدل أن تقدمه هو في حد ذاته، مما يجعلها تعمد في تحديدها لموضوعها إلى ما يوحده بالأساس أو ما يبعده عنه، أي أنها تركز على مدى تمثيل الموضوع للأساس.

يتضح معنى الأساس أكثر في خاتمة كتاب الاختلاف والتكرار حيث يحدد دولوز ثلاث معاني أخذها المفهوم عبر تاريخ الفلسفة. يقول: "إن الأساس هو عملية اللوغوس أو السبب الكافي، ويأخذ من حيث هو كذلك ثلاث معاني. إن الأساس في معناه الأول هو المتطابق أو الهوهو. إنه يتمتع بالهوية الأسمى تلك التي يفترض أنها تنتمي إلى المثال. (...) ولا يتحدد الأساس بتاتا، في معنى ثاني، بعد تشييد عالم التمثيل، من طرف الهوهو. حيث يصبح الهوهو خاصية داخلية للتمثيل ذاته، كما يصبح التشابه هو علاقته الخارجية مع الشيء.(...) ينبغي أن يفعل الآن الأساس داخل التمثيل من أجل تمديد حدوده إلى اللامتناهي في الصغر وكذلك إلى اللامتناهي في الكبر. تنفذ هذه العملية بواسطة منهج يضمن واحدية المركز بالنسبة لجميع المراكز الممكنة والمتناهية للتمثيل، كما تضمن التقاء كل وجهات النظر المتناهية للتمثيل، وتعبر هذه العملية عن السبب الكافي. ليس هذا الأخير بالهوية ولكنه وسيلة كي نُخْضِعَ للهوهو وللمقتضيات الأخرى للتمثيل ما كان ينفلت منهم من الاختلاف بالمعنى الأول(...) ويتحد المعنيان الإثنان للأساس مع ذلك في معنى ثالث. التأسيس هو فعلا دائما طي وثني وإعادة ثني، أي تنظيم نظام الفصول والسنوات والأيام... التأسيس بهذا المعنى الثالث هو تمثيل الحاضر، أي إحضار الحاضر وتمريره في التمثيل "المتناهي أو اللامتناهي". ولتلخيص المعاني الثلاثة السابقة يقول دولوز "إن التأسيس هو دائما تأسيس التمثيل"(1). (الاختلاف والتكرار 51-50-349)
يتضح من خلال تحديد دولوز للأساس أن هذا الأخير مقرون بفلسفة الهوية، وأن عملية التأسيس لا تنفصل عن فكر الهوية والمركز الواحد. كل فكر وكل ممارسة يقومان على مبدإ الأساس سيعطيان الأولية لسيادة الواحد ولسيادة الهوية، ويكونان بذلك فكرا أو ممارسة قائمين على النفي والإقصاء. لا مجال داخل هذا النوع من الفكر والممارسة للبناء خارج النفي وبالضبط نفي كل ما هو مختلف. وحينما يتم تحديد هذا الأخير فإنه لا يتحدد إلا انطلاقا من علاقته بالهوهو. كما أن نشاط ما هو مختلف ينحصر دائما في خدمة ما هو متطابق، ونشاط المتطابق لا يخرج عن إطار إخضاع كل ما هو مختلف لرغباته وحاجياته وأهوائه، ولم لا لاسيتهاماته.

هكذا نجد دولوز يفصح عن رفضه لمفهوم الأساس كمبدإ موجه للفكر وللممارسة. والسبب واضح طبعا، إنه يتنافى في نظره مع المبدإ الحق السائد وسط الموجودات. "لا يسمح العود الأبدي، يقول دولوز، بأي تشييد للتأسيس والأساس –Fondation-fondement-، إنه على العكس من ذلك يحطم ويبدد كل أساس ويكون عبارة عن هيئة تقيم اختلافا بين الأصلي والمشتق، بين الشيء والأشباح. إنه يضعنا أمام غياب شمولي للأساس (l’effendement universel). وينبغي أن نفهم من غياب الأساس تلك الحرية المستغنية عن الوساطة، حرية الأساس، ذاك الاكتشاف للأساس وراء أي أساس آخر، تلك العلاقة بين ما لا أساس له وغير المؤسس (le sans fond et le non-fondé)، هذا الانعكاس المباشر لما يرفض الصورة وللصورة العليا التي تشكل العود الأدبي"(2) ص92.

كيف يمكن الحديث إذن عن تأسيس متعدد في فلسفة دولوز إذا كان هذا الأخير يربط الأساس والتأسيس بفلسفة الهوية، ويربط فلسفة الاختلاف بغياب الأساس؟ ثم ألسنا هنا أمام إعادة فكر هيدجر مادام أن كاتب الوجود والزمان هو صاحب هذه الإشكالية: التأسيس واللاتأسيس؟ التأسيس بالنسبة لفلسفة الهوية والميتافيزيقا، واللاتأسيس بالنسبة لفلسفة الاختلاف؟

نعتقد أن أصالة فكر دولوز تكمن بالضبط في انتهائه إلى إمكانية التأسيس، وربما إلى ضرورة التأسيس رغم انتقاده لمسألة الأساس ورغم ربطه لهذا الأخير بفلسفة الهوية، مما يجعل فكره يختلف في نظرنا عن فكر هيدجر، ويبتعد عنه، رغم التقارب الذي يبدو بينهما فيما يخص إشكالية التأسيس واللاتأسيس. لنحاول توضيح الفكرة الثانية قبل التعرض للفكرة الأولى لأن تبيان الفرق بين دولوز وهيدجر بصدد مسألة الأساس سيساعدنا على ضبط النقطة الأولى وعلى تطويرها.

صحيح أنه من الصعب ألا يقيم قارئ دولوز وهيدجر علاقة بينهما فيما يخص هذه المسألة حينما يقرأ مثلا عند الأول "إن الوجود هو الذي يشكل الاختلاف بالمعنى الذي يفيد بأنه يقال عن الاختلاف"(3) (صD.R57) أو حينما يقرأ "إن الاختلاف وراء كل شيء ولكن لا يوجد أي شيء وراء الاختلاف"(4) (صD.R80). لابد وأن يذكرنا هذين القولين بتأكيد هيدجر على كون الوجود فعلا أساس الموجودات ولكنه أساس بدون عمق وبدون أساس، وكذلك بتأكيده على كون الوجود لا يتحدد إيجابيا ولا سلبيا لأنه سيكون بذلك عبارة عن موجود، أنه يظل دائما شيئا آخر بالنسبة للموجود، ويعطيه بعدا آخر غير الأبعاد التي يتمتع بها في لحظة تحديده يتمتع الوجود بالنسبة لهيدجر بالاختلاف في داخله، وذلك الاختلاف هو الذي يسمح له بأن يكون متجاوزا لما نحدده فيه ويتستر بالنسبة لما يظهر ومنسحبا بالنسبة لما هو حاضر. ثم كيف لا يمكن استحضار هيدجر حينما يعمد دولوز إلى تحديد معاني الأساس والتأسيس؟ على الأقل حينما يقر بوجود معاني ثلاثة لهذا المفهوم أي العدد ذاته الذي يحدد فيه هيدجر معنى الأساس والتأسيس؟

يعطي هيدجر بدوره المعاني الثلاثة الآتية للتأسيس: 1- أسّس بمعنى نصّب وشَيَّد. 2- أسّس بمعنى أخذ قاعدة وتأسيس. 3- أسّس بمعنى منح أساسا و"عَلَّلَ"(1) هذا مع العلم أن معنى التأسيس لا ينحصر في هذه المعاني الثلاث حتى وإن تم التركيز عليها لوحدها حيث يقول هيدجر قبل ذكرها ما يلي: "نسمي العلاقة التي تجمع منذ البداية الحرية والأساس، الحرية والسبب، فعلا "التأسيس"، تمنح الحرية في فعل التأسيس هذا هي ذاتها وتأخذ أساسا. غير أن فعل التأسيس هذا الذي يتجذر في التعالي بتفرع إلى تحولات متعددة. ثلاثة منها تأتي على الشكل الآتي"(5). [التشديد من عند الكاتب].

إن أفضل وسيلة ينبغي الاعتماد عليها للمقارنة بين دولوز وهيدجر بصدد مسألة التأسيس هي التركيز على الهاجس الذي يحمله كلاهما أثناء تناوله لهذا الموضوع. فإذا كان الفرق واضحا فيما يخص المنطلق فإنه من الصعب أن يكون هناك التقاء في الطرح أو في النتائج. لنحدد إذن هدف هيدجر من طرحه لمسألة التأسيس.

أولا: لأنها توضح بشكل كبير تناوله للوجود وتحديده لمعناه. إذا كان هيدجر يجمع بين التأسيس واللاتأسيس فذلك لأنه يريد فعلا الحفاظ على الوجود [الأساس] لكي لا يختزل الفكر في الموجودات وحدها، والسقوط من ثم في النظرة التقنية التي تساوي في نهاية المطاف فكرة الضبط التام والسيطرة والسيادة. لا يمكن أن يكون الأساس إذن منحصرا في الموجودات. كل من حاول الاهتمام بالموضوع فعليه أن يتجاوز الموجودات نحو أساس آخر، أعمق وأشمل، ألا وهو الوجود. غير أن التوجه نحو الوجود في عملية التأسيس يبين أنه لا يعمل على التأسيس بقدر ما يفعل عبر اللاتأسيس. لا ينبغي فهم علمه هذا على الطريقة الهيغلية ومنحه قوة سلبية وإرادة وعقلانية يكون شغلها الشاغل هو الهدم والتحطيم والاحتواء.. يفيد اللاتأسيس هنا مرة أخرى الطعن في فكرة السيطرة والسيادة التامتين. يساهم الوجود في اللاتأسيس لأنه يبين من حي لآخر خطأ الفكرة السابق، حيث يسحب الأسس التي تم وضعها رغم كل ما تتمتع به من قوة. ولا يفيد سحب الأسس دائما زوالها. وقد يفيد فقط انحصارها في عصر معين، أو في مجال معين كما قد يعني انحطاطها وتقهقرها بشكل تام. هذه هي الفكرة التي يلخصها فاتيمو Vatimo حينما يقول: "تفيد العلاقة الخاصة بين التأسيس واللاتأسيس التي نجدها في الوجود والزمان أن البحث عن معنى الوجود لا يمكنه في نهاية المطاف أن تحتل مكانة "قوية"، وإنما تفيد فقط منح اعتبار للعدمية كحركية يدور الإنسان، الدازاين، عبرها بعيدا عن المركز نحو س(6).

ثانيا: لقد تناول هيدجر مسألة الأساس لانتقاد النظرة الميتافيزيقية للكائن الإنساني، أو الانتقاد الميتافيزيقا المتمثلة في فلسفة الذات. لهذا وقع اختياره على المعاني الثلاث السالفة الذكر، إذ أنها ترتبط كلها بالكائن الإنساني.

يحاول هيدجر في إطار هذه النقطة أن يبين كون التأسيس مرتبطا ارتباطا وثيقا بالكائن الإنساني، بحيث يمكن أن نتجرأ على القول: إن التأسيس يدخل في إطار البنيات الوجودية للدازاين، مادام أن المعنى الأول للتأسيس يفيد التنصيب ووضع مشروع لهذا يقول هيدجر: "إذا كانت هذه الطرق في التأسيس تنتمي إلى التعالي، فواضح إذن أن أسماء مثل "نصب" أو "أخذ قاعدة" لا يمكنها أن تأخذ معنى وجوديا عاديا، إذ ينبغي منحها معني ترانسندتاليا"(7) 144.

يذهب هيدجر إذن بعيدا فيما يخص الإقرار بالحرية الإنسانية. لا تؤسس هذه الأخيرة في مجال بعينه، أو في لحظة بعينها، أو في مرحلة دون أخرى، أي فقط حينما تقرر ذلك وتأخذ المبادرة. إنها تؤسس دائما وباستمرار في مختلف مجالات حياتها. غير أن الإقرار بهذه الحقيقة لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى النظر إلى الحرية على أنها سيدة ذاتها وحاكمة نفسها ومحيطها. يعترف هيدجر للحرية بوجودها عند أصل كل تأسيس، ولكنه يفعل ذلك ليثبت في الوقت ذاته ما يسميه بتناهي الكائن الإنساني. فكون الإنسان موجود في العالم يُغْنِي بدون شك وجوده فيما يخص إمكانياته، ولكنه يعمل في الوقت ذاته على التقليص من إمكانياته. "يكون مشروع الإمكانات، بفضل ما يشكل وجوده الرئيسي، كل مرة أكثر غنى من الامتلاك الموجود سلفا عند ذلك الذي يشرع. ولكن إذا كان هذا النوع من الامتلاك ينتمي إلى الوجود الإنساني، فذلك لأن هذا الأخير يشعر، أثناء تخطيطه لمشروعه، بأنه وسط الموجود. ونظرا لهذا الأمر ذاته، اعتبارا لوجوده الخاص الفعلي فقط، تسحب منه بعض الإمكانيات الأخرى... يعمل التعالي كتنامي وكحرمان في آن واحد. أن يكون مشروع العالم، في الوقت الذي يفيد فيه دائما التنامي، لا يحصل على قوة ولا يصبح امتلاكا إلا عبر الحرمان، معناه أن هناك "شهادة" ترنسندنتالية على التناهي الذي هو خاص بحرية الوجود الإنساني"(8) [التشديد من عند الكاتب Questions I p:147].

ولعل تأكيد هيدجر على الحرمان من الإمكانيات وعلى انسحابها هو الذي يجعل اعتباره للحرية كأساس للأساس يبتعد عن فكرة إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض كما يقول هونري بيرو(9). ويجعلها تقوض فلسفة الذات. إذا كانت الحرية هي أساس الأساس ولكنها لا تستطيع مع ذلك التحكم فيما تؤسسه، وإذا كانت تتعرض للحرمان فالأمر راجع إلى الوجود. هناك دائما بعد ينفلت [ينسحب] من عملية التأسيس التي تقوم بها الحرية ويساهم في اللاتأسيس لأن هذا الانفلات يفعل فعله، وما يجعل منه انفلاتا هو بالضبط دوره الفعال في عملية التأسيس، فعالية تؤدي إلى زعزعة التأسيس وإلى سحبه. ليس هذا البعد شيئا آخر عُبِر الوجود. هذا هو ما يفسر ابتداء هيدجر في طرحه لمسألة الأساس بربطها بالوجود والحقيقة وانتهائه إلى الموضوع نفسه في ذات الوقت.

لقد اهتم هيدجر إذن بمسألة الأساس لإعطاء معنى جديد للوجود وبالضبط لجعل هذا الأخير يعرف الاختلاف في الوقت الذي يبدو فيه متطابقا. هناك اختلاف أنطولوجي يمنع الهوية من أن تتحقق كهوية تامة. إذا كان الوجود يجمع بين الهوية والاختلاف فإنه يجمع بذلك بين الحضور والانسحاب، وبين الظهور والتستر، ومن ثم فإنه يجمع في الوقت ذاته بين التأسيس واللاتأسيس. إن اهتمام هيدجر بالتأسيس إذن كان فرصة بالنسبة إليه لدعم فكرة قوية في فلسفته هي فكرة الانسحاب والتستر المرتبطين بالوجود أو اللذين يفرضهما الوجود على الموجودات.

أما حينما ننتقل إلى دولوز فإننا نلاحظ أن انتقاده للأساس يأتي دائما من كون هذا الأخير ينطوي على فكرة المركز ويتوخى منه ربط الفكر والفعل الإنسانيين بالمركز وتوجيههما نحو المركز. وحينما يقول دولوز باللاأساس فإنه يقصد فقط إبعاد هذا التصور الذي يرتب كل شيء وفق الواحد أو المتطابق أو المركز. كما أن اللاأساس أو غياب الأساس يكون من فعل العود الأبدي، أو بالأحرى يكشف عنه، حينما يبين لنا أن القوة التي ينطوي عليها التكرار، وتفعل في ظله، لا علاقة لها بأساس ثابت، لأنها تتدفق في الحقيقة من عمق كائنات لا تتوقف عن التعبير عن ذاتها.

إن انشغال دولوز بالأساس واللاأساس يهدف على عكس انشغال هيدجر إلى تحرير الموجودات من الوجود وإلى جعل الاختلاف مصدر إثبات الموجودات لذاتها، والتعبير عن نفسها، بدلا من أن يكون قوة حاجبة. لدي رغبة في قول ما يلي: إذا كان الأساس يرتبط عند هيدجر بفعل الوجود فإنه يرتبط عند دولوز بفعل الموجودات، وذلك لأن الوجود عند الأول اختلاف بينما يقال عند الثاني بصدد الاختلاف وحده. هذا ما يعبر عنه دولوز حينما يقول: "هل يكفي أن نقيم تعارضا بين المتطابق والهوهو لكي نفكر في الاختلاف الأصلي وننتزعه من الوساطات؟ (...) يعطي هيدجر إشراقا جديدا لتواطؤ الوجود. ولكن هل ينجز التحول الذي ينبغي أن يقال وفقه الوجود المتواطئ عن الاختلاف فقط، والإلمام من ثم بالموجود وحده؟ هل يتصور الموجود بالطريقة التي تجعل هذا الأخير ينفلت حقا من كل تبعية تجاه هوية التمثيل؟ لا يبدو ذلك إذا أمعنا النظر في نقده للعود الأبدي النيتشوي"(10). (صD.R91) التشديد من عند الكاتب.

ننتقل الآن بعد هذا التوضيح الخاص بالفرق الكائن بين دولوز وهيدجر فيما يخص تصورهما للتأسيس إلى الجواب عن السؤال المطروح أعلاه: كيف يمكن الحديث عن التأسيس عند دولوز بعدما تبين لنا رفضه للأساس؟

نعتمد هنا على مجموعة من النقاط ذات أهمية متفاوتة ولكنها تبين كلها حضور مسألة التأسيس في فلسفة دولوز.

نستخلص أولى هذه النقاط من نص سبق الاستشهاد به أعلاه "لا يسمح العود الأبدي بأي إقامة للتأسيس والأساس: إنه على العكس من ذلك يحطم ويبدد كل أساس يكون عبارة عن هيئة قد تقيم اختلافا بين الأصلي والمشتق، بين السيء والأشباخ"(11) (صD.R92).

إن الأساس الذي يحطمه العود الأبدي هو الأساس الذي يحافظ على الأصل كمقياس وكنموذج. هذا بالإضافة إلى أن الحديث هنا يتم في مستوى أول، مستوى ما يسميه دولوز بالعماء (Le chaos) إنه يفضل الحديث عن المستوى العمائي بدلا من المستوى الأنطولوجي. إن الأساس مرفوض إذن في مستوى محدد هو مستوى العماء.

أما النقطة الثانية فإنها تكمن في حديث دولوز عن مجموعة من الأفكار ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند وصفه للشبح في مقابل مقولات التمثيل. إنها أفكار تتنافى مع مفهوم الأساس كما حددناه قبل قليل، ولكنها لا تتنافى مع عملية التأسيس التي تأتي في المستوى اللاحق لمستوى العماء. أفكار تبين بدورها المكانة التي يوليها للموجودات في عملية التأسيس، وهي العمق الذي تنتظم فيه القوى الحادة المشكلة ثم السلسلات المتباينة التي تشكلها، ثم الإصرار على ما يسميه بـ"الرائد المعتم" (Le précurseur sombre) الذي يجعلها تتواصل فيما بينها، وأخيرا المزاوجات التي تحدث بين الموجودات وبين قواها، وكذلك الحركات الناتجة عنها بالقوة(12) (ص356 انظر D.R وكذلك ص342 وص70).

وتتعلق النقطة الثالثة بتأكيد دولوز على مسألة الإثبات بدلا من النفي. تعمل الموجودات على مستوى العماء على إثبات ذاتها كموجودات مختلفة. لا وجود لقوة وسطها تختزل فعلها في نفي هذه الاختلافات. يكون النفي حصيلة الاصطدامات بين القوى التي تسعى إلى إثبات ذاتها ولا وجود لنفي آخر غيره.

لهذا فالعدم لا وجود له في الأصل على مستوى الاختلاف. يأتي العدم في مستوى ثاني، وبذلك فهو لا يستحق تسمية العدم أو اللاوجود (nom être). "الإثبات أسبق، إنه يثبت الاختلاف والمسافة(...) ليس الإثبات هو أن نحمل، وإنما هو العكس تماما، أي نزل الثقل والتخفيف. إنه ليس بالسلب الذي ينتج شبحا من الإثبات كمادة بديلة، فهو بدوره ظل ولكن بمعنى النتيجة(13) (D.R ص77). إن الإثبات الذي يتم تصوره بهذا الشكل يتنافى فعلا مع الأساس الذي يسعى إلى السير بالاختلاف نحو المتطابق، ولكنه لا يتنافى في نظرنا مع التأسيس.

تبين كل هذه النقاط وجود فوضى على مستوى العماء، أي يبين غياب الأساس، ولكنها لا ضرورة الإبقاء على الفوضى أي لا تبين رفض التأسيس. يطور دولوز مسألة الاختلاف والإثبات في كتابه الاختلاف والتكرار بالاعتماد على فلسفة نيتشه، ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى تغييب مفكر آخر انشغل به وتأثر به فيما يخص مسألة الإثبات. إنه سبينوزا. لقد اهتم دولوز كثيرا بميتافيزيقا سبينوزا على العموم وبفلسفته الخاصة بالقانون الطبيعي حيث تحتل الرغبة والقوة مكانة هامة فيما يخص الإثبات. ولقد كان هدف سبينوزا من التشديد على الرغبة والقوة في نسج العلاقات الاجتماعية هو بالدرجة الأولى التوصل إلى طريقة جديدة في التشريع، ولم يكن بتاتا هدفه هو رفض التشريع.

وإذا كان دولوز لا يرفض التأسيس فإنه يضع شروطا للتأسيس الجديد، شروط تحافظ على الاختلاف كتعددية. ويتضح هذا الأمر في نظرنا في مقالة الريزوم. لقد قام بابتكار هذا المفهوم بالدرجة الأولى من أجل تحديد إمكانات وشروط التأسيس بالنسبة لفلسفة الاختلاف. إنه يتناول في هذا المقال مبادئ فلسفة الهوية وهي: مبدأ الترابط والتباين ثم مبدأ التعددية (وليس المتعدد) وأخيرا مبدأ القطيعة العديمة المعنى(14) (صMille plateaux 16) أي أن حدوث قطيعة في وسط معين لا يعني أن الاستمرارية ينبغي أن تحافظ على المعنى السائد أو الاتجاه السائد. إنها تأخذ المعنى الذي ينشأ مع حدوثها، ولا تجعل بالضرورة معنى سابقا.

تسير هذه المبادئ الأربعة في اتجاه واحد هو الطعن في المركز والسعي نحو فرض اللامركزية. إنها الوسيلة الوحيدة للسماح للجزئي بإثبات ذاته كجزئي والانتظام وفق مقاوماته ومقتضياته، وفق قوته ورغبته. ولعل ما يؤكد هذه الفكرة بشكل قوي هو إبدال دولوز هذه المرة للوجود est بالرابطة et بدلا من إثارة الموجود كما لاحظنا سابقا.

تأخذ عملية التأسيس إذن طابعا متعددا عند دولوز لأن فكره المتناول لهذه المسألة ينتقد بشدة مفاهيم فلسفة الهوية لما يترتب عن تلك المفاهيم من تراتبية وتبعية على مستوى التنظيم، ليضع في الوقت ذاته مفاهيم تجعل التنظيم يتم بطريقة أفقية على اعتبار أن المستوى الأفقي هو أنجع وسيلة لمسايرة الغنى والصخب الملازمين للاختلاف، وعلى اعتبار أنه أكثر تناسبا كوسيلة للتعامل مع الصراعات الحقيقية، بدل التصدي للتناقضات المفتعلة المنسوبة دائما لطبيعة الواحد والمركز.

وهذا ما يقصده دولوز بإحلال الجغرافيا محل التاريخ. الأولى وحدها تناسب المستوى الأفقي وتسمح بإقامته، أما الثاني فإنه لا يتمكن من التخلص بشكل كلي من المستوى العمودي سواء أخذنا به في شكل خطي أو دائري أو حقبي. الجغرافيا وحدها تسمح بالتأسيس انطلاقا من الرابطة وet، أما التاريخ فإنه يظل رهينا دائما بفعل الوجود est. ذلك لأن الرابطة و et تسمح في عملية التأسيس للعناصر المترابطة بالفعل انطلاقا عن قواها المندفقة منها بينما لا يستمر فعل الوجود est على جعلها تكتفي بتلقي ما يوزعه عليها من قوة لتوظفها في محاكاته والتشبه به. بمعنى آخر لا يمكن للوجود أن يتخلص من السيادة حتى وإن كان يزعزعها لأن قوة الوجود هي قوة لا تنفصل عن السلطة. تتم زعزعة السيادة انطلاقا من قوى متباينة ومختلفة قائمة داخل الوسط الذي ستسود فيه وليس انطلاقا من سلطة أو سلطات أخرى تعمل على مواجهتها. هذا هو مغزى الجذر المتقطع في نظرنا وهذا هو معنى التأسيس المتعدد الذي اخترناه كعنوان لمداخلتنا.

الهوامش

1) جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ص51-50-349.
2) المرجع نفسه، ص92.
3) المرجع نفسه، ص57.
4) المرجع نفسه، ص80.
5) المرجع نفسه، ص144.
6) Watimo, vers une autologie du declui, in revue Critique, jan. Fev. 1985, p. 94.
7) هيدجر Questions I، ص144.
8) المرجع نفسه، ص147.
9) H. Brault, Heidegger : Une experience de pensée, éd. Gallimard, p. 429.
10) جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ص91.
11) المرجع نفسه، ص92.
12) المرجع نفسه، ص356، وص342، وص70.
13) المرجع نفسه، ص13.
14) جيل دولوز وفليكس غاتاري، Mille plateaux، ص16.

عبد الحي أزرقان ** ) أستاذ الفلسفة – كلية الآداب – فاس. - الجمعية الفلسفية المغربية

قراءة في فكر دولوز

المعرفة والفكر: شاعرية المرور في السديم

دولوز - غاتاري: صيرورة كتابة

"الإمعان في الهرب خلف الخطوط"


بينما أنا منشغل في قراءة "ترحالية" تقفز من حقل إلى آخر، ومن مفكر إلى آخر بحثاً عن خيط ينسرب بين التربية والثقافة، ويتنافذ عبره الفكر والتاريخ، ضمن صيرورة ورؤية تجعل من تاريخ الفكر صيرورة تحرره، تلك الصيرورة المرهونة بمدى اقتناصه الرغبة، وترى أن فكر التاريخ هو حريته في الهروب دوماً من خطوط تحده وتحدده إلى آفاق تهرب به، ما دفعني إلى التموضع في حالة من البحث، وإن كانت لا تشبه البحث بقدر ما تشبه الإصغاء، إصغاء حائر ومتردد، يلتقط الأصداء لا الأصوات، ويبحث عن الخافت والمهموس، ما دفعني إلى قراءة، فانون، وسعيد، وفوكو... وجيل دولوز. وبعد أن قررت كتابة ما يشبه السيرة لتربية مغايرة، تربية مقاومة، تربية تشكل خطاً من خطوط الانفلات من الهيمنة الاستعمارية والفكر الامبريالي، ما جعلني أعد العدة لكتابة تتصدى لموضوع التربية والمعرفة والتاريخ في سياق مواجهة العولمة تحت عنوان "التربية خارج الشرط الإمبريالي"، وعزمت أمري على البدء بسلسلة من المقاربات تبدأ من فرانز فانون وتنتهي بجيل دولوز كمحاولة في البحث عن ذلك الخط المنفلت، الهارب، خط يراوغ ويشاغب ويلمع فجأة، ثم يختفي لينبثق في مكان آخر، وحقل آخر، وفيلسوف آخر - حرفني القدر المتجلى على شكل صدفة "لأبدأ من حيث ما كان يجب أن أنتهي"، حيث قررنا ترجمة فصل الجذمور ونشره، الذي يشكل مقدمة كتاب جيل دولوز وفليكس غاتاري، والذي يحمل عنوان ألف ربوة "هضبة أو سطح"، حيث تعددت الترجمات العربية. ويمكن أن نقول إن المقصود من العنوان هو الإيشاء بأن الكتاب محاولة للانفلات من الواحد، ولذلك، فكلمة ألف تدل على التعددية، في حين أن مصطلح ربوة يدل على "منطقة زاخرة بالطاقة كثيفة التوهج، فكل ربوة هي تعدد، وكل تعدد هو أديم مسطح"، ومصطلح ربوة الذي استمده "دولوز" من "غريغوري باتسون"، والذي كان يستعمله بمعنى "منطقة زاخرة بالطاقة، تستمد حيويتها من تلقاء ذاتها، نامية دوماً دون توجه نحو شيء خارجها، فهي لا تبتغي بلوغ هدف خارجها"،1 وهي ربوة لا تتحدد ببداية ونهاية، ولكنها وسط دوماً، والوسط ليس نقطة بين طرفين، ولكنه حركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها.

فالعنوان يشي بأن الكتاب ليس بنية واحدة، ولا مساراً منغلقاً، لا موضوعاً محدداً له، ولا أسلوباً واحداً يجمعه، بل هو كوكب فيه ألف ربوة، كل ربوة منطقة، وكل منطقة تعددية، وهذه الترسيمة المفككة والمتشعبة تنسحب على مضمون الكتاب الذي عالج أشكالاً شتى من المعرفة وتناولها، وتقافز بين حقول مختلفة ومتغايرة تبدأ باللسانيات والأدب والتاريخ، وتنتهي في الفكر والكتابة والمعرفة، مروراً بالجيولوجيا والبيولوجيا وعلوم الكون والأخلاق والسياسة، وهذا ليس كل شيء، فبنية الكتاب أيضاً جذمورية وليست جذرية، تبحث عن الغائر والمنفلت والمتوهج والمنبثق، ترصد الإشكاليات، وترسم التفرعات، وتخترق الخطوط، وتتلاشى خلف الأفق، ولغته أيضاً قلقة ومتوترة، منفلتة من لغة الأغلبية، نازعة إلى لغة الأقلية، واللغة، كل لغة هي واقعة متنافرة بالأساس، ثمة لويغات متنافرة في اللغة الواحدة، وليست هناك لغة أم، بل استيلاء لغة مهيمنة على السلطة.2

وهذا كله نتاج لكونه كتاباً من تأليف حشود بشرية وخلفيات معرفية متباينة؛ فجيل دولوز ورفيقه فيليكس، كل منهما قبيلة؛ أي شخص متعدد ومتكوثر، فدولوز يرى أن "ما نطلق عليه تسمية "الأنا" هو نسيج متناقض من آلاف الأنوات"، فالأنا تأليف بين أنوات متعددة، وهذا الأنا "لا يستقيم أمره إلا بالاعتماد على هذه الآلاف من الشهود التي تؤلفنا".3 ودولوز يرى أن علاقتهما تقوم على السرقة والاقتناص، فيقول "لقد سرقت غاتاري وأتمنى أن يكون قد فعل إزائي الشيء نفسه".

جيل دولوز: المسار والصيرورة

بينما دولوز يبدأ مسيرته الفلسفية، يبدأها مترحلاً من رحم فلسفي إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، من التجريبية والذاتية عند هيوم، إلى فلسفة كانط النقدية، وسبينوزا والتعبير، ونيتشه، وفلسفة نيتشه، وفوكو....4 دولوز يقرأ فلاسفة متعددين ومختلفين، أو دولوز يكتب ذواته المتعددة، ويرسم خطوط انفلاته وترحاله، فيلسوف لا يكتب الفلاسفة الآخرين إلا بمقدار ما يكتب تعدده الفلسفي، ما جعله يستحق ما أطلق على فوكو وامتدحه دولوز "هذا المجموع بما هو تركيبة فريدة اسم شهرتها هو ميشيل فوكو. رجل بلا مراجع".5

فالعلاقة بين الكتابة والواقع عند دولوز وغاتاري، هي صورة معقدة للصيرورة كعملية متداخلة وترحالية، في جوهرها ليست عملية نسخ أو تقليد، وليست ظاهرة محاكاة أو حركة مصممة، بل هي حركة اصطياد مزدوج، فيض هائج، واحتفال دائم ترتسم دائماً كخريطة وتمتد كجذمور. فالكتابة لا تنسخ العالم أو تقلده، وإنما تخترقه وتخترق به لتتصير جزءاً من خريطته ويصير جزءاً من خريطتها، ليشكلا معاً للجذمور خريطته، ويعطيا للخريطة صيغتها الجذمورية الممتدة في تشابكاتها، المتشابكة في امتداداتها، فكل كتابة تتراكب مع العالم فتعدل في صيرورته وحدوده، كما يفعل في مجالها مع الحفاظ على صيرورة كل منهما.

والصيرورة، الكتابة- العالم، تتصادى مع علاقة الزهرة والزنبور، حيث يصبح الزنبور جزءاً من جهاز إنتاج السحلبية، في الوقت الذي يصبح جزءاً من الزهرة "السحلبية" عضواً تكاثرياً للزنبور، ما يجعل كلاً منهما وكأنه طور في صيرورة الآخر، والآخر طور في صيرورة الأول، وهما معاً صيرورة واحدة "ما يجعل الصيرورة تغير الأشياء، والأشياء في حركة تصيرها تغير الصيرورة نفسها"، أو هي في تغيُّرها؛ أي الأشياء ليست إلا مادة للصيرورة، تعبر بالصيرورة كوظيفة، وتعبرها الصيرورة ككينونة، فلا صيرورة خارج الأشياء، ولا أشياء دون صيرورتها، فخارج الأشياء سكون لا مسار صيرورة، وبصمت الصيرورة تنهار الأشياء إلى هباء، وكذلك حال العلاقات بين الكتاب والعالم، الثورة والتاريخ، حيث كل منهما جزء من صيرورة الآخر، وكل منهما يحقق نموه وتغيره عبر تواصله مع الآخر ضمن علاقة صيرورتهما، صيرورة التغير، ولذلك فالصيرورة عند "دولوز" ليست فيما تحققه من تغير، ولكن بوصفها جوهر التغيير، أو قوة التغيير، فالعمق في الصيرورة ليس نتاجها وإنما حدوثها ذاته.

الكتاب كصورة جذمورية، صورة مغايرة لصورته الشجرية، صورة يتبدى فيها الكتاب كسيالات للرغبة ومعمل لها، وتركيب مع التاريخ لا ناقل له، إنه نقطة وسطية دوماً، وفرع في تشابكات أخطبوطية دائمة النماء، وهذا التصور يتصدى لصورة الكتاب كشجرة، صورة شيء له بداية محددة ونهايات واضحة، بينهما مسارات مصممة في اتجاه مغلق، إنها صورة الكتاب المكتمل المنغلق على ذاته رمز المعرفة الكلية المغلقة.6

الأسلوب هنا هو ترتيب قول، أو تركيب ما، تركيب قول وتركيب حالة، تركيب مع العالم وحالة تركيب مع اللغة، إنه التأتأة في لساننا نفسه، أن يكون الكاتب والكتاب تمتام اللغة نفسها، أن يكون كغريب في لسانه نفسه، أن يجترح منسرباً أو خط هروب: لغة الأقلية؛ أي اللغة المتكونة في الهوامش، المهموسة في الزوايا، لغة الممنوع والمحرم، الازدواج اللغوي، الترميز المضاعف، إشباع كل ذرة كل فكرة، العبور بين الأفكار، رسم خطوط تعبرها، إزالة كل حشو وموت ونفاية، الاحتفاء بالمتنكر والطازج والمنبثق، القطع والتهديد والتشويه، إننا نسمي أساليب، كما يقول النحات، جياكوميتي "أشكال الرؤية هذه المتوقفة في الزمان والمكان"، ولكن الأمر هنا مختلف، دائماً يتعلق بتحرير الحياة حيثما هي أسيرة".7 "الأسلوب يدخل لغة في اللغة"؛ لأن الكتب الجميلة كما يقول بروست: هي التي كُتِبَت بِلُغَة خاصة داخل اللغة نفسها، وكأنها لغة أجنبية في لغتها، إنها ضرب من الانحراف باللغة والانحياز داخلها إلى الغريب فيها وفي الفكر والحياة. فتحت كل كلمة، يضع كل قارئ معناه، أو على الأقل صورته هو التي هي في الغالب معنى ناقص. لكن في الكتب الجميلة، تظل جميع النواقص التي ترتكب جميلة، هذه هي الطريقة المقترحة في القراءة. جميع الأخطاء أو المعاني المضادة جميلة، شريطة ألا تشكل تأويلاً مهيمناً، بل على كل قراءة أن تجترح داخل لغتها لغة، وداخل معناها معنى. وهذه هي البداية، بداية إزاحة الخطوط وتنظيف الخامات "خامات الكتابة والإبداع"، لاجتراح المتعدد، واختراق المألوف الذي يغلفنا كسقف لينسرب المائع فنشكله كنص في الاختلاف ودرس في التجاوز، فكما يؤكد دولوز: مثلما لا يكفى أن نصرخ "يحيا المتعدد" لاجتراحه، بل يجب اجتراح المتعدد. ولا يكفي كذلك أن نقول: "تسقط الأنواع "بل ينبغي الكتابة فعلياً بحيث لا يعود ثمة أنواع".8 تلك الصيرورة التي انبثقت في كتابات دولوز وغاتاري، ككتابة لحشد من الجموع عبروا كتركيبات مختلفة، ومروا كفرص فريدة. فدولوز يصف: ذلك أنه ليس كتابة كالكتابات السابقة، وليست أيضا مجرد كتابة لاثنين، بل هي مغامرة الكتابة بين اثنين، وما يميزها هو كونها بلا قواعد وبلا وصفات تسبق الكتابة وتقولبها، بل هي ممارسة للفكر كتعدد وتيه وسيلان رغبة. ويصف تعددهما عبر وصفه لـ "غاتاري"، الوصف الذي يناسب دولوز أيضاً بالقدر نفسه: "كان فيلكس رجل فريق، عصب وقبائل، ومع ذلك فهو رجل وحيد، صحراء مأهولة بكل هذه الفرائق، بجميع أصدقائه وجميع صيروراته".9 وهذا ما مكننا من ممارسة الكتابة كتفكير بين اثنين، لكن ما كان يهمنا لم يكن العمل معاً بقدر ممارسة هذه الحالة الغريبة المتمثلة في الكتابة بين الاثنين. ففيها كف واحدنا عن كونه "مؤلفاً". وكأن المسافة والخط ما -بين- الاثنين أصبح مسارة لأناس كثيرين، ومختلفين. صحراء تتنامى، لكنها مأهولة أكثر فأكثر. لم يكن هذا تقليداً لمدرسة، أو فبركة لعملية ذهنية، بقدر ما كان لقاءات. تتضمن كل الحكايات، حكايات الصيرورات والزيجات المنافية للطبيعة، والنمو غير المتوازي، والازدواج اللغوي وسرقة الأفكار، "هذا كله عشته أنا مع فيلكس. لقد سرقت فيلكس، وآمل أن يكون قام بإزائي بالشيء نفسه، إننا لا نعمل معاً وانما بين الاثنين. في مثل هذه الظروف، وما أن يكون ثمة هذا النمط من التعددية، يكون الأمر نوعاً من سياسة، سياسة "مجهرية". وكما يقول فيلكس، فقبل الكينونة هناك السياسة. إننا لا نعمل، بل نتفاوض10... لم نتعاون كشخصين، بل كنا مثل جدولين انضما ليكونا جدولاً ثالثاً، هو ليس أحدنا ولكنه كلانا".11

الكتابة الجذمورية12 تفارق الكتابة الشجرية، كما يختلف البدوي عن المسافر، كما يختلف العرس عن الزواج، كما يختلف الكرنفال عن الاستقبال، كما تختلف حرب العصابات عن الحرب الكلاسيكية، لا تحتاج إلى جنرال ولا إلى قرار مركزي واحد، لا طقوس ولا قواعد، إنها حرب أخرى، حرب الغوار تعتمد على التعددية وعلى السرعة والحركة والترحال، وكذلك الكتابة -الخريطة – الجذمور. ويتساءل دولوز "فهل من الضروري وجود جنرال، كي تتمكن مجموعة من الجنود إطلاق النار في الوقت نفسه؟".

الكتابة هنا ليست تمركزاً ولا انبناء، إنها ليست إلا حركة، حركة لإطلاق النار في كل الاتجاهات وكل الأوقات بشكل منفلت من كل القواعد إلا قاعدة السرعة، سرعة الظهور والاختفاء والالتواء والمراوغة، إنها حركة نقطة تتصير خطاً، حركة خط يتصير سطحاً، وحركة سطح يتصير كتلة، وحركة كتلة تتصير طاقة، وطاقة تشع تخترق السقف، وتعود سديماً، مادة مبعثرة منفلتة من الثقب الأسود سايحة خارج مجالات جذبه الآسرة، نقط متحركة تتحرر من السطح الأبيض الذي يحتجزنا، نقط تفلت من سكونها لترسم خطوط انفلات وهروب جديدة، تنفلت من الخريطة المتشكلة ومن خريطة المتشكل وجوداً، لترسم خرائط لمناطق لم توجد بعد أو لم تكتشف، خرائط لمناطق بصدد المجيء.

كتابة ليست رصداً، ولا تتبعاً، ولا انعكاساً، كتابة احتفال بالمنبثق فجأة، اقتناص، وسرقة، جرياً وراء المبعثر، فالعالم حركة مزدوجة من الهدم والبناء، تراكبات وطبقات تتراكم، وتجويات وتصدعات وزلازل تبعثر ما تجمع، إنها جدلية من التشكل والتبعثر، البناء والهدم، حركة من التكرار المختلف، والاختلاف المتكرر، في كل عملية تكرار، تحدث جملة من الإزاحات والانكسارات، الاغتصابات، أشياء تتراكب، تسرق بعضها، تغير وتتغير "الزنبور والسحلبية" "الفيروس والخلية"، لا شيء يعود للمجيء مرة أخرى ويبقى ذاته السابقة، إنها الرحيل، الانفلات، الاختراق الاستراتيجي، الهجرة الفعالة، الهروب بالخط المرسوم، دفع الحدود وعبورها، "الترحيل، الإفلات... عبور الأفق، الإيغال في حياة أخرى، "هكذا يجد ملفيل نفسه في قلب المحيط الهادئ، لقد اجتاز خط الأفق حقاً، إن خط الهروب هو ترحيل وليس فراراً، وإنما هو تركيب لشخصيات متعددة؛ كل واحد فيها كل متشظٍّ، وترسيم لقطيعات حادة وابتكارات لأراضٍ جديدة، فالهروب هو إنتاج واقع، إبداع حياة، والعثور على سلاح، الهروب خيانة للحدود والقوى التي تحتجزنا، العبور إلى تجارب، يمكن القول فيها، إن من نجوا، بعد تجارب كهذه، قد حققوا قطائع كبيرة".13

إن الفكر عند دولوز، ليس في أصله هوية، فهو لا يبحث عن التشابه ولا ينشد التطابق والانسجام، لا من حيث بنيته ولا من حيث مساره، فالفكر في وجوده الحي هو الاختلاف والانقلاب والمشاكسة، فالفكر عنده صيرورة رغبة جسدية، ويقظة جسدية متسكعة، وحركة مترنحة، لا يرتسم كجوهر ثابت ولا كحقيقة منسجمة، إنه حالة من الترحال، حالة من الانبثاق والانطفاء، حالة اصطدام وعنف، وارتسام على شكل طيات وطبقات انبثاقات فجائية على شكل علامات، "إشارات" تطوي المعني وتتضمنه، ومعنى يتكور فيها ويتمرد عليها، ليضغطها، وينضغط فيها، ليعود يفلت منها، يتحرر من الطية، من الإشارة كثنية، من المعرفة كطبقة، يفتتها ليعود يجري وينفلت كشعاع أو تيار منفلت هادر متبدد، ويصطدم فجأة بعلامة أخرى تعيد طيه ليعود إلى النزوع، إلى التحرر والجريان.

للفكر البدوي صحراؤه الشاسعة يمتلكها عبوراً ويعبرها امتلاكاً.
للفكر الترحالي مساراته المنفلته وخرائطه الضالة.
للفكر الغواري عناده وصبره وحريته.
للفكر الجيوجغرافي، تجوياته وتصدعاته وترسباته أيضاً.
للفكر الفلسفي انتشالاته من الأرض وهروباته من التوطن.
للفكر الانفصامي تسللاته ووثباته، هلوساته وهذياناته.

ترحال وتحليق، انتشال وهروب، هجرة وإيغال، قطائع وتهديدات، تسربات وانسرابات، ترسبات، عودة أخرى إلى التأرضن "العودة إلى الأرض".14

في تفكيك هوية الفلسفات الكلية المهيمنة

إن ما يكتبه "دولوز" ليس نقداً لفلسفة الهوية فقط، أو نقداً لحقل التحليل النفسي والرأسمالية والدولة فقط، ولكنه في حقيقته عبارة عن ابستمولوجيا جديدة تستجيب لأوضاع المعارف الراهنة، فهو يهدف إلى وصل حقول معرفية منعزلة عن بعضها البعض وتركيبها، ويبتغى خلق أساليب وإستراتيجيات تبني سطوحاً تصل بين متفرقات المعارف المتفتتة المتناثرة، وينشئ مناطق جديدة فيها تتمكن المعارف والعلوم من أن تتحاور فيما بينها، لتخصب بعضها البعض على نحو يعمق اختلافها وتفاعلها، ويكرر تصيرها وتغيرها، تفرعها وتشعبها، توحدها وتجمعها، ترحالها وهبوطها.

دولوز في تحريره للمعرفة وللفكر الذي ينتجها يسعى دوماً إلى تحريرهما من شبهة الهوية والتطابق إلى فضاء الاختلاف والتعدد من جهة، ويحررها من التجزير والانفصال ليعيد توطينها في أفق التجاور والتحاور، التلاقي والتراكب من جهة أخرى، ويكمل ثورته ليحرر الفكر من سيادة المدارس اللغوية والنفسية والسياسية، ويعيد إنتاجه على شكل فكر بدوي يتيه في المفازات والصحاري.

ففي مواجهته للبنيوية ولتعاليم "دي سوسير" الذي أسس سلطة الدال، وأعلى من شأنه، فإن دولوز قد أحدث إزاحة للدال عن عرشه، لتخليص الحقول المعرفية من إمبرياليته، وتحريرها من سيادته وهيمنته، رابطاً بين العلامات والمعنى والدلالة، والكلام والصوت، وأنساق التلفظ وأنساق التلقي، مؤكداً أن أي مستمع لا يمكنه أن يتفاعل مع ما يسمع إلا من خلال اتخاذ موقف مناوئ لما يقال، رافضاً الفصل بين المضمون والتعبير، أو بين اللغة والجسد، "فليس ثمة ما يعزل الجسد عن العلامة، والكلمات عن الأشياء، فالعلامات تشتغل وهي منغرزة في الأجساد، ودون أن تنفصل عن الأشياء، والأشياء لا تتمظهر إلا من خلال العلامات".15

مقارباً العلاقة بين القول والفعل، بين اللغة والسلطة، بشكل مختلف، فالقول، أي قول، بالنسبة له: هو فعل إنجازي، واللغة ذات طبيعة آمرة، وذات بنية سلطوية، إن لم تكن صريحة وعلنية فهي ضمنية ثاوية داخل الخطاب.

فالتواصل ليس الوظيفة الأساسية للغة، وكذلك فهي ليست ذات طبيعة نسخية تنسخ الواقع وتحول الموجود إلى مقول، وإنما هي تواصل بين قول وقول آخر، فاللغة ليست استنساخاً للواقع، ولا نقل له، وإنما هي محملة بالأقوال التي قيلت حول الواقع.

وبالتالي، فهي مجال تنازع وفضاء صراع، وسطح للتسويات، فالقول بالوحدة السوية للغة، هو قول سياسي لأنه يبتغى لهذه اللغة أن تكون أداة سيطرة عبر توحيد المشتت، ولملمة المتفرق، وضبط الاختلاف، وقمع الصيرورات.

وبالتالي، فالفكر الدولوزي انبثق ضمن حركة الفكر في مجابهته لفلسفة الهوية، باعتبارها، أي الهوية، "لحظة تصالح هشة ومؤقتة".16 هذه الحركة الفكرية التي انبثقت منها فلسفة الاختلاف وأعلنت انحيازها للوعي الآخر، الوعي المتصادم مع العقل وإمبراطوريته، فانحازت إلى وعي آخر يعيد الاعتبار للفن، أو للرغبة والتيه (دولوز)، للحلم والاختلاف والكتابة "دريدا"، للمجنون والمنبوذ "فوكو"، للعقل النقدي والجدل السالب "أدورنو"، لمواجهة فلسفة الكل، فلسفة العقل والدولة باعتبارها اللاحقيقة التي تهمش الآخر وتستبعده.

وإذا كانت فلسفة الهوية في تشييدها للكليات ترفض التعدد وتحجب المتناقض وتمحوه لتبرز الوحدة، فهي في فعلها تتحالف مع السلطة والمال والوحدة والدولة، ففلسفة كهذه تحدد الكائن كحضور ثابت، وتقدم الراهن كحقيقة، وتحرس حدود الفكر وحدود الدولة، وتقود الحركات والخطوط لتعود إلى المكان ذاته، وتجذب المتطاير إلى المركز القار، وتكرر المتشابه، وتحجب المختلف، وفي مواجهتها يقدم دولوز فلسفة:

تنشد التقاط المباغت وتحالف المشاغب.
تصغي للمتعدد والمقصي.
تفكر راغبة وترتحل بالفكر إلى الرغبة.
ترتحل خلف الأفق وتوغل في حياة أخرى.
ترصد المنشق والمتصدع والمبعثر.
ترقص مترنحة وتهمس هاذية.

المعرفة كصيرورة تركيب

إن المعرفة هنا ليست حقلاً منفصلاً أو قائماً بذاته، بقدر ما هي مسرح الفكر بكليته، بكامل الحركة الكلية؛ الخشبة كسطح، والممثلون كعناصر معاً، والعملية كفعل، لكن ما يميز صيرورات المعرفة من مثال المسرح هو أن المعرفة هي حالة من الالتقاء والانزلاق والتصادم لسطوح متعددة: مسطح المحايثة الفلسفي ومفاهيمه، ومسطح العلم عناصره ووظائفه، ومسطح التركيب الفني والإحساسات والانفعالات التي تتحرك عليه.

فالفكر المعرفي هو تلك الفرجات، واللقاءات والاصطدامات، وما يصير عنها، تلك العمليات والنتاجات المنبثقة نتيجة انزلاقات المسطحات التي تماثل حركات الصفائح الأرضية، حركات تبزغ عنها قارات وأراضٍ جديدة، بحار ومحيطات، ولادات جديدة، وتلاشيات وغيابات، قارات تولد وأخرى تغيب وتتلاشى، ولادات ووفيات، هدم وبناء، حركات أخرى تجري على السطح لا تقل خطورة وعمقاً عن تلك التي تجري في الأعماق، ما يجري في الأعماق من انزلاقات وانكسارات وهزات وانفجارات بركانية، تعيد بناء السطح وتغير طوبوغرافية العالم، تواجهها سيولات وتيارات على السطح، تيارات ماء وهواء ونار، تعيد ترتيب السطح عبر عمليات متداخلة من التجوية والنحت والتعرية، تعيد هندسة السطح إزالة طبقات وتسويتها، وبناء طبقات أخرى من ترسبات جديدة.

هكذا الفكر المعرفي هو نتاجات وولادات اصطدام رؤى ولقاء صيرورات انبثاقات تولد من عنف الصدامات، صدامات الفلسفة بالفن، والفن بالعلم، والمفاهيم بالانفعالات، والانفعالات بالوظائف، سطوح تتداخل وتتصادم، وثنيات وطيات، هضاب وتلال تبنى، وانزلاقات وانكسارات تنسرب على شكل أغوار وأودية سحيقة، حالة من الصيرورات تعيد رسم الخرائط، وتعيد صياغة وجه العالم، إنها كتابة متواصلة للفكر والمعرفة لا تعيد كتابة تاريخ الفكر وفكر التاريخ، بل تعيد أيضاً صياغة تضاريس الفكر والجغرافيا التي يتحرك عليها، فكر ينسرب عبر التاريخ وتاريخ ينسرب عبر الفكر، وكلاهما ينزلق على مسطح جغرافي في غاية الاضطراب، ما يجعل من حقل المعرفة، ليس حقلاً لجغرافيا قارية، بقدر ما هو حقل لصيرورات وحركات وانزلاقات سطوح متراكبة، وحركات متصادمة، وما يجعل من المعرفة صيرورات، وولادات وغيابات ونتاجات لحركات في العمق، وأخرى على السطح، المعرفة هنا لقاءات واصطدامات من ريح ونار، من خشب وماء، معرفيات تغور وتهرب نحو الأعماق، وأخرى في الأعماق تنثني وتطفو على شكل طيات وثنيات. "فالعمق يظل يطفو على السطح دون أن يكف عن كونه عمقاً"17 و"في الوقت ذاته، فسطح الجلد هو العمق الغائر الذي لا يضاهيه عمق آخر".18

مالك الريماوي 18 يناير 2011

المعرفة كانبثاقات وتراكيب

فالمعرفة كصيرورة جيوجغرافية مستمرة، حركة سطوح وأعماق تكشف مناطق جديدة، وتبني سطوحاً جديدة، تمثل جانباً واحداً من جوانب التعدد التركيبي لعملية تشكيل المعرفة كصيرورة بناء وهدم، وإذا كانت عمليات الهدم والبناء الجيولوجي تظهر جانباً من جوانب التصير والحدوث المعرفي، فإن ما يجري في علم البيولوجيا من لقاءات بين التراكيب العضوية، قد يظهر جانباً آخر، فاللقاء بين العضويات قد يسهم في فضح المخفي في العلاقات العضوية والمعرفية، فالحياة العضوية في شكلها الدقيق أو المجهري تجري ضمن لقاءات، تتميز بكونها لقاءات هاربة ومنسربة وسريعة، اقتناص وسرقة، تهديد وتشويه يماثل الكرنفال لا الزواج، وسرقة تساوي الإبداع لا الانتحال، وتشويه ينتج الجديد دوماً ويخلق فضاءات للمباغت والمنبثق، فيخلق تغيرات تصيب المغير والمتغير، دون أن يصبح أحدهما الآخر، فكلاهما يمر عبر صيرورة تغير، صيرورة لا تحدث إلا عبر صيرورة الآخر، أو عبور خط بينهما أو عبورهما عبر خط، كأنهما نقط وجودية تعبر من خلال الصيرورة كمجرى إلى كينونتها، وتؤول بها أيضاً إلى فنائها، تلك الرحلة المتناقضة في تضاعفها، صيرورة من الميلاد والموت، هي جوهر الأشياء وجوهر الكينونة وخط صيرورتها المتدفق بحركة الأشياء الصائرة في مسارها، عامرة بالصيرورة، معمرة للصيرورة مجراها، كماء يحفر المجرى الذي يحتضنه في علاقة من تلازمهما تمنحهما صيرورة نهر، دونها يؤول المجرى إلى فضاء خرب، ويتبدد ما كان عنفوان تيار وصخب شلالات إلى هباء صامت.

تراكيب تلتقي على سطح الوجود وتنزلق عليه وعبر مساراته، صيرورة بين التراكيب وليس لها، انزلاق يهرب بهما إلى لحظة تصادم، يجري فيها قطع وتشويه وتغيير، ويهرب بهما كل في مساره بعد أن يكون قد تصير كل منهما إلى آخر يكمل صيروراته، ويكتمل لا بتكراره كمتماثل، بل كتكرار مختلف، واختلاف يتكرر كأنها مسارة بلا مسارات.

ومن هذه الصيرورات العضوية، الفيروس والخلية، حيث ينسرب الفيروس إلى داخل خلية، يتحرك من سطح إلى آخر، من سطح جامد إلى آخر حي، ليتحول من الموت إلى الحياة، ويدخل مع الخلية في علاقة سرقة واقتناص، قطع وتشويه، تداخل بين تركيبه وتركيبها، وكثيراً ما ينفصل عنها بعد أن يأخذ شيئاً من تركيبها "الوراثي" "الجينات"، ويعطيها شيئاً آخر، عرس لصيرورة مزدوجة لكائنين ليس بينهما صلة سابقة، تنتج كائنين وصيرورتين ليس لهما صلة بما كانا سابقاً. العرس نفسه يجري بين السحلبية والزنبور، لقاءات وأعراس تنتج تغيرات وتحولات، ترتسم كميلادات جديدة، لحظات عنف ترتسم وتنبثق في التماعات برقية، تعيد إنتاج الفضاءات والحركات والأشياء، ثمة خطوط جذمورية وعلاقات تراكبية اقتناصية من هذا النوع تخترق كلاً من الفكر والدماغ، اللغة والفكر، المعرفة والوجود، الكتابة والعالم. فالفكر ينكسر في الدماغ ويلتوي، يتفرع ويصاغ ضمن ممرات ومسارب، ولكنه في الوقت ذاته يحفر في الدماغ ممرات وأخاديد، يخترق شبكات ويصيغ أخرى، كذلك المعرفة والوجود والكتابة والعالم، كل متشظٍّ متفارع ومتفرع متشعب ومتداخل وسط ومتوسط، موغل في العمق طاف على السطح، متوتر متراكب مخترق بإحداثيات وتوترات، سائح عابر، مشدود إلى نقاط توتر وبؤر توهج، ومتجهات متسارعة يعبرها وتعبره تشده ويشدها، كل واحد منها، "الكتابة والعالم، الفكر والوجود"، يتراكب مع الآخر، يجاوره ويجابهه بشكل يشرط بينهما جرحاً ويثقب ممراً يعبر بينهما، ويعبرهما ليحيكهما في صيرورة الوجود، ويحيل وجودهما صيرورة.

الفكر واللغة في صيغة جذمورية

هكذا يعيد دولوز بناء العلاقة بين الفكر واللغة، فالفكر ليس لغة واللغة ليست فكراً، الفكر لا يعيد بناء اللغة، ولا اللغة تعيد تنظيم الفكر، إنهما مسطحان، وصفيحتان، وكائنان، ولكل منهما صيرورته، لكنهما صيرورة لا تحدث إلا عبر لقائهما واصطدامها، لقاء على شكل موعد عشق، نزوة طارئة وليس زواجاً كاثوليكياً، لقاء لا يقوم على المحاكاة، وإنما على السرقة والاقتناص، صدام عنيف، فكل فكرة جديدة تولد تلتقي مع اللغة في عرس عنيف وتصادم منتج، صيرورة من الانسراب عبر اللغة، الانسراع فيها مرور كمرور الكتل الكونية في الغلاف الجوي، كانسراب النيوترون إلى داخل النواة، مرور الإلكترون في فضاء فوتوني، سقوط الأشعة على ذرة، إنها عملية مرور، عملية انسراب وهروب داخل اللغة، كل فكرة جديدة هي لغة داخل اللغة، صيرورة نمو لا متوازٍ، مرور يأخذ من اللغة ويعطيها، يقطعها، ويقتطع منها، حالة تزاوج عابر ومرور اغتصابي يعيد تركيب اللغة ويتراكب معها، يعيد تصيرها ويصير جديداً من العبور فيها، الفكرة تتصير عبر انسرابها في اللغة وتعيد تصيير اللغة، كالفيروس الذي يعبر الخلية، يغيرها ويتشوه، يشوهها ويتغير، وكذلك تفعل اللغة في الفكر ضمن اتجاهين متعامدين، فكل علامة لغوية جديدة تصطدم بالفكر والمعرفة، ترتسم في لقاء جديد، إنها حالة من الصيرورات العابرة لبعضها، لقاءات تغير اللغة وتغير الفكر، لكن مع بقاء كل منها هارباً في صيرورته، صيرورة لا ترتسم إلا عبر خط الهروب في الآخر، فالإشارات تثني المعنى وتطويه، والمعنى يتكور في الإشارات ويضج بداخلها، ينفلت ليسبح على سطحه وينفلت من العمق إلى السطح، ليمر من السطح إلى العمق ومن العمق إلى السطح، من الداخل "داخل الثنية" من داخل الإشارة كثنية للمعنى إلى إشارة أخرى تقابلها، تعيد اجتراح المعنى فينسرب الفكر بينهما، كما تنسرب اللغة بين فكرة وفكرة، فكل لغة جديدة تدخل الفكر كفكر وتولج فكراً للفكر، ولذلك فالفكرة تفهم ليس من خلال شرحها بفكرة، بل من خلال مقابلتها بفكرة أخرى على مسطح آخر وفي مجال آخر، ليتسرب الحوار بينهما فكراً، وينسرب الفكر بينهما كقطار يعبر جهنم.

الفكر ليس نتاج ملكة العقل كما يعتقد كانط، وإنما هو نتاج لحالة اشتباك بين كل ما تعصفه الملكات كافة، الانفعال، الخيال، الحس، الحدس، اللاشعور، الذاكرة، اللغة، فالفكر من نتاج هذه الملكات كلها، من تقاذفها للومضات، ومن تنافرها، ومن تلاقيها أيضاً، فالكائن يمر عبر الفكر، والفكر يمر عبر الكائن، وكلاهما ينزلق على مسطح اللغة “فالذي يبعث بالفكرة إلى الوجود هو عنف العلامة التي تومئ فتحث على التفكير”، تنقذف إلى الملكات الذهنية والوجدانية توترها، تستفزها، فتقوم هذه الملكات بإشعاع فكر ورؤى،19 فالتفكير هو فعل إرغام، والبحث هو مغامرة، تبدأ من اصطدام الملكات بالقوى المناوئة وتنبثق منه، وأهم هذه القوى التي تدفع إلى التفكير هي العلامات، فالعلامة تنبثق كارتسام عنيف لا واعٍ نصطدم به كمعنى ملفوف وحقيقة مثنية في الداخل، تعاندنا وتحاورنا، نحررها ونحرر المعنى فيها. ولذلك، فالمعنى يظهر كحقيقة في الزمن، ينبثق فجأة، يشكل الحقيقة كزمن، والزمن كحقيقة.20

المعرفة كأرض والفكر كارتحال وانتشال

إن المعرفة عندما تتكور في اللغة، تصبح هضبات زاخرة بالمعنى، وكثافة ضاجة بالطاقة، زاخرة برغبة الانفلات والجريان، مرهونة للانفجار والترحال، تنفجر وتنزلق وتجري عبر خط هروبها، عبر سطح مرن متصيرة فكراً ماراً في معارج المسارات، هابطاً في الأغوار والأعماق، ينتشل نفسه من الأرض، ليرتحل يزور أفاقاً جديدة، يوغل في المفازات والصحارى يترنح، ثم يعود إلى اللغة بعد أن يصطدم بعلامات جديدة، ذلك الاصطدام الذي يرتسم على شكل معاني جديدة، ويرتسم على شكل مناطق جديدة في المعرفة، فتوحات في الكينونة ورسم خرائط، حالة من الارتقاء والتغير، الارتقاء والتطور، “الكائن الإنساني منذ كان: منذ ولادته الأولى كان ينتشل قدمه الأمامية، ويفصلها عن الأرض ليصنع منها يداً،21 ثم يعيدها إلى الأرض وقد أصبحت يداً، تنتشل الأغصان عن الأشجار، والحجارة من الأرض، لتحولها أدوات “فؤوساً وسكاكين ومحاريث”، وتعيدها إلى الأرض “تعيد أرضنتها” بعد أن أصبحت أدوات “فالعصا كأداة هي غصن تم انتشاله”،22 تعود إلى الأرض لتنتشل الأرض أو قطع منها، وتعيد تصيرها حدائق وبيوتاً وعمائر.

وهذا ما يفعله الفلاسفة والمفكرون، ينتشلون المعاني والأفكار، الإشارات والكلمات ينتشلونها من سطوحها، يركبون منها تراكيب جديدة، مفاهيم “الفلسفة”، وتراكيب وظائفية “العلم”، وإحساسات وانفعالات إدراكية “الفن”، ثم تتم إعادة موضعتها على السطوح، عملية تغير المفاهيم والسطوح معاً، سطوح تخلق المفاهيم، ومفاهيم تعيد إعمار السطوح، حركات وانزلاقات، انزياحات وتراكيب، الأفكار والمفاهيم تتراكب وتتجاور وتشكل سطوحاً ومسطحات، مناطق جديدة، لكنها لا تتداخل، لا تصير غير ذاتها، ولكنها عند العبور، في خط التجاوز والانزلاق، تحدث صيرورات وتغيرات، تتراكب على شكل مفاجآت وانبثاقات وولادات؛ “فلا يمكن فصل حالة الأشياء عن الإمكان الذي تعمل من خلاله”، ومن هنا فالفكر يخترق سطوح المعرفة ويهرب بها من إمكان إلى آخر، ومن مسطح إلى آخر، “فكل فيلسوف كبير يرسم مسطحاً جديداً للمحايثة، فإنه يقدم مادة جديدة للكينونة ويقيم صورة جديدة للفكر، إلى حد أنه لا يوجد فيلسوفان كبيران على المسطح ذاته”،23 فلا نتصور فيلسوفاً دون أن نقول: إنه غير من دلالة الفكر أو فكر بشكل مختلف، أو إنه فتح مسطحاً للفكر المختلف، مسطحاً في السديم ليمده لغة ومعرفة وكينونة. وبالمقابل، فليسوا بفلاسفة أولئك الموظفون الذين لا يجدّدون صورة الفكر، ولا يرهنون حياتهم لهذه المهمة.24

فالفكر والوجود كلاهما يهتز، ويتراقص ويتمايل على إيقاع حركة من التلاقي والتصادم والتداخل بين السديم الذي تشكل معرفة وكينونة، وبين الكينونة والمعرفة التي ما زالت سديماً؛ أي بين المتشكل والمصاغ على شكل سطوح للمعرفة، وهضاب للكينونة، وصحارى للفكر، ومناطق للسكنى من جهة، وبين السديم السابح والمنفلت من المادة والطاقة والمعرفة والحياة والوجود، الموجود كإمكان واحتمال من جهة أخرى، فالمعرفة والفكر يوجدان في العالم على شكلين وبصيغتين، صيغة مجسمة أي مفهومة “أي مصاغة على شكل مفاهيم أو وظائف أو انفعالات، فلسفية أو علمية أو فنية”، في حين أن هناك معرفة متسربة سيالة على شكل سديم يخترق الكون والعالم والإنسان، سحب ضبابية من الخبرة والمعطيات والانفعالات تجوب المفازات وتعبر العوالم وتخترق الذوات، ضاجة بتوهجها، راغبة في عبور يكثفها، وولوج يجسمها، ونشوة تحققها وتأرضنها “تعيد توطينها”، لتهبط على مسطح معرفي، تعمره وتنبثق عليه عامرة بالدلالة والمعنى، وفي مقابلها ثمة معارف وأفكار فقدت توهجها وكثافتها وبددت طاقتها، وصارت آيلة للتبدد نازعة للانفلاش والعودة إلى السديم. ولذلك فمهمة الفكر، والأشكال الثلاثة الكبرى للمعرفة: الفن، والعلم، والفلسفة، هو دائماً مواجهة السديم، رسم مسطحات وتشكيلها فوق السديم، ولكن الفلسفة تنقذ اللامتناهي بإعطائه تكثفاً: فهي ترسم مسطح محايثة، يحمل إلى اللامتناهي أحداثاً أو مفاهيم تكثيفية بفعل شخصيات مفهومية، أما العلم فعلى العكس: يتخلى عن اللامتناهي ليفوز بالمرجع: فهو يرسم مسطحاً من الإحداثيات لكنها غير محددة، هذا المسطح يحدد كل مرة حالات معينة للأشياء، وظائف أو قضايا مرجعية تحت تأثير ملاحظين فرديين، والفن يريد خلقاً متناهياً يعيد إعطاء اللامتناهي، ولذلك يرسم مسطح تركيب، يعمل بدوره نصباً أو إحساسات مركبة بفعل صور جمالية.25

إن أنواع التفكير الثلاثة (الفن، والعلم، والفلسفة) تتقاطع وتتشابك، ولكن دون تركيب ولا تماثل متماهٍ فيما بينها. فالفلسفة تحقق انبثاق أحداث مرفقة بمفاهيمها، والفن يقيم نصباً مرفقة بإحساساتها، والعلم يبني حالات الأشياء مرفقة بوظائفها، وثمة نسيج من الترابطات بين المسطحات وتلاق بين المكونات، تلاق يصل ذروته في ذروة تتداخل فيها مركبات المسطحات، في صيرورة من التهجين والتصادي، ما يجعل أي ظهور لعنصر جديد على مسطح، فرصةً لعناصر على المسطحات الأخرى تمكنها من المجيء، فكل عنصر يبدع على مسطح يستدعي عناصر أخرى متنافرة يجب إبداعها على المسطحات الأخرى: ذلك هو الفكر باعتباره تكويناً لا تماثلياً، وهذه هي المعرفة باعتبارها حالة من التراكب والمناداة، حالة من التعابر الجذموري، فتداخل المفاهيم الفلسفية، والإحالات المرجعية العلمية، والانفعالات المدركة فنياً، لا يماثل التزاوج أو الاندماج، وإنما يوازي في تشكله البناءات الجذمورية، فكل منها يبنى مع الآخرين ويتوسطهم، بحيث يكون كل منهم وسطاً، يأخذ الآخرين في غمار حركته وتوتره وصيرورته، وأخطر ما في هذه المعانقة الذروية أنها قد تجيء بأحد الخطرين: وهما في حدهما الأقصى: إما أن تقودنا إلى الرأي الذي نريد الخروج منه، وإما أن تلقينا في السديم الذي كنا نزعم مواجهته،26 فكل مبدع عليه أن يخلق مسطحه، أن يصطاد مادة سديمية ويطوعها ويعيد تشكيلها، وعملية الصياغة خطر ومخاطرة، اصطياد واقتناص، ترحال لا رحيل، اغتصاب وليس محاكاة، وحفر لا تصفح، وثقب وليس مسحاً، فالمسطح حفر وثقب في السديم لكي تعبر ذرات الضباب وسيولات الطاقة، وتتكاثف لتجعل المبدع يرسم مسطحه، ويخاطر غالباً لكونه قد يكون أول المنسربين والضائعين في سديم الضباب وممر التلاشي. ولذلك، فكل تفكير عميق مخاطرة، وكل بحث فلسفي أو عمل إبداعي خيانة، فالتفكير، كل تفكير، هو دائماً اتباع خط الساحرة، والكتابة هي دائماً كتابة مع آخرين لكتابة رحلة قادمة لم تكتسب لغة بعد.

المفاهيم ومسطحاتها متضايقة دوماً

إن الفكر بلحظاته الثلاث; الفن، والعلم، والفلسفة، هو خط خلق وفعل إبداع، وهو أيضاً مجال للاختلاف وفضاء للمباغت والمشتت، ما يجعلنا نقول إن المبدأ الأول للفكر هو كون الكليات لا تفسر أي شيء، بل ينبغي أن تكون هي موضع تفسير،27 فالفلسفة لا تتأمل ولا تستبطن ولا تتغيا التواصل، حتى وإن كان عليها إبداع المفاهيم لهذه الأفعال والانفعالات، إلا أنها تؤمن أن التأمل والاستبطان والتواصل ليست ميادين معرفية، وإنما هي آلات لتشكيل كليات داخل مجمل الميادين. والفلسفة انشغلت بهذه الكليات وعبرتها عندما كانت تحلم بالسيطرة على المجالات المعرفية الأخرى، ولا يزيد الفلسفة شرفاً عندما تقدم نفسها كأثينا جديدة، أو ترتد للبحث عن قواعد لتتحكم في السوق والإعلام... الخ، فمهمة الفلسفة الإبداع، وكل إبداع هو عمل فريد، ولذلك فمهمتها إبداع المفاهيم، والمفاهيم إبداع فلسفي محض، وهذه فرادة الفلسفة الدائمة.28

وفرادة الفلسفة هو في إبداعها للمفهوم. إن المفهوم في الفلسفة يعبر عن حدث يظهر على شكل كثافة معينة على مسطح للمحايثة، والمفهوم اقتران في وجوده الداخلي والموقعي، فكلاهما ليس تمثيلياً، ولكنه تركيبي، ليس إسقاطياً وإنما اقتراني، ليس تراتبياً وإنما تجاوري، فقوامه الداخلي يقوم على اقتران مركباته في نواح من اللاتمايز، وأما قوامه الخارجي، فمضمون بجسور تمرّ من مفهوم إلى آخر.

والمفاهيم تمنح الفلسفة إبداعيتها من حيث كونها:
> نقط التقاء وتركيز أو تراكب لمركباتها.
> المفاهيم تشكل داخل اللغة لغةً للفلسفة.
> إبداع المفاهيم المتجددة يعطي الفلسفة تاريخاً وجغرافية مضطربين.
> المفاهيم سياقات رقي وجمالية رائعة.
> المفاهيم ليس مفردات، وإنما تركيبات موقعة ومسماة.
> المفاهيم ليست سلعاً، وإنما مقذوفات فضائية.
> تكوينات انفلتت من السديم الذهني بتشكلها كثافة، مع بقاء السديم يتربص بها لاستعادة اصطيادها من جديد.

وبما أن المفاهيم أحداث، فإن المسطح هو أفق الأحداث، والمسطح يشبه الصحراء التي تؤمها المفاهيم كالقبائل دون أن تتقاسمها،29 والمفاهيم بمثابة مناطق توتر “فكل مفهوم عائلة متنافرة أو موطن متنقل”، وهي المناطق الوحيدة في المسطح، والمسطح بدوره فضاء مفاهيمي يمسك بالمفاهيم ويؤمن اتصالها، والمفاهيم هي بدورها تؤمن إعمار المسطح وفق مساحة تتجدد وتتغير باستمرار.30 مسطح المحايثة ليس مفهوماً فكرياً، ولكنه صورة الفكر، الصور التي يعطيها الفكر عن نفسه. ولذلك، فلكل عصر مسطحاته؛ لأن العصور لا تقدم صورة واحدة للفكر، ولا تحيك عالمها من مادة الكينونة ذاتها.

ومع أن المفهوم تعددية، لكنه تعددية مفهومية تتصل وتنفصل، فالمفهوم ككيان تكثيفي يشمل كل مكوناته، لكنه كل متشظٍّ. أما السطح المفاهيمي “سطح المحايثة”، فيتغير بقدر تغير المفاهيم التي تؤمه، وبقدر تغير المشكلات التي يفترض في المفاهيم أن تجيب عنها. ولذلك، ثمة ضرورة، من أجل تجدد الفكر والكينونة، لليونة المفهوم، ولكن أيضاً لإنسيابية الوسط.31

ولذلك، فإن لمسطحات العلم والفن والفلسفة، وجهين، من جهة الفكر، ومن جهة الكينونة، مثل المادة والروح، اجتياح متبادل، حركات لامتناهية، تأخذ جهة إلى الأخرى، تثني بعضها داخل البعض الآخر، بحيث أن أية حركة في جهة، تطلق حركة أخرى على الفور، بشكل يجعل مسطح الوجود لا ينفك عن حياكة نفسه دون انقطاع، وفق ترداد هائل وفي اتجاه: العودة والارتداد، المواجهة والمجابهة، الدوران والانمحاء.

ولذلك، لا جديد في الحقل التجريبي المرسوم بخطوط عريضة، الجديد يقبع هناك في الخارج، في السديم، في السيالات الهاربة، ينتظر أن يطل من الحقل التجريبي وجه مذعور ينظر إلى شيء خارج الحقل، صارخاً هذا هو، ذاك الذي لا يظهر إلا: كعالم ممكن، وكإمكانية مرعبة... هذا هو ما ليس وجوداً بعد.

هذا العالم الممكن، هو وجود لا ينقصه سوى التعبير عنه فالوجود لن يوجد إلا في تعبيره، ما هو المفهوم إذن؟ ما هي المعرفة العلمية؟ ما هي النتاجات الفنية؟ إنها تلك التركيبة التي تأتي لتمنح هذا العالم الممكن وجوداً واقعياً؛ أي تمنحه وجهاً يعبر عنه، وتحققاً في لغة ما تمنحه واقعاً.

فالمفهوم الفلسفي، المعرفة العلمية، النتاج الفني، كل جديد منها هو لحظة اقتناص تتكون من ثلاثة أبعاد: عالم ممكن سيولة ممكنة، وجه يظهره، لغة توقعنه وتحققه.

كل حركة هي قابلية فكرية، وكل قابلية فكرية هي حركة واختراق، فنحن نصنع الحركة عندما نتفكرها، ونفكر عندما نتحرك، ونمتلك الكينونة عندما نعبرها، ونستوطن في الصحارى عندما نجتازها ترحالاً، ونملك الوطن عندما نرتحل منه، وننشل أنفسنا من أرضه لنسكن أراضي أخرى، فكل هجرة حيازة، وكل ارتحال هو عبور بخطوط الفكر والوجود، عبور يدفعها ويعبر بها إلى مناطق جديدة، فلا وجود إلا لثنيات، ثنية على الأخرى، فكر في ثنيات الوجود، ووجود في ثنيات الفكر، ما يمكننا من القول: إن الفكر والكينونة هما الشيء عينه، والتفكير هو الحركة، فيهما وبينهما، فالحركة صورة الفكر ومادة الكينونة معاً، ولذلك فالفكر يغنى بضياعه وتشرده ويغتني بالهجرة الدائمة والترحال، الهجرة هنا ترحال وإيغال في حياة أخرى، انبلاج خلف خط الأفق، خيانة للحدود، تجاوز للقوى التي تحاول احتجازنا، هروب إلى السلاح، مغادرة للإقامة، هروب من النقطة إلى الخط ومن الخط إلى السطح، هروب بالسطح إلى الثنية، ثني سطح على آخر، ارتحال بالفن إلى الفلسفة، والفلسفة إلى العلم، فالفن لا يفكر بأقل من الفلسفة، ولا الفلسفة تحلم بأقل من الفن، وكما يقال فالفلسفة عميقة لأنها تعترف بأن الأدب أعمق منها، وسريعة لكنها تترك الفن يقودها، فأعمق الفلسفات قد تكون في سردية صغيرة، وكل بداياتها الجديدة تأخذها مما يصطاده الفن ولا يقبض عليه، فعالم الفلسفة تخترقه المشاعر وتجتازه سهام الحب والكره والعداء، والفن تجتاحه شخصيات الفلسفة وغارات العلم، فالفلسفة والفن كل مهما يعبر الآخر، في سياق صيرورة تحتويهما معاً، تقدم الانفعال في سياق الفكر، وتعطي الفكر سياقاً انفعالياً “فيمكن للمفهوم بما هو فلسفي أن يغدو مفهوم الانفعال، كما أن الانفعال يغدو انفعال المفهوم؛ كالفيلسوف الذي يسرق أفكاره من عقل الموسيقى صديقه، والصديق الموسيقي الذي يعتاش في موسيقاه على ما في فكر صديقه من عداء وغضب”.

عبور المفاهيم بين السطوح، يعيد صياغة المفاهيم المرتحلة، ويعيد إعمار السطوح وتفتيت حوافها أو مدها، يعيد تشكيلها، وكذلك انزلاق السطوح وتلاقيها، تصادمها وتجاورها، عبورها لبعضها البعض، يغرق مناطق ويفني وجودها، ويلد مناطق جديدة، وينتج فتوحات، فيمكن لمسطح التأليف الفني ومسطح المحايثة الفلسفي أن ينزلق أحدهما فوق الآخر، بحيث يمكن لكيانات من الواحد أن تشغل جوانب من كيانات الآخر، ما يجعل كلا المسطحين وما يشغلهما يغدوان متميزين وغير متجانسين، ولذلك فيمكن لمفكر أن يغير بصورة حاسمة عملية التفكير، فيبني صورة جديدة للفكر ويقيم مسطح محايثة لفلسفة جديدة، ليس من خلال إبداع مفاهيم فلسفية جديدة تشغل مسطحه وتعمره، وإنما من خلال استعارة كيانات من مسطح الفن التركيبي، كيانات شعرية وروائية، أو نتاجات فنية (رسم) أو موسيقى، كيانات جديدة تعمر المسطح الفلسفي، تلغم أرضيته وتفجر حدوده، وتعيد تشغيل مكوناته وصياغة علاقاته، والعكس ممكن، تجوال شخصية مفهومية محمولة على مسطح تركيبي، وشكل جمالي مُساق فوق مسطح وظيفي، هذه النتاجات ليست علمية أو فنية أو فلسفية، ولكنها أكثر من ذلك، “فأية قوة تحتملها هذه النتاجات، نتاجات تقوم على قدمين غير متوازنتين، كائنات برأسين، أو رأس بقرنين، فمن عبروا كهؤلاء المفكرين هم “أنصاف” فلاسفة، ولكنهم أخطر من فلاسفة: هولدرين، رامبو، كافكا، كلايست ، أرتو، ملفيل، لورانس، ميلر، بيكيت، جويس. فهم لم يكتبوا مركبات من الفن والفلسفة، بل إنهم يشعبون ويفرعون، ويعبرون لا يتوقفون عن التشعيب والتفريع، لا يتوقفون عن العبور، عبور الخطوط الغليظة، ورسم خطوط هاربة، إنهم عبقريات متعددة المواهب، لا تمحو اختلاف الطبيعة ولا تستوعبها، ولكنها على العكس، تستخدم جميع مواردها “بهلوانيتها” لهدف الاستمرار في هذا الاختلاف عينه، فهم بهلوانيون ممزقون في حركة دائمة من تجربة امتلاك القوة ومعاندتها.

إنها حركة من الانفلات من الصيغ، بحثاً عن الحدود لدفعها والعبور بها لصياغات جديدة تبتكر صيغاً وجودية إضافية ومناطق كونية وإمكانيات حياة، من خلال العبور من، والهروب بـ:

خطوط الفكر وخرائط اللغة.
انتشال المفاهيم والانفعالات والمرجعيات وترحيلها من مسطح إلى آخر.
ثني المسطحات والعبور بها إلى بعضها، مد الفكر وجوداً، وتشتيت الوجود فكراً.
العبور بالآيل للموت إلى موته، واقتناص الحياة لمن ينتشلها ويعبر بها إلى ما هو بصدد المجيء.

ضد ماركس وفرويد: الرغبة والصراع
الاجتماعي.. جذمور لاشعوري

إن دولوز المرتحل في الفكر والفلسفة اختار أن يكون الابن الضال للفلسفة الميتافيزيقية “الغيبية”، نيتشوي يقوض فرويد وماركس ودي سوسير، يقذف فكر الاختلاف صوب حكايات الفكر الكبرى: التحليل النفسي، الصراع الطبقي الثوري، اللسانيات البنيوية. دولوز يمر بنيتشه ويتمرد عليه بعد أن يتمرد به على ماركس وفرويد ودي سوسير، وهو يعبرهم ويعبره ليتجاوزهم ويعود بهم ليقولوا: ما قالوه وبقي مشوشاً أو منفوشاً وكامناً، وهذا واضح في قوله كل الفلاسفة الذين كتبتهم، كلهم كان ينزع إلى الهوية الكبيرة، لكن على تاريخ الفلسفة ألا يقول ما قاله الفيلسوف، بل ما لم يقله وهو ماثل في قوله.32

لذلك وهو يحطم إمبراطورية الدال، وسلطة اللغة “إرث دي سوسير”، يحرر في الوقت عينه حركة المجتمع من الارتهان للاقتصاد والصراع الطبقي كخط وحيد يرسم صيرورة المجتمع ويحدد نمواته وقفزاته، ليجترح خطاً لصيرورة يعبر بين الرغبة والاقتصاد، فيرسم أفقاً جديداً للمجتمعات، ولذلك فهو مع فيلكس يعيد بناء الصراع الاجتماعي على الرغبة، ويعيد بناء التحليل النفسي كصراع اجتماعي، وكأنه يعبر بماركس إلى فرويد، وبفرويد إلى ماركس، في صيغة نيتشويه ترى أن:

اللاشعور ليس مسرحاً للرغبة كما اعتقد فرويد، وإنما هو معمل ومصنع لها.
اللاشعور ليس كهفاً لذكريات الماضي، بل هو خيال ينتج المستقبل وينتجنا فيه.
اللاشعور ليس فردياً، وإنما هو خط متدفق من الرغبة يخترق الحقل الاجتماعي بأكمله ويسيل فيه.

ولذلك، فالتحليل النفسي شكَّل مؤسسة تقمع وتخصي الطاقات والهذيانات، ما جعل المحلل النفسي (يتحالف مع السلطة تحالف الكاهن (المشرع) مع الطاغية “لمنع تدفق الرغبة في الحقل الاجتماعي، الرغبة التي بتدفقها ستهذي ليس حول كراهية الأب وعشق الأم، وإنما حول المال والسلطة والأعراق والشعوب”، ما يعني رسم خطوط لزحزحة المجتمع من صيغته الرأسمالية، هذيانات ستتكلم عن الحلم واللعب والفن، هذه الهذيانات الانفصامية التي تشوش على النظام الرأسمالي فيسلمها للمحلل النفسي وحاله يقول “دع المجتمع يعمل، أما الرغبة فتكفل بها”، وكما أن التحليل النفسي تواطأ مع النظام، فإن الماركسية قد انعزلت عن الجماهير، وذلك بسبب فصل منطق الثورة عن منطق الرغبة، ولذلك فدولوز يقدم صيغة الفنان الانفصامي والمناضل الثوري لمواجهة طغيان النظام القائم.

لإنجاز الثورة الشاملة لا بد من اجتراح مسرب عميق للثورة يعمل بين صيرورة الرغبة والصراع الطبقي، بعد نقد كل من التحليل النفسي والنظرية الماركسية، حيث تمكن النظام الرأسمالي من فصل الرغبة عن المجتمع، وفصل الثورة عن رغبة الناس، ما سهل من استعادة تملك التحليل النفسي والنظرية الماركسية وإفراغهما من المعنى: عبر عزل اقتصاد الرغبة عن اقتصاد الإنتاج، وعزل اللاشعور عن المعمل، راسماً لكل منهما مجاله، الرغبة مجالها الأسرة، والإنتاج مجاله المجتمع، ما يجعل البعض ينظر إلى هذا النظام الرأسمالي بكونه محتوماً إلى الأبد، فهو محايث لوضع الإنسان الاجتماعي كإنسان، وهو جوهر التاريخ ونهايته، تلك الأزمة التي ارتسمت على شكل نهاية، هي نهاية هذا النظام كنظام إنساني، ونهاية انفصال النظرية الماركسية والتحليل النفسي عن بعضهما وعن حركتي الفكر والمجتمع، فطبقاً لروزا لكسمبورغ، فإن نهاية الرأسمالية حتمية إذا ما امتلكت الجماهير -كل الجماهير- كل الحقيقة، ولذلك يقترح دولوز غاتاري بأن على التحليل النفسي أن ينفتح على نظرية الصراع الاجتماعي، وألا يبقى خادماً للرأسمالية من خلال تحويله للرغبة من سيلان جامح عاصف يسري في الحقل الاجتماعي ليعمق الاختلاف ويعمق الصراع، وينزاح بالمجتمع إلى مجال الرغبة والفن والحلم والأدب، تلك الصيرورة التي تكفل بها الطبيب النفسي ليحيلها إلى “تدفقات صغيرة”، تهذي حول عشق الأم، يتم تقطيرها على سرير المحلل النفسي.

وبذلك، يفتح دولوز للثورة مسطحاً جديداً، تتغلغل من خلاله تلك السيالات من الرغبة مع سيالات المقاومة الطبقية والعرقية، لتخلق الحاملين الجدد لفكر التغيير، الفنان الانفصامي، والمفكر الثوري، والمناضل الاجتماعي، ليجترحوا للثورة مسارها باسم الحلم واليوتوبيا واللعب والحب، وباسم الثورة والصراع الطبقي، وباسم الانتشال الثوري للفكر من أرض خموده إلى مسطحات تعيده إلى جهوزه إلى قلب الصيرورة، ليصير عبرها مناطق جديدة وكينوية جديدة وشعوباً جديدة.

الثورة والفكر خطان لخيانة السديم

عبر الهروب الدائم، الخيانة المضاعفة، الانسراب، كحجاج أو فرسان جهاد يمتطون خط انسراب سماوي، حج ليس للتيه في عالم الإيمان، ولا للهرب في فضاء الإلحاد، بل بحث دائم عن إلحاد يمكن استخراجه من آية ديانة، وإيمان ما يمكن الإمساك به في كل إلحاد، بحثاً عن الخيانة في كل ثورة والكشف عن صيرورة الثورة في كل خيانة، فخيانة الثورة هو الإقامة فيها، والانتماء لها هو عبر تجاوزها دوماً، فالثورة تنقلب ضدها إذا ما انفصلت عن صيرورتها، أو إذا ما تجاوزت الصيرورة فيها كثورة، أو إذا ما الصيرورة تجاوزتها واجتازت سطحها، فالثورة -أية ثورة- تبطل إذا ما تحولت إلى مادة للكينونة بدل كونها مادة للصيرورة.

فجوهر الثورة يكمن كما بيَّن كانط لا في الطريقة التي تنجز بها في حقل اجتماعي، وإنما في الحماس الذي يرافق التفكير في هذه الثورة على مسطح المحايثة، إن الثورة هي ذاك الحماس الذي يميز داخل الممارسة بين العوامل التاريخية الفاعلة والغمامة اللاتاريخية الحاجبة، إن الثورة هي ذاك الانتشال الثوري للفكر الراسخ ودفعه إلى السديم ليتبدد، فيبدد خموده ويستعيد كثافته وتوهجه، وذاك الانتشال الإقليمي المطلق عندما تغدو الثورة دعوة إلى أرض جديدة وشعب جديد.

لأن الثورة ليست أعمق من صيرورتها، وهي في جوهرها صيرورة، ونجاحها لا يكمن إلا في ذاتها، وبالتحديد في الاهتزازات والطيات والانفتاحات التي تعطيها للناس، فانتصار الثورة يقوم على الروابط الجديدة التي تقيمها بين الناس، الذين سيتفرقون مع ذوبان كثافتها وتآكل كتلتها الجاذبة، تاركين المكان للخيانة، إنها نهاية الفكر والثورة دوماً، العودة إلى السديم، فكل ثورة ترسم خطاً للخيانة، وكل فكر يجترح خطاً للانفلات والعودة إلى السديم، وكأن ما ينبثق إلى والوجود، يجيء موشوماً بصيرورة توهجه ونهايته معاً “كأن جرحي موجوداً قبلي، فأنا ولدت لأجسده”.33

وميلاد الفكر والفلسفة، ليس إلا ثورة في الانتشال الفكري والإقليمي، انتشال المعرفة أو الأرض من المراكز الرأسمالية إلى مناطق جديدة وشعوب جديدة، ذلك الانتشال “الانفصال والترحال” الذي لا يتحقق إلا على شكل صيرورة مزدوجة: لا فكر جديداً دون أرض جديدة وشعوب جديدة، والعكس أيضاً لا شعوب جديدة وأراض جديدة دون فكر جديد، ودولوز يؤكد “أننا في العالم لا نفتقر إلى التواصل، بل على العكس نتوفر على الكثير منه، بل نفتقر إلى الإبداع، نفتقر إلى مقاومة الحاضر، فما نحتاجه لإبداع مفاهيم جديدة هو ميلاد شعوب جديدة وأراض جديدة، فانتشار النمط الأوروبي لا يشكل صيرورة العالم، وإنما يشكل فقط تاريخ الرأسمالية الذي يقف كحاجز في وجه صيرورة الشعوب الخاضعة”34 ولذلك فهو يرى “أن السؤال ليس سؤال المستقبل، بل سؤال الراهن، ويرى أن الفلسطينيين مثلاً هم فجائية الشرق الأوسط، لكونهم يرفعون مسألة الأرض إلى أعلى درجة،35 وكأنه يرى في الانتفاضة سؤالاً وصيرورة تخترق السطوح والحدود، وترسم خطوطاً وانفلاتات كحركة الطلاب في أيار 1968، ويرى أن على الفن والفلسفة أن يلتقيا في هذه النقطة في تأسيس أرض وشعب مفقودين كأمرين ملازمين للإبداع، فمن ينادي المستقبل ويستقدمه هم الأقليات وكتابتهم وإبداعهم، فالصيرورة في طبيعتها ضد الأغلبية. كان أرتو يقول “الكتابة هي من أجل الأميين، والكلام من أجل المصابين بالعي، والتفكير من أجل فاقدي الرشد، وهذا لا يعني المشابهة، بل الصيرورة، فالمفكر ليس معتوهاً أو عياً أو أمياً، وإنما يصير كل ذلك، يصير هندياً أحمر، فلسطينياً، أسود، امرأة لكي ينتزع كل منهم من احتضاره،36 إذ ننكتب فإننا نهب دائماً كتابة لمن لا يملكونها، إلا أن هؤلاء يهبون الكتابة صيرورة لن تكون هي دونها، صيرورة دونها ستكون الكتابة محض تكرار في خدمة القوى القائمة، ولذلك فكل كتابة هي هبة لأقلية، وكل أقلية تقاوم هي صيرورة انتشال، تنتشل ذاتها من الخضوع وتنتشل الأرض من التبدد وتنتشل الفكر من الخمول والتواطؤ والتورط، فكل ثورة فضاء، وكل إبداع يتم تركيبه فلسفة، أو وظيفة يتم ابتكارها، أو كتلة أحاسيس يتم استخراجها، هي مناطق جديدة وشعوب جديدة، وكل شعوب جديدة هي فضاءات معرفية، وسطوح فنية وفلسفية، وانتشالات فكرية وترحالات فلسفية”.

فالصيرورة دائماً مزدوجة، وهذه الصيرورة المزدوجة، تخلق السطوح وما يعمرها، تبنى الأقاليم وتحرر الأقليات، تشكل الشعوب الجديدة والأراضي الجديدة، وتفرد مسطحات لفكر المستقبل، فعلى الفكر أن يصير شعباً أن يصير أقلياً، بحيث يكمن الشعب وتكمن الأقلية داخل الفكر، ويصير الفكر صيرورة شعب، فالفكر لا يخلق الشعب، ولا الشعب يخلق الفكر، ولكن كل منهما يملك إمكانية مناداة الآخر ليحضر بكل قواه.

ولذلك، فالكاتب الذي يصيِّر الفكر أقلياً، ويصيِّر الشعب فكراً، يستخدم كلمات اللغة، ولكنه يحرفها وينحرف هارباً بها، ليخلق صياغة تجعلها تمر في الإحساس، وتجعل اللغة تتلعثم أو ترتعش أو تصرخ أو حتى تغني، إنه الأسلوب، النبرة، لغة الإحساسات، أو اللغة الغريبة داخل اللغة، تلك التي تستدعي شعباً للمجيء، فالكاتب يطوع اللغة ويجعلها تهتز، يضحكها، ويصدعها، لانتزاع مكان فيها ومنها للعنصر المدرك من الإدراكات، وعنصر الانفعال من الانفعالات، وللحس من الرأي، بهدف استدعاء هذا الشعب الذي لا يزال غائباً بعد.

فالفن هو الإمساك بخط الخلق المتوتر، وتحويل المخفي إلى مرئي، القبض على المتفلِّت، حشره ضمن رؤية واسعة ولوحة شاسعة تهدئ روعه، وتخفف جنونه، ليسهل على الفكر تفحصه، والكتابة إدخال لغة إلى اللغة، وإدخال فكر إلى الكينونة، وحفر مسارب للرغبة، واستنفار طاقات اللاشعور، وتأجيج خيالاته. فالمسألة الأساسية الحقيقية لا تكمن فقط في المطالبة بالحرية بقدر ما تكمن في إيجاد قنوات تحتضن دفقات الرغبات والانفعالات والرؤى المتعددة. “فحذارِ من الرؤية التي تدعي الوضوح الكامل”. ولنكن غرباء، وليكن حالنا كحال هيجو: بيتي يحدق بي، وينكرني، المفكر، الفنان، الفيلسوف صديق الصيرورة، صيرورة من العبور، والهروب بالفكر والمعرفة إلى خارج حدودهما، تفريق الموحد، وتشتيت المجمع، قلب الإحداثيات، تشويه الخرائط الجينية، إحداث الطفرات، إشهار التهديدات، القطائع، إجراء التجويات، لإعادة المتكلس والمتحجر إلى حالات التسيل والتسيدم، حفر الصلب، شق السقف الحجري لاستقدام السديم ومواجهته، اقتناص سطح من هبائه، خطف وجود من عدمه (أي عدم السديم)، تحشيد كثافة من عهنه المنقوش، لمدها مسطحات تؤمها المفاهيم، والمراجع، والانفعالات: كنقط توتر وتركز ومراكز إشعاع.

يصف لورانس، في نص شاعري عنيف،37 ما يقوم به الشعر: الناس لا ينفكون عن صنع مظلة تحميهم، يرسمون تحتها قبة سماوية ويكتبون مصطلحاتهم وآراءهم، ولكن الشاعر بل الفنان، يحدث شقاً في المظلة، حتى أنه قد يمزق السماء، ليمرر قليلاً من السديم الحر والمنطلق، ويؤطر ضمن نور فجائي الرؤية الذي يظهر من خلال الشق، شأن زهرة الربيع عند ووردزورث، أو التفاحة عند سيزانو، أو شبح ماكبث أو آهاب، زرادشت نيتشه. وبعد ذلك، يتبع هؤلاء جمهور المقلدين الذين يرممون المظلة ويرقعونها بقطعة تماثل رؤيتهم تقريباً، ثم يأتي دور الشارحين الذين يملأون الشق بالآراء: فيقطعون التواصل. ولذلك، فإننا محتاجون دائماً إلى فنانين آخرين لإحداث خروق أخرى، وإجراء التدميرات الضرورية، التي قد تتعاظم تدريجياً، وبهذا يضفون على سابقيهم تلك الجدة التي كانت متعذرة الإيصال، إذ أننا لم نكن ندري أبداً كيف نراها. هذا يعني أن الفنان يصارع السديم (الذي يستدعيه بكل إرادته بشكل أو بآخر) أقل مما يصارع “كليشيهات” الرأي، إن الرسام لا يرسم على خامة خاوية عذارء، ولا الكاتب يكتب على صفحة بيضاء، وإنما الصفحة والخامة تغطيان مسبقاً بكليشيهات موجودة وقائمة من قبل، ما يتوجب أولاً محوها وتنظيفها وترقيقها، وحتى تقطيعها، كيما يمر تيار الهواء الآتي من السديم الذي يحمل إلينا الرؤية.38

الهوامش

1 فيليب مانغ (2003). نسق المتعدد أو جيل دولوز، ت: عبد العزيز بن عرفة، سوريا - اللاذقية: دار الحوار، 89.
2جيل دولوز، فيلكس غاناري (2006). الجذمور، ت: عز لدين الخطابي، رؤى تربوية ع 21، فلسطين- رام الله: مركز القطان للبحث والتطوير التربوي.
3 فيليب مانغ، مرجع سابق، ص44.
4 بدأ دولوز مسيرته الكتابية بكتابة العديد من الكتب عن فلاسفة سابقين “هيوم، سبينوزا، نيتشه، برغسون، فوكو”، وبعد ذلك حقق إنجازه الفلسفي في كتب خاصة به “منطق المعنى، والتكرار والاختلاف، وبروست والعلامات”، واشترك مع فليكس غاتاري في “ضد أوديب، وألف ربوة، وما هي الفلسفة؟”.
5 جيل دولوز. “مسار فكري”، ت: كاظم جهاد، مجلة نزوة، العدد 6 من الموقع الإلكتروني التالي:
htt://www.nizwa.com/volume6/pp33-53htm1، بتاريخ 10/4/2003.
6 جيل دولوز. مسار فكري، مرجع سابق.
7 دولوز، غاتاري (1997). ما هي الفلسفة؟ ترجمة: مطاع صفدي، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ص 179.
8 دولوز. مسار فكري، مصدر سابق.
9 المصدر السابق.
10 المصدر السابق.
11 جيل دولوز (2004). مسارات فلسفية، ت: محمد ميلاد، اللاذقية – سوريا: دار الحوار، 44.
12 “الجذمور” نبات على شكل ساق أرضية، ينمو في جميع الاتجاهات، بلا جذر ولا ساق، بلا بداية ولا نهاية، فكل نقطة فيه هي وسط، وكل وسط يتفرع في كل المسارات، وينمو متشعباً في كل الاتجاهات، يستخدمه دولوز كصورة لكتابة أخرى وشكل لكتاب يختلف عن الشكل المألوف الذي يعتمد البنية المنغلقة “صورة الشجرة”.
13 جيل دولوز (1991). “عن تفوق الأدب الإنجليزي- الأمريكي”، ت: كاظم جهاد. الكرمل، ع 40 – 41، مجلة الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، دار بيسان للنشر والتوزيع، ص 150.
14 جيل دولوز، فيليكس غاتاري. ما هي الفلسفة؟، مصدر سابق، 83.
15 فيليب مانغ، مرجع سابق، 98.
16 فيليب مانغ، مرجع سابق، 38.
17 فيليب مانغ، 38.
18 فيليب مانغ، 154.
19 فيليب مانغ، مرجع سابق، 77.
20 المصدر السابق، 222.
21 جيل دولوز، ما هي الفلسفة؟ 83.
22 المصدر السابق، 83.
23 جيل دولوز، ما هي الفلسفة؟ 68.
24 المصدر السابق، 68.
25 المصدر السابق، 204.
26 المصدر السابق، 206.
27 المصدر السابق، 32.
28 المصدر السابق،32.
29 المصدر السابق 56.
30 المصدر السابق 56.
31 المصدر السابق، 55.
32 جيل دولوز (2004). مسارات فلسفية، ت: محمد ميلاد، اللاذقية – سوريا: دار الحوار، 43.
33 جيل دولوز، فيليكس غاتاري، ما هي الفلسفة؟.
34 المصدر نفسه السابق.
35 جيل دولوز وآخرون (2004). مسارات فكرية، 63.
36 جيل دولوز وفيليكس غاتاري. ما هي الفلسفة؟، 121.
37 جيل دولوز، غاتاري، ما هي الفلسفة؟ 209.
38 جيل دولوز، ما هي الفلسفة؟ مرجع سابق، 209.
المراجع
> دولوز، جيل، فيلكس غاتاري (2006). الجذمور، ت: عز الدين الخطابي، رؤى تربوية ع 21، فلسطين- رام الله: مركز القطان للبحث والتطوير التربوي.
> دولوز، جيل وآخرون (2004). مسارات فكرية، ت: محمد ميلاد، اللاذقية-سوريا: دار الحوار.
> دولوز، جيل. “مسار فكري”، ت: كاظم جهاد، مجلة نزوة، العدد 6، من الموقع الإلكتروني:
htt://www.nizwa.com/volume6/pp33-53htm1
بتاريخ 10/4/2003.
> دولوز، غاتاري، (1997). ما هي الفلسفة؟ ت: مطاع صفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
> دولوز، جيل (1991). “عن تفوق الأدب الإنجليزي- الأمريكي”، ت: كاظم جهاد. الكرمل ع 40 – 41، مجلة الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين – دار بيسان للنشر والتوزيع.
> مانغ، فيليب (2003). نسق المتعدد أو جيل دولوز، ت: عبد العزيز بن عرفة، اللاذقية- سوريا: دار الحوار.

مالك الريماوي - مركز القطان 18 يناير 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق