السبت، 14 مايو 2011

فصولاً من كتاب «سر الرؤساء»: لبنان وسوريا واحتلال العراق

«السفير» تنشر فصولاً من كتاب «سر الرؤساء»: لبنان وسوريا واحتلال العراق (1) 

جريمة اغتيال الحريري كما سجلت في محاضر الإليزيه عبر لقاءات شيراك ـ بوش 


صورة 
بوش وشيراك ... والتأسيس المشترك في النورماندي للحرب ضد سوريا (م. ع. م) 

صورة
الأسد وشيراك أيام «الزمن الجميل» (م. ع. م) 

لم يسبق لأي كاتب أو صحافي أن دس أنفه في بعض محاضر اجتماعات جورج بوش وجاك شيراك حول لبنان، كما فعل الصحافي الفرنسي فانسان نوزيل في كتابه الجديد «سر الرؤساء». الصحافي ريشار لابيفيير في كتابه «التحول الكبير» الصادر في العام 2008، كان قد وضع أسس معرفتنا القريبة لكواليس القرار 1559، فوق أرضية المصالحة بين جاك شيراك وجورج بوش بعد خلافهما حول العراق. والأرجح أن لابيفيير كان أكثر غنى في التحليل وربط الأحداث، وعرض التفاصيل التي قادت إلى تحويل صيف 2004 موعدا أميركياً فرنسياً مشتركا «للانتقام «من الرئيس بشار الأسد لعدم تعاونه مع الرئيس بوش في تسهيل احتلال أميركا للعراق وإغلاق طرق القاعدة العابرة إلى المثلث السني عبر سوريا، أو رفضه طلبات الرئيس شيراك، الارتقاء بصديقه الشخصي الرئيس رفيق الحريري، في لبنان، إلى الشراكة. 


لكن «سر الرؤساء» يعزز معرفتنا بتلك الفترة، بما قيض «لنوزيل» الاطلاع عليه من أرشيف الإليزيه، ومحاضر اللقاءات الأميركية الفرنسية، والملاحظات على المفكرات الخاصة للرئيس شيراك. وهي رزمة من المعلومات حصل عليها، في سياق الفصول التي خصصها للبنان، من موريس غوردو مونتاني، المستشار الدبلوماسي للرئيس جاك شيراك. 

ويمكن الاكتفاء بالتنافس التقليدي للهيمنة على لبنان تفسيراً للدوافع الأميركية والفرنسية. كