الاثنين، 11 يوليو 2011

أمبرتو إيكو: الرواية كوسمولوجيا وعمارة أكوان

أمبرتو إيكو
أمبرتو إيكو
تتنوّع وتتعدّد اهتمامات امبرتو إيكو: فقد عمل على نشر العديد من الأعمال الأكاديمية في علوم السيميائية ( وهو علم يبحث في الطريقة التي يتيح فيها اختلاف نظم السمات لدى الأفراد والمجتمعات بالتواصل)، وكتب المقالات والروايات، وله عمود صحافي في كبرى الصحف الإيطاليّة.
يصرّ أمبرتو إيكو على وصف نفسه بأنّه فيلسوف قبل كلّ شيء، وتكميليّا كاتب خلال ساعات فراغه، فهو يقول: "أعتبر نفسي فيلسوفا بقدر ما أرى نفسي سيميائيّا، باعتبارها الشكل الوحيد الممكن للفلسفة اليوم، ومن ثمّ أنا أديب، أنا الفيلسوف الذي يعمل في الفلسفة من الاثنين إلى الجمعة، ويوم عطلة نهاية الأسبوع أكتب الروايات، منذ سنّ 48 عاما". وآخر كتبه Le Cimetiere De Prague الصادر عن دار GRASSET الفرنسيّة للنشر عام 2010.‏

الكتاب هو الأكثر أماناً

أمبرتو إيكو أديب يساير العصر ويمارس العمل اليومي الروتيني في الاطّلاع على بريده الإلكتروني، ويجرّب جهاز أي باد، ويلقي أمبرتو إيكو، انطلاقا من قاعدة المراقبة الواقعية للوقائع، نظرة ناقدة على الواقع، يضع تفسيرا له ويدرس التباين فيه،‏ وقد أثارت الابتكارات التكنولوجية الدائمة واستخدام الإنترنت تساؤلاته حول الهشاشة المتزايدة في وسائل المعرفة والمعلومة (المرنة)، وثمّة سبب للعودة إلى الموضوع المحبّب على نفسه، وهو الكتاب، هذه التحفة الكاملة، فقد بقي الكتاب في نظره الوسيلة الأكثر ديمومة والأسهل استخداما، مقارنة مع الوسائل الأخرى، مضيفا إلى قائمة مزاياه الحبّ إلى هذا الشيء الجميل. ويقول إيكو: "حتى الآن الكتاب هو الأكثر أمانا لتخزين ونقل المعلومات لثلاثة أسباب، أوّلا، أعتقد أنّه أكثر ملاءمة للقراءة، ومن ثمّ الحب لهذا الكتاب، فأنا حين أدخل إلى قبو منزلي وأعثر على كتاب بينوكيو الذي قرأته وكتبت عليه حين كنت في سنّ الثامنة من العمر، تعود بي الذكرى إلى مشاعري وأحاسيسي التي عشتها آنذاك حين قرأته، وهذا لن أجده على القرص المدمج المتضمّن نصّ بينوكيو، وأخيرا من يصبح في عمري، وبعد سنين طويلة، لن يجد قرص بينوكيو سليما، لأنّه ستزول مَغْنَطَتُه، وتلك مشكلة إذ إنّ الحواسيب تتغيّر باستمرار ونجهل مدّة صلاحيّة القرص المدمج".

فن المقارنة

وتحت سيل المعلومات التي يمكن الوصول إليها عبر شبكة الإنترنت يصبح الأهمّ في الشأن الثقافي ليس الوصول والحصول على المعرفة فحسب، بل القدرة على فرز المعلومات - المعرفة، وهي تقنية حرفيّة ماهرة في إجراء المقارنة والموازنة من أجل تمييز الصحّ من الخطأ، وهنا يشعر المرء بالنظرة الناقدة التي يتحلّى بها عالم يتغذّى على فكرة إحياء الشكوك، وفي المستقبل سيكون التعليم مكرّسا حول تعلّم فن الفرز، ليس من الضروري أن نعلم أين تقع كاتامندو، أو من كان ملك فرنسا بعد شارلمان، لأننا سنجد الإجابة أينما كان، بل نطلب من الطلاّب دراسة 15 موقعا يحدّدون منهم الأكثر موثوقيّة، وينبغي أن نعلّمهم فن المقارنة.‏

والأوسع من كلّ هذا وذلك هو أنّ تجزئة عربة المعرفة تطرح للسؤال قدرة مجتمعنا على بناء مِنصّة ثقافية، تجعل من المعرفة والأفكار المتقاسمة ضروريّة للقدرة على العيش معا.‏

وفي الختام، يثق أمبرتو إيكو بعلامة الاستفهام.‏

تصفية حساب شخصي

يتحدّث امبرتو ايكو في "آليات الكتابة السردية" (دار الحوار- ترجمة سعيد بنكراد - 2010) عن رواياته الأربع وبخاصة "إسم الوردة" وقد ضمّن كتابه هذا ملاحظات تتعلّق بسيرورة التأليف وبناء الكون الروائي والميتافيزيقيا البوليسية. فالرواية البوليسيّة مثيرة لأنّها تخمين لحالة خاصة تتضمّن انتصار النظام، أمّا الميتافيزيقيا البوليسية فهي التي تجمع بين حرفية الواقع ومتاهة الغيب. فالرواية آلة مولدة للتأويلات وواقعة كوسمولوجية، ويذهب إيكو إلى أنّ الرواية تفكير بالأصابع، وينفي أن تكون الرواية تصفية حساب شخصي، وتنفيسا عن حقد صغير أو انفعال مصطنع. العنوان مفتاح تأويلي وينصح المؤلف بأن يكون "لئيما" في اختيار العنوان بنزاهة، وأن يختار المؤلف العنوان الدال، وقد اختار قبل أن يستقرّ على عنوان "اسم الوردة" بداية عنوان "دير الجريمة" إلّا أنّه أهمله، فهو بوليسي وحسب، ثم اختار عنوان "ادزو دي ميلك"، إلّا أنه صوت المحكي، وليس مثل "روبنسون كروزو" أو "دافيد كوبرفيلد". كما أنّ الناشرين البريطانيين لا يميلون إلى الروايات المنسوبة لأسماء أبطالها وأعلامها، ثم قادته الصدفة إلى "اسم الوردة"، فالوردة موحية بالدلالات وكثيفة الإيحاءات. يعترف إيكو بأنّ لا شيء أبهج من اكتشاف تأويلات قرّاء مضمرة في السطور، لم يكن المؤلف منتبها لها، ولعلّ هذا الاعتراف شبيه بمقلوب قول شارلي شابلن في مذكّراته: أكثر ما يبهج المُخرج قول المشاهد: هذا ما حدث لي بالضّبط.

كثيفة في أبسط الجزئيّات

ليس من حقّ المؤلف سوى الحكي، التأويل حقّ القارئ، المؤلّف يكذب عندما يقول أنّه اشتغل تحت تأثير إلهام يشبه الصاعقة، فالإلهام لا يشكّل سوى 20 في المئة من العمل، فقصيدة لامارتين التي زعم أنّه كتبها بإلهام خالص هي أكثر القصائد صنعة في الأدب الفرنسي.

بدأت رواية "إسم الوردة" من خلال رغبة الكاتب في تسميم راهب، والكاتب نفسه يقول في مكان آخر بأنّ كلّ كتاب هو حديث عن كتاب آخر، وكلّ قصة تروي قصّة سابقة، تلك بذرة الرواية التي كساها باللحم.

ثمّ استغرقت الرواية أبحاثا وخرائط وعودة إلى القرن الرابع عشر، وقياس ممرّات مكان الرواية الذي اختار ديره على أعلى جبل بالمتر والخطوة، بل وتحديد عدد درجات السلّم اللولبي، الرواية ليست كلمات، الرواية كوسمولوجيا وعمارة أكوان، الشرط الأساسي في الرواية هو أن تكون كثيفة في أبسط الجزئيّات، فأن يختار الراوي صيّادا على ضفّة نهر هذا يعني شبكة هائلة من الاحتمالات. السرديّة تحتاج إلى شهادة ميلاد، ووزارة للتعمير. يزعم إيكو أنّ للرواية وزنا مثل القصيدة، أمّا قيود الرواية وبحورها فهي متولّدة عن المضمون، فبحر الحكايات الخرافية غير تفعيلات الروايات الواقعية، كما أنّ السرد أسير مقدّماته، أي إنّ شخصياته التي ألفها ستستقلّ وتنال حقّ تقرير المصير بالقوّة. والرواية العظيمة هي التي يعرف مؤلفها متى يسرع، وأين المنعطفات الخطرة التي يخشى منها الانزلاق.

مواجهة الثقافة الباروكية

وفي صيد القارئ يقول إيكو إنّه لا يوجد كاتب يكتب من أجل قارئ في المستقبل. جيمس جويس نفسه كان يكتب لقارئ عادي، لعلّ إيكو يقصد التشويق، فيكف يمكن إغواء القارئ في المئة الأولى من الصفحات؟

رواية الحبكة رواية تجارية، مثلها مثل الرواية البوليسيّة، أمّا غاية إيكو فكانت رواية تجمع بين الحبكة والإشكاليّة، فالرواية البوليسية تنتهي بكشف الجريمة وتموت، أمّا رواية التأويل فرواية مستمرّة تحتفظ بلغزها أو بجزء منه معها، كأن يكتشف محقّق بوليسي ذات يوم في إحدى الروايات أنّ المجرم هو نحن.

الأمر مع رواية "بندول فوكو" كان أكثر تعقيدا، بعد إحساس إيكو أنه كتب ما يريد في الأولى، يقول إنه رأى بندول ثمّ طلب منه مخرج كتابة سيناريو فيلم، فاشترط أن لا يظهر اسمه عليه، وخان المخرج النص، ومع ذلك ظهر بندول راقصا في كهف يتعلّق به شخص يلعب بالسيف، البذرة الثانية كانت رغبته بالنفخ في بوق في مراسيم جنازة وقد جمع إيكو بين الصورتين في رواية استغرقت 8 أعوام.

الشيء ذاته حدث مع رواية "جزيرة اليوم السابق"، وكانت رغبة شعريّة للمؤلف في أن يتحدث عن الطبيعة، فاختلق جزيرة لغريق نجا في جزيرة نائية، وبعد تفحّص الأطلس وقراءة حول العالم في 80 يوما، وجد نفسه في مواجهة الثقافة الباروكية في القرن السابع عشر، هنا شقّت الرواية طريقها بناجٍ وحيد على باخرة، أمّا رواية "باودولينو" فهي استثناء، وعلى النقيض من هذه المعادلة القائلة بالانطلاق من فكرة، من بذرة، ثم بناء الأسلوب عليها، فقد كانت لدى إيكو بذور مشتّتة، ولعلّ البذرة الأساس هي فكرة جريمة قتل في غرفة مغلقة، أمّا الثانية فهي أنّ المشهد الأخير يجب أن يتمّ وسط جثث محنّطة، وهاتان الفكرتان أقلّ من أن تبنى عليهما رواية. ليس لدى إيكو رغبة في الحديث عن طريقته في الكتابة، فهو يكتب في أيّ وقت، بعد جمع مخطوطات وخرائط وبورتوريهات لشخصيات. الحزن يبدأ عندما تنتهي الرواية، ماركيز كان يتحدّث عقب كلّ قصة عن ميت يحتاج إلى جنازة وتأبين، أو إلى حداد طويل.

انطوان نجم - الجمهورية - الاثنين 11 تموز 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق