في المسألة السورية معضلات كثيرة. الإدارة الإعلامية للأزمة هناك تمثّل أزمة بحدّ ذاتها. النظام يتحدث عن عناصر حسيّة تدل على التآمر والتخريب. لكنّ الإعلام السوري الرسمي لا يقدّم أي معلومات جدية أو ذات قيمة إعلامية عن الأمر. أما المصادر الرسمية، فهي أيضاً ممتنعة عن الشرح والتفصيل، بينما يتطوّع مؤيّدون للنظام، وجلهم من اللبنانيين، لشرح الأمر بطريقة لا تفي الغرض حقه. فتكون النتيجة، أن الصورة الأكثر التصاقاً بذهن المشاهد العربي، هي صورة الآلة الإعلامية الضخمة التي تخلط الصالح بالطالح. عندها تكون سوريا الرسمية هي الخاسرة.
في المسألة السورية، عنصر داخلي متّصل بمشكلات يعاني منها المواطنون، تتعلّق بالحريات العامة السياسية والإعلامية، وبالفساد وواقع الإدارة العامة، والتخلّف القائم في قطاعات حساسة وحيوية مثل قطاعي التربية والتعليم، ما ينعكس تراجعاً مستمراً في قطاعات الإنتاج. وفي المسألة السورية مشكلات بنيوية تتطلّب ما يشبه الانقلاب. وحتى اللحظة، هناك غالبية سورية تدعو النظام نفسه إلى القيام بهذا الانقلاب، بل تطلب من الرئيس بشار الأسد أن يقود بنفسه هذا الانقلاب، ليس فقط لمواجهة المتآمرين على الدولة وعلى موقعها ودورها داخلياً وإقليمياً ودولياً، بل لتنظيم عقد اجتماعي جديد بين السلطة والشعب، وهو عقد بات ضرورياً لأن ما هو موجود الآن صار عقداً من طرف واحد.
بهذا المعنى، يمكن الفصل بين المسألتين، أي بين الجهات الخارجية أو الداخلية المتورّطة في مشروع هدفه إسقاط النظام وتقسيم سوريا وإدخالها في فوضى تعجّل وصاية خارجية عليها، وبين البرنامج الإصلاحي الذي لا يتحمّل عمليات التجميل أو عمليات التأجيل. وبما أنّ الوصفة دقيقة لناحية أنّ المطلوب هو انقلاب، فذلك يعني أن على النظام إجراء مقاصة تتيح له معرفة ما له وما عليه، كمقدّمة لبناء عقد شراكة جديدة في إدارة سوريا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو الأمر الذي يتوّج عادة بانتخابات نيابية وفق قوانين عصرية للأحزاب والاقتراع تتيح مجلساً ممثّلاً قادراً على إدارة البلاد في مرحلة لاحقة.
في هذا السياق، يجب الانتباه إلى أن غياب الطبقة الوسطى في سوريا كما الطبقة البورجوازية عن المشاركة في الاحتجاجات القائمة لا يعكس وعياً مختلفاً عند هؤلاء، بقدر ما يعكس نمط المصالح القائمة. فقد نجحت السياسات الاقتصادية التي اتبعت خلال العقدين الأخيرين، في بناء أرضيّة صلبة جعلت من غالبية هؤلاء حلفاء للنظام. وهذا يعني أن طبقة المستفيدين من النظام توسعت قليلاً عن الفئة اللصيقة، أو الأقلية ذات النفوذ الحزبي أو العشائري أو الأمني. وهذا يعني في الاقتصاد، أن النظام نجح في توسيع قاعدة المصالح التي يمثلها. أمّا مشاركة الريف، فجاءت لتعكس واقع أن الذين همّشتهم السياسات الاقتصادية خلال العقدين الأخيرين، هم الذين فقدوا المدرسة والمشفى والتطور الاجتماعي، وفقدوا تواصلهم مع المدينة وحضارتها، وخسروا علاقتهم الإنتاجية بالأرض، ودفعوا إلى السفر للعمل في حقل الأعمال السوداء، سواء في لبنان أو الخليج العربي، الأمر الذي حوّلهم إلى مشكلة دائمة إن بقوا في البلاد وأرادهم مصدر دخل إن غادروا الدولة. وفي الحالتين، هم على خصومة ناجمة عن تراكم من الامتعاض والكره والاحتجاج لكون السياسات الحكومية ألقت بهم خارجاً. وكلما ضاقت السبل، عاد هؤلاء إلى تعبهم اليومي، حتى إذا اندلعت المواجهات، تحوّلوا فجأةً إلى وقود لها. وبسبب الطبيعة المتخلفة اقتصادياً واجتماعياً، باتوا هدفاً أسهل للجهات صاحبة المصلحة في بناء أو خلق وقائع سياسية أو أمنية من نوع خاص، كما هي حال فقراء وأبناء ريف العالم العربي كله.
وفي لحظة الانفعال القصوى، تفقد المسألة الفردية قيمتها، إذ لا يشعر هؤلاء بوجودهم أصلاً، بل صاروا يشعرون بذواتهم وهم في حالة التظاهر. كذلك تتراجع المسألة الوطنية إلى مراتب متخلفة، لأنهم فقدوا ثقتهم بالدولة وأدواتها، وصاروا يشعرون بأنهم هم ضحية أي استقرار سوف تنعم به أقلية طفيلية تعيش على هامش المجتمع والحزب والدولة، وتستفيد من الأمن وسيلة لتثبيت المصالح والمكاسب.
بهذا المعنى، يمكن القول بوضوح:
1ـــ إن معالجة سوريا لمسألة التدخل الخارجي تتطلب إدارة أفضل، أقله في الجانب الإعلامي. ومن المفيد الاتكال على أبناء البلد بدل الاستعانة بمن لا يدرون بشعاب مكة.
2ـــ إن أي تقارب بين السلطة والناس يتطلب إطلاق أكبر عملية تشذيب لكسر الجدران القائمة بين الجانبين، وهي جدران تحميها أجهزة أمنية ومافيات اقتصادية وديناصورات حزبية، وعلاج هؤلاء لن يكون بغير الاستئصال.
3ـــ إن العلاج الأمني لمسألة الاحتجاجات لن يفيد في معالجة جذر الأزمة سياسياً أو اجتماعياً، ومن يرسل الدبابات إلى حمص ودرعا فعليه أن يرسل دورية من الشرطة لاعتقال رامي مخلوف ومن على شاكلته ومصادرة أمواله وإنفاقها في قطاعات التربية والتعليم في نفس درعا وحمص.
بغير ذلك، لن تستقيم الأمور لأن أعداء سوريا يريدون تفتيتها غير سائلين عن الفقراء ولا عن الأغنياء ولا عن الطبقة الوسطى. وجلّ اهتمامهم هو التخلص من عبء حقيقي لمشاريع الغرب وإسرائيل.
إبراهيم الأمين - الأخبار - العدد ١٣٩٧ الثلاثاء ٢٦ نسيان ٢٠١
0 تعليقات::
إرسال تعليق