الأحد، 22 مايو 2011

مشروعية المعاملة بالمثل في القانون الدولي

مبدأ المعاملة بالمثل يعني أن تلجأ الدولة الى اتخاذ تدابير قهرية تقع بالمخالفة للقواعد العادية للقانون بهدف إجبار الدولة المعتدية على احترام القانون وتعويض الدولة التي اعتدي عليها عما لحق بها من ضرر.
فالمعاملة بالمثل حق معترف به للدولة التي وقع عليها الاعتداء أن ترد عليه باعتداء مماثل بهدف إجبار الدولة المعتدية على احترام القانون وعلى تعويض الضرر المترتب على مخالفته.
وترجع فكرة المعاملة بالمثل الى المجتمعات القديمة حيث ساد مفهوم العدالة الخاصة، ومثل هذا المفهوم كان يسمح للمعتدى عليه بالرد على أي عدوان سابق تعرّض له، ومع تطور النظم العقابية وفلسفتها تحولت العدالة الخاصة باتجاه السلطة العامة وساد مبدأ الدفاع المشروع عن النفس أو المال.
ومفهوم فكرة المعاملة بالمثل انتقل من نطاق الأفراد الى نطاق الدول، وهذا الانتقال شكل نقطة ضعف ضد المبدأ ذاته، فهو يوحي بأن تحقيق العدالة داخل المجتمع الواحد أمر ممكن، ولكن هذا المنطق غير صحيح على إطلاقه في حالة العلاقات بين الدول، وهذا ما دفع بالفقه القانوني الى طرح مدى مشروعيته رغم ان الواقع يفرض الأخذ به كضرورة عملية في بعض الحالات الاستثنائية والخاصة.
والمعاملة بالمثل في زمن السلم يفترض لجوء الدولة الى اتخاذ إجراءات قسرية دون اللجوء الى القوة المسلحة، كقطع العلاقات التجارية، وفرض الحصار على السفن التجارية، والامتناع عن تنفيذ المعاهدة التي تلزم الدول في حال المصادقة عليها.
واستخدام القوة المسلحة قد يظهر من خلال مخالفة قاعدة دولية جزائية، مثل احتجاز سفن دولة أثناء مرورها بالمياه الاقليمية لدولة أخرى والاستيلاء على البضائع التي تحملها.
والقواعد العرفية هي التي تحدد المعاملة بالمثل في زمن السلم بصورة عامة، إلا أن التطور الحديث لمفهوم المسؤولية الجزائية الدولية جعل الاتجاه يرفضه على أساس تعارضه مع النصوص الواردة في المواثيق والمعاهدات الدولية التي تتبنى مبدأ عدم اللجوء الى القوة من أجل فض المنازعات بين الدول واعتماد طريق المفاوضة أو الوساطة أو التحكيم، فإذا فشلت هذه الوسائل، فإنه يتعين عرض الأمر على مجلس الأمن من أجل إيجاد حل عادل للنزاع. ويظهر هذا المفهوم بوضوح أكثر في زمن الحرب، فالدول لجأت اليه من أجل الدفاع عن نفسها ورد الاعتداء الذي تتعرض له، وإجراءات الرد هذه تعتبر مشروعة في ظل الظروف التي أحاطت به رغم أنها تعتبر في الأصل غير مشروعة وتستوجب المسؤولية الدولية بشأنها.
ورغم مبررات هذا المبدأ وقوة حجته فإن المجتمع الدولي لم ينجح في وضع قائمة بالحالات التي تندرج في نطاقه. ولكن يمكن استخلاص أحكامه من نصوص المعاهدات والمواثيق الدولية، فالمعاملة بالمثل في زمن الحرب المبررة قد تتعلق بالأسرى وأحوال تشغيلهم، فهنالك قواعد يتعين مراعاتها تجاه أسرى الحرب لدى الدول، وأي إخلال بهذه القواعد من قبل أي دولة يمنح الدولة الأخرى إخلالا مماثلا اذا ما اعتدت على أسراها، وذلك يتعارض مع حالات معاملة الأسرى في الحروب ولكن اللجوء إلى هذه الوسائل بما في ذلك قصف المنشآت المدنية وغير المحاربين تعتبر مبررة من أجل ردع الخصم كي لا يتعرض للمدنيين، مع أن هذا الأسلوب غير مشروع في الأصل.
والرد على الاعتداء يتعين أن يكون بوسيلة من الوسائل المسموح بها، فلا يجوز اللجوء الى وسائل غير إنسانية أو محرمة دوليا، أو غير ذلك من الأفعال كأخذ الرهائن، وقتل الأسرى وتعذيبهم سواء كانوا من المدنيين أو من العسكريين.
ويتعين أن يتوافر التناسب بين فعل الاعتداء والرد عليه، وفيه يؤخذ بعين الاعتبار كل الظروف الموضوعية المحيطة بالأفعال المرتكبة ومعنى التناسب يجب أن يتسم بالواقعية والموضوعية بحيث يتعين عدم تجاوز المقدار الذي يحقق الهدف وذلك بردع المعتدي وإزالة الأضرار التي تكون قد ترتبت على أفعاله غير المشروعة.
قد تلجأ دولة ما الى رفع تعرفة جمركية في وجه دولة أخرى، وقد تلجأ هذه الاخيرة الى اتخاذ تدابير معينة لمواجهة هذا الإجراء، فهنا يعتبر المعاملة بالمثل من الأصول المباحة والمسموح بها في عالمنا المعاصر الذي تسمى فيه إجراءات عادية وتتحول الى أفعال غير ودية ولكنها غير مخالفة للقوانين كمنع رعايا دولة من المرور بدولة أخرى رداً على فعل مماثل أتته الدولة الأخيرة.
ويقوم مبدأ المعاملة بالمثل على أساس وقوع اعتداء بالفعل على الدولة التي لجأت الى هذا الإجراء، بينما نلاحظ ان الدفاع عن النفس لا يستلزم هذا الشرط، بل يكتفي بوجود الخطر الحال والوشيك الوقوع، وهذا ما تؤكده التشريعات المقارنة بالنسبة للحالة الثانية وما تقر به المعاهدات الدولية بالنسبة للمعاملة بالمثل.
وبصفة عامة فإن مبدأ المعاملة بالمثل، ومبدأ الدفاع المشروع يتفقان لأنهما يكونان كل واحد قضية دولية، ويشكلان في الوقت ذاته مبررات لحق الدولة في الدفاع عن النفس على صد أي اعتداء تتعرض له دون وجه حق رغم الطابع غير المشروع على أساس الفعل المرتكب الذي يصبح مشروعا في ظل الظروف التي اقترف فيها ذلك الفعل، وهنالك وقائع كثيرة يستخلص منها وجود قاعدة عرفية تعتبر المعاملة بالمثل من أسباب التبرير، وقد أنكر مجلس الأمن شرعية المعاملة بالمثل في كثير من الشكاوى التي رفعت، ونذكر خاصة العدوان الأميركي على فيتنام الشمالية سنة ،١٩٦٥ والعدوان الاسرائيلي على قرية السموع سنة ،١٩٦٦ وعلى لبنان في سنوات ،١٩٦٨ ،١٩٦٩ ،١٩٧٠ ١٩٧٢ وفي تموز ٢٠٠٦ والعدوان الاميركي على العراق سنة ٢٠٠٣ رغم الحجج الواهية التي حاولت أن تحتج بها القيادة الاميركية وتتلخص في مكافحة الارهاب والقضاء على أسلحة الدمار الشامل.
والمعاملة بالمثل كمبدأ يشير في ظاهره الى عدالة فيصبح في موازاة الدفاع المشروع عن النفس أو المال، ولكن هذا المبدأ في جوهره يتضمن عناصر خطرة ومدمرة قد تقود الى اضطراب وعدم استقرار في المجتمعات الدولية، ذلك انه يسمح للدولة المعتدى عليها بأن تلجأ الى القوة العسكرية كوسيلة لفض نزاعاتها، كما انه يتناقض ذلك مع نصوص ومواثيق الأمم المتحدة التي تدعو الى حل النزاعات المسلحة بالطرق السلمية، أي من غير طريق استخدام القوة العسكرية. وفي زمن الحرب فإن اتباع هذا المبدأ قد يؤدي الى ارتكاب جرائم دولية كالإجراءات التي اتخذها الألمان ضد الدول التي اعتبرت عدوة لها تحت ستار هذا المبدأ في الحرب العالمية الثانية.
ورغم مخاطر هذا المبدأ فقد اعترفت المحاكم العسكرية »محاكمات نورمبرغ وطوكيو« بمشروعيته، كما أن الواقع يشير الى انه يمكن استخلاصه وتبريره من خلال عدم المعاقبة على الأفعال التي تقع ضمن الحدود المعترف بها دوليا.
وما يسد الفراغ على الصعيد الدولي وجود قضاء دولي متخصص للنظر في النزاعات والجرائم التي ترتكب تحت شعار الدفاع عن النفس والمعاملة بالمثل، ويتمثل ذلك بمحكمة الجزاء الدولية التي لم تثبت جدارتها حتى الآن، خاصة في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان وفلسطين وتدميرها للمنشآت المدنية والسكنية، والى أن تتحرك المحكمة بصورة فعالة وعادلة لمواجهة الجرائم الاسرائيلية يبقى اللجوء الى مبدأ المعاملة بالمثل والى الدفاع المشروع عن النفس من التدابير الجائزة للجم العدوان الاسرائيلي المتكرر على الأمة العربية بوجه عام وعلى الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لمجازر جماعية ووحشية بوجه خاص.

علي محمد جعفر ([) أستاذ جامعي  - السفير 30/1/2009

0 تعليقات::

إرسال تعليق