الثلاثاء، 10 مايو 2011

الشفرة الشعرية للأسطورة

كان فكتور شكلوفسكي "2" محقا حين لاحظ أن الأسطورة هي ( الشكل الأولي للشعر ). ويرجع الأمر الى أن الشفرة ذاتها شعرية وتمحص أسلوب ظهورها في الكلمة. و في بنية الأسطورة هناك الكلمات – المفاتيح التي تخص وظائف المجاز الشعري. ويوضح روبرت غريفز R. Graves "3" المعنى الشائع لكل إسم أسطوري : أفروديت هي المولودة من زبد البحر ، ألكمينا هي ليلة قمرية ، ألكستيدا هي قوة البيت العائلي ، أبوللو هو الإنسان – شجرة التفاح ، آريس هو المحارب الشجاع ، إيروس هو الحب ، زيوس هو السماء الصافية ، ديوميديس هو الحكمة الإلهية ، ألكترا هي تلك التي تضيء ، مينيلاوس هو قوة الشعب ، يوليسيس هو العنف ، بروميثيوس هو المتبصر ، تيتاني هو ذو السلطة ، هيرا هي ذات الحدب. و تسحرالمرء هذه اللغة الغنية بالمعاني المستترة. وقبلها لاحظ عمانوئيل كانت التماثل بين الأسطورة واللغة التي تعبر عن المتن الحكائي للأسطورة ، وبالمعنى الحرفي تتقدم الميثولوجيا في الصيغة الشعرية كمعرفة من خلال الكلمة والرمز والصور ذات المعاني الشعرية المخفية.

وفي منابع الأسطورة يكمن إغراء الفنتازيا. وعن حق قال الشاعر أندريه بييلي "4" إن ما قرر مصائر عالمنا إستيطان الصورة في الفنتازيا. وجوهر الأسطورة يعتمد على هذا الأمر.. وبقوة المخيلة تكون الأسطورة وجودا شعرياعلى مستوى ما فوق الواقع. ولذلك عدا الفهم العادي للأسطورة لابد من حسّ بالمنطق الشعري الذي يصعب فهمه. وكمثال على شعرية الشفرة ، أي الأسطورة في الأساس ، يكون سؤال أبي الهول : ماهما المخلوقان اللذان يندغم أحدهما بالآخر ويدمره ؟. والجواب هو : النهار والليل. ولهذا السبب تكون سطحية معرفتنا عن الرمز الذي يكونه أبو الهول في الواقع : من هو الذي ينبعث بصورة دورية كل خمسمائة عام، من رماده ؟. ونحن نخمن لاغير، بأنه التوقد – الطير الذي يملك صلة قربى بالشمس وحتى أنه قد يعبر عن دورة ما للطبيعة بيولوجية وكامنة. و قد أقول : إن هذا السر هو إشارة الشعر أيضا تماما كما قال مالارميه: ( يخفي الشعر سرّا في داخله ). ولذلك تتراكب الأسطورة كشعر ، كرمز مذكور على الدوام ، كحكمة الصورة التي تنغلق فيها الروح.
وكان المؤلفون اليونانيون قد توقفوا لغرض البحث عن أصل الأسطورة ، عند الروايات الخالقة للأساطير كإستعارات ومنحوها إشارات الفرادة. ورأى أناكساغور" 5" في زيوس العقل وفي أثينا الحكمة. ولاحظ الآخرون في أبوللو نور الروح وفي ديونيزوس نبض الحياة. ومن خلال الصلة بين واقعين –المرئي وغير المرئي سعى ف.شيللنغ F. Schelling " 6" الى فهم الأسطورة ( من الداخل ) حسب. ولذلك تطابقت الأساطير مع معنى كلمة المضمون – الصورة ز اما م . ميللرM. Muller "7" فيستخدم مفتاحا لإيضاح لغة الأسطورة ، يدعو الى التأمل . وهو أنه في أسطورة دافنيDafni يعثر على رباط مع اللغة السنسكريتية التي تعني ( دافني ) فيها ( نور الفجر ) بينما تعني باليونانية ( لوفور lovor ) أي يتم إكتشاف أحوال التماثل السيميائية: هناك فكرة نور الفجر ( دافني ) ثم أبوللو ( الشمس ) وبعدها إنطفاء دافني فوق الأرض ( أي الهالة Laur ” Lovor” ) و بفضل تماثل مشابه كمقتل هياكنتوس Hyakinthos " 8 "على يد أبوللو يتم إكتشاف طبقة نجوميةastral سفلى: القمر الذي هزمته الشمس. كذلك يكون العكس صحيحا. ويمكن تخيّل بينيلوب التي يحاصرها الرجال قمرا محاطا بالنجوم. وهذا يعني أن ميثولوجيا الطبيعة تحدد الروابط الشعرية. ومن الطبيعي أن يحصل هذا التحديد بهيئة الرمز والصورة. وهنا تكتسب الأهمية أفكار الرومانسي الألماني أولاند Uhland " 9 " الذي كان له السبق حين قال : الشعراء وحدهم يفهمون الأساطير بالصورة الصحيحة.
وفي تحليل معقد للأسطورة قال نيتشه : ( كل الآلهة مجازات شعرية و إستحواذات شعرية ). وتبين أن فكرته هي على اتفاق مع أسطورة الخليقة خاصة فيما يتعلق بصلات القربى الأسطورية للآلهة : أوران – السماء ، كرونوس – الزمن ، أبوللو – الشمس . هكذا فالمعبّرة ( بضم الميم و فتح الباء ) عنه في نظام خلاق إنما يكتشف النظام الداخلي للأسطورة : المعرفة ( الفعلية ) ، حضور الروح ( الرب )، الصورة الرمزية ( الشكل ). وفي هذا المشهد الطبيعي landscape الشعري و الأسطوري يعبّر آلهة السماء و شياطين ما تحت الأرض عن رموز البدء – ساحة الصراع بين روح الحياة وروح الموت . أما الحكاية الأسطورية عن إلتهام كرونوس ( الزمن ) لأطفاله فهي الفكرة عن القانون الكوني لتحوّل كل شيء مولود. فالأسطورة هي نوع من الرحم matrix الذي ينشأ فيه العالم ويدور . وبشكل جميل عبّر ر. م . رلكه عن الفكرة حين قال :( من خلال سحر الفن يمنح الخلود والأسطورة ). و قد لاحظ رلكه الحكمة ( إختزان المعرفة ) والشكل المخترع للأسطورة الذي هو( خيالي وشعري ).
المعلوم أن الرموز الأسطورية توميء ا لى قوى الطبيعة : الرعد ، الريح ، العاصفة ، البرق . إلا أنه ثمة تماثل داخلي أيضا. وهو يخص ولادة الآلهة الأولين : لدى السلاف يكون الإله الأولي بيورون Piorun الذي يستجيب للنداء بصدى جبال الكاربات القوي في المنخفضات هناك، وعند الجرمان يكون الإله الأعلى هو رب الريح فودان Wodan الذي إقتحم بالقوة أعماق الغابة الأولية ، وعند اليونان كان رب البرق زيوس الذي صعق من أعالي الأولمب كل من لم يرضخ لإرادته. ولدى قدماء المصريين كان الأكبر هو رب الشمس رع الذى عاشوا تحت ناره ولقوا المسرة في الأغاني والأناشيد. أكيد أن الجميع عبدوا الرب الأكبر ، القوة السائدة في منطقتهم. لذا يكون ضروريا هذا السؤال : هل الأسطورة دين أم شعر وطالما ظهرت في كل مكان الفكرة والقوة في حين ان الأطورة هي إنعكاس غير نموذجي للإثنتين في الحياة و اليقظة الى غاية الحلم ؟. ولربما هذا هو السبب في أن يقول آرتيميدور
Artemidor " 10 ": ( الرب ينطق بخيالات النوم )، سيكون محض تعريف شعري لمافوق الواقعية والصورة كتجسيد لما هو مستعص على الفهم.
لقد حصل التدليل على أنه بين أساطير مختلف الأمم ثمة صلة قربى بنيوية وحكائية، وقد نشأت نظرية حول أسطورة بابلية لماقبل سومر شاعت في العالم كله. و في التحليلات المعاصرة يكثر الكلام عن الهجرة المتبادلة أو تحولات الأساطير في شتى الثقافات. وفي جميع صياغات الأساطير تتخفى البنية ذاتها من المعرفة : في الأسطورة الهندية الأولى يصارع رب النور Vritro شيطان الظلام تريشر
Trisher ، وفي البابلية يقتل رب الشمس مردوخ شيطان الظلام تريمات ، وفي السومرية يجهز جلجاسش على همباب ، ولدى اليونان يقتل أبوللو التنين سلطان مملكة ما تحت الأرض بلوتون Pluton ، وفي الأسطورة السلافية التي بقيت في صيغة مسيحية يسحق سلطان الرعد إيليا ، الأفعى التي تريد إبتلاع الشمس حين ولادتها. وفي كل أسطورة شمسية ثمة مغزى كوني للمعركة بين النور والظلام. و لاحظ لوتريمون Lautreamont " 11 " بصورة جميلة : ( الحقائق الخالدة التي لاتزول ، هي التي تتجلى فيها روح البشرية ).
كذلك يقرر الإتصال بالتجاوزية transcendence شكل الشعر : الرموز والصور هي أشكال شعرية للأفكار . وفي الحقل السيميائي تكون القوة الأسطورية للفكرة والتعرف على العالم من خلال الإشارات والرموز والصور ما يقرر نظام المنطق الأولي elementary ، وفي الأسلوب ذاته تلحظ ، على الغالب ، التجليات غير العقلانية والحدسية أو الأستيتيكية للأسطورة كإشارة. وفي أسطورة بروميثيوس يتحول البطل الذي لايفنى الى أسد وأفعى ونمر وخنزير وماء أو شجرة مورقة تماما كما هي الحال في عبادات الحيوان القديمة التي قامت على الإيمان بوجود روح للأشياء فيها. وتكسب معنى مشابها أسطورة سيزيف ، وقد يحصل هذا بأسلوب ساذج إلا أنه يكشف بوضوع عن قانون الديالكتيك الذي يكون وفقه كل شيء بداية وذروة وإضمحلال. أما العودة الى البدء فهي تخص على السواء الفلسفة والطبيعة وظاهرة الدورات فيهما. وعن هذا الطراز من أحوال التماثل قيل إن الأسطورة هي علم الفراسة. كذلك يمكن القول عن المعرفة الذاتية بوجود السر وعن الإحساس بأن هناك حدودا للواقع والأسطورة يتم تخطيها ويكون فيها حتى البيّن غير بيّن.
وعلى حد قول أ بوتييبنيا A.Potiebnia فكل أسطورة ( تغلق في داخلها عملية الوعي). وتتحدث عن ذلك أمثلة رائعة يلفها الغموض : في أسطورة ربة القمر التي تحكم قارات ومياه الأرض تكون ملحوظة الصلة القائمة بين الدورة القمرية والمد والجزر ، كذلك فلمس السر يكوّن الأسطورة عن سودياياما Sudyayama حين تلمس محدوديات المصير سرّ البدء ، وباللغة المعاصرة فما يكشف عن سر الشفرة والجيناتgenes والبرمجة الوراثية للحياة. ويعبّر أبو الهول ، هذه الثمرة للعلاقة بين الأم والإبن ، عن محيط سرّ الوراثة والتدهور الجيني. وفي أسطورة ديونيزوس إله الخمر نعثرعلى شيء شبيه بالمعرفة عن أشكال قبل بشرية للنوع species ، وبإشارات لاتعرف يظهر سر المتاهة labyrinth : كي نكون في الخارج علينا أن نولد من جديد. وهي أمر مدهش أحوال التكهن والحدس ، وأيّ مفتاح هذا الذي يناسب قفل المخيلة. وعن فنتازيا الأسطورة بمعانيها المتعددة تقول كلمات آلن تيت A. Tate " 12 " العميقة : ( إنها لقوة غامضة تلك التي نشعر بها نحن جميعا لكن ليس بمقدور أيّ فيلسوف أن يوضحها ).
يكمن في الأسطورة التعدد الصوتي للفكرة إلا أنه بوسعنا تعريف الأسطورة كفن يثري معاني الفكرة : الشكل الشعري إنعكاس للآراء الإجتماعية وعتبة للعقلانية. فنحن نلقى سبيلي رؤية حتى إذا إعتبرنا أمرا أكيدا مولد الأسطورة في ( فترة الطفولة من عمر البشرية ) ، أو كما يقول ه. روبنسن H. Robinson " 13 ": ( حين كانت الفنتازيا التي لم يقيّدها العلم ، طرّية بعد ) ، ووفقا لمنطق الوقائع يمكن أن نأخذ بهذا الإعتقاد أو عكسه : منذ الرسوم الأولى في الكهوف كإشارات خلق للبشر مرت عشرون ألف سنة من التعامل الواعي والمتصاعد ، مع الواقع والصورة المادية للعالم. إذن هناك فرصة لنشوء الأساطير في الفترة الناضجة من عمر البشرية ؟ . ألم يتم التعبير عن كل شيء في أسطورة جلجامش، في نظام المتاهة للفلسفة اليونانية ، في حكم التوراة كتسام لتجارب الأنبياء ورؤاهم ؟. ولربما بمكنتي القول إن ألفي عام من عصرنا هي محض مرحلة جديدة في ذات الدورة الأسطورية التي تقوم بها وبالقدر الذي يسمح به منطقنا ، بإيضاح المعرفة المنقولة من الحدس الأسطوري. ونحن على اتفاق مع ما قاله رالف أمرسن" 14 " R.Emerson : ( في الأسطورة نقف أمام جمال لايفسر إلا أننا لانعرف مدى بقائه ولا أسبابه ).
وتقول عن الأسطورة كظاهرة ليست بالطفولية أو الساذجة بعض المعايير التجاوزية لجوهر الأسطورة. ولكم هي من فكرة باهرة تلك التي تكمن في أسطورة زيوس إله السماء الذي أنجب أبوللو إله الشمس من علاقة ليتا ( إلهة النسيان ). فهذه المعرفة الأولية الرائعة حول أن للشمس بدايتها تكون إكتشافا من إكتشافات العلم المعاصر أيضا. و بذات الأسلوب تقول الصيغة المصرية القديمة إن هذا الأمر إمتد ل( مليون سنة ). وفكرة ( حساب الزمن ) هذه مدعاة للإعجاب حقا. و تمضي أبعد ، الأسطورة الأثيوبية عن ( البيضة الكونية ) التي نشأ العالم من ( نثارها ) في مهد الظلام الكوني " 15 " . إذن نشأ ( الكون من الكون ) مما يكون الأصل الأولي للبراهين المعاصرة عن البداية الأولى ، عن ( الإنفجار الكبير Big Bang ) أي انفجار الذرة الأولى في الكون. ويبدو أن الأسطورة هي شعر وأصل الكون أيضا: منذ النجمة الأولى " 16 " يأخذ هذا الإدراك بالإتساع في وعي الإنسان. ونحن لا نعرف متى نشأ و إلام يستمر؟. إن هذه المعضلة شغلت بال م. ألياده M.Eliade "17" القائل : (تملك بعض عناصر الأسطورة قيما كونية ). وفي الأسطورة تتعايش المادة والزمان والإيقاع المختبر إمبيريا والمراوحات fluctuation الكونية حتى أننا نرى ، بدون تفسير فلسفي ولكن بمعونة ( الشفرة )، بنى وأشكال أسطورة روح الوعي العاقل.
أزاء هذه الإستضاءات الكونية تخفت الضجة المناوئة للأسطورة التي يريد من خلالها غير المقتنعين تحرير العالم من الأساطير. وتحوي الفكرة الأسطورية أحوال تماثل بنائية بين المادة والروح أي اللغة التي لايمكن أن يتبرأ منها أيّ وعي. وهذه الفكرة نعثر عليها عند ليفي – ستروس الذي حلل ما يسمّى بالفكرة غير المروّضة ( بفتح الواو). وكان إكتشافه هو اللوحة الأساسية للتناظر بين الشيء واللغة ، وهذه القاعدة ملحوظة في بنية الأسطورة. وحتى في التصنيف الفذ لنظام الإشارات ومنطق تنظيمها يتبين أن الصورة – الإلهام هي جزء لا يتجزأ من الفكر الأسطوري. إلا أن ليفي – ستروس يتراجع هنا. فهو قد إستطاع أن يفسر هذا النزوع بالطابع ذاته ، طابع جوهر الأسطورة التي ( ليست إلا نتيجة للعبقرية الإجتماعية ) ، وهي تعلو بكامل محدوديات الزمن و ( مبدئيته princibility ) على الأحكام والتجارب الفردية . ولم يقل لوتريمون بدون سبب :( إن الشعر ، بالمعنى الحقيقي للكلمة ، هو هندسة geometry ). و إلإكتشافات الأولى ل( الصياغة ) ، النموذج الملحوظ في نظام العالم ، تعود الى حوالي مليون سنة من أحوال مراقبة الفن وتجاربه أو بعبارة أخرى فهي تجارب حدسية. غير أن الفن يمتحن، بنجاعة، عقلانية الثقافة. وهكذا تكون الأسطورة إنبثاقا شعريا للروح والفنتازيا الطبيعية التي تشع بأسرار العالم والحياة بدون تدخل العقل ratio .
ومن خلال ( اللغز الأبدي للبشرية الفضولية ) كما قال بودلير ، وصوب معنى أرفع لفهم الأسطورة ( من وجهة نظر الإنسان ورموزه ووعيه وأحلامه ) تمضي إستطرادات كارل يونغ الذي فهم ، مستخدما فكرة اللاوعي الجماعي أو الحلم – الرؤية الجماعية ، جوهر الأسطورة كإنبثاق للروح صوب حدود ما فوق الواقعية : اللاوعي الأقرب من المادة والطبيعة الشاملة ، لذلك يتحسس عند مواجهته المصادفة و الأسطورة ، وفقا للقانون الكوني ، اللاوعي الطبيعي، كما يكتشف بقاء وإستمرارية رموز البشرية ، رموز النماذج الأولية. وأحدها هو السواستيكا ( الصليب المعقوف ) الشائع في العالم أجمع، وهو يفسّر كرمز للطاقة الكونية. وفي الهند هو إشارة معروفة تزين البيوت. فهناك يسود الإعتقاد بأن الحركة الدائرية للصليب بإتجاه معيّن ، تعني الحياة ، وإذا جاءت بالإتجاه المعاكس تعني حينها الموت. وفي الأخير أيّ شيء يصوّره هذا الرمز؟. لغاية اليوم لا نعرف الجواب لكننا مدركون الى أيّ حد كان محقا موريس مترلنك M.Maeterlinck عندما قال : ( للرمز بأس الطبيعة التي يكون الإنسان عاجزا عن الوقوف بوجه قوانينها ).
وفي اتجاه مقارب تمضي فكرة ( السر الرياضي ). وفي الأسطورة تظهر محاولات لكشفه. فبروميثيوس عوقب وقيّد بأحد جدران القوقاز جزاء سرقته النار من آلهة الأولمب. و يعتقد بوكاتشيو في مؤلفه( أصل الآلهة ) أنها لم تكن نارا عادية بل مجازا أسطوريا ل( النورانية ). ويرجع روبرت غريفز إسم بروميثيوس الى الكلمة السنسكريتية ( برامنثا Pramantha ) التي تعني الصليب المعقوف. ومعروفة الصورة التي تمثل بروميثيوس وهو يمسك بيده هذا الصليب. وإذا كان الصليب هو الرمز الحقيقي للطاقة ومفتاح سر الحياة والموت فإن بروميثيوس ، وكما يبدو ، قد عوقب ولأنه إمتلك إمكانية ( التدمير الذاتي العام )، وتتكلم عن ذلك أسطورة أتلنتيدا أيضا. كما توحي بتفسير مشابه أسطورة طنطال Tantal ومقتله والتي تسمى ، عامة ، بأسطورة طنطال وعذابه. فهو قد سرق ( طعام الآلهة ). و إذا تذكرنا أن أصل الطعام الإلهي ambrosia نوع من أنواع الفطر المخدّر كان محظورا على الناس فإن هذا العقاب يمكن أن يفسر كمنع من الولوج في الطريق المؤدي الى الموت. وتثير إهتماما أكبر قصة أورفيوس الذي قتله زيوس بالصاعقة جزاء إفشائه أسرارا هي وقف على الآلهة. وفي مغامراته كان أورفيوس ينظر في غير المدرك ولذلك كان العقاب ( حكيما ) إذ لا يمكن التعرض لتابو الموت لا بالإشارة ولا الإظها ر revelation .
ويبدو أن اسرارا مماثلة لاحظها هوغو فون هوفمانشتال H.von Hofmannstal
" 18 "حين كتب: ( لقد أغرمت بالأساطير والحكايات المكرسة للأبطال ، وإكتشفت هنا ،على الدوام ، حكمة غامضة وغير متوقعة تصل جذورها الى الحقيقة ) ، وبمعونة هذه المقالة الشعرية يبدو كما لو أنه يعدل المفهوم اليونغي عن ( اللاوعي الجماعي ) ، وبفضل معرفته الشمولية عن الحياة ، يقدر العبقري على أن يلاحظ في الأسطورة إنتقال اللاوعي الجماعي الى الوعي الذاتي الجماعي وإذا كان بمقدور لغة الشعر التعبير عن هذا الشيء. وعن الإنسحار بالأسطورة كشف الشعراء الكبار القدامى. وكان هوميروس قد أظهر الدورات الأسطورية في الألياذة والأوديسه حيث تضيء فيهما إرادة وجبروت الآلهة القوانين التي تحسم مصائر الإنسان. وفي أسطورة سيزيف عثر سوفوكليس على تراجيديا أوديب الذي سبّب هزيمة طيبة ، فلقد كان على علاقة مع أمه. وكتب أسخيلوس تراجيديا ( بروميثيوس مقيّدا ) التي ما زالت راهنة ليومنا هذا. ووفق يان باراندوفسكي J. Parandowski " 19 " إستغل فرجيل عند كتابته الأنياذة جميع صيغ الأسطورة والتي بقيت لغاية زمنه. كذلك تكلم برونسلاف مالينوفسكي" 20 " عن الإيحاء الأولي للأسطورة مدللاعلى أنها( عنصر لاغنى عنه ) و( قوة فعالة ) للثقافة البشرية. ولهذه الأسباب نتقبل الأساطير كعالم للروح أبقى فيه ( باريس ) الزهرة التي تحترق بالجمال عبر القرون.
و تستجلب جميع هذه التأملات فكرة ( الزمن الأسطوري ). وثمة إعتقاد بأن الزمن ، وفق مفهوم لوسين ليفي – بريل L.Levy – Bruhl " 21 " هو زمن نشوء القبائل والشعوب في التفكير السحيق في القدم والسابق للمنطق ، أي التفكير بالصور. إلا أن إكتشاف طرواده أظهر بأنه ليس هناك من تنافس بين الواقع والأسطورة أو أن الأسطورة هي مجرد إسقاط فوق واقعي وشعري للعالم.
وكان هيرودوت قد بيّن أن الأسطورة تنمو حول الأحداث والتحولات المصيرية الكبرى ، وحول الأبطال الذين أيقظوا المخيلة الإجتماعية. وفي الأزمان التأريخية ولدت أسطورة إسكندر المقدوني حول فتوحاته. وفي يوغسلافيا نشأت في شعر القرن الرابع عشر أسطورة الأمير ماريك ، تلك الشخصية ذات الطاقة الحيوية ، رمز الحياة ، ومنذ الولادة عبر المغامرات ذات الأصل الأسطوري والى غاية الخلود. وبعدها بقليل جاءت أسطورة بولانغ دويتشين الذي نقل المعركة الأسطورية من السماء الى الأرض. وبمعونة طاقة بيولوجية مستترة تتكشف في لحظات الهجوم يقتل دويتشين المارد الأسود الذي ينشر الظلام والموت. ولربما هي راهنة الى يومنا هذا الطريقة الأبولينية القديمة . ويهذه الروح قال سان – جون بيرس: ( يكون تراجع الأخيار أمام الأشرار إشارة بأن شعبا ما يحنّ الى النورانية ). وبات واضحا الآن أن كل أسطورة تبعث من جديد في الوقت الذي يناسبها. ولدى أرنست كاسيرير
E.Cassirer تكون الأسطورة ( مصدرا و بداية للروح ) وصلة بين التجربة وشكل التعرف. و أكاد أن أقول : في مداومة الزمن تكون الأسطورة هي السبيل لإنتقال الروح من عصر الى آخر. وفي أحوال هذه العودة الى ( البداية المطلقة ) نلحظ أن الأسطورة العبرانية عن الإنسان الضائع تظهر في الأسطورة اليونانية وتلقى ديمومتها في حكاية الهولندي الطائر وتتجدد في الصيغة الحداثية عند جيمس جويس ، في صورة يوليسيس كروح أسطورية ضائعة للمعاصرة ، وفي صيغة مماثلة تظهر أسطورة سيزيف عند ألبير كامي ، وكذلك في إلتماعات النظرية الحديثة عن محيط العبث واليأس. ويبدو أن الأسطورة تسربت الى أدب نوفاليس وريلكه( سوناتات عن أورفيوس ) ، كفكرة عن العودة من العالم الآخر والطموح في الخروج الى النورانية ، وهذا يقنعنا مرة أخرى بأن الأسطورة هي تركيب synthesis وأن المسألة لاتنتهي بالرومانسية ، فهي كوسيطة إكتشاف تلهم الإبداع المعاصر. وطالما نحن نقف عند مفترق طرق المعاصرة لننظر الى بداية الهارموني في الدورة الأسطورية الجديدة. وبهذه الروح قال أ. بييلي : ( الهارموني هو الإتفاق بين قوى العالم ).
وقد تفيد كإشارة الى الحقيقة فكرة أن في الإنسان يستمر شيء من الأسطورة، وهو يظهر ك(عاقبة للماضي ) أو من إيقاع الرموز والصور الأسطورية. وحين يعلم المرء أن بعض الشعوب القديمة فهم ( الروحيات ) كصور، لذلك تبين أن الأسطورة هي الشكل الذي تتسامى فيه طاقة الروح ، ومن هنا مصدر الخوف المعاصر أمام نداءات اللاوعي ، أمام الأسطورة و السحر. فهذان يخلقان أو يوقظان نبضا مجهولا.
وفي عصرنا ظهر رمز الطاقة ( الصليب المعقوف ) الذي جعل منه النازيون إشارة للإبادة الجماعية. هل أن الأمر محض مصادفة ؟. عند نهاية الحرب ظهر رمز أسطوري آخر للعصر وهو الفطر الذري الذي يكون حضوره في الوعي تجميدا لبسيكولوجيا الجيل التالي. وتوقظ صور هجوم الخوف ( اللاوعي الجماعي ) الذي تنشأ منه الرموز الأسطورية كإشارات ما قبل الكارثة. وفي هذا المناخ الذي يرافق الوعي بأن كل زمن يلد نماذجه الأولية يعبّر الشاعر المقدوني بوغوميل غوزيل
B. Guzel عن أحوال القلق الأسطوري في ( انشودة عن مخلوقات السيكلوب
Cyclops " 22 " حين يتكلم عن ( وحوش ملعونة لها مائة رأس ) في عصرنا. وفي قصيدته ( يوليسيس في الجحيم ) يعبّر عن فكرة أننا نعيش على حافة الهاوية ، و( ينمو جحيم في كل عصب ). وفي كتابه التالي ( ربيع في الكارثة ) يظهر الشاعر عبثية المصير ونوبات المرض التي تداهم الروح المعذبة على يد المصير أيضا.
إذن يتكشف من عصر الى آخر سرّ الخاتم السحري من أسطورة أبناء نيبيلونغ " 23 "، ويقول للجميع إنه الصلة المنشودة تحت وميض الحضارة. إنه الحلم بسلسلة الحياة التي لاتفنى، وهو صوت الناي السحري لأغنية واحدة خالدة كما تقول الأسطورة. ومن هذا البريق ينبع الإهتمام المعاصر ببنية الأسطورة في الشعر الحديث. ونجد أن رولان بارت يطمح في علاقة بين علمي الأساطير والإشارات. وقد نشر ي. مييليتنسكي كتاب ( شعرية الأسطورية ) واضعا الظاهرة في منطقة الشعر. والمعاصرة تكتشف من جديد الفعليات الخالدة للإسطورة عن أنتيوس
Anteus " 24 ": بعد البقاء في الأعالي يسعى الى الوقوف على الأرض مرة أخرى لكي يكسب القوة التي تعينه في أداء أعمال خلق جديدة. وبالرغم من أن شعرية الأسطورة تخص ، في الأصل ، الماضي نجدها تتوجه صوب المستقبل تماما بوصفها فن الذين رحلوا ، فهو يتوجه صوب الاخرين الذين سيأتون بعدنا. وعلى خلاف العلم الذي يخضع الزمن للإنضباطية فإن شعر الأسطورية يملك هدفا بعيدا : إضاءة ما سيأتي بالرؤى و أحوال الرؤية الإجتماعية. وفي لغة الشعر عبّر أ. بييلي قائلا: حين تفيض ليتا ( نهر النسيان) من ضفافها فنحن لسنا بشعراء إذا لم نسمع صوت أغنية أورفيوس ).

هوامش المترجم:

"1" - دوشكو نانيفسكي ( 1929 ) شاعر وناقد وكاتب دراسات مقدوني.
