الأحد، 15 مايو 2011

الرمزية بين التحليل النفسي والأنثربولوجيا

"المدلول الواسع الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي منحه إليه "كاسيرر" في "فلسفته عن الأشكال الرمزية"، يعني بنيات التجربة الإنسانية المتوفرة على قانون ثقافي والقادرة على ربط أعضاء الجماعة فيما بينهم والذين يعترفون بهذه الرموز كقواعد لسلوكهم."(1)
رمزية الأحلام عند ايريك فروم
"هذه الرمزية الأنثربولوجية والكونية هي نوع من الاتصال ما تحت الأرضي مع مواطن طاقة اللبيدو في دواخلنا ومن خلالها مع ما يسميه فرويد بالصراع بين العملاقين: عملاق الجنس وعملاق الموت."(2)
ما يميز مجتمع المشهد لدينا اليوم هو الثورة الرقمية وتنوع وسائل الاتصال والقدرة التأثيرية الهائلة التي تمتلكها هذه الوسائل على العقول والميولات والأذواق دعاية وإشهارا واستهلاكا وفرجة. ولكن إذا شخصنا واقع العلاقات الإنسانية نكتشف مفارقة عجيبة تتمثل في تراجع فرص التواصل الحقيقي في زمن معولم اشتهر بتنامي الوسائط وتطورها وربما تعقد الحياة اليومية وتشعب مظاهرها هو الذي حول المعمورة إلى سوق تعرض فيه الرموز وتكتسح الصور العملية التواصلية لتمارس وظيفة الإبهار والانتقاء والفرز.


وينقسم التواصل اللغوي إلى تواصل عبر العلامة وعبر الإشارة وآخر عبر الرمز وإذا كانت العلامة تعرف على أنها شيء يقوم مقام شيء آخر ويساعد التعرف على هذا الشيء على التعرف على شيء آخر لكونها عادة حسية حركية ترمي إلى إثارة تصرف لدى المتلقي فإن الرمز ليس علاقة طبيعية بالشيء وإنما هو تمثيل يحمل معنى ويهدف إلى استحضار اللامرئي بالاعتماد على المرئي لكونه فعل إنساني يعبر عن فكرة ويظهر في صور تحمل كثافة دلالية تقبل لتأويل لامتناهي.
لقد وصل الأمر الى الاعتراف بسطوة السيموس والرمز في تحديد الذاتية الانسانية بحيث: " لا نتعرف على أنفسنا إلا باعتبارنا سيميائية متحركة وأنظمة دلالية وعمليات تواصل. ووحدها الخارطة السيميائية هي التي تقول لنا من نكون وكيف نفكر." 
الرمز هو مصطلح قريب من الإيماء والإشارة والعلامة والمجاز ويوجد في اللغة والمنطق والرياضيات والشعر والأدب والتحليل النفسي وهو ما دل على غيره وله وجهان: 
- دلالة المعاني المجردة على الأمور الحسية كدلالة الأعداد على الأشياء ودلالة الحروف على الكميات الجبرية.
- دلالة الأمور الحسية على المعاني المتصورة كدلالة العلم على الدولة.
المذهب الرمزي هو استخدام الرموز للدلالة على الأوضاع الإنسانية ويتم تأويل العقائد الدينية تأويلا باطنيا رمزيا مثل التأويل الصوفي كما تلبس الحقائق الفلسفية في المذهب الاشراقي لباسا رمزيا وتستعمل الرموز في الحساب وفي الشعر يتم التعبير عن المعاني بالرمز ليبدع القارئ ويكون له مساهمة في تكميل الصور وتقوية العاطفة بما يضيف إليها من فيض خاطره واستطلاع خياله المنتج. أما الرمزي فهو المنسوب إلى الرمز كالكتابة الرمزية أو التفكير الرمزي المبني على الصور الإيحائية على خلاف التفكير المنطقي المبني على البنى المجردة وهو أيضا علم يبحث في أسرار الرموز المستعملة في نصوص دينية كالقبلانية في اليهودية وتسمى نظرية الرموز جبر المنطق.
