الأحد، 12 يونيو 2011

الرمز والأسطورة في شعر بدر شاكر السياب

مات وهو في السابعة والثلاثين من عمره "غريبا" عن قريته جيكور – كانت البصرة – يومئذ بأجوائها التي فيها الشجر والظل والزهر والخضرة تصافح العين أينما نظرت, تفجر لدى الأديب طاقاته الكامنة وتستحيل الحياة في الطبيعة إلى مادة شعرية ثرة .. وجيكور قرية الشاعر السياب تقع في قلب هذه الجنة الخضراء.. إنها بكل معالمها الأنيسة البسيطة المتفتحة على الشط , هي النسغ والمادة الأولى لشعره .. وغنّاها بصدق .. بقوة .. ورسم جزيئاتها في قصائده حتى موته ...
بين ميلاده عام 1927 ووفاته على سرير أبيض في إحدى مستشفيات الكويت عام 1964, ظلت حياته مزيجا من الألم والتعاسة والحرمان.. مات السياب وترك ثراءً كبيرا من الشعر الخصيب الذي جعله في مصاف الشعراء العظام بسبب تنوع إنتاجه الشعري وغزارته وشموله لكثير من القضايا الإنسانية.. عاش فقيرا وقتله المرض في قمة شبابه الذي انعكس في رثائه لنفسه, ففي وصية له يقول:

(أنا قد أموت غداً / فإن الداء يقرض.. غير أن حبلاً / يشد ّ إلى الحياة حطام جسم / مثل دار تحزن جوانبها الرياح / وسقفّها سيل القطار /)..

أيها المسكين يا عاشق الشعر الذي كان لك غداً وعدلا .. إنك الرائد الحقيقي فنياً وتاريخياً لحركة الحداثة الشعرية...

لقد استعمل السياب رمزي المسيح والصليب في اغلب قصائده, ولربما تكرر ورودهما أكثر من مرة في القصيدة الواحدة.. وهذا ما نلاحظه في قصائد ديوان – أنشودة المطر – أن رمزي المسيح والصليب يرتبطان ارتباطا عضويا بمفهوم التضحية أو الفداء والتي تمتد إلى طفولة الشاعر..

يقول عبد الجبار عباس: "إن التضحية عند السياب ليست موقفا مسيحيا, فالمسيح ليس عنده جوهر المضمون وإنما هو لون يصبغ به الصورة".. ففي قصيدة – غريب على الخليج – والتي تمثل غربة الشاعر, وهذه الغربة لم تكن غربة وطن فحسب , وإنما هي فكرية ونفسية.. ويقول مخاطبا وطنه بشوق وحرارة وحمله ثقيل ثقل صليب المسيح: (بين القرى المتهيبات خطاي , والمدن الغريبة غنيت تربتك الحبيبة / وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه /).. وفي قصيدة – قافلة الضياع – يخاطب الشعوب واللاجئين التي تمثل مأساة الفلسطينيين بشخص المسيح للتعبير عن النضال, فرمز بالمسيح ليعبّر عن وجدان البشر بجهادهم من أجل القضية.. (/ كان المسيح بجنبه الدامي / ومئزره العتيق يسدّ ما حفرته السنة الكلاب / فاجتاحه الطوفان -حتى ليس ينزف منه جنب أو جبين / إلا دجى كالطين تبني منه دور اللاجئين /)..

وفي قصيدة – المسيح بعد الصلب – التي هي قمة الرمزية للمسيح لدى السياب يتحدث وبلسان المسيح مصورا بها صورته هو وكأنه المصلوب الذي انزل من على الصليب وروحه الإلهية غير المقهورة تمنح الحياة للطبيعة والناس ..

(/ مت كي يؤكل الخبز باسمي لكي يزرعوني, مع الموسم / كم حياة سأحيا: ففي كل حفرة / صرت مستقبلا, صرت بذرة / صرت جيلا من الناس في كل قلب دمى قطرة منه / وبعض قطرة /)..

استفاد السياب من الأساطير البابلية والسومرية واليونانية إذ مزج بينها وبين همومه الذاتية التي كانت قلقة نتيجة قلق عصره واستنجاده بالأسطورة كمدلول رمزي نتيجة عشقه المثالي إلى عالم حالم يبتعد به عن التناقضات فاستخدمها مرة لاتقاء شر السلطة الغاضبة وأخرى اتقاء شبح الموت الذي يداهمه واستحوذ على مشاعره نتيجة المرض الذي طال أمده .. وتمثلت في (أساطير) و ( إزهار ذابلة).. عندما يخبو ضياء الشموع, ويبقى النخيل يئن ويصرخ في قبضة الريح.. وفي ظلمة اليأس ينشق عبر الضباب الكثيف.. وهذا الزمان الذي يستحيل إلى لحظات خريف طويل..

ففي قصيدة (مدينة بلا مطر) استخدم السياب تموز البابلية آلهة الخصب التي تخلت عن المدينة فجف فيها كل شيء, إذ لا مطر, ولا زرع, فأنتشر في المدينة الجوع والجفاف فيبدأ أهل القرية التضرع إلى الآلهة الخصب وتقدم إلى – تموز وحبيبته عشتار – وسار صغار بابل يحملون سلال صبّار وفاكهة قربانا لعشتار ويشعل خاطف البرق بظل من خلال الماء والخضراء والنار ..

وفي قصيدته (رؤيا في عام 1956) يستغل الشاعر – غنيميد – راع يوناني شاب وقع في حبه - زيوس كبير إلهة الأولمب – الإغريق فيرسل حقيرا يختطفه ويطير إليه فيقول: (/ أيها الصقر الإلهي الغريب / أيها المنقذ من أولمب في صمت المساء / رافعا روحي لأطباق السماء / أيها الصقر الإلهي ترفق أن روحي تتمزق /).. وهنا الشاعر يرمز إلى – روحه – بصورة – غنيميد – الشاب إنها صورة (الحب المقترن بالعذاب) إنها مزج بين الرؤية الواقعية والرؤيا النفسية معا..

هذا هو بدر شاكر السياب الذي غنى لبلده .. غنى لعراقه.. غنى لشمسه.. لمطره .. لأنهاره.. جداوله ونخيله.. لحلوه ومره.. يقف تمثاله شامخا على ضفاف شط العرب, ذلك الشط الذي نسج له بدر قلائد الورد تزينه.. يقول – أدونيس – عن بدر شاكر السياب:

"الحياة نفسها عند السياب قصيدة, لقاء بين شكل يتهدم وشكل ينهض.. إنها انبثاق أشكال لأنها انهدام أشكال وهي كالقصيدة, شكل, وليس الشكل تمثيلا نقليا أو وصفيا.. إنه فضاء خارجي يحتوي فضاء ا ًداخليا"...

وفي نهار شتائي حزين في 24 كانون الأول سنة 1964 خرج أربعة من الرجال يشيعون بدر شاكر السياب إلى مقره الأخير في مقبرة الحسن البصري في الزبير وكان خامسهم المطر الذي وهبه السياب أجمل قصائده.. لقد كانت نهاية السياب قصيدة لم يكتبها بدر.. بل كتبها المطر على تراب العراق الخصب.. وهكذا يموت العظماء من الأدباء والفنانين...

توفيق الشيخ حسين - الحوار المتمدن - العدد: 2662 - 2009 / 5 / 30

0 تعليقات::

إرسال تعليق