الثلاثاء، 7 يونيو 2011

العودة إلى ما قبل «لبنان الكبير»؟

منذ أشاعت الأكثرية الجديدة أجواءً إيجابية حول انتهاء الأزمة الحكومية مساء الأربعاء، كان بعض العارفين بأجواء عوكر يضحكون ويكررون تأكيدهم لأصحاب الأوهام: لا حكومة. حتى إن أحدهم من الخبراء ما انفكّ يردّد كلاماً موثقاً، لا تحليلاً ولا توقّعاً: الفريق اللبناني الممسوك أميركياً أعطى وعداً نهائياً وقاطعاً للفريق الأميركي الممسك بلبنان: لن نؤلّف، ولن نعتذر، إلى أن تعطي واشنطن كلمتها. تماماً كما حصل في يوم من ربيع 2005، حين أعطتها على متن تلك الطائرة الخاصة، بلسان تيري رود لارسن، وسط بازار الحقائب والحقيبة... فكانت لنا حكومة ميقاتية أولى. لكن من هو الفريق الأول: نجيب ميقاتي وميشال سليمان، ومن خلفهما كثيرون من المموَّهين، أو من المزايدين على كل من الاثنين، حتى الخصومة معهما. ومن هو الفريق الثاني: جيفري فيلتمان على نحو أساسي، ووكلاؤه الظرفيون من الرياض والدوحة إلى أنقرة وباريس.
يميل المزاج اللبناني العام إلى عدم تصديق تلك القراءة. يظل يردّد في سرّه: لكنّ ميقاتي هو صديق الأسد، وشقيقه شغّال كمكوك على خط الشام. ولا يمكن عائلته أن تنقلب على من وفى معها. ثم رئيس الجمهورية الحالي من الذين ولدوا في الحاضنة السورية، ولو على يد غازي كنعان. حتى إن صورة الدكتور بشار لم تفارق مكتبه في اليرزة، «صمدها» فوقه طيلة ستة أعوام ونيف، حتى بات مرشحاً رئاسياً، فاضطر إلى «ضبّها» مراعاة لبروتوكول الاسترآس، لا لأن أبو عبدو غادر عنجر ومنى الهراوي باتت من متظاهرات 14 آذار، كما تردد ألسنة الظن... لا يمكن الرئيسين أن يركبا الرهانات الفيلتمانية. حتى ولو كان بطل «ساغا» ويكيليكس قد أخضعهما لأكثر من امتحان شفوي وخطي، وربما في المشي بين الألغام والنقاط.
المسألة إذاً أبعد من حسابات شخصين. إنها أقرب إلى مزاج عام لدى أكثر من جماعة. لا يتعلق الأمر بمجرد انتظار من سيربح في حرب تحالف القرضاوي ـــــ العرعور على دمشق، ولا حتى بمراعاة أميركا من قبل رؤساء ومسؤولين وقادة سياسيين وعسكريين لا يزالون يعيشون في عهد أيزنهاور. كأن القضية اللبنانية ذهبت أبعد. كأنها بلغت حدّ إعادة النظر والبحث في «الخيار اللبناني» في حدّ ذاته. كل ذلك على وقع فرمانات السلطان أردوغان، وحلم عودة السلطنة، أو العودة إلى السلطنة. والوباء يبدو متفشّياً في أكثر من شارع وبيئة.
فلدى ناس ميقاتي والحريري، كأن ثمة من أو ما يدغدغ ذاكرة أيام الخلافة. تلك الحقبة التي توقف عندها الثأر «الفقهي»، بعد «جريمة» أتاتورك بإلغائها سنة 1924: يسقط النظام السوري. يحكم «الإخوان» دمشق. فتصير إسطنبول بالنسبة إلى الجارة السورية ـــــ أو إسلام بول، كاسمها الحقيقي المنبثق من غزو القسطنطينية ومسخ آيا صوفيا ـــــ تماماً كما إيران بالنسبة إلى جارتها العراقية. هناك رعاية شيعية. هنا رعاية سنيّة. هناك تهديد الخليج. هنا هيمنة على المشرق. فنعود إلى ما قبل لبنان الكبير، إن لم يكن بالجغرافيا والدساتير، فبالسياسة والتأثير، مع فارق إضافي إيجابي كبير: سلطنة اليوم ليست «الرجل المريض»، بل الشاب المتنامي. وهيئة القناصل لا تترقب وهنها أو تنتظر تركتها والإرث، بل على العكس، ها هم من باريس وبرلين إلى واشنطن، يرعون صعود «الخلافة الجديدة»، ويأملون تعميم نموذجها على مليار مسلم.
وفي المقابل، ناس ميشال سليمان وحلفاؤه الموضوعيون في فريق قريطم المسيحي، لا تنقصهم الأوهام المدغدغة. سقوط لبنان الكبير؟ لمَ لا؟ العودة إذاً إلى زمن «الخيارات الذاتية»، وإلى «الجبل»، أو المتصرفية، أو إلى أي صيغة عملية شبيهة بما كان «لبنان الصغير». ذاك الكيان الذي لا تزال أدبياتهم المكتومة تبكيه، وتردّد قولاً منسوباً إلى مفوض الانتداب الفرنسي، دوكيه، قاله للحويك: كنت كبيراً في لبنان الصغير، لكنك ستصبح صغيراً في لبنان الكبير. وتغزر التبريرات المجنونة في هذا الشارع بشأن ذلك الرهان: هذه هي أربيل. ما الذي صنع استقرارها وازدهارها في ظل العراق المتفجّر؟ وهذا هو جنوب السودان. فما الذي يجعل جبل لبنان مختلفاً؟ حتى تبلغ التبريرات حدّ إمرار التوطين: نُرضي الغرب والسنّة، ونأخذ مقابل أمر واقع أصلاً بضعة آلاف من مسيحيي سوريا الهاربين من نظام الثورة العصرية الحديثة الآتية هناك.
أما لدى ناس وليد جنبلاط، فالصورة متنازعة مترددة، تتجاذبها تجربتان: تجربة فخر الدين الأول الذي انتظر على تلك الهضبة نتيجة معركة مرج دابق، فلما مالت إلى مصلحة السلطان العثماني ترك حليفه قانصوه الغوري وعاد «سلطاناً للبر». وتجربة فخر الدين الثاني الذي قرر أن يترك الباطنية ويواجه الباب العالي، فانتهى الدروز إلى الشتات حتى حوران.
غير صحيح هذا الكلام عن كل أولئك الناس؟ قد تكون مشكلة لبنان الكبرى في منسوب الخبث والنفاق في سياسته وناسه.

جان عزيز - الأخبار 7 أيار 2011

0 تعليقات::

إرسال تعليق