الأربعاء، 25 مايو 2011

الحداثة: إشكالية التعريف

" مقدّمة إلى الحداثة كانت مرحلة ابتداء الحداثة

كما يرى بعض المحققين - مع حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي قادها مارتن لوثر في عام 1517م. وأخذ مفهوم الحداثة أبعاده الفلسفية والسياسية في القرنين 17 و18م حيث كان مدعاة لولادة التفكير الفردي والعقلاني، وصياغة المبدأ الرأسمالي بعقيدته العلمانية ونظامه الديمقراطي، وبناء ما يسمى بالليبرالية والعالم الحرّ. فلقد ركّز التقدم المستمر للعلوم والتقنيات في الغرب، واندلاع ثورة التكنولوجيا، عامل التغيير المستمر، والصيرورة الدائمة، والسيرورة الدائبة، مما أدى إلى انهيار المعايير الحضارية، والقيم الثقافية التقليدية التي لا تؤمن بالحركة والتغيير، وتعكف على ما توصلّت إليه وتتشبّث بما عندها وإن كان لا قيمة فكرية له. وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية والثقافية، وفي كنف الحركة المعرفية بمختلف اتجاهاتها، تحدد السياق العام للحداثة عند المحققين بوصفها ممارسة اجتماعية، ومنهجا فكريا، ونمطا من الحياة، ونسقا من المعرفة يقوم على أساسي التغيير والابتكار. ويرى كل من كارل ماركس، ودوركهايم، وماكس فيبر، أن الحداثة تجسد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات.
ويعرّفها آلن أوين بأنها: \"الفصل المتعاظم بين عالم الطبيعة الذي تديره قوانين يكتشفها ويستخدمها الفكر العقلاني، وبين عالم الذات الذي يختفي فيه كل مبدأ متعال لتعريف الخير\". (1) بينما يرى (ماكس فيبر): \"أن الحداثة هي فصم الائتلاف والوحدة بين السماء والأرض مما يخلي العالم من وهمه ويلغي سحره. ويرى (بودلير): أن الحداثة هي حضور الأبدي في اللحظة العابرة فيما هو مؤقت\". (2) ويذكر قاموس ويبستر Webster \"بعض معانيها الأساسية التي تعنينا بشكل خاص على النحو التالي:\"ممارسة، استعمال، أو تعبير خاص أو مميز للأزمنة الحديثة: طريقة للعيش أو التفكير مميزة لأزمنة الحديثة، فلسفة وممارسات الفن الحديث، وبخاصة خروج ذاتي واع ومقصود على الماضي، وبحث عن أشكال جديدة للتعبير في أي فن من الفنون.\" (3) إشكالية التعريف رغم ما تكلفناه من عناء التعريف، فإنّ مفهوم الحداثة عند المحققين قاطبة يعتبر من المفاهيم المستعصية على التحديد. والسبب في استعصاء هذه الكلمة على التحديد أو في وجود إشكالية دلالية (سيمنطقية) فيها يعود إلى أمور عدّة نوجزها فيما يلي؛ السبب الفني، السبب اللغوي، السبب المعرفي والسبب الوصفي. 1 . السبب الفني حقيقة المصطلح هو أنه اتفاق طائفة معينة على تسمية شيء معيّن باسم معيّن. وحقيقة التعريف أنّه وصف لواقع ما. هذه الناحية الفنية في الاصطلاح والتعريف سبّبت إشكالا في دلالة لفظة الحداثة. ذلك، أنّ تعيّن الطائفة وتعيّن الاسم دون تعيّن الشيء ينتج الضبابية والاضطراب في الدال والمدلول. وتعيّن الوصف دون ضبط الواقع وزوايا النظر إليه مما ينتج الارتباك في الحدّ، ويمسّ بماهية الشيء أو الواقع المراد تحديده. أمّا عدم تعيين الشيء أو المضمون فعائد إلى أمور منها: · التذبذب في حقيقة البعد الزماني والمكاني للفظ. فمن المحققين من يلحّ على ارتباطه بالمفهوم، ومنهم من يقلّل من شأنه مركّزا على عالميته ومحاولا إفراغه من أي بعد زماني مرحلي أو مكاني جغرافي. · الحيرة في تحديد الأسبقية؛ أسبقية الحدث (أو الممارسة) أم اللفظ (أو النظرية)، وبعبارة لسانية؛ أسبقية الدال أم المدلول. · الاضطراب في تحديد مصدرية أسس الحداثة أو مصدر استمدادها المعرفي. إذ إنّ هذا التحديد حبيس حلّ إشكال الثقافة بين المركزية أو العالمية، وإشكال المعرفة بين القطيعة الإبستيمية أو الوصلة. وأمّا عدم تعيّن الواقع وزوايا النظر إليه المنتج لاضطراب التعريف، فذلك لأنّ التعريف، أيّ تعريف، باعتباره وصفا لواقع ما يقتضي سبق الواقع على الوصف. فإذا حصل سبق الوصف على الواقع، كما هو رأي بعض المحققين في أسبقية الممارسة على النظرية (practice often precedes theory) أو الحدث الحداثوي على الاسم، حصل الارتباك، والاضطراب والتشوّش في مطابقة الوصف بواقعه، ونجم عن ذلك محاولات التأويل، والتعميم والتلفيق. وأمّا إذا قلنا بسبق الواقع على الوصف فتكون الإشكالية البارزة في التعريف آتية من عدم ضبط واقعه الناجم بدوره عن طبيعة هذا الواقع المراد وصفه. وطبيعة واقع الحداثة تتميّز بخاصيتين هما: عدم الثبات وعدم الكمال. فعدم الثبات لأنّ الحداثة نسق معرفي متصاعد لا نهاية له، فهي التغيير المستمر، والصيرورة الدائمة، والسيرورة الدائبة، والسعي غير المنقطع. وعدم الكمال من وجهين؛ أولّهما، أنها لو بلغت نهاية تصاعدها لبلغت بذلك نهايتها في ذاتها. وثانيهما، أنّها في الرأي الحالي السائد عند جمع من المحققين، كما وصفها هابرماس J.Habermas : \"مشروع لم يكتمل بعد\". علاوة على كلّ ما ذكرناه، فإنّ التعريف متعدّد الأقسام لتعدّد زوايا النّظر إلى الواقع المراد حدّه أو وصفه. ومن أقسامه التعريف بالماهية وهو ما يعبّر عنه بالحدّ الحقيقي Definition reelle وعليه يتنزّل قول أرسطو \"الحدّ هو الدال على ماهية الشيء\"، والتعريف بالمكوّنات أو الخصائص والصفات التي تميّز الشيء عن غيره، والتعريف بالاسم Definition nominale. ولمّا كانت زوايا نظر المعرّفين متباينة تباينت تبعا لذلك تعريفاتهم، فمن معرّف للحداثة بالماهية إلى معرّف بالاسم أو الخصائص أو غير ذلك. 2 . السبب اللغوي كلمة الحداثة \"modernity/ La modernité\" لغة مستمدّة من الجذر اللاتيني \"mode\" ومنه لفظة \" modernus \" وتعني الآني، الحالي، المعاصر، وضدّ القديم. وعلى هذا فإنّ الحداثة لغة تفيد كلّ \"ما هو من زمن المتكلّم\". إنّ هذه الإفادة اللغوية للكلمة لا تجرّدها –حسب تعبير محمد أركون- من كل مدلول عملياتي في علم الاجتماع التاريخي فقط بل هي عندي تنزع عنها كلّ صبغة علمية، وتعرّيها من كلّ مدلول معرفي ورؤية حضارية. فهي كما وصف ماركس البرجوازية في بيانه الشيوعي \"تحمل في طيّاتها بذور تحطيمها\". إذ إنها بالتصاقها بالمعنى اللغوي تحاكم نفسها بنفسها، وتنقض ذاتها بذاتها، لأنها تجرّد صبغة الحداثة عن الأفكار الحداثوية، وتنزع الحداثوية عن مصادر استمدادها والأسس التي قامت عليها. فحركة التنوير مثلا التي أسست لهذا النسق الحداثوي، والتي شكّلت أركانه تعتبر بكلّ منجزاتها كالديمقراطية والحرّية ليست حداثوية لأنّها ليست معاصرة وليست من زمن المتكلّم. وإذا كانت الحركة التنويرية منذ مائتي عام قد حاربت الأفكار الكنسية والموروثات الثقافية الأوروبية في عصرها بحجة أنها قديمة بالية غير حداثوية، فلكائن ما أن يحاكم اليوم في هذا القرن الواحد والعشرين الأفكار التنويرية بحجة أنّها غير حداثوية. إنّ ارتباط الحداثة بالأصل اللغوي، وهو ما يصعب الانفصال عنه، لم يولّد إشكال التعريف فقط، بل ولّد معه إشكال الفهم والممارسة في العقلية الغربية لعامة النّاس الذين ارتبطت عندهم الحداثة بالمعنى اللغوي دون سواه، ممّا أنتج البعد الفكري والسلوكي عن المدلول الوجودي والمبدئي للكلمة، وولّد إشكال المضمون عند جمع من المفكرين أفرز بدوره جبهة \"ما بعد الحداثة\" التي أعلنت موت الحداثة، وأنّها متآكلة، أو على حدّ تعبير ليريس \" فالحداثة أصبحت لاغية في هذه الأزمنة الكريهة، إنّها شيء تجاوزه الزمن، لقد كفّت الحداثة عن أن تكون حديثة.\" (4) 3 . السبب المعرفي ليست المعرفة، بغض النظر عن تعريفها، وحدة غير منفصمة. فهي متعدّدة الموضوعات، والمناهج، والشعب. إنّ هذا التباين المعرفي من الأسباب التي سببت إشكال تعريف الحداثة. ذلك أنه يعنى بها في الفنّ (Arts) غير ما يعنى بها في الفلسفة أو علم الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة. فإذا كانت الحداثة في الفنّ تعني الحديث عن التكعيبية (Cubism) والدوامية (Vorticism) والسريالية (Surrealism) فإنها في علم الاجتماع تعني الحديث عن الوضعية (Positivism) وفي الاقتصاد تعني الحديث عن الفوردية (Fordism) وفي الفلسفة تعني الحديث عن العلمانية (Secularism) والمادية (materialism) وفي العلم تعني الحديث عن الميكانيكية (Mechanistic) . 4 . السبب الوصفي إذا كان التعريف، مهما أُختلف في تعريفه هو الآخر، لا يتعدى في واقعه كونه وصفا لواقع ما، فإنّ الدّقة في الوصف واختيار اللفظ المناسب له مما يبلور عملية الفهم، والوعي على الواقع، والتعامل معه. فالغالب على العامة والخاصة اختزال المفهوم، مهما كان معقّدا في بنيته ووظيفته، في كلمة. سواء أكانت هذه الكلمة تعبّر عن مدلول رياضي، أو فلسفي، أو سياسي، أو اجتماعي أو غير ذلك، فإنّ حسن اختيارها يجعل منها مقياسا يقاس به الواقع، ويبلور به الوعي عليه، وإن عجز الإنسان عن التعبير عنه، بل إنّ الإنسان لا يحتاج مع دقة اللفظ وبلورة واقعه إلى التعبير عنه بغير اللفظ ذاته. إنّ الأوصاف التي ننتقيها للتعبير عن الواقع في محاولة منا لشرحه، أو لحدّه، أو لتقريب ماهيته لبلورة عقلية أو لغير ذلك من الأغراض التي وظّف لها التوصيف، يجب أن تكون مطابقة للواقع أو مقاربة له حتّى تتأدّى وظيفتها. كما يجب أن تكون هذه الأوصاف منسجمة مع موضوع الواقع ومتناسقة مع جنسه. إننا لو اعتبرنا وصف الحداثة، باعتبارها \"مذهب تفضيل كلّ ما هو عصري أو مستحدث عن كلّ ما هو قديم\"، (5) مقياس الصواب والخطأ في الفكر، لظلمنا بذلك الفكر والمفكرين. نظلم الفكر لأنّه يفقد قيمته أمام نزعة رافضة له غير مدعومة بتحليل له وتفصيل، وغير مصحوبة ببحث فيه وتنقيب أو بدراسة معمّقة له. إذ إنه يردّ لمجرد كونه من عصر غير عصرنا، وإن كان قطعا صائبا أو مطابقا للواقع أو فعّالا في معالجته. ونظلم المفكرين لأنّ نتاج إبداعهم مرحلي، يفقد بريقه مع جيل جديد يتوق للحداثوي ويعزف عن القديم. إنّه مقياس \"كلّما أبدعت طائفة لعنت أختها.\" 1. نقلا عن الحداثة وأزمة الخط الإنساني، لحامد السعيدي، مجلة النبأ العدد63 شعبان 1422هـ تشرين الثاني 2001م 2. المصدر نفسه. 3. ينظر الحداثة والحداثية: المصطلح والمفهوم، الدكتور نايف العجلوني، مجلة أبحاث اليرموك، م14ع2، 1996م، ص105-139 4. نقلا عن صدى الحداثة، لرضوان جودت زيادة، ص37، المركز الثقافي العربي، لبنان، ط1 سنة2003م. 5. ينظر: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، للدكتور أحمد زكي بدوي، ص272، مكتبة لبنان، 1993م".

مجلة العلوم الاجتماعية 07-25-2009 02:39 AM

0 تعليقات::

إرسال تعليق