ثمة أيضا من يرى أن العقل البشري لا يدرك إلا الرموز ولا يعبر عن الأفكار إلا على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة ولذ يطلق الرمز على كل حد في سلسلة المجازات ويمثل حدا مقابلا له في سلسلة الحقائق، وكل لفظ أخذ عن معناه وأطلق على آخر مجازا فهو رمز له. أما المجاز métaphore فهو اسم لما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما كتسمية الشجاع أسدا، وقيل المجاز ما جاوز وتعدى عن محله الموضوع له إلى غيره لمناسبة بينهما إما من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور أو من حيث القرب والمجاورة، وهناك عدة أنواع من المجاز مثل المرسل العقلي واللغوي والمركب والاستعارة.
إن المجازAllégorie اسم لقصة أو مثل أو أسطورة تستعمل فيها المجازات بحيث تجيء رموزها مطابقة في نظام لواحد من الأشياء المعبر عنها. يستعمل المجاز للتعبير عن الأفكار المجردة بالصور المشخصة والرموز الحسية والأفعال الجزئية كأمثولة الكهف عند أفلاطون وقصة الزارع في إنجيل متى ورسائل ابن سينا والغزالي وابن طفيل الرمزية كالطير وسلامان وأبسال وحي ابن يقظان والتي تعبر عن المعاني العقلية بلغة المجاز والتشبيه والتخييل والمحاكاة.
"الرمز symbol في اللغة هو العلامة والإشارة، يدل بها الرامز على المرموز. والرمز في الاصطلاح ما دل على غيره دلالة معان مجردة على أمور حسية، كدلالة الأعداد على الأشياء ودلالة أمور حسية على معان متصورة، كدلالة الثعلب على الخداع، والكلب على الوفاء.
ويطلق الرمز على كل حد في سلسلة المجازات يمثل حدا مقابلا في سلسلة الحقائق. والرمزي (symbolique, symbolic, symbolsch ) هو الدلالي المنسوب إلى الرمز كقولك التمثيل الرمزي وهو الإيماني. والرمزية ( symbolism, symbolisme, symbolismus) كفلسفة تعارضها الواقعية والانطباعية. وكان ظهور الرمزية كحركة فنية وأدبية في فرنسا سنة 1885 م، وأبرز الرمزيين فيها: مالارميه وبودلير وفيرلين ومورو وريدون. والرمزية الدينية مذهب في العلو والقصص في التوراة والإنجيل والقرآن لها رمزية خاصة، والتأويل مناط فك رموزها ، واستخدم أفلاطون التأويل لإلباس الحقائق ثوبا رمزيا، والصوفية أكثر الناس استخداما للرمزية. والرمزية مذهب من يقول إن العقل البشري لا يستخدم ولا يدرك إلا الرموز، وهي في الشعر صياغة للمعاني رموزا، والشعر الملحمي أكثر ضروب الشعر لجوءا للرمزية. والرمزية أدعى لإثارة الخيال وإذكاء العاطفة.
"إن الكلام الرمزي هو اللغة الأجنبية الوحيدة التي ينبغي لكل منا أن يتعلمها. إذ إن فهمها يجعلنا نضع أيدينا على مصدر من أغنى مصادر الحكمة وأعني به الأسطورة، كما أن هذا الفهم يضعنا على صلة بأعمق الركائز التي تقوم عليها شخصيتنا. فالواقع أن هذه اللغة تساعدنا على إدراك المعنى الذي يصدر عن مستوى بشري مخصوص من مستويات الخبرة المعيوشة."(3)
الرمزية كدلالة اجتماعية تنبه إلى الانتماءات الفكرية والطبقية حيث يعلن البعض عن أنفسهم ومراتبهم عن طريق لباس خاص يرمز لهم ويميزهم. والترميز symbolisation, symbolization هو استخلاص المفاهيم من الخبرة وإدراك العلاقة بين الرموز وما تنطبق عليه في الواقع. وبالترميز نعطي رموزا لما ندرك ونربط بين هذه الرموز وما تمثله. وبالرموز العلمية تكون صورة العالم علمية وبالرموز الأسطورية تكون الصورة أسطورية، وبرموز اللغة العادية تكون صورته المألوفة التي نعرفها عنه بشكل عام، فكأن التمثيل الرمزي وظيفة تناسب كل صورة، ووظيفته في الترميز الأسطوري تعبيرية تدمج الرمز فيما يرمز إليه، ( فالرعد يعبر به الرب عن غضبه لا يكون مجرد تعبير خارجي عن غضب الله، ولكنه هو نفسه غضب الله، ووظيفته في الترميز العادي حدسية، نعبر فيه باللغة العادية عن العالم كما ندركه بالفطرة، بوصفه موجودات في الزمان والمكان لها خصائص دائمة وأخرى عارضة). فكأن لغة أرسطو التي يطرح بها تصورات شبيهة بهذه التصورات لغة عادية أو قبل علمية، وتأتي في مرتبة بعد الرمزية الأسطورية وقبل الرمزية العلمية. وأخيرا هناك الوظيفة التصويرية في الترميز العلمي وغايتها تنظيم التفاصيل وربط الجزيئات والتعبير عن العلاقات بينها."(4)
للرمز عدة معان: 1) ما دل غيره، وله وجهان: الأول دلالة المعاني المجردة على الأمور الحسية. والثاني دلالة الأمور الحسية على المعاني المتصورة. 2) يطلق على كل حد في سلسلة المجازات يمثل حدا مقابلا له في سلسلة الحقائق، وكل لفظ أخذ عن معناه وأطلق على أخر مجازا فهو بمعنى ما رمز له. 3) علامة التعارف بين الأفراد المنتسبين إلى جمعية معينة أو هيئة مخصوصة .4) تمثل مقنع لأمر جنسي لاشعوري له دلالة ثابتة وهو غير مرتبط بالنشاط الجنسي ارتباطا شعوريا.
إن الرمز حسب نظرية التحليل النفسي هو تمثيل مقنع لرغبة لاشعورية ويمتلك دلالة ثابتة رغم عدم ارتباطه الواعي بالنشاط الغرائزي ولكن كيف يساعد الرمز على فهم الحياة النفسية للإنسان؟
" تصر مختلف مدارس التحليل النفسي على امتلاك المفتاح الوحيد الذي من شأنه أن يميط اللثام عن أسرار اللغة الرمزية. وهكذا بتنا نقصر عن رؤية الدلالات العديدة التي تحفل بها هذه اللغة وصرنا نحاول إخضاعها عنوة للتمدد على سرير بروكست بطريقة من الطرق وبهذه الطريقة فقط."(5)
"ما هو الرمز؟ لقد درج البعض على القول بأن الرمز هو شيء يمثل شيء آخر". لنتعرف أن مثل هذا التحديد لا يفي بالحاجة! غير أنه قد يلبي جانبا من هذه الحاجة إذا أخذنا بالاعتبار ذلك الصنف من الرموز التي هي التعبيرات البصرية والسمعية والشمية واللمسية التي تمثل شيئا آخر، نعني تجربة من التجارب الحميمة أو شعورا من المشاعر أو فكرة من الأفكار. إن هذا الرمز يقع خارج ذواتنا. لكن ما يرمز إليه يقع داخل هذه الذوات. فاللغة الرمزية لغة نعبر بها عن تجربتنا الداخلية كما لو كانت تجربة خارجية. أعني بذلك، تعبيرها عن حدث من أحداث عالم الأشياء التي تتأثر بها الآن أو كنا قد تأثرنا بها فيما مضى. إن الكلام الرمزي كلام يكون العالم الخارجي من خلاله رمزا للعالم الداخلي، رمزا للنفس والذهن. من هنا إننا إذا حددنا الرمز بأنه "شيء يمثل شيئا آخر" فإن ثمة سؤالا كبيرا يطرح عندئذ علينا: ماهي الصلة المخصوصة التي تقوم بين الرمز والمرموز إليه؟
للإجابة عن هذا السؤال نميز في ما يلي بين ثلاثة أنواع من الرموز: الرمز الاصطلاحي والرمز العرضي والرمز الجامع. وينبغي أن يكون واضحا لنا منذ الآن أن الطائفتين الأخيرتين من الرموز هما اللتان تعبران عن التجربة الحميمية كما لو أنها تجربة حسية وأنهما تتصفان بمواصفات اللغة الرمزية.
إن الرمز الاصطلاحي هو الرمز المعروف لدينا على أفضل نحو لأننا نستعمله في كلامنا اليومي...أما الرمز العرضي فهو يقع موقع التضاد من الرمز الاصطلاحي، رغم أن الرمزين يتصفان بصفة مشتركة وهي أنهما لا ينطويان على صلة جوانية مع ما يرمزان إليه... وأما الرمز الجامع فهو يتصف بوجود صلة جوانية بين الرمز وما يمثله...إن الرمز الجامع هو الرمز الوحيد الذي نجد فيه أن العلاقة بين الرمز والمرموز إليه ليست علاقة اتفاقية بل علاقة جوانية. فهو يقوم بالأساس على تجربة الألفة المعيوشة التي تنحو نحو الربط بين عاطفة معينة أو فكرة معينة من جهة وبين حدث أدركته الحواس من جهة أخرى. وإذا كنا نسمي هذا الرمز رمزا جامعا فلأن البشر جميعا قد مروا بتلك التجربة المعيوشة. وهذا على كل حال ما يميزه عن الرمز العرضي الذي يقتصر من حيث طبيعته على كونه رمزا شخصيا وحسب، كما يميزه عن الرمز الاصطلاحي الذي يقتصر على فريق من الأفراد الذين يتداولون في ما بينهم بالاصطلاحات المجتمعية نفسها.
إن الرمز الجامع يضرب بجذوره في خصائص الجسد البشري بالذات، في خصائص الحواس والفكر، وهي خصائص مشتركة بين الجميع وبالتالي فهي لا تقتصر على الأفراد بما هم أفراد، ولا على فريق محدد منهم. والواقع أن كلام الرمز الجامع قد أتاح للجنس البشري أن يبلور اللغة الوحيدة المشتركة بين سائر الناس... إن كل كائن بشري من الكائنات التي تتصف بالسمات الأساسية التي تتكون منها البنية البشرية جسدا وذهنا ، قادر على التكلم باللغة الرمزية وقادر على فهمها بحكم كونها مبنية على خصائص الجنس البشري بالذات... ألسنا نجد الدليل على ذلك في كون هذا الكلام الرمزي كما هو مستعمل في الأساطير والأحلام معتمدا في الحضارات المسماة بدائية كما هو معتمد في أكثر الحضارات تطورا كالحضارة المصرية أو اليونانية مثلا، إلى ذلك فالرموز المعتمدة لدى العديد من الشعوب تتصف على نحو واضح بخصائص واحدة، نظرا لأن تلك الرموز تنجم جميعا عن تجارب حسية وعن تجارب انفعالية معيوشة من قبل جميع البشر وجميع الحضارات...قد يختلف معنى بعض الرموز باختلاف الدلالة الخاصة التي تتخذها في حضارات مختلفة... لكن دلالة الرمز المخصوصة لا يمكن أن تتحدد والحالة هذه إلا بناء على السياق العام الذي يندرج فضمنه هذا الرمز..."(6) 
زد على ذلك أن "الأسطورة هي ضرب من الحكاية التي تعبر بكلام رمزي عن أفكار دينية أو فلسفية، عن خبرات معيوشة من قبل النفس تكمن فيها دلالة الأسطورة بمعناها الصحيح."(7)
على الرغم من إن الرمزية قد ارتبطت أساسا بالعلم والأسطورة والتجربة الدينية والمعرفة التاريخية والتصوف و بفنون الأدب ومدارسه باعتبارها نهجا في التعبير ورؤية فنية للواقع، إلا أنها قد امتدت إلى مجال الفلسفة أيضا لتصبح مجالا من مجالات التفلسف وأداة للتعبير عن رؤية الفيلسوف للواقع. وجاءت الرمزية للفلسفة لتحررها من وظيفة التحليل المنطقي للتصورات الرئيسية المستخدمة في لغة الحديث الانساني عاديا كان أم علميا. ولتضع حدا للصراع القائم بين أصحاب النزعة العلمية التحليلية وأصحاب الاتجاهات الكلاسيكية خصوصا وأن الرمز مفهوم يعبر عن مناطق مختلفة من النشاط الفكري الانساني كالمنطق واللغة والفن والدين والأسطورة.
في هذا الموضوع يقول ريكور:" قوة الرمزية الكونية تكمن في العلاقة غير العشوائية بين السماء المرئية والنظام غير المرئي الذي تجليه. فهي تتكلم عن الحكيم والعادل وعن الواسع والمنظم، عن وساطة القدرة التماثلية لمعناه الأولي. وهذا هو امتلاء الرمز بالتعارض مع فراغ العلامات."(8)
إن إدخال الرمز إلى الفلسفة المعاصرة قد فتح لها آفاق جديدة لم تعهدها الاتجاهات الوضعية وكان ذلك على يد كل من أرنست كاسرر وسوزان لانجر وشالز موريس دون أن ننسى بول ريكور وكلود ليفي ستروس وميشيل فوكو وكل الذين اهتموا بمسألة الرمز في دراسة العديد من الظواهر الإنسانية مثل اللغة والقرابة والنسب والزواج." لكن كيف انتقل الاهتمام بالرمز من دائرة المعرفة إلى دائرة الحضارة؟

الرمزية: من نظرية المعرفة إلى فلسفة الحضارة

"إذا كان كاسيرر قد قدم لنا في مؤلفه الكبير "فلسفة الأشكال الرمزية عوالم اللغة والأسطورة والعلم فانه في كتاب مقال عن الإنسان يقدم عالمي الفن والتاريخ وكل منهما يقدم لنا نوعية جديدة من المعرفة، فالفن يقدم لنا معرفة بالأشكال الخالصة للواقع والتاريخ يقدم لنا معرفة بالأحداث الماضية. ومن هنا أصبحت لدينا معرفة أسطورية ومعرفة لغوية ومعرفة جمالية ومعرفة تاريخية.." (9)
ما يمكن الانتباه إليه أيضا أن التواصل بين الأنا والآخر وبين ثقافة معينة وثقافة أخري يمر حتما عبر وساطة الأنظمة الرمزية ولكن استعمال الرموز ليس أمرا مستحدثا بل قديم قدم التواصل بين البشر ويتجاوز دائرة اللغة إلى الصورة والأسطورة والدين والفن والعلم والتقنية. 
غير أن الجديد في دائرة الثقافة والعلم هو نشأة قطاع معين يبني موضوعه بالاعتماد على التناول العلمي للرموز ويعتبر الرمزية فرعا لا غنى عنه من الفروع التي تنقسم اليها الفلسفة المعاصرة في اطار عزمها على تخطي الإطار الوضعي والشروع في بدء جديد. 
"إذا كانت الإبستيمولوجيا التقليدية ابتداء من كانط إلى الكانطية الجديدة قد اكتفت بنقد المعرفة العلمية، فإن كاسيرر جعلها تمتد إلى نقد المعرفة الإنسانية أو نقد الحضارة الإنسانية في كل أشكالها من لغة الى أسطورة إلى فن إلى تاريخ. لقد كانت مشكلة كانط هو كيفية تطبيق التصورات على الخبرة الحسية، أما عند كاسيرر فلقد استحالت عملية التصور conceptualisation الى مجرد حالة خاصة مما يطلق عليه الرمزية symbolisation أو التمثيل الرمزي symbolique représentation . فالتمثيل الرمزي عند كاسيرر أصبح في المحل الأول يمثل عملية أساسية في الوعي الانساني وهو الذي يوضح لنا كيفية فهمنا للعلم بل وأيضا للأسطورة والدين واللغة والفن والتاريخ. ولا غرو في ذلك فالموجود البشري عند كاسيرر قد أصبح خالقا للرموز ولم يعد مجرد حيوان ناطق. ويتميز الرمز عند كاسيرر بأنه يخلق علامات أو ارتباطات معينة بين الإشارات الحسية من ناحية والمعاني من ناحية أخرى- فطبيعة عملية الرمز تتمثل في خلق عالم يعلو على الإشارات الحسية ويغلفها به. والعالم الرمزي الذي يخلقه الموجود البشري شأنه في ذلك شأن التصورات والمقولات الكانطية، فهو لا يعكس العالم الموضوعي أو يحاكيه بل انه يخلقه ويكونه ويبنيه وينظمه. فالرموز العلمية تنشأ وتخلق عالما من الموضوعية ألا وهو عالم العلم. والصور الأسطورية تنشأ وتكون وتخلق واقعا آخر موضوعيا ألا وهو عالم الأساطير والدين. والكلام العادي واللغة الجارية تكون وتشكل أيضا واقعا موضوعيا ألا وهو عالم الحس المشترك. والرموز الفنية تخلق وتشكل واقعا آخر موضوعيا ألا وهو عالم الأشكال الخاصة. ويمكن القول بصفة عامة أن هناك دائما طريقة معينة يجري على أساسها التمثيل الرمزي. وهذه الطريقة تقابل واحدا من النظم الثلاثة الرمزية التي تخلق وتشكل ثلاثة نماذج من الواقع الموضوعي تقابلها على التوالي ثلاث وظائف رمزية:
- وظيفة التعبير: والعالم الذي تخلقه هذه الوظيفة هو عالم الأسطورة البدائي. وهنا تختلط العلامات أو الإشارات بمدلولها وتمتزج الرموز بما ترمز إليه...
- وظيفة الحدس: وهذه الوظيفة تتم عن طريق استعمال اللغة العادية التي تخلق اشكال عالم الإدراك العادي. إنها الوظيفة التي تشكل وتخلص وتصوغ عالم الحياة الجارية. وبهذه الصفة يمكن أن نميز بين بعض الصفات الدائمة التي تحدد لنا أنواع الجواهر وبين الصفات الأخرى العرضية. كما يمكننا أن نميز بين الموضوعات وصفاتها أو بين الأشياء وبعضها. وفلسفة أرسطو تقدم لنا طريقة في التفكير في الأشياء سابقة على المرحلة العلمية هي طريقة التمثيل الرمزي.
- الوظيفة التصويرية: وهذه الوظيفة تخلق وتشكل عالم العلوم، وهو عالم أقرب إلى أن يكون نسقا من العلاقات وليس مجرد نسق من الجواهر وصفاتها. فالجزء لا يرد إلى الكل، بل انه يرد إلى مبدأ تنظيمي بحيث تنتظم الجزئيات بحسب نظام معين أو سلسلة محددة."(10)
إذا كانت الفلسفة النقدية الكانطية قد اعتبرت العقل النظري المنطقي هو العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان فإن كاسيرر عدد وظائف العقل النظري واعتبره بمثابة فرع من قدرة بشرية جوهرية هي الرمز.
يقول حول هذا الأمر:" العقل أو النطق اصطلاح ناقص لا نستطيع عن طريقه وحده فهم أشكال الحضارة في ثرائها وتنوعها وكل هذه الأشكال رمزية." على هذا الأساس بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا. فعن طريق العقل وحده لا نستطيع أن ندرك العالم الأسطوري أو العالم اللغوي...
يبين لنا كاسيرر أن البيولوجي يوكسل قد أوضح بأن لكل كيان عضوي حسب تركيبه التشريحي جهازين: الأول منهما يسميه جهاز الاستقبال والثاني منهما يسميه جهاز التأثير. ولابد من تعاون بين الجهازين معا.
وهذان الجهازان، جهاز الاستقبال الذي يتحقق عن طريقه تقبل المثيرات الخارجية وجهاز التأثير الذي يستجيب لهذه المؤثرات يتسمان بسمة التلاحم الوثيق بينهما، فهما حلقتان في دائرة واحدة يسميها يوكسل بالدائرة الوظيفية. يقبل كاسيرر تشريح يوكسل للجهاز العضوي ويضيف إليه جهازا آخر يميز الإنسان عن غيره من الكائنات العضوية ويسميه بالجهاز الرمزي.إذ يقول:" بين الجهاز المستقبل والجهاز المؤثر وهما يوجدان في كل الأنواع الحيوانية نجد لدى الإنسان حلقة ثالثة يمكن تسميتها بالجهاز الرمزي.فإذا قرنت الإنسان بغيره من الحيوانات، وجدته لا يعيش في واقع أوسع فحسب ولكنه يعيش أيضا إن صح القول في بعد جديد من أبعاد الواقع وهو البعد الرمزي."
