أيُّ القصائدِ هذا اليوم أدَّخِرٌ **** أمُتَّ حقاً؟ إذن فالقلبُ ينحسِرُ
وأيُّ شِعرٍ أقول الشعر يسبقني *** إليكَ والكلماتُ السودُ تنتحرُ
لا قلبَ يخفقُ بعد الآن *** لا رجلٌ من جرحه ذكريات النار تنهمرُ
فماذا أصنع والشعر الذي بيَدي *** وهمٌ، وكيفَ أغنـّي والمدى حجرُ
أأنت تسقطُ يا الله كيف بها **** غزالةُ الشوفِ لما هـزَّها الخبرُ
عرائسُ الكلماتِ ادخلي في جسدي *** وأَحـِلـْـنَ كل طريقٍ دونه وعـِـرُ
واكتبنَ كان أمير النارِ ثمَّ هوى *** فراحَ كالحجر في الأسحارِ ينهــَمـِـرُ
وقال: ليست نجومُ الأرضِ غير دم **** إذا حجبناهُ لن يبقى لها أثــَـرُ
كأنــَّـما جبلُ الباروكِ أذهـَـلَـهُ *** أن تنحني، فمشى في يومكَ الشجرُ
والأرْزُ أفلتَ من حُرّاسـِـهِ ومشى *** وفي ثناياهُ من جرحِ الردى خدرُ
لما هـَـوَيـْـتَ هوى من بُرْجـِـهِ بـَـرَدى *** وبانكسارِكَ كان النيل ينكسِرُ
والمشرقُ العربيُّ الحزنُ يغمـُـرُهُ *** عليكَ، والمغربُ الأقصى به كـَـدَرُ
كأنما أمـّـةٌ في شخصكَ اجتمعتْ *** وأنتَ وحدك في صحرائها المطـَـرُ
أَظـُـنــُّـها طلقاتُ الغـَـدْرِ حينَ هـَـوَتْ *** تكادُ لو أبصرَتْ عـيـْـنـَـيـْـكَ تـَـعـْـتـَـذِرُ
قـُـتـِـلْتَ؟ لا لم تـَـمُتْ لكنهم كـَـذِباً *** تـَـوَهـَّـموا، أو أماتَ الغدرُ مَنْ غـَـدَروا
هذا "عـلـيٌّ" يـُـصـَـلـّـي فوقَ مسجـِـدِهِ **** يا ابنَ الـ "كمالِ" اضـْـرِبْ إنــَّـهُ قـَـدَرُ
واغـْـمـِـدِ السـَّـيـْـفَ حتى العمق في جسدي *** هذا هـِـلالُ جـِـيـاعِ الأرض لـَـوْ نــَظـَـروا
والدَّمُ ليسَ دَماً بَلْ تِلْكَ نَجمتهم **** ستملأُ الأرضَ بالخيْرِ الذي انتظروا
أرضَ الخسارةِ يا لبنان هَلْ رجل *** يُعيدُ للناسِ بعدَ اليومَ ما خَسِروا
كانَ المُدافِعُ عن حُرّيةٍ سٌلِبَتْ *** وَراحَ قِنْديلُها في الأُفْقِ يُحْتَضَرُ
واشتراكيةٌ بالعِلْمِ يَصْنَعُها *** تقدُميٌّ بِهِ مِنْ شَعْبِهِ كِبَرُ
على المناديلِ مِنْ أوْجاعِهِ عَبَقٌ *** وفي المواويلِ مِنْ أحلامِهِ قَمَرُ
مَضى يُعلِّمُنا كيف تَرى *** الشعوب الدنيا وكيفَ طريقُ النَصْرِ يُخْتَصَرُ
وقالَ: هذا فَلْيَكُنْ جَسَدي *** منارةً وَلأكُنْ جِسْراً لِمَنْ عَبَروا
قُتِلْتَ؟! وَما كانَ ظَنّي أن تموتَ وفي *** يَدَيْكَ وإليهِ الأعمارُ تُبْتَكَرُ
غداً تَجيءُ إذا ما جاءَت عاصفةٌ *** مِنَ الجماهيرِ لا تُبْقي ولا تَذْرُ
كأنّني ألمَحُ الأجيالَ هادِرَةً *** وَأنتَ فيها وَلَمْ يُسْعَفِ العُمْرُ
طالَ ارتحالكَ ما عَوَّدْتنا سَفَرا *** أبا المساكينِ فارْجَعْ نَحْنُ ننتَظِرُ
...........
جبل الباروك
شوقي بزيع
إلى كمال جنبلاط، في بهاء الحضور، وبلاغة الغياب..
أيَّ القصائد هذا اليوم أدَّخرُ ** أمتَّ حقَّاً؟، إذن فالقلبُ ينحسرُ
وأيَّ شعرٍ أقولُ، الشعرُ يسبقني ** إليكَ والكلماتُ السُّودُ تنتحرُ
لا قلبَ يخفقُ بعد الآنَ لا رجلٌ ** من جرحه ذكريات النَّار تنهمرُ
فكيفَ أصنعُ والشعرُ الذي بيدي ** وهمٌ، وكيفَ أغنِّي والمدى حجرُ
أأنت تسقط؟ يا للهُ، كيف بها ** غزالةُ الشّوفِ لمَّا هزَّها الخبرُ
عرائسَ الكلماتِ ادخلنْ في جسدي ** واحلمنْ، كلُّ طريقٍ دونَه وعرُ
واكتبنْ: كان أميرَ النَّار ثمَّ هوى ** فراحَ كالجمرِ في الأسحارِ ينفجرُ
وقال: ليست نجوم الأرضِ غير دمٍ ** إذا حجبناه لن يبقى لها أثرُ
كأنَّما جبلُ الباروك أذهلهُ ** أن تنحني فمشى في يومك الشجرُ
والأرزُ أفلت من حرَّاسه، ومشى ** وفي ثناياه من جرحٍ الرَّدى خدرُ
لمَّا هويتَ هوى من برجه بردى ** وبانكسارك كان النِّيل ينكسرُ
والمشرقُ العربيُّ الحزنُ يغمره ** عليكَ، والمغربُ الأقصى بهِ كدرُ
كأنَّما أمَّةٌ في شخصكَ اجتمعتْ ** وأنتَ وحدكَ في صحرائها المطرُ
أظنُّها طلقاتُ الغدرِ حين هوتْ ** تكاد لو أبصرتْ عينيك تعتذرُ
قُتِلتَ؟ لا لم تمتْ لكنهم كذباً ** توهَّموا وأماتَ الغدرُ من غدروا
هذا عليٌّ يصلِّي فوق مسجدهِ ** فيا ابن ملجمَ، اضربْ، إنَّه قدرُ
وأغمدِ السَّيفَ حتى العمق في جسدي ** هذا هلالُ جياعِ الأرضِ لو نظروا
والدَّم ليس دماً بل تلك نجمتهم ** ستملأ الأرضَ بالخبز الذي انتظروا
أرضَ الخسارة يا لبنانُ هل رجلٌ ** يعيدُ للنَّاسِ بعد اليومِ ما خسروا
كان المُدافعَ عن حرِّيَّةٍ سُلِبتْ ** وراح قنديلها في الأفقِ يُحتَضرُ
على المناديل من أوجاعه عبقٌ ** وفي المواويلِ من أحلامهِ قمرُ
مضى يعلِّمنا كيف الشعوبُ ترى ** الدنيا، وكيف طريق النَّصر يُختَصرُ؟
وقال: هذا تجاهي فليكن جسدي ** منارةً، ولأكن جسراً لمن عبروا
أبا الوليد، إذا لبنانُ أرهقه ** طغاته فبكَ الآمالُ تُختبرُ
جعلتَ نفسك للآلام جلجلةً ** ورحتَ للظمأِ الأرضيِّ تنتصرُ
بنيتَ مجدَك أعلى من هياكلهم ** وما اغتررتَ، ولم تسكرْ بما سكروا
وكلُّ ما فتنَ الفانيين من جشعٍ ** زهدتَ فيهِ، فلا مالٌ ولا سررُ
تفتَّحت لك أكوانٌ محجَّبةٌ ** خمورها من شغافِ القلبِ تُعتصرُ
وراودتْ جفنك المغدورَ أخيلةٌ ** لن يدركوها، ولو أعياهمُ النَّظرُ
كالطَّيفِ تخطرني ذكراك، هل لغةٌ ** بها ضفاف مداك الرحبِ تنحصرُ؟
وكيف تتَّخذُ الألفاظُ وجهتها ** وأنتَ مبتدأ الألفاظِ والخبرُ
وقد تعددتَ حتَّى لم تعدْ جسداً ** بل شبهةً تترامى حولها الفكرُ
ففيك حكمةُ سقراطَ التي هزئتْ ** بالموتِ، والقيمُ السمحاءُ والكبرُ
وفيك من صورة الحلاَّج صرخته ** ضدَّ الطُّغاة، وما أفتوا، وما هذروا
وأنتَ ترمقُ جلاَّديك مرتفعاً ** فوقَ المنايا، وتعليهم، وقد صغروا
تلكَ الطَّريقُ التي أردتك كم قمراً ** من حولها دارَ، كم حفَّتْ بها عُصُرُ
رأيتَ فيها دليلَ السَّالكين إلى ** (مختارةِ) الرُّوحِ، واللُّغزِ الَّذي سبروا
على يمينك (بيت الدِّين) يرفعها ** نُسَّاكُها حيثُ تدنو أنجمٌ غررُ
وعند أقصى يسارِ السَّفح مملكةٌ ** من الموسيقا الَّتي ما مسَّها وترُ
كأنَّ برقَ السُّلالات التي انصرمتْ ** يضيء وجهكَ لمحاً ثمَّ يندثروا
هناك حيثُ اليقين الصِّرف يبلغه ** الموحِّدونَ، فلا شكٌّ ولا حذرُ
وحيثُ تتَّحدُ الأديانُ في المثلِ ** العليا، وفي نقطةِ التَّكوين تنصهرُ
والموتُ يدنو ويخبو مثلَ سنبلةٍ ** بشالها دمُك القمحيُّ يأتزرُ
حتَّى إذا غاضَ في عينيكَ مخلبُهُ ** راحتْ سماءٌ من الأحزانِ تنفطرُ
ها أنتَ مقترنٌ بالشِّعرِ تُشرعهُ ** مثل الغيومِ على المعنى وتنهمرُ
تضيء روحَك مرآتانِ، واحدةٌ ** تنأى، وأخرى هي الأشكالُ والصُّورُ
ما الشعرُ قلتَ إذا لم يجترحْ فرحاً ** للخلقِ، أو يتضوَّعْ فوحُهُ العَطِرُ
ما الشعرُ إلا وقوفُ الظَّامئين على ** بئرِ البصيرةِ، لا ما يدركُ البصرُ
دنوتَ حتَّى تدلَّى من غياهبهِ ** شمساً تجلِّلها الآياتُ والسُّورُ
ورحتَ تفترعُ الرؤيا على قممٍ ** صوفيَّةِ الحدسِ لم يحلمْ بها بشرُ
أبا الوليد، وهل في الأرضِ زنبقةٌ ** إلا لمثلكَ يزهو وجهها النَّضِرُ
قدتَ المسيرةَ ما كانتْ لترهبَها، ** وأنتَ قائدها، الآلام والغيرُ
ورحتَ تصنعُ للتَّاريخ ملحمةً ** سطورها فوق جذع الرِّيح تنحفرُ
مَن آزروك أرادوا أن تعلِّمهم ** بعضَ الَّذي فيكَ من عزمٍ إذا عثروا
مَن خاصموكَ أرادوا أن تكون لهم ** ندَّاً، ففي شخصكَ الأخصامُ قد كبروا
وأنتَ كالنَّهر في الحالَين تجمعهم ** من حول مجراكَ، أو كالظَّنِّ تستترُ
قُتِلتَ؟ ما كان ظنِّي أن تموتَ وفي ** يديكَ داليةُ الأعمارِ تُبتكَرُ
غداً تجيءُ - إذا ما جئتَ - عاصفةٌ ** من الجماهيرِ لا تُبقي، ولا تذرُ
كأنَّني ألمحُ الأجيالَ هادرةً ** وأنت فيها، ولو لم يسعفِ العُمُرُ
طالَ ارتحالكَ ما عوَّدتنا سفراً ** أبا المساكين، فارجعْ، نحنُ ننتظرُ
ديوان جبل الباروك للشاعر اللبناني شوقي بزيع - صادر عن دار الآداب 2002م
وأيُّ شِعرٍ أقول الشعر يسبقني *** إليكَ والكلماتُ السودُ تنتحرُ
لا قلبَ يخفقُ بعد الآن *** لا رجلٌ من جرحه ذكريات النار تنهمرُ
فماذا أصنع والشعر الذي بيَدي *** وهمٌ، وكيفَ أغنـّي والمدى حجرُ
أأنت تسقطُ يا الله كيف بها **** غزالةُ الشوفِ لما هـزَّها الخبرُ
عرائسُ الكلماتِ ادخلي في جسدي *** وأَحـِلـْـنَ كل طريقٍ دونه وعـِـرُ
واكتبنَ كان أمير النارِ ثمَّ هوى *** فراحَ كالحجر في الأسحارِ ينهــَمـِـرُ
وقال: ليست نجومُ الأرضِ غير دم **** إذا حجبناهُ لن يبقى لها أثــَـرُ
كأنــَّـما جبلُ الباروكِ أذهـَـلَـهُ *** أن تنحني، فمشى في يومكَ الشجرُ
والأرْزُ أفلتَ من حُرّاسـِـهِ ومشى *** وفي ثناياهُ من جرحِ الردى خدرُ
لما هـَـوَيـْـتَ هوى من بُرْجـِـهِ بـَـرَدى *** وبانكسارِكَ كان النيل ينكسِرُ
والمشرقُ العربيُّ الحزنُ يغمـُـرُهُ *** عليكَ، والمغربُ الأقصى به كـَـدَرُ
كأنما أمـّـةٌ في شخصكَ اجتمعتْ *** وأنتَ وحدك في صحرائها المطـَـرُ
أَظـُـنــُّـها طلقاتُ الغـَـدْرِ حينَ هـَـوَتْ *** تكادُ لو أبصرَتْ عـيـْـنـَـيـْـكَ تـَـعـْـتـَـذِرُ
قـُـتـِـلْتَ؟ لا لم تـَـمُتْ لكنهم كـَـذِباً *** تـَـوَهـَّـموا، أو أماتَ الغدرُ مَنْ غـَـدَروا
هذا "عـلـيٌّ" يـُـصـَـلـّـي فوقَ مسجـِـدِهِ **** يا ابنَ الـ "كمالِ" اضـْـرِبْ إنــَّـهُ قـَـدَرُ
واغـْـمـِـدِ السـَّـيـْـفَ حتى العمق في جسدي *** هذا هـِـلالُ جـِـيـاعِ الأرض لـَـوْ نــَظـَـروا
والدَّمُ ليسَ دَماً بَلْ تِلْكَ نَجمتهم **** ستملأُ الأرضَ بالخيْرِ الذي انتظروا
أرضَ الخسارةِ يا لبنان هَلْ رجل *** يُعيدُ للناسِ بعدَ اليومَ ما خَسِروا
كانَ المُدافِعُ عن حُرّيةٍ سٌلِبَتْ *** وَراحَ قِنْديلُها في الأُفْقِ يُحْتَضَرُ
واشتراكيةٌ بالعِلْمِ يَصْنَعُها *** تقدُميٌّ بِهِ مِنْ شَعْبِهِ كِبَرُ
على المناديلِ مِنْ أوْجاعِهِ عَبَقٌ *** وفي المواويلِ مِنْ أحلامِهِ قَمَرُ
مَضى يُعلِّمُنا كيف تَرى *** الشعوب الدنيا وكيفَ طريقُ النَصْرِ يُخْتَصَرُ
وقالَ: هذا فَلْيَكُنْ جَسَدي *** منارةً وَلأكُنْ جِسْراً لِمَنْ عَبَروا
قُتِلْتَ؟! وَما كانَ ظَنّي أن تموتَ وفي *** يَدَيْكَ وإليهِ الأعمارُ تُبْتَكَرُ
غداً تَجيءُ إذا ما جاءَت عاصفةٌ *** مِنَ الجماهيرِ لا تُبْقي ولا تَذْرُ
كأنّني ألمَحُ الأجيالَ هادِرَةً *** وَأنتَ فيها وَلَمْ يُسْعَفِ العُمْرُ
طالَ ارتحالكَ ما عَوَّدْتنا سَفَرا *** أبا المساكينِ فارْجَعْ نَحْنُ ننتَظِرُ
...........
جبل الباروك
شوقي بزيع
إلى كمال جنبلاط، في بهاء الحضور، وبلاغة الغياب..
أيَّ القصائد هذا اليوم أدَّخرُ ** أمتَّ حقَّاً؟، إذن فالقلبُ ينحسرُ
وأيَّ شعرٍ أقولُ، الشعرُ يسبقني ** إليكَ والكلماتُ السُّودُ تنتحرُ
لا قلبَ يخفقُ بعد الآنَ لا رجلٌ ** من جرحه ذكريات النَّار تنهمرُ
فكيفَ أصنعُ والشعرُ الذي بيدي ** وهمٌ، وكيفَ أغنِّي والمدى حجرُ
أأنت تسقط؟ يا للهُ، كيف بها ** غزالةُ الشّوفِ لمَّا هزَّها الخبرُ
عرائسَ الكلماتِ ادخلنْ في جسدي ** واحلمنْ، كلُّ طريقٍ دونَه وعرُ
واكتبنْ: كان أميرَ النَّار ثمَّ هوى ** فراحَ كالجمرِ في الأسحارِ ينفجرُ
وقال: ليست نجوم الأرضِ غير دمٍ ** إذا حجبناه لن يبقى لها أثرُ
كأنَّما جبلُ الباروك أذهلهُ ** أن تنحني فمشى في يومك الشجرُ
والأرزُ أفلت من حرَّاسه، ومشى ** وفي ثناياه من جرحٍ الرَّدى خدرُ
لمَّا هويتَ هوى من برجه بردى ** وبانكسارك كان النِّيل ينكسرُ
والمشرقُ العربيُّ الحزنُ يغمره ** عليكَ، والمغربُ الأقصى بهِ كدرُ
كأنَّما أمَّةٌ في شخصكَ اجتمعتْ ** وأنتَ وحدكَ في صحرائها المطرُ
أظنُّها طلقاتُ الغدرِ حين هوتْ ** تكاد لو أبصرتْ عينيك تعتذرُ
قُتِلتَ؟ لا لم تمتْ لكنهم كذباً ** توهَّموا وأماتَ الغدرُ من غدروا
هذا عليٌّ يصلِّي فوق مسجدهِ ** فيا ابن ملجمَ، اضربْ، إنَّه قدرُ
وأغمدِ السَّيفَ حتى العمق في جسدي ** هذا هلالُ جياعِ الأرضِ لو نظروا
والدَّم ليس دماً بل تلك نجمتهم ** ستملأ الأرضَ بالخبز الذي انتظروا
أرضَ الخسارة يا لبنانُ هل رجلٌ ** يعيدُ للنَّاسِ بعد اليومِ ما خسروا
كان المُدافعَ عن حرِّيَّةٍ سُلِبتْ ** وراح قنديلها في الأفقِ يُحتَضرُ
على المناديل من أوجاعه عبقٌ ** وفي المواويلِ من أحلامهِ قمرُ
مضى يعلِّمنا كيف الشعوبُ ترى ** الدنيا، وكيف طريق النَّصر يُختَصرُ؟
وقال: هذا تجاهي فليكن جسدي ** منارةً، ولأكن جسراً لمن عبروا
أبا الوليد، إذا لبنانُ أرهقه ** طغاته فبكَ الآمالُ تُختبرُ
جعلتَ نفسك للآلام جلجلةً ** ورحتَ للظمأِ الأرضيِّ تنتصرُ
بنيتَ مجدَك أعلى من هياكلهم ** وما اغتررتَ، ولم تسكرْ بما سكروا
وكلُّ ما فتنَ الفانيين من جشعٍ ** زهدتَ فيهِ، فلا مالٌ ولا سررُ
تفتَّحت لك أكوانٌ محجَّبةٌ ** خمورها من شغافِ القلبِ تُعتصرُ
وراودتْ جفنك المغدورَ أخيلةٌ ** لن يدركوها، ولو أعياهمُ النَّظرُ
كالطَّيفِ تخطرني ذكراك، هل لغةٌ ** بها ضفاف مداك الرحبِ تنحصرُ؟
وكيف تتَّخذُ الألفاظُ وجهتها ** وأنتَ مبتدأ الألفاظِ والخبرُ
وقد تعددتَ حتَّى لم تعدْ جسداً ** بل شبهةً تترامى حولها الفكرُ
ففيك حكمةُ سقراطَ التي هزئتْ ** بالموتِ، والقيمُ السمحاءُ والكبرُ
وفيك من صورة الحلاَّج صرخته ** ضدَّ الطُّغاة، وما أفتوا، وما هذروا
وأنتَ ترمقُ جلاَّديك مرتفعاً ** فوقَ المنايا، وتعليهم، وقد صغروا
تلكَ الطَّريقُ التي أردتك كم قمراً ** من حولها دارَ، كم حفَّتْ بها عُصُرُ
رأيتَ فيها دليلَ السَّالكين إلى ** (مختارةِ) الرُّوحِ، واللُّغزِ الَّذي سبروا
على يمينك (بيت الدِّين) يرفعها ** نُسَّاكُها حيثُ تدنو أنجمٌ غررُ
وعند أقصى يسارِ السَّفح مملكةٌ ** من الموسيقا الَّتي ما مسَّها وترُ
كأنَّ برقَ السُّلالات التي انصرمتْ ** يضيء وجهكَ لمحاً ثمَّ يندثروا
هناك حيثُ اليقين الصِّرف يبلغه ** الموحِّدونَ، فلا شكٌّ ولا حذرُ
وحيثُ تتَّحدُ الأديانُ في المثلِ ** العليا، وفي نقطةِ التَّكوين تنصهرُ
والموتُ يدنو ويخبو مثلَ سنبلةٍ ** بشالها دمُك القمحيُّ يأتزرُ
حتَّى إذا غاضَ في عينيكَ مخلبُهُ ** راحتْ سماءٌ من الأحزانِ تنفطرُ
ها أنتَ مقترنٌ بالشِّعرِ تُشرعهُ ** مثل الغيومِ على المعنى وتنهمرُ
تضيء روحَك مرآتانِ، واحدةٌ ** تنأى، وأخرى هي الأشكالُ والصُّورُ
ما الشعرُ قلتَ إذا لم يجترحْ فرحاً ** للخلقِ، أو يتضوَّعْ فوحُهُ العَطِرُ
ما الشعرُ إلا وقوفُ الظَّامئين على ** بئرِ البصيرةِ، لا ما يدركُ البصرُ
دنوتَ حتَّى تدلَّى من غياهبهِ ** شمساً تجلِّلها الآياتُ والسُّورُ
ورحتَ تفترعُ الرؤيا على قممٍ ** صوفيَّةِ الحدسِ لم يحلمْ بها بشرُ
أبا الوليد، وهل في الأرضِ زنبقةٌ ** إلا لمثلكَ يزهو وجهها النَّضِرُ
قدتَ المسيرةَ ما كانتْ لترهبَها، ** وأنتَ قائدها، الآلام والغيرُ
ورحتَ تصنعُ للتَّاريخ ملحمةً ** سطورها فوق جذع الرِّيح تنحفرُ
مَن آزروك أرادوا أن تعلِّمهم ** بعضَ الَّذي فيكَ من عزمٍ إذا عثروا
مَن خاصموكَ أرادوا أن تكون لهم ** ندَّاً، ففي شخصكَ الأخصامُ قد كبروا
وأنتَ كالنَّهر في الحالَين تجمعهم ** من حول مجراكَ، أو كالظَّنِّ تستترُ
قُتِلتَ؟ ما كان ظنِّي أن تموتَ وفي ** يديكَ داليةُ الأعمارِ تُبتكَرُ
غداً تجيءُ - إذا ما جئتَ - عاصفةٌ ** من الجماهيرِ لا تُبقي، ولا تذرُ
كأنَّني ألمحُ الأجيالَ هادرةً ** وأنت فيها، ولو لم يسعفِ العُمُرُ
طالَ ارتحالكَ ما عوَّدتنا سفراً ** أبا المساكين، فارجعْ، نحنُ ننتظرُ
ديوان جبل الباروك للشاعر اللبناني شوقي بزيع - صادر عن دار الآداب 2002م
0 تعليقات::
إرسال تعليق