في النهاية سيجدونه. في "حرج القتيل" أو في مكان آخر قريب. لا همّ، سيثمر "البحث" أياً تكن المهلة المحددة له. سيجدون رفات ميشال سورا لأن علم رياضيات الأشلاء فخرنا الجديد بين الأمم، لا يطرح على نفسه إلا الأسئلة التي يعرف جوابها. سيجدونه. وسيشحنون الرفات في طائرة تأخذها إلى باريس وبعد حفل تأبين رسمي تلقى فيه كلمات ديبلوماسية تراعي شعور الجميع ولا تعني شيئا. وسينتهي، أو هكذا يأملون، الفصل الأخير من مسلسل العيب الذي بدأ ذات يوم من أيار 1985 عندما خطف ميشال سورا مع مواطنه الصحافي جان بول كوفمان على الطريق بين المطار ومدينة بيروت.
ولكن لا، لا يجوز. لن يكون مقبولا ولا مسموحاً، في بلد رفض حتى الآن إخضاع نفسه لفحص ضمير، أن يمر هذا الحدث دون أن يُسال عنه احد، دون أن نسأل أنفسنا عن مسؤولياتنا في ما أوصل إليه.
ليس المطلوب هنا محاسبة السجانين والقتلة جنائيا. ففلسفة العفو الذي اختارته الجمهورية الثانية سبيلا إلى تمتين السلم الأهلي تستلزم طي الملفات القضائية كلها، وبخلاف ما نصت عليه حرفية قانون العفو نفسه. غير أن إغفال المحاسبة القانونية بسبب هذه الفلسفة المتيقظة إلى مستلزمات الخروج من العنف الأهلي (أو بسبب الانتماء السياسي للقتلة كما هي الحال في قضية سورا) لا يعني غياب المحاسبة السياسية والمواطنية.
وإذا كان الوسط الأصولي المتماهي مع المصالح "الديبلوماسية" لإيران الثمانينات ومع غيرها من الحسابات الإقليمية الضيقة يتحمل المسؤولية الأولى في مصير ميشال سورا، فإنه ليس وحده في قفص الاتهام. إليه تنضم كل القوى السياسية اللبنانية، والعربية بشكل عام، التي لجأت يوما إلى سلاح الخطف. (وإلى من سيتذاكى ويعيب علينا عدم ذكر إسرائيل في معرض هذه المحاسبة، نكتفي بالقول إن لا لوم على العدو، فهو العدو، ومقارعته واجبة لا المقارنة به).
في قفص الاتهام، إذن، كل من عزم على ألا يرى في الآخر سوى آخر، قريبا كان أم بعيداً، كل من اغرق الفرد في عباءة الانتماءات المفروضة، كل من رفض وجود الآخر إلا جسدا للتعذيب أو المقايضة أو الإخفاء. في قفص الاتهام ممارسة يجب وضعها في مرتبة القتل الجماعي، حتى لو كانت تجري أحيانا على قاعدة فردية. هي ممارسة الخطف التي سدلت الستار، سنة بعد سنة، على حياة الآلاف من اللبنانيين (والسوريين والفلسطينيين) قبل أن تحجب عددا من الأجانب في أقبية الابتزاز الاستراتيجي. وهي، كالقتل الجماعي والقصف العشوائي للأحياء المدنية، ممارسة يثور عليها العقل بقدر ما تشمئز منها النفس.
ألم يحصد الخطف مواطنين لبنانيين كانوا أقرب سياسيا إلى الجهة الخاطفة منهم إلى الجهة التي خطفوا بسببها؟ ألم يفضِ سلاح خطف الأجانب إلى هلاك "الأجنبي" الذي كان ربما الأكثر التصاقا ببيروت، وتحديدا "بيروت الغربية"، كما كان يقال، ناهيك بطرابلس، وحيفا غسان كنفاني، ودمشق، وحلب وحمص وحماه، وبنزرت التونسية حيث ولد؟
ثمة إحراج كبير في التذكير بالمفارقة الأليمة التي جسدها ميشال سورا الرهينة، والتي ما زال يرمز إليها ميشال سورا الضحية بعد اثني عشر عاما ونيف على نهايته المأسوية في مكان ما من ضاحية بيروت، كما كانت تكتب الوكالات.
فميشال سورا لم يكن يستحق أن يعيش حرا في المدينة التي أحب لأنه صادق العرب ودافع عن فلسطين وترجم كنفاني وتواطأ مع فكر الإسلاميين. كان يستحق أن يعيش حرا بمجرد كونه إنسانا. وما كان يجب أن يتغير شيء في انفعال من انفعل بيننا لو كان أجنبيا "عاديا". فموته في الاعتقال في ذاته دليل بين دلائل عدة على درجة الهمجية التي بلغتها مجتمعاتنا، بمعزل عما كان يفترض أن يجعل ميشال سورا في منأى عن هذه الهمجية. أي أن مقتله من جراء ظروف الاعتقال لا يستنكر لأنه كان ابنا بالتبني والتثاقف والزواج لهذه المنطقة من العالم فحسب، فهو لم يكن يستحق الموت أقل من غيره. لكنه بالتأكيد لم يكن يستحق الموت أكثر من غيره.
بيد أنه لا يمكن الهروب من المفارقة في حياة ميشال سورا وموته. فهي، إن لم تكن تضيف شيئا إلى امتهان كرامة الإنسان الذي تشكله ممارسة الخطف، تلفتنا على الأقل إلى هذا الدرس اللاذع من حرب لبنان: إن إلغاء الآخر ونفيه وقتله ما هو في النهاية إلا انتقاص من الذات. لذا وجب طلب الغفران مرتين، مرة من ميشال سورا من خلال عائلته وأصدقائه ورفاقه، فرنسيين كانوا أم عرباً، ومرة من أنفسنا.
بقلم سمير قصير ("النهار" 24/7/1998)
0 تعليقات::
إرسال تعليق