قام الرحالة جون لويس بيركارت برحلة لسوريا والأراضي المقدسة عام 1812 وقد مرّ بمعظم قرى جبل الدروز في سوريا وبعض القرى في الجولان وفي لبنان ودوّن مذكراته في كتاب صدر في تلك الفترة وكان مرجعا أساسيا لعدد كبير من المستشرقين والرحالة والباحثين في شؤون الشرق الأوسط والأقليات في سوريا ولبنان وفلسطين. ويمتاز الكتاب بدقة الوصف والتفاصيل التاريخية والاجتماعية الهامة التي وردت فيه وهو يعطي شهادة واضحة عن الحياة في المناطق التي زارها الرحالة في تلك الفترة. صدرت من الكتاب أكثر من ترجمة عربية وآخرها ترجمة الأستاذ شاهر حسن عبيد التي صدرت عن دار الطليعة الجديدة ودار العوام في سوريا عام 2007. ومنها نستقي بعض التفاصيل الواردة فيه عن الطائفة الدرزية:
قرية عرى:
قرية عرى تُعتبر المقر الثاني لزعماء الدروز وشيخها من أكثر الناس دماثة خلق مما رأيت في المشرق. وقد أدهشني حبه الشديد للمعرفة وخلال المناقشات التي دارت بيني وبينه في زياراتي المتكررة لقرية عرى كان يبدو متلهفا لمعرفة طباع الأوروبيين وأنظمتهم. وقد رجاني ذات يوم أن أدوّن له أحرف الانجليزية واليونانية والألمانية ولفظها المقابل تحت الأحرف العربية. وفي اليوم الثاني أطلعني على النسخة التي كتبها بنفسه. كان رجلا بالغ الكياسة والكرم دون أن يقبل أي ثمن مقابل ذلك. وقد أعجِب بقلميّ الرصاص اللذين كنت أحملهما لكنه رفض أن يقبل أيا منهما حين عرضته عليه وهؤلاء الدروز على غرار الذين رأيتهم في كسروان يعتقدون أن هناك دروزا كثيرين في بريطانيا وهم يؤسسون هذا الاعتقاد على ما يقوله المسيحيون في هذه المناطق من أن البريطانيين ليسوا من أتباع الكنيسة اليونانية ولا الكاثوليكية وبالتالي فهم غير مسيحيين...
الشيخ بشير جنبلاط:
أصبح آل جنبلاط بقيادة الشيخ بشير زعماء مطلقين في كل شيء. والشيخ بشير أغنى رجل في الجبل وأكثرهم سطوة. تمكّنه أملاكه الشخصية الهائلة من التصرف بكل صغيرة وكبيرة . ويبلغ دخله السنوي نحو ألفي كيس من المال أو خمسين ألف جنيه إسترليني. وهو يسيطر على كل قضاء الشوف مع الدروز الملاّكين هناك. وأكثر إقليم جزّين داخل في أراضيه دون السماح لأحد بالتدخل كما أنه يوسّع أملاكه في كل سنة أكثر ويقوّي نفوذه بذلك. والأمير بشير (الشهابي) لا يتصرف بأي شيء دون موافقة الشيخ بشير الذي يقاسمه كل الضرائب المفروضة على أهالي الجبل... ومن الواضح أن العلاقة بين الأمير والشيخ علاقة منسجمة فالشيخ بشير يقوم كل أسبوع بزيارة الأمير ويُستقبل هناك مع رجاله بحفاوة كبيرة وقد رأيته في بيت الدين خلال زيارته للبلدة وقصره الرئيسي في قرية المختارة وأقرب أصدقائه هو الشيخ نجم وهو درزي وأحد شيوخ العقل الدروز المرموقين. والشيخ بشير موصوف بكرمه ونخوته ودفاعه عن الذين يلجأون غليه طلبا للحماية. وعلى العكس منه كما يقول الكثيرون أن الأمير بشير جشع .
والدرزي غيور أشد الغيرة على سمعته في المجتمع وقد يتسامح مع الذين يخطئون بحقه شريطة أن يعتذر الذي ارتكب الخطأ وقد يثور أحدهم ثورة عارمة إذا أهين أمام الناس، ولعل أفضل شمائل الدروز فضيلة هي إكرام الضيف كما يُحذر عليه خيانته وقد تقصيت كثيرا حول هذه المسألة ووصلت إلى قناعة أن أي اعتبار أو خوف لا يجعل الدرزي يتخلى عن مساعدة ضيفه إذا احتمى به ورأيت كثيرين من سوريا جاءوا إلى منطقة الجبل طلبا للحماية. وقد حدث أن الجزار نفسه لم يستطع أن يجبرهم على إعادة رجل هرب من طغيانه واحتمى في الجبل.
الدروز في حوران:
الدروز في منطقة اللحف الذين يقطنون أطراف جبل حوران يُعدّون من الفلاحين في السهول نظرا لأسلوب حياتهم وعلاقاتهم مع الحكومة. وهم يلبسون نفس الثياب التي يرتديها الفلاحون في قرى غرب دمشق وقلما يلبسون الكوفية والرجال لا يسيرون حفاة كفلاحي حوران. والمقر الرئيسي لهؤلاء الدروز كما قلت هي بلدة السويداء وهي مقر الشيخ وإذا مات شيخ القرية فإن أبرز فرد من أسرته من حيث الثراء وقوة الشخصية هو الذي يخلفه. ويوافق الباشا عادة على هذا الاختيار. ومن المعروف أنه عندما سيتوفى الشيخ الحالي (وهبة الحمدان) وهو في الثمانين من عمره سيخلفه الشيخ شبلي الحمدان شيخ عرى هؤلاء الدروز يشكّلون عشائر مستقلة ومتنازعة غالبا ولكنهم لا يقبلون الإهانة ويسعون للانتقام من المعتدين وهم دائما مسلحون ولا يتزوجون بأكثر من امرأة لكنهم يطلقون أحيانا لأتفه الأسباب.
وفي عباداتهم يتشابه الدروز في حوران بالدروز في لبنان وعندهم فئة من رجال الدين يُسمون العقال وهم يتميزون باللفة التي تعمم رؤوسهم وتكون من عدة لفات . وهؤلاء العقال لا يدخنون وهم حذرون في سلوكهم وقد قيل لي إن هذه الأشياء من المحذورات عندهم وهذا ما لمسته فعلا إذ رأيت أطفالا عقالا أعمارهم ثمان سنوات أو عشرة وكانوا أيضا ملتزمين بهذه المحذورات. وهم لا يقبلون النميمة وبعض هؤلاء الأطفال لم يكن آباؤهم عقالا مثلهم ومع ذلك فهم لا يدخنون ولا يشتمون. والشيوخ كلهم عقال وهم يصلون في بيوت عباداتهم عادة ويسمونها خلوات ولا يُسمح لغير العقال دخولها عموما. ويعتقد البعض منهم في هذه المناطق وفي جبال لبنان أن هناك دروزا في بريطانيا.
عندما جئت إلى عرى وجدتُ جمعة من الناس في مضافة الشيخ ولم يُتح للشيخ أن يتحدث معي على انفراد لهذا طلب قلمه ومحبرته وكتب على ورقة أسئلة لأجيب عليها. فأجبت عليها بقدر ما عرفت وأعدت الورقة له. وكانت أسئلته: إلى أين تجري الوديان الخمسة في بلدكم؟ هل تعرف بذرة الليلك وأين تُزرع؟ ما اسم سلطان الصين؟ هل تعرف مدينتي هجر ونجران في اليمن؟ هل مدينة هجر مدمرة ومن الذي هدمها؟ هل سيظهر المهدي أم هو الآخر موجود في هذه الأرض؟
30 نوفمبر 2010
قرية عرى:
قرية عرى تُعتبر المقر الثاني لزعماء الدروز وشيخها من أكثر الناس دماثة خلق مما رأيت في المشرق. وقد أدهشني حبه الشديد للمعرفة وخلال المناقشات التي دارت بيني وبينه في زياراتي المتكررة لقرية عرى كان يبدو متلهفا لمعرفة طباع الأوروبيين وأنظمتهم. وقد رجاني ذات يوم أن أدوّن له أحرف الانجليزية واليونانية والألمانية ولفظها المقابل تحت الأحرف العربية. وفي اليوم الثاني أطلعني على النسخة التي كتبها بنفسه. كان رجلا بالغ الكياسة والكرم دون أن يقبل أي ثمن مقابل ذلك. وقد أعجِب بقلميّ الرصاص اللذين كنت أحملهما لكنه رفض أن يقبل أيا منهما حين عرضته عليه وهؤلاء الدروز على غرار الذين رأيتهم في كسروان يعتقدون أن هناك دروزا كثيرين في بريطانيا وهم يؤسسون هذا الاعتقاد على ما يقوله المسيحيون في هذه المناطق من أن البريطانيين ليسوا من أتباع الكنيسة اليونانية ولا الكاثوليكية وبالتالي فهم غير مسيحيين...
الشيخ بشير جنبلاط:
أصبح آل جنبلاط بقيادة الشيخ بشير زعماء مطلقين في كل شيء. والشيخ بشير أغنى رجل في الجبل وأكثرهم سطوة. تمكّنه أملاكه الشخصية الهائلة من التصرف بكل صغيرة وكبيرة . ويبلغ دخله السنوي نحو ألفي كيس من المال أو خمسين ألف جنيه إسترليني. وهو يسيطر على كل قضاء الشوف مع الدروز الملاّكين هناك. وأكثر إقليم جزّين داخل في أراضيه دون السماح لأحد بالتدخل كما أنه يوسّع أملاكه في كل سنة أكثر ويقوّي نفوذه بذلك. والأمير بشير (الشهابي) لا يتصرف بأي شيء دون موافقة الشيخ بشير الذي يقاسمه كل الضرائب المفروضة على أهالي الجبل... ومن الواضح أن العلاقة بين الأمير والشيخ علاقة منسجمة فالشيخ بشير يقوم كل أسبوع بزيارة الأمير ويُستقبل هناك مع رجاله بحفاوة كبيرة وقد رأيته في بيت الدين خلال زيارته للبلدة وقصره الرئيسي في قرية المختارة وأقرب أصدقائه هو الشيخ نجم وهو درزي وأحد شيوخ العقل الدروز المرموقين. والشيخ بشير موصوف بكرمه ونخوته ودفاعه عن الذين يلجأون غليه طلبا للحماية. وعلى العكس منه كما يقول الكثيرون أن الأمير بشير جشع .
والدرزي غيور أشد الغيرة على سمعته في المجتمع وقد يتسامح مع الذين يخطئون بحقه شريطة أن يعتذر الذي ارتكب الخطأ وقد يثور أحدهم ثورة عارمة إذا أهين أمام الناس، ولعل أفضل شمائل الدروز فضيلة هي إكرام الضيف كما يُحذر عليه خيانته وقد تقصيت كثيرا حول هذه المسألة ووصلت إلى قناعة أن أي اعتبار أو خوف لا يجعل الدرزي يتخلى عن مساعدة ضيفه إذا احتمى به ورأيت كثيرين من سوريا جاءوا إلى منطقة الجبل طلبا للحماية. وقد حدث أن الجزار نفسه لم يستطع أن يجبرهم على إعادة رجل هرب من طغيانه واحتمى في الجبل.
الدروز في حوران:
الدروز في منطقة اللحف الذين يقطنون أطراف جبل حوران يُعدّون من الفلاحين في السهول نظرا لأسلوب حياتهم وعلاقاتهم مع الحكومة. وهم يلبسون نفس الثياب التي يرتديها الفلاحون في قرى غرب دمشق وقلما يلبسون الكوفية والرجال لا يسيرون حفاة كفلاحي حوران. والمقر الرئيسي لهؤلاء الدروز كما قلت هي بلدة السويداء وهي مقر الشيخ وإذا مات شيخ القرية فإن أبرز فرد من أسرته من حيث الثراء وقوة الشخصية هو الذي يخلفه. ويوافق الباشا عادة على هذا الاختيار. ومن المعروف أنه عندما سيتوفى الشيخ الحالي (وهبة الحمدان) وهو في الثمانين من عمره سيخلفه الشيخ شبلي الحمدان شيخ عرى هؤلاء الدروز يشكّلون عشائر مستقلة ومتنازعة غالبا ولكنهم لا يقبلون الإهانة ويسعون للانتقام من المعتدين وهم دائما مسلحون ولا يتزوجون بأكثر من امرأة لكنهم يطلقون أحيانا لأتفه الأسباب.
وفي عباداتهم يتشابه الدروز في حوران بالدروز في لبنان وعندهم فئة من رجال الدين يُسمون العقال وهم يتميزون باللفة التي تعمم رؤوسهم وتكون من عدة لفات . وهؤلاء العقال لا يدخنون وهم حذرون في سلوكهم وقد قيل لي إن هذه الأشياء من المحذورات عندهم وهذا ما لمسته فعلا إذ رأيت أطفالا عقالا أعمارهم ثمان سنوات أو عشرة وكانوا أيضا ملتزمين بهذه المحذورات. وهم لا يقبلون النميمة وبعض هؤلاء الأطفال لم يكن آباؤهم عقالا مثلهم ومع ذلك فهم لا يدخنون ولا يشتمون. والشيوخ كلهم عقال وهم يصلون في بيوت عباداتهم عادة ويسمونها خلوات ولا يُسمح لغير العقال دخولها عموما. ويعتقد البعض منهم في هذه المناطق وفي جبال لبنان أن هناك دروزا في بريطانيا.
عندما جئت إلى عرى وجدتُ جمعة من الناس في مضافة الشيخ ولم يُتح للشيخ أن يتحدث معي على انفراد لهذا طلب قلمه ومحبرته وكتب على ورقة أسئلة لأجيب عليها. فأجبت عليها بقدر ما عرفت وأعدت الورقة له. وكانت أسئلته: إلى أين تجري الوديان الخمسة في بلدكم؟ هل تعرف بذرة الليلك وأين تُزرع؟ ما اسم سلطان الصين؟ هل تعرف مدينتي هجر ونجران في اليمن؟ هل مدينة هجر مدمرة ومن الذي هدمها؟ هل سيظهر المهدي أم هو الآخر موجود في هذه الأرض؟
30 نوفمبر 2010
0 تعليقات::
إرسال تعليق