السبت، 14 مايو 2011

سيرة محمد قاسم عبد الصمد شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز


 صورة

من الرجال الصالحين، وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز المغفور له الشيخ محمد قاسم عبد الصمد، الذي تولّى مشيخة الطائفة من السنة 1946 إلى 1954، بعد وفاة الشيخ حسين حمادة.

كان رجلاً تقياً ورعاً، كامل الصفات، حميد المزايا، رفيع الأخلاق، من العائلة الصمدية التي أنجبت رجالاً كباراً كان لهم الفضل في مختلف الحقول الاجتماعية والعسكرية والدينية والعلمية والأدبية والسياسية والإنسانية، نذكر منهم على سبيل المثال:


أحمد بن علي بن منصور بن جمال الدين عبد الصمد، الذي كان وكيلاً عن الشوف الحيطي، مع طاهر عثمان أبو شقرا، وأبو دعيبس بن علاء الدين بن أسد بن باز عبد الصمد، الذي لزم خدمة الأمراء الشهابيين وكان برتبة بكباشي، وحسين بن محمد بن شاهين بن محمد بن شاهين عبد الصمد، الذي عمل في خدمة القوات البريطانية كترجمان في العام 1918، ورافع بن بو دعيبس بن شاهين عبد الصمد (1837 – 1897)، الذي كان فارساً شجاعاً وصاحب همة وأريحية وثروة من آبائه وأجداده، ومحمود بن حسين بن محمود بن سليمان بن أحمد عبد الصمد، الذي استدعاه الأمير شكيب أرسلان ليكون أمين سره من السنة 1930 إلى 1939، ومنصور بن قاسم بن سليمان بن أحمد بن علي عبد الصمد، الذي ذهب إلى الآستانة ودرس في مكتب الحقوق وعيّن قائمقاماً في صور، وأبو حسين عبد الصمد الذي ولد في السنة 1786م. وتولّى منصب شيخ العقل بعد معركة سهل السمقانية في 1825م. وبقي فيها أربعين سنة، ودفن في عماطور في 1868م.

ولد الشيخ محمد قاسم بن سليمان بن احمد بن علي بن منصور بن أمين علاء الدين بن أسد باز بن عبد الصمد في السنة 1846م. وتعبيراً عن الفرحة بالمولود الجديد أهداه جدّه سليمان أول قنديل يعمل على الكاز في منطقة جبل لبنان، عربون محبة وإخاء، ولا يزال هذا القنديل إلى أيامنا هذه عند ورثته.

عاش هذا الطفل بين والديه مشمولاً بالعطف الأبوي، إلى أن حصل سوء تفاهم بينهما، فتكفّل الجد سليمان بتربية الطفل وابتنى داراً جديدة قرب دار والده. وكان والد الطفل قاضياً في محكمة جزين، وجيهاً بين قومه وأبناء وطنه، وقد دفع الشيخ محمد في حياته إلى مواجهة الصعوبات في أوج شبابه بمواقف أكبر من سنه.

عندما بلغ محمد الثامنة من عمره لفت أنظار الجميع بجرأته وإقدامه وحزمه، ووقف إلى جانب والدته في تحمل المسؤولية وإعالة شقيقتين له: حامدة وزهر، إضافة إلى عنايته بالمزارع في "طمرا" الواقعة على نهر الليطاني قرب مرجعيون وكفرتعلا وعري وبحنين قرب جزين.
وما إن اشتد عوده، حتى بدأ بالتعرف على المزارع التي يملكها من والده، وتمكن بشخصيته وحضوره من التعرّف على الأصدقاء في القرى التي مرّ ذكرها.

تزوج ابنة عمه ورزق منها ولدين هما: سليمان وسلمى. أطلقت الناس على الشيخ محمد صفات التقوى والورع والوئام والسلام، وسارع بالتعاون مع ابن خالته قاسم أبو شقرا إلى تطويق إشكال كاد يقع في عماطور وبلدات الجوار فعمل على حلّه بسرعة قصوى.