"مادام الإنسان قد تجاوز العالم المادي فإنه أصبح يعيش في عالم رمزي وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلا أجزاء من هذا العالم. فهذه هي الخيوط المتنوعة التي تنسج منها الشبكة الرمزية. إنها النسيج المعقد للتجربة الإنسانية وكل التقدم الانساني يرهف من هذه الشبكة ويقويها".(11)
هنا يتقلص العالم المادي كلما تقدمت فعالية الإنسان الرمزية، إذ لم يعد الإنسان قادر على مواجهة الواقع مباشرة ويحدق فيه وجها لوجه فلقد استغرق نفسه بالأشكال الرمزية والصور الفنية والرموز الأسطورية أو الشعائر الدينية حتى لم يعد يعرف ويرى إلا عن طريق تلك الوسائط المصطنعة. وبدلا من التعامل مباشرة مع الأشياء نجده يتحدث دائما مع نفسه.
إن الإنسان لا يعيش عالم من الوقائع الصلدة وإنما يعيش وسط عواطف متخيلة وفي الآمال والمخاوف، الواقع الرمزي الجديد الذي ينتمي إلى عالم المعنى لا يمكن أن يكون مجرد محاكاة للواقع المادي بل هو بعد من أبعاده وعن طريقه يصبح كل شيء موضوعا للإدراك. "من الضروري من أجل الفكر الرمزي أن يوضع فصل حاد بين الواقعي والممكن أي بين الأشياء الواقعية والمثالية. والرمز ليس له وجود واقعي كجزء من العالم المادي وإنما له معنى.
"لقد كان من العسير على الفكر البدائي أن يميز بين الوجود والمعنى، فهما هنالك مختلطان وإنما ينظر إلى الرمز نظرته إلى شيء قد وهب قوى سحرية ومادية" لكن تقدم الحضارة جعلت التفرقة بين الأشياء والرموز وبين الواقع والإمكان أمرا ملموسا بوضوح. إن الواقع الرمزي هو في المحل الأول ولكنه ليس شيئا ماديا بالرغم من حاجته إلى بنية مادية وقوام حسي يتجلى من خلاله...يتسم الشكل الرمزي بنوعية خاصة تتمثل في شكله الحسي المادي من ناحية وماهيته العقلية المتمثلة في المعنى من ناحية أخرى... وهذا التمييز بين الرمز والمعنى ماهو إلا عملية تجريدية تتم في الفكر وحده لا في الواقع. فالرمز على الرغم من بنيته المادية الحسية إلا أنه يتجاوز مع ذلك تلك البنية ليشير بذلك إلى المعنى. إن ماديته مستغرقة تماما في هذه الوظيفة."(12)
لكن كيف يمثل عودة الفكر الفلسفي الى الرمز محاولة للرد على النظرة الضيقة للمدرسة الوضعية؟
"ترى سوزان لانجر أن الوضعية المنطقية حصرت نفسها في حدود عالم اللغة فحسب بينما عالم المعنى أوسع من عالم اللغة. ذلك أنه توجد مجالا ت أخرى لا يمكن قياسها على أساس المنطق اللغوي وحده كالأحلام والأساطير والفن والميتافيزيقا... وهي مجالات تعد رموزا حافلة بشتى المعاني خلقتها الطبيعة الإنسانية للتعبير عن بعض الجوانب التي تعجز اللغة عن التعبير عنها... كما تفرق بين الإشارة والرمز فالإشارة تفهم متى استخدمت للإشارة إلى موضوع أو الموقف الذي تدل عليه أما الرمز فأنه يفهم متى جعلنا نتصور الفكرة التي يقدمها.فالإشارة ماهي إلا مجرد أداة أو وسيلة لخدمة الفعل بينما الرموز تشكل أدوات ذهنية أو مظاهر لفاعلية العقل البشري. وعندما ينجح الموجود البشري في إيصال فكرته إلى غيره عن طريق الرموز فإنه بذلك يكون قد نجح في التعبير عن هذه الفكرة.
