السبت، 7 مايو 2011

جمعة التحدي في سورية



نزول عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع وميادين معظم المدن السورية في 'جمعة التحدي' يوم أمس، وسقوط أكثر من عشرين شهيداً برصاص قوات الأمن في حمص وحماة يؤكد أن قطاعاً عريضاً من الشعب السوري لا يخاف الموت، وأن إنزال الدبابات لمحاصرة المدن لم ينجح في قتل، أو إخماد، الانتفاضة السورية.
الانتفاضة في سورية ما زالت سلمية، ترفض كل استفزازات رصاص رجال الأمن لتحويلها إلى تمرد عسكري رغم الإغراءات وعمليات التحريض الكبيرة القادمة من خارج الحدود، لان درجة الوعي السياسي والأخلاقي عالية جداً في صفوف أبناء الشعب السوري، فهم يدركون مخاطر اندلاع شرارة الحرب الأهلية، وانفجار الفتنة الطائفية، مثلما يدركون أيضا أن المعركة لن تكون متكافئة مع نظام يملك ترسانة قوية تطفح بأحدث الأسلحة وجيش لن يتردد في استخدامها لسحق أي تمرد أهلي مسلح.
من المؤكد أن الدبابات أقوى من المتظاهرين العزل، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه وهو حول قدرة هذه الدبابات على قتل أكثر من عشرين مليون سوري تخلصوا من عقدة الخوف، ولم يعد يرهبهم الموت، وباتوا يتطلعون، أو أعداد كبيرة منهم إلى الشهادة.



يخطئ صقور النظام في سورية إذا اعتقدوا أنهم يستطيعون سحق الانتفاضة من خلال التغول في القتل، وإتباع الحلول الأمنية، فها هي الاحتجاجات تدخل أسبوعها السابع تقريباً دون أن تظهر أي علامات وهن أو خوف لدى المشاركين فيها، بل ما حدث ويحدث هو ازديادها قوة واتساعاً، بدليل إنزال الجيش للدبابات إلى الشوارع لحصار المدن والتصدي للمتظاهرين.
صحيح أن الانتفاضة لم تنجح في فرض الإصلاحات الديمقراطية التي تطالب بها منذ اليوم الأول، أو تغيير النظام، ولكن الصحيح أيضا أن الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تتصدى لها، رغم قوتها وجبروتها لم تنتصر، ولم تحقق هدفها الأساسي في إخماد الاحتجاجات.
المتشددون في النظام السوري، الذين يملكون اليد العليا حتى الآن، يعتقدون أن تقديم تنازلات حقيقية تتجاوب مع مطالب المنتفضين ربما يفسر على انه يعكس ضعف النظام، ولذلك يزيدون من جرعة القمع في التصدي للاحتجاجات، والاستمرار في إعطاء الأوامر بالقتل بالرصاص الحي، وهذا أسلوب انتحاري يفتقد إلى الرؤية الواعية التي تستند إلى الاستفادة من دروس الآخرين الذين ساروا على النهج نفسه وانتهوا نهاية بائسة.
' ' '
من المفارقة أنه بينما كان الرئيس بشار الأسد يقوم يوم أمس بوضع إكليل من الزهور على قبر شهداء سوريين سقطوا في مواجهات مع الجيش التركي قبل مئة عام، عندما أطلق النار أي الجيش العثماني، على المتظاهرين الذين كانوا يطالبون بإنهاء الاحتلال التركي، كانت قوات الأمن والجيش السوري تطلق النار على المحتجين في حمص وحماة. ولا نعرف ما إذا كان الرئيس بشار قد استخلص العبرة من هذه المفارقة، وكيف أن الاحتلال التركي انتهى، وإمبراطوريته انهارت، بينما بقي الشعب السوري، وبقيت سورية؟
أجهزة الإعلام السورية تشكك بوطنية المحتجين، وتركز على وجود مؤامرة تستهدف سورية متورطة فيها دول خارجية، وربما يكون الحديث عن المؤامرة ينطوي على بعض الصحة، فسورية مستهدفة دائماً، ولكن الرد على المؤامرة يتأتى من خلال إصلاح البيت الداخلي، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإطلاق مسيرة الإصلاح الحقيقي.
المعارضة السورية، الداخلية منها أو الخارجية، على درجة عالية من الوطنية، وإذا كانت هناك جماعات مرتبطة بمشاريع خارجية، وأمريكية بالذات، فهي جماعات معزولة كلياً ومنبوذة من كل أطياف الشعب السوري، والشيء نفسه يقال عن وسائلها الإعلامية وقياداتها الممولة من جهات مشبوهة.
الشعب السوري نزل إلى الشوارع وواجه الرصاص الحي، لأنه لم يعط الفرصة للمشاركة الحقيقية في العملية السياسية، وبالتالي في دوائر وآليات صنع القرار التي تقرر مصيره، وتدير شؤونه، فهذا الشعب الذي يحمل في دمائه جينات العظمة الإمبراطورية والحضارية لا يمكن بل لا يجب التعاطي معه وكأنه شعب قاصر.
مازالت هناك فرصة للإنقاذ، ولكن عبر الحوار وليس الحلول الأمنية وإنزال الدبابات لحصار المدن وإطلاق النار على المحتجين، ومن المؤلم إننا لا نرى أي مؤشر يطمئننا بان النظام يريد مثل هذا الحوار لان الجناح المتشدد فيه لا يؤمن به، ويراه احد علامات الضعف والوهن، وهو مفهوم خاطئ يعكس رؤية تفتقر إلى قراءة صحيحة للمتغيرات العالمية الحديثة التي ابرز عناوينها ثورة المعلومات، واتساع نفوذ وسائل الاتصال الحديثة.
الهجوم على الفضائيات العربية التي تبث وقائع المظاهرات الاحتجاجية، وتعرض صور الشهداء والجرحى التي نراها بين الفينة والأخرى على شاشات التلفزة السورية الرسمية ليس هو الرد الأمثل، والشيء نفسه نقوله عن استضافة فنانين كبار لانتقاد هذه الفضائيات وبعض العاملين فيها، فالرد الأمثل في رأينا يأتي من خلال فتح البلاد أمام الفضائيات والصحف الحرة المستقلة لنقل الوقائع من الميدان، والتعرف على جميع وجهات النظر دون رقابة أو ضغوط.
' ' '
الفنانون السوريون قدموا أعمالا درامية أثرت في الوعي العربي والأجيال الجديدة لمهنيتها الاحترافية العالية، والمواضيع التاريخية والوطنية التي تناولتها وأبرزت قيم العدالة والمساواة والثورة على الظلم في العهود المظلمة من تاريخ الأمة العربية، بل لا نبالغ إذا قلنا أن هذه الأعمال الدرامية السورية هي التي ساهمت، بل عجلت، باندلاع الانتفاضات العربية في مواجهة الأنظمة القمعية والديكتاتورية العربية. ولذلك نتمنى أن تحافظ هذه الدراما ونجومها على صورتها الناصعة في أذهاننا وعشرات الملايين من أمثالنا على طول العالم العربي وعرضه.
لا نريد الدمار لسورية، ولا نريد انزلاقها إلى هاوية حرب أهلية وفتنة طائفية، تهز استقرارها، وتمزق وحدتها الوطنية، ولا نشك مطلقاً بان الشعب السوري بمختلف قطع فسيفسائه المذهبية، والعرقية والدينية يشاطرنا الحرص نفسه، ولكن القوى التي تدفع نحو الدمار والقتل والحرب الأهلية تزداد قوة ونقولها بكل حسرة وألم.
فعندما تفرض قوى غربية عقوبات على بعض الشخصيات السورية داخل النظام وحوله، وتستثني الرئيس بشار الأسد، فهذا يؤكد لنا ما قلناه دائماً، أن العلة تكمن في حرس قديم مازال يفكر بعقلية مرحلة مجازر حماة، ويستخدم أدواتها، ويرفض الحوار، ويعتبر من يطالب بالإصلاح عدواً يجب قتله، ولهذا يستمر حصار درعا ويتواصل سقوط الشهداء في حمص وحماة ومدن أخرى.
بالأمس كانت جمعة التحدي، وقبلها كانت جمعة الغضب، ولا نعرف ماذا سيكون اسم الجمعة المقبلة، وكل ما نعرفه أن الانتفاضة مستمرة ولن تتوقف طالما يرفض أهل الحكم في دمشق الحوار والإصلاح والاستماع إلى أنين أبناء شعبهم.

عبد الباري عطوان  - القدس العربي اللندنية GMT 23:02:00 2011 الجمعة 6 مايو


0 تعليقات::

إرسال تعليق