وكان الشيخ في حياته زاهداً في الدنيا، اتخذ خلوة له بعيداً من مباهجها، فنهج الدين مسلكاً له في الحياة، وعرفت عنه جرأته في اتخاذ المواقف، وقد وقّع على "نداء السلم" الصادر في استوكهولم السنة 1953. ما دفع بالسفير الأميركي إلى زيارته محاولاً أن يسحب الشيخ توقيعه، لكنه عاد خائباً نظراً لجرأته وإقدامه. وكانت للشيخ علاقات ودّ ومحبة مع بعض العائلات المسيحية، كآل البستاني وآل نعمة في دير القمر. كما كانت له علاقات مع المطران عبد الله البستاني الذي كان يقيم في كرسي بيت الدين، ومع آل نخلة وآل السعد وآل الصلح وآل عسيران وآل الأسعد وآل شاهين. وكانت علاقته ممتازة مع الأميرين شكيب وعادل أرسلان، ومع نسيب جنبلاط وجميل تلحوق ونسيب مكارم وآل العريان وعموم المشايخ في جبل الدروز ومع آل الأطرش وفي مقدمتهم سلطان باشا الأطرش.

كانت للشيخ مواقف مشرفة إذ أنه تصدى لفرقة عسكرية تركية في السنة 1918. كانت تريد السيطرة على قطيع من المواشي والخيل والدواب في مزرعة كفرتعلا قرب جزين، وكانت هذه المزرعة تابعة للشيخ فتصدى بعصاه للجنود. وقد هدّد بها الضابط وأخذ يلومه على هذا الاعتداء السافر. ثم طلب منه التراجع. هذه الحادثة تؤكد شجاعة الشيخ ومهابته في اقتحام الصعوبات والدفاع عن حقوقه.

كذلك أيد الثورة العربية السورية السنة 1925 – 1927. فقال بمساع حميدة بناء على طلب الست نظيرة جنبلاط وتشكل وفد قوامه: السيخ محمد عبد الصمد والشيخ قاسم أبو شقرا والشيخ حسين طليع (شيخ العقل) والشيخ سعيد حمدان (قاضي المذهب)، لإصلاح الأمور بين الفرنسيين والدروز وتسوية وضع الخلاف بينهم بعد هزيمة الفرنسيين في عدد من المعارك. وكان أن توقف القتال وتمّ التفاوض فذهب الوفد وطرح عليهم ما حمله من مقترحات والتي على أساسها توقف القتال. وكان لجهود الشيخ محمد عبد الصمد في الحكمة التي أظهرها في المفاوضات أن أهداه سلطان باشا الأطرش تقديراً منه لدوره الفعال، بندقيته الخاصة والحرز الذي كان يلازمه في تجواله في أثناء المعارك. وكانت للشيخ علاقة حميمة مع الأمير عادل أرسلان.

كذلك كان لجهوده المثمرة بين عائلتي عبد الصمد وأبي شقرا في الخلاف الذي نشب بينهما، الأمر الذي يؤكد أن هذا الشيخ صاحب حكمة وتعقل واعتدال. كذلك كانت له جهود جبّارة بعد انقسام الدروز إلى جنبلاطيين – ويزبكيين لرأب الصدع.

وكانت له زيارات متتالية للمقامات الدينية والمشايخ من القرى والبلدات الشوفية، وقد قام بتشييد مقام الشيخ أبي يوسف إسماعيل والست أم علي حربا، خالة الشيخ محمد، وكانت نذرت نفسها للعفة، فرأى أنها تستحق الكثير، أقله التكريم بتخصيص ركن لها في داخل المزار المذكور، وتم ذلك وفق الأصول الدينية وفي احتفال متواضع.

وكانت زيارة الجنرال غاملان قائد جيوش الشرق الفرنسية المفاجأة له من دون موعد في خلوته، حيث تناول طعام الغداء في منزله في عماطور الذي لا يبعد إلاّ قليلاً عن مكان "الخلوة" وكان ذلك في السنة 1939. وقد أعجب الاثنان احدهما بالآخر، وانصرف الجنرال واعداً بزيارة أخرىـ، مبدياً إعجابه بشخصية الشيخ ورغبته في توطيد العلاقة معه. وجوهر هذا الحديث ليس في ما جرى بين الرجلين وإنما تبيان ما كان يتحلى به الشيخ من أخلاق ومن شخصية محببة مهيبة.

أدى الصلاة على جثمان زعيمة الشوف السيدة نظيرة جنبلاط في السنة 1951 وأم المصلين في موقف مليء بالخشوع والمهابة. وكانت علاقته مميزة مع سيدة قصر المختارة في ذلك الحين بعدما خبرت فيه رجل المهمات الصعبة، وقد كلفته القيام بعدد من الاتصالات والمباحثات.

وكان اختياره شيخاً للعقل في 16 آب السنة 1946. فقرّر الشيخ قبول هذا المذهب بعد تدخل من الأمير عادل أرسلان مع مجموعة من مشايخ الطائفة وأعيانها وإلحاح شديد منه خدمة للمصلحة العامة وفق مقتضيات الظرف القاهر.

وتم الانتخاب من طريق جمع تواقيع من يحق لهم الانتخاب في مضابط، وجرت عملية الانتخاب بما يشبه التزكية، وأعلن عنها في مقام الأمير السيد عبد الله التنوخي في "طعبيه" وأرسل العلم والخبر إلى مقام رئاسة الجمهورية اللبنانية.

وهناك أبيات "حداء" ردّدها المحتفلون في ساحة عماطور:

ما بيعلى شأن الأوطان
إلا برجال الإيمان
بشيخ مشايخ عقل الشوف
الشيخ الفاضل بو سليمان

وما إن انتشر الخبر في منطقة الشوف حتى تقاطرت الوفود من كل مكان تعلن تأييدها له بفضل تقديرها للشيخ الجليل. وكانت الرسائل وبرقيات التهنئة تنهال عليه من عدد كبير من الشخصيات الروحية والزمنية. أما الكتاب الذي بين أيدينا – والذي تناول سيرة حياة الشيخ الجليل، فقد قسم إلى أبواب وفصول:

الفصل: الأول: أضواء على تاريخ عماطور.
الفصل الثاني: توطن آل عبد الصمد وآل أبو شقرا في عماطور.
الفصل الثالث: انطلاق المسيرة.
الفصل الرابع: مشيخة العقل.
الفصل الخامس: رسائل برقيات التهنئة.
الفصل السادس: صفحات من عهد المشيخة.
الفصل السابع: نبذة عن حياة الشيخ الخاصة.
الفصل الثامن: وفاة الشيخ.
وهناك خاتمة الكتاب تحت عنوان: "مساحة مضيئة في كتاب التاريخ". 

كانت وفاة الشيخ في السنة 1954، إذ فارق الحياة تاركاً وراءه إرثاً غنياً من السمعة العطرة والقدوة الصالحة على طريق الحق والصواب والصلاح. وفور انتشار خبر الوفاة تقاطر إلى منزله أهالي الجبل لإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان، كما توافد رجال السياسة الرسميون والديبلوماسيون والفاعليات من مختلف المناطق.

وفي المأتم الحافل الذي أقيم له في عماطور قلّده جورج حيمري، مدير المراسم في القصر الجمهوري باسم رئيس الجمهورية اللبنانية، وسام الأرز من رتبة كومندور، ثم نقل على الأكتاف إلى مثواه الأخير.

وفي أثناء مرور الجثمان كانت الأيدي تتزاحم للتبارك منه، ودفن قرب أجداده، في المقام الذي شيّده الشيخ حسين عبد الصمد، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز.

غيب الموت الشيخ الجليل، كما غيّب غيره من قبل، لكنه يبقى في الذاكرة خالداً مع الزمان وآية وفاء لأعماله الجليلة التي قام بها طوال حياته. كتاب يضم سيرة هذا الرجل، شيخ عقل الطائفة الدرزية الشيخ محمد قاسم عبد الصمد، الذي تسلّم سدة المشيخة طوال ثماني سنوات كان فيها علماً من الأعلام، على صعيدي الدين والدنيا، وكان المثل والمثال في التقوى والحنكة والورع بين قومه في مرحلة صعبة من تاريخ هذا الوطن.

(•) سيرة الشيخ محمد قاسم عبد الصمد، شيخ عقل طائفة الموحدين، (1946 – 1954)، مساهمة في تاريخ الأسرة الصمدية، لعادل عبد الصمد، الطبعة الأولى، سنة 2009. 

الكاتب: نجيب البعيني - النهار 2009/12/06

0 تعليقات::

إرسال تعليق