دخلت انتفاضة الحرية والكرامة في سورية أسبوعها الخامس. ولا يقدم الخطاب الثاني للرئيس، الذي كرر فيه وعود الخطاب الأول، أي إشارة إلى احتمال الخروج قريبا من الأزمة.
أما القرارات التي اتخذتها الحكومة في 19 الشهر الجاري بإلغاء حالة الطوارئ ومحاكم أمن الدولة فلم تلق صدى كبيرا عند شباب الاحتجاج، أولا لأنها تمثل تسجيلا لأمر وقع وانقضى.
فمظاهرات الشباب والشعب خلال شهر كامل كانت قد أسقطت بالتأكيد قانون الطوارئ وجعلته من دون مضمون، والضغط الاحتجاجي يمنع أكثر فأكثر السلطات عن الاحتفاظ بالمعتقلين إلى الأبد أو تقديمهم لمحاكم أمن الدولة، كما أن قانون الإعلام الموعود قد سقط قبل أن يخرج إلى النور لأن التقدم التقني في وسائط الإعلام قد بين أن احتكاره من قبل السلطات لم يعد ذا معنى.
العالم يتناقل جميعه أخبار وصور الثورة السورية بالرغم من إغلاق دمشق أمام المراسلين الأجانب جميعا، وتحويل وسائل الإعلام السورية إلى أداة في الحرب المعلنة ضد الحركة الاجتماعية والشعبية. فالقرارات الجديدة تشبه عملة فقدت صلاحيتها أصلا ولم يعد لها قيمة تذكر.
وثانيا لأن إعلان هذه القرارات قد ترافق بتهديدات من وزير الداخلية ووزير الخارجية وغيرهما للمحتجين بأن الحكومة قد لبت مطالب الشعب، وأنها لن تسمح بعد الآن بالمظاهرات، وسوف تقضي عليها بالقوة. مما يعني بوضوح أن نية الحكومة ليست صافية بتاتا، وأنها تستخدم قرارات فارغة من المضمون من أجل التسلح السياسي لضرب الحركة الشعبية لا غير.
وهذا ما حصل بالفعل الأسبوع الماضي في حمص وغيرها من المدن التي أرادت الحكومة أن تلقن من خلالها درسا لا ينساه الشعب عن العسف والعنف المنفلت من عقاله، مع التهديد باتهام المحتجين باستخدام السلاح وقتل ضباط من الجيش، والتهويل بوجود حركة سلفية مسلحة تريد أن تقيم في حمص إمارة طالبانية. وكان حريا بالحكومة والأمر كذلك أن لا تلغي حالة الطوارئ بل أن تعلنها من جديد إذا كانت الحالة بهذه الخطورة.
كل هذه السياسات عمقت شك الشعب في نية الإصلاح عند الحكومة ودفعته إلى التصعيد ضدها باعتبارها لا تزال تتهمه بالتآمر وترفض الاعتراف الفعلي بشرعية المظاهرات، وكف يد الأمن ووقف استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين.
وبالفعل كيف تستقيم النية الإصلاحية مع استمرار المجازر الجماعية والاعتقال والاختطاف للناشطين واستخدام الشبيحة وغيرهم من التشكيلات الأمنية لترويع الناشطين وإخماد ثورتهم، في الوقت الذي لا تزال فيه السلطة محتكرة كليا من قبل الحزب الحاكم، ولم تصدر أي بادرة تشير إلى احتمال قبول السلطة بمبدأ العودة إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية وبدء خطوات عملية للتعبير عن اعترافها بحق الشعب في المشاركة وتداول السلطة.
هكذا لا يزال خط الثورة في تصاعد مستمر سواء على مستوى الشعارات التي تحولت من المناداة بالإصلاح إلى المناداة بالحرية إلى المناداة العلنية اليوم بإسقاط النظام، أو على مستوى اتساع دائرة القطاعات الشعبية المساهمة فيها والمؤيدة لها.
فبعد أن اقتصرت دائرتها في 15 مارس/آذار على عشرات المشاركين، تحولت بعد حادثة أطفال درعا الخمسة عشر إلى انتفاضة كبرى، وتوسعت دائرتها اليوم لتشمل الأراضي السورية بأكملها كما زاد عدد المشاركين فيها ليصل مئات الآلاف في الجمعة التي أطلق عليها جمعة الصمود (15 أبريل/نيسان)، والتي وضعت الانتفاضة على سكة الانتفاضات العربية الكبرى، في حجم المشاركين فيها وقوة تصميمهم، وصار من الصعب اليوم توقع همود بركانها قبل أن تحقق أهدافها التي لا تختلف من حيث الجوهر عن الأهداف التي رفعتها وترفعها جميع انتفاضات الحرية والكرامة العربية.
ما حدث حتى الآن في سوريا شيء كبير وخطير، يتجاوز بكثير ما حدث في الأقطار العربية الأخرى. ذلك أن النظام القائم في سوريا يتميز أيضا عن النظم العربية الأخرى، في تونس ومصر واليمن والبحرين وغيرها، بغياب أي حياة سياسية في البلاد، مهما كان ضيق هامشها.
فالبلاد لا تقاد سياسيا وإنما تديرها مجموعة من الأجهزة الأمنية، المستندة هي نفسها إلى توازن عام للنظام تضمن السيطرة العسكرية. ولا يمثل حزب البعث الحاكم سوى غلالة رقيقة هدفها التغطية على غياب السياسية والحقل السياسي تماما، وتبرير حكم الأجهزة وسيطرتها الشاملة، بما في ذلك داخل الحزب الحاكم وداخل الجيش وداخل الإدارة وداخل الحكومة نفسها.
فلا يمكن القيام بأي أمر، قولا أو عملا، من تعيين رئيس الجمهورية إلى إجراء معاملة مدنية بسيطة في الإدارة، مرورا برئاسة الوزارة وانتقاء نواب مجلس الشعب والمناصب الإدارية، بل حتى القبول في أي وظيفة عمومية مهما كانت محدودة الأهمية مثل حارس مبنى أو آذن مكتب، من دون أن يمر بالأجهزة الأمنية وينال رضاها وموافقتها، أحدها أو مجموعة منها.
وبالإضافة إلى ذلك يخضع الشعب السوري منذ عام 1963 إلى حالة الطوارئ التي تكرس هذا الاستباحة الكاملة لحقوق الشعب من قبل الأجهزة، وتشرع لمعاقبة أي قول أو سلوك أو نشاط لا ترضى عنه الأجهزة الأمنية، ولا يصب في هدف تعزيز سلطتها وتأكيد سيادتها على الشعب والبلاد.
هكذا تحول الحكم السوري القائم إلى كابوس حقيقي يربض على صدر شعب قيد بالسلاسل، وفرض عليه الصمت والطاعة خلال ما يقارب نصف قرن، لا يمكن للفرد أن يتكلم فيه ويعبر عن أي رأي مخالف، حتى داخل دوائر الحزب والسلطة، ولا يحق لأفراده التواصل وما بالك بالاجتماع والتنظيم والمشاركة السياسية أو غير السياسية. وهذا ما يشكل حكما بالإعدام السياسي على شعب كامل.
وقد اعتاد رجال الأمن، وهم في الحقيقة رجال ترويع للشعب وظيفتهم إشعار كل فرد بأنه ليس آمنا ما لم يتعامل مع الأجهزة ويخضع لها ويقبل باقتسام تجارته أحيانا مع أفرادها، أن يهينوا المواطنين لسبب أو من دون سبب، من أجل إخضاعهم وإشعارهم بدونيتهم وعبوديتهم وترسيخ الشعور بالعجز والمهانة والمذلة لديهم.
وكان الضرب والأذى الجسدي من الأمور اليومية أما الشتائم المذلة فقد أصبحت عملة التداول اليومية داخل الدوائر الرسمية حتى من قبل أعضاء الإدارة من غير جهاز الأمن.