في نفس السياق يفرق شارلز ويليامز موريس بين الرمز الفني وبين الرمز أو العلامات المستخدمة في العلم، فالعلوم تستعمل رموزا مختلفة أو إشارات مثل الحروف والأشكال والأعداد. والفرق بين الإشارة والرمز إنما يرجع إلى أن الإشارة ليس لها معنى نستمده من تأملنا لها وإنما تستمد دلالتها من الشيء الذي نتفق علي أن نستعملها للإشارة إليه، أما الرمز فله في ذاته معنى خاص به ونستمده من تأملنا له والانفعال به فكأن الشكل والمضمون يكونان معا وحدة عضوية... من هنا تصبح الصلة بين الشكل والمضمون في العمل الفني صلة طبيعية وليست مصطنعة كالتي نجدها في الإشارة ومعناها. وبناء عليه نستطيع أن نستبدل إشارة بإشارة أخرى في نطاق علم معين بغير أن يتغير المعنى.."(13)
كما "حاول الأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس وفق منهجية بنيوية "استخراج القوانين الصوتية والنحوية والصرفية من مادة الكلام العادي، ذلك أنه يوجد تماثل بين الأبنية اللاشعورية للعادات وبين أبنية اللغة، فالنشاط اللاشعوري للعقل يتضمن فرض أشكال على المضمون وهذه الأشكال واحدة لكل العقول بمعزل عن تغيرات التاريخ. وعلى ذلك فإن دراسة الوظيفة الرمزية كما يعبر عن نفسها في اللغة تبرهن على ذلك بوضوح ومن ثم يصبح من الضروري الوصول إلى البنية اللاشعورية الكامنة ووراء ككل مؤسسة وكل عادة للوصول إلى مبدأ صحيح للتفسير لبقية المؤسسات والعادات الأخرى... هكذا تبدو المظاهر المختلفة للثقافة كمجموعة من اللغات كل منها يعبر عن جانب أو مظهر أو بعد واحد من أبعاد المجتمع، فالثقافة كلها ماهي إلا مجموعة من النظم الرمزية، في المستوى الأول منه تقع اللغة، وقوانين الزواج والعلاقات الاقتصادية والفن والدين. وكل هذه الأنظمة الرمزية تستهدف التعبير عن بعض مظاهر الواقع الاجتماعي والفيزيائي...هكذا تتحول العلاقات الإنسانية الأصيلة بين البشر إلى ما يشبه العلاقات القائمة بين الظواهر الطبيعية.."(14)، و" مادام الإنسان قد خرج من العالم المادي الصرف فإنه يعيش في عالم رمزي وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلا..الخيوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية."(15)
بيد أن السؤال الذي يطرح هنا هو: كيف يمكن استثمار الرمزية من أجل فهم أعمق للتجربة الدينية؟

مراجع:

[1] بول ريكور، الخطاب الديني بين الشعرية والرمزية، ترجمة عبد المجيد خليفي، مدارات فلسفية عدد13
[2] بول ريكور، نظرية التأويل. ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، طبعة أولى 2003.ص.110.
[3] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1992, ص.15.
[4] عبد المنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثالثة 2000، ص,ص. 384.385
[5] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ص.15
[6] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل الى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ص.ص.16.24.
[7] اريك فروم، اللغة المنسية، مدخل الى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ص.176.
بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى،2005 ص.374.[8] 
[9] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، معهد الإنماء العربي ، بيروت، الطبعة الأولى1988، المجلد الثاني، ص.627
[10] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية،ص.ص.624-637.
[11] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.627.
[12] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.ص.624-628
[13] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.628.
[14] معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، الرمزية، ص.629.
[15] Ernest Cassirer, Essai sur l’homme, Editions. De minuit 1975 , Paris, p.43.

زهير الخويلدي، كاتب تونسي في الفلسفة - الأربعاء, 25 نوفمبر 2009 23:57

0 تعليقات::

إرسال تعليق