"2" - فكتور شكلوفسكي ( 1893 – 1984 ) الناقد والمنظر الأدبي الروسي المعروف الذي يعد أحد مؤسسي مدرسة الشكلانية الروسية.
"3" - روبرت غريفز ( 1895 – 1985 ) الشاعر والناثر الانكليزي. وكانت له دراسات في النقد وروايات تأريخية مثل ( أنا كلاوديوس ).
"4" - أندريه بييلي ، وإسمه الحقيقي بوريس بوغلييف ، (1880 – 1934 ) كاتب روسي ومنظر للرمزية وشاعر غنائي ذو نزعة فلسفية. وقد كتب روايات غرائبية ساخرة.
"5" - أناكساغور ( 500 – 428 قبل الميلاد ) فيلسوف يوناني ، معلم يوربيديس. أراد الجمع بين مفاهيم هيراكليت وزينون الفلسفية.
"6" - فردريك شيللنغ (1775 – 1854 ) الفيلسوف الألماني المعروف.
"7" - فردريك ماكس ميللر ( 1823 – 1900 ) عالم أديان إنكليزي من أصل ألماني، ويعّد من المبادرين بتأسيس علم الأديان المقارن.
"8" - وفق الأسطورة اليونانية كان هياكنتوس شابا إشتهر بجماله. وكان رفيقا لأبوللو. وقد أصابت ( زفير ) الغيرة من هذه الرفقة وغيّر اتجاه القرص الذي رماه أبوللو صوب هياكنتوس مما أرداه قتيلا. وتخليدا لذكرى رفيقه حوّل أبوللو دمه الى زهرة لبلاب.
"9" - لودفيغ أولاند (1878 -1862 ) شاعر رومانسي ألماني.
"10" - أرتيميدور مؤلف يوناني من القرن الأول قبل الميلاد.
"11" - دي لوتريمون (1780 – 1846 ) الشاعر الفرنسي الذي سبق السوريالية.
"12" - ألان تيت ( 1899 – 1979 ) وهو الكاتب والشاعر والناقد الأمريكي المعروف.
"13" - هنري روبسن ( 1775 – 1867 ) كاتب بريطاني قضى شطرا كبيرا من حياته في ألمانيا.
"14" - رالف أمرسن ( 1803 – 1882 ) الكاتب الأمريكي المعروف.
"15" - في الحقيقة هذه هي من أساطير قبائل الدوغون التي تقطن في مالي.
"16" - تقول بعض مفاهيم التنجيم إنها النجمة التي تطلق بصورة منتظمة نبضا شعاعيا ذا بنية متبدلة.
"17" - مارسيا ألياده ( 1907 – 1986 ) عالم الديانات الروماني المعروف.
"18" - هوغو هوفمانشتال ( 1874 – 1929 ) شاعر ألماني تناول العقد الكلاسية وكتب نصوصا لأوبرات شتراوس.
"19" - يان باراندوفسكي ( 1875 – 1987 ) كاتب بولندي تخصص في الثقافة اليونانية وكرس لها قصصه ورواياته ومقالاته .
"20" - برونسلاف مالينوفسكي ( 1884 – 1942 ) عالم الأنثروبولوجيا الإجتماعية ومنظر الثقافة البولندي المعروف.
"21" - لوسين ليفي – بريل ( 1857 – 1939 ) الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي . إشتهر بدراساته للثقافات ( البدائية).
"22" - في الأسطورة اليونانية تكون هذه المخلوقات بعين واحدة لكن أيديها بالغة القوة والمهارة. وقد أعانت زيوس في صراعه مع كرونوس والعمالقة. وفي الأوديسه إعتبرهم هوميروس شعبا من الرعاة الهمج يقطن كهوف صقلية.
"23" - ملحمة جرمانية عن سلالة نيبيلونغ الملكية التي قتل زغفريد أحد أبنائها وإستولى على كنوزها. و صارت القصة موضوعا لدراما فاغنر الموسيقية.
"24" - كان أنتيوس الأجمل و الأقوى في جنس العمالقة ولم يقهره أحد في المصارعة طالما لمست قدمه الأرض. وكان يقطن في ليبيا ويرغم المسافرين على منازلته. وقد هزمه هرقل عندما رفعه الى أعلى وفصله عن الأرض.

بقلم : دوشكو نانيفسكي "1"  - 26 شباط (فبراير) 2006

0 تعليقات::

إرسال تعليق