وتحولت الإهانة المعممة في الواقع إلى تقنية سلطوية هدفها بناء العلاقة بين أصحاب السلطة وأبناء الشعب كعلاقة سيد بعبد، وقادر بعاجز، ونبيل بصعلوك، مهما كان وضع الفرد ومكانته الاجتماعية والعلمية. كل فرد سوري هو مشروع قن أو عبد مأمور. والواقع أن جميع أبناء الشعب قد تحولوا إلى عبيد وأقنان، تطحنهم آلة واحدة ومنطق واحد هو التشكيك والتحقير والتكسير المعنوي المتبادل.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط شرارة الانتفاضة بهذه المعاملة المهينة التي اعتاد عليها أبناء النظام. فكانت أول حادثة لفتت انتباه السوريين والمراقبين الأجانب تلك المظاهرة الصغيرة التي حصلت في سوق تجاري، سوق الحريقة، في دمشق، بسبب تعرض أحد التجار الشباب للضرب المبرح أمام الملأ من قبل رجل شرطة، فتجمع تجار السوق، وانطلقت من حناجرهم أول صرخات الانتفاضة وشعاراتها من دون أن يدروا: الشعب السوري ما بينذل، أي لا يذل. ولم يتفرق المتظاهرون إلى أن اضطر وزير الداخلية إلى أن يأتي بنفسه ليعتذر لهم، ويأمر بمعاقبة الشرطي ليرطب خواطرهم.
لكن الحادثة الأهم للإهانة والتي سوف تطلق بالفعل شرارة الانتفاضة السورية، والثورة العارمة في منطقة حوران بجنوب سوريا التي تعد اليوم منطقة محررة كليا من سلطة البعث ورموزه، تتلخص في اعتقال الأمن لخمسة عشر طفلا سوريا بين سن العاشرة والرابعة عشرة، بسبب كتابة بعضهم شعارات تبشر بسقوط النظام.
وقد تعرض الأطفال للتعذيب وقلعت أظافر أحدهم ومنعت أسرهم من زيارتهم. وعندما ذهبوا بوفد لمقابلة محافظ درعا، شتمهم جميعا وأخبرهم أن عليهم أن ينسوا أولادهم، وأن يرجعوا ليناموا مع نسائهم لإنجاب بديل لهم لأنهم لن يروهم أبدا.
كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس بسبب الخوف، بل الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري الكثيف والدائم والشامل في كل شبر، خاصة في المدن الرئيسية فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كل سوري بالعجز والغلبة على الأمر وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام جبار، ورجال أمن وحكم عتاة لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل نزع ثقة الشعب بنفسه، وتشكيكه حتى بقدراته العقلية، ودفعه إلى الشك في ذاته وأهليته وإنسانيته.
علينا أن نعرف ونسجل للتاريخ أيضا أن هؤلاء الذين خرجوا في الأيام الأولى من الانتفاضة، وكانوا بالمئات فقط، خرجوا كشهداء، ولم يخرجوا كمتظاهرين. وبقي هذا الشعور قويا عند الشباب الذين أتيح لي التواصل معهم، حتى جمعة الصمود العظيمة التي تحولت فيها المظاهرات إلى مسيرات بعشرات الألوف، والتي نقلت الانتفاضة من مرحلة الخطر، وصار من غير الممكن القضاء عليها من دون المغامرة بمجزرة كارثية لا يمكن لنظام تحمل نتائجها.
وفي الساعات الأولى لجمعة الصمود هذه كتب لي شاب من الدير على الفيسبوك يقول سنخرج اليوم في مسيرة حاشدة وستكون أكبر من كل سابقاتها. وكانت السلطات قد أغلقت في الأيام الثلاثة السابقة مدينة بانياس الساحلية، وقطعت عنها الاتصالات والكهربا والماء، وارتكبت فيها مجازر، وشنت حملة تطهير سياسي بالمعنى الحرفي للكلمة، ومارست كما تعودت، لكن على نطاق أوسع تقنيات الإذلال والإهانة، كما ظهرت في الصور التي تناقلتها التلفزة حيث يركل الناسَ رجالُ مليشيات "الشبيحة" الخاصة، التي استخدمتها السلطة لقهر المواطنين زاعمة أنها لا تملك السيطرة عليها، وكان هدفها الترويع وإعطاء مثال للسوريين عن مدى العنف الذي يمكن أن تصل إليه السلطة.
فأردت طمأنة الشاب الذي بدا لي مصمما على الخروج، فكتبت: لا تخف انتهى درس الترويع. فرد علي في الحال: أستاذي أنا أنقل لك الخبر فحسب، أنا لست خائفا أبدا. أنا لا أخرج من أجل أن أعود. أنا خارج شهيدا.
ليس الخبز بالرغم من ندرته، ولا انتهاك حقوق الإنسان، التي لم يبق إنسان ليتصف بها، ولا حتى تجبر الحاكمين وفسادهم المنقطع النظير، هو الذي كان الصاعق وراء تفجير بركان انتفاضة الكرامة والحرية في هذا البلد العربي الجميل. إنه الإفراط في الإهانة والإذلال والاحتقار، أي سحق الإنسان الذي شكل جوهر السياسة، بل الفعل السياسي الأصيل الوحيد، لنظام حكم سوريا خلال ما يقارب نصف قرن.
لذلك لا أعتقد أن من الممكن لثورة الكرامة والحرية أن تتوقف في سوريا قبل أن تقطع الذراع التي تسببت في هذا الكم الأسطوري من الإهانة والإذلال الذي تعرض له أبناء الشعب السوري النبيل والمسالم، أعني أجهزة الرقابة والعقاب والتنكيل الثلاثة عشر، والمليشيات والسجون المرتبطة بها، التي تسمى فروع الأمن، ولا وظيفة لها سوى حرمان الأفراد من أي أمان، وتقديمهم عراة، خارج أي حماية قانونية أو سياسية، لوحوش مافيات السلطة والمال الضارية.
برهان غليون - الجزيرة 24/4/2011
أما القرارات التي اتخذتها الحكومة في 19 الشهر الجاري بإلغاء حالة الطوارئ ومحاكم أمن الدولة فلم تلق صدى كبيرا عند شباب الاحتجاج، أولا لأنها تمثل تسجيلا لأمر وقع وانقضى.
فمظاهرات الشباب والشعب خلال شهر كامل كانت قد أسقطت بالتأكيد قانون الطوارئ وجعلته من دون مضمون، والضغط الاحتجاجي يمنع أكثر فأكثر السلطات عن الاحتفاظ بالمعتقلين إلى الأبد أو تقديمهم لمحاكم أمن الدولة، كما أن قانون الإعلام الموعود قد سقط قبل أن يخرج إلى النور لأن التقدم التقني في وسائط الإعلام قد بين أن احتكاره من قبل السلطات لم يعد ذا معنى.
العالم يتناقل جميعه أخبار وصور الثورة السورية بالرغم من إغلاق دمشق أمام المراسلين الأجانب جميعا، وتحويل وسائل الإعلام السورية إلى أداة في الحرب المعلنة ضد الحركة الاجتماعية والشعبية. فالقرارات الجديدة تشبه عملة فقدت صلاحيتها أصلا ولم يعد لها قيمة تذكر.
وثانيا لأن إعلان هذه القرارات قد ترافق بتهديدات من وزير الداخلية ووزير الخارجية وغيرهما للمحتجين بأن الحكومة قد لبت مطالب الشعب، وأنها لن تسمح بعد الآن بالمظاهرات، وسوف تقضي عليها بالقوة. مما يعني بوضوح أن نية الحكومة ليست صافية بتاتا، وأنها تستخدم قرارات فارغة من المضمون من أجل التسلح السياسي لضرب الحركة الشعبية لا غير.
وهذا ما حصل بالفعل الأسبوع الماضي في حمص وغيرها من المدن التي أرادت الحكومة أن تلقن من خلالها درسا لا ينساه الشعب عن العسف والعنف المنفلت من عقاله، مع التهديد باتهام المحتجين باستخدام السلاح وقتل ضباط من الجيش، والتهويل بوجود حركة سلفية مسلحة تريد أن تقيم في حمص إمارة طالبانية. وكان حريا بالحكومة والأمر كذلك أن لا تلغي حالة الطوارئ بل أن تعلنها من جديد إذا كانت الحالة بهذه الخطورة.
كل هذه السياسات عمقت شك الشعب في نية الإصلاح عند الحكومة ودفعته إلى التصعيد ضدها باعتبارها لا تزال تتهمه بالتآمر وترفض الاعتراف الفعلي بشرعية المظاهرات، وكف يد الأمن ووقف استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين.
وبالفعل كيف تستقيم النية الإصلاحية مع استمرار المجازر الجماعية والاعتقال والاختطاف للناشطين واستخدام الشبيحة وغيرهم من التشكيلات الأمنية لترويع الناشطين وإخماد ثورتهم، في الوقت الذي لا تزال فيه السلطة محتكرة كليا من قبل الحزب الحاكم، ولم تصدر أي بادرة تشير إلى احتمال قبول السلطة بمبدأ العودة إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية وبدء خطوات عملية للتعبير عن اعترافها بحق الشعب في المشاركة وتداول السلطة.
هكذا لا يزال خط الثورة في تصاعد مستمر سواء على مستوى الشعارات التي تحولت من المناداة بالإصلاح إلى المناداة بالحرية إلى المناداة العلنية اليوم بإسقاط النظام، أو على مستوى اتساع دائرة القطاعات الشعبية المساهمة فيها والمؤيدة لها.
فبعد أن اقتصرت دائرتها في 15 مارس/آذار على عشرات المشاركين، تحولت بعد حادثة أطفال درعا الخمسة عشر إلى انتفاضة كبرى، وتوسعت دائرتها اليوم لتشمل الأراضي السورية بأكملها كما زاد عدد المشاركين فيها ليصل مئات الآلاف في الجمعة التي أطلق عليها جمعة الصمود (15 أبريل/نيسان)، والتي وضعت الانتفاضة على سكة الانتفاضات العربية الكبرى، في حجم المشاركين فيها وقوة تصميمهم، وصار من الصعب اليوم توقع همود بركانها قبل أن تحقق أهدافها التي لا تختلف من حيث الجوهر عن الأهداف التي رفعتها وترفعها جميع انتفاضات الحرية والكرامة العربية.
ما حدث حتى الآن في سوريا شيء كبير وخطير، يتجاوز بكثير ما حدث في الأقطار العربية الأخرى. ذلك أن النظام القائم في سوريا يتميز أيضا عن النظم العربية الأخرى، في تونس ومصر واليمن والبحرين وغيرها، بغياب أي حياة سياسية في البلاد، مهما كان ضيق هامشها.
فالبلاد لا تقاد سياسيا وإنما تديرها مجموعة من الأجهزة الأمنية، المستندة هي نفسها إلى توازن عام للنظام تضمن السيطرة العسكرية. ولا يمثل حزب البعث الحاكم سوى غلالة رقيقة هدفها التغطية على غياب السياسية والحقل السياسي تماما، وتبرير حكم الأجهزة وسيطرتها الشاملة، بما في ذلك داخل الحزب الحاكم وداخل الجيش وداخل الإدارة وداخل الحكومة نفسها.
فلا يمكن القيام بأي أمر، قولا أو عملا، من تعيين رئيس الجمهورية إلى إجراء معاملة مدنية بسيطة في الإدارة، مرورا برئاسة الوزارة وانتقاء نواب مجلس الشعب والمناصب الإدارية، بل حتى القبول في أي وظيفة عمومية مهما كانت محدودة الأهمية مثل حارس مبنى أو آذن مكتب، من دون أن يمر بالأجهزة الأمنية وينال رضاها وموافقتها، أحدها أو مجموعة منها.
وبالإضافة إلى ذلك يخضع الشعب السوري منذ عام 1963 إلى حالة الطوارئ التي تكرس هذا الاستباحة الكاملة لحقوق الشعب من قبل الأجهزة، وتشرع لمعاقبة أي قول أو سلوك أو نشاط لا ترضى عنه الأجهزة الأمنية، ولا يصب في هدف تعزيز سلطتها وتأكيد سيادتها على الشعب والبلاد.
هكذا تحول الحكم السوري القائم إلى كابوس حقيقي يربض على صدر شعب قيد بالسلاسل، وفرض عليه الصمت والطاعة خلال ما يقارب نصف قرن، لا يمكن للفرد أن يتكلم فيه ويعبر عن أي رأي مخالف، حتى داخل دوائر الحزب والسلطة، ولا يحق لأفراده التواصل وما بالك بالاجتماع والتنظيم والمشاركة السياسية أو غير السياسية. وهذا ما يشكل حكما بالإعدام السياسي على شعب كامل.
وقد اعتاد رجال الأمن، وهم في الحقيقة رجال ترويع للشعب وظيفتهم إشعار كل فرد بأنه ليس آمنا ما لم يتعامل مع الأجهزة ويخضع لها ويقبل باقتسام تجارته أحيانا مع أفرادها، أن يهينوا المواطنين لسبب أو من دون سبب، من أجل إخضاعهم وإشعارهم بدونيتهم وعبوديتهم وترسيخ الشعور بالعجز والمهانة والمذلة لديهم.
وكان الضرب والأذى الجسدي من الأمور اليومية أما الشتائم المذلة فقد أصبحت عملة التداول اليومية داخل الدوائر الرسمية حتى من قبل أعضاء الإدارة من غير جهاز الأمن.
وتحولت الإهانة المعممة في الواقع إلى تقنية سلطوية هدفها بناء العلاقة بين أصحاب السلطة وأبناء الشعب كعلاقة سيد بعبد، وقادر بعاجز، ونبيل بصعلوك، مهما كان وضع الفرد ومكانته الاجتماعية والعلمية. كل فرد سوري هو مشروع قن أو عبد مأمور. والواقع أن جميع أبناء الشعب قد تحولوا إلى عبيد وأقنان، تطحنهم آلة واحدة ومنطق واحد هو التشكيك والتحقير والتكسير المعنوي المتبادل.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط شرارة الانتفاضة بهذه المعاملة المهينة التي اعتاد عليها أبناء النظام. فكانت أول حادثة لفتت انتباه السوريين والمراقبين الأجانب تلك المظاهرة الصغيرة التي حصلت في سوق تجاري، سوق الحريقة، في دمشق، بسبب تعرض أحد التجار الشباب للضرب المبرح أمام الملأ من قبل رجل شرطة، فتجمع تجار السوق، وانطلقت من حناجرهم أول صرخات الانتفاضة وشعاراتها من دون أن يدروا: الشعب السوري ما بينذل، أي لا يذل. ولم يتفرق المتظاهرون إلى أن اضطر وزير الداخلية إلى أن يأتي بنفسه ليعتذر لهم، ويأمر بمعاقبة الشرطي ليرطب خواطرهم.
لكن الحادثة الأهم للإهانة والتي سوف تطلق بالفعل شرارة الانتفاضة السورية، والثورة العارمة في منطقة حوران بجنوب سوريا التي تعد اليوم منطقة محررة كليا من سلطة البعث ورموزه، تتلخص في اعتقال الأمن لخمسة عشر طفلا سوريا بين سن العاشرة والرابعة عشرة، بسبب كتابة بعضهم شعارات تبشر بسقوط النظام.
وقد تعرض الأطفال للتعذيب وقلعت أظافر أحدهم ومنعت أسرهم من زيارتهم. وعندما ذهبوا بوفد لمقابلة محافظ درعا، شتمهم جميعا وأخبرهم أن عليهم أن ينسوا أولادهم، وأن يرجعوا ليناموا مع نسائهم لإنجاب بديل لهم لأنهم لن يروهم أبدا.
كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس بسبب الخوف، بل الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري الكثيف والدائم والشامل في كل شبر، خاصة في المدن الرئيسية فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كل سوري بالعجز والغلبة على الأمر وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام جبار، ورجال أمن وحكم عتاة لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل نزع ثقة الشعب بنفسه، وتشكيكه حتى بقدراته العقلية، ودفعه إلى الشك في ذاته وأهليته وإنسانيته.
علينا أن نعرف ونسجل للتاريخ أيضا أن هؤلاء الذين خرجوا في الأيام الأولى من الانتفاضة، وكانوا بالمئات فقط، خرجوا كشهداء، ولم يخرجوا كمتظاهرين. وبقي هذا الشعور قويا عند الشباب الذين أتيح لي التواصل معهم، حتى جمعة الصمود العظيمة التي تحولت فيها المظاهرات إلى مسيرات بعشرات الألوف، والتي نقلت الانتفاضة من مرحلة الخطر، وصار من غير الممكن القضاء عليها من دون المغامرة بمجزرة كارثية لا يمكن لنظام تحمل نتائجها.
وفي الساعات الأولى لجمعة الصمود هذه كتب لي شاب من الدير على الفيسبوك يقول سنخرج اليوم في مسيرة حاشدة وستكون أكبر من كل سابقاتها. وكانت السلطات قد أغلقت في الأيام الثلاثة السابقة مدينة بانياس الساحلية، وقطعت عنها الاتصالات والكهربا والماء، وارتكبت فيها مجازر، وشنت حملة تطهير سياسي بالمعنى الحرفي للكلمة، ومارست كما تعودت، لكن على نطاق أوسع تقنيات الإذلال والإهانة، كما ظهرت في الصور التي تناقلتها التلفزة حيث يركل الناسَ رجالُ مليشيات "الشبيحة" الخاصة، التي استخدمتها السلطة لقهر المواطنين زاعمة أنها لا تملك السيطرة عليها، وكان هدفها الترويع وإعطاء مثال للسوريين عن مدى العنف الذي يمكن أن تصل إليه السلطة.
فأردت طمأنة الشاب الذي بدا لي مصمما على الخروج، فكتبت: لا تخف انتهى درس الترويع. فرد علي في الحال: أستاذي أنا أنقل لك الخبر فحسب، أنا لست خائفا أبدا. أنا لا أخرج من أجل أن أعود. أنا خارج شهيدا.
ليس الخبز بالرغم من ندرته، ولا انتهاك حقوق الإنسان، التي لم يبق إنسان ليتصف بها، ولا حتى تجبر الحاكمين وفسادهم المنقطع النظير، هو الذي كان الصاعق وراء تفجير بركان انتفاضة الكرامة والحرية في هذا البلد العربي الجميل. إنه الإفراط في الإهانة والإذلال والاحتقار، أي سحق الإنسان الذي شكل جوهر السياسة، بل الفعل السياسي الأصيل الوحيد، لنظام حكم سوريا خلال ما يقارب نصف قرن.
لذلك لا أعتقد أن من الممكن لثورة الكرامة والحرية أن تتوقف في سوريا قبل أن تقطع الذراع التي تسببت في هذا الكم الأسطوري من الإهانة والإذلال الذي تعرض له أبناء الشعب السوري النبيل والمسالم، أعني أجهزة الرقابة والعقاب والتنكيل الثلاثة عشر، والمليشيات والسجون المرتبطة بها، التي تسمى فروع الأمن، ولا وظيفة لها سوى حرمان الأفراد من أي أمان، وتقديمهم عراة، خارج أي حماية قانونية أو سياسية، لوحوش مافيات السلطة والمال الضارية.
برهان غليون - الجزيرة 24/4/2011
0 تعليقات::
إرسال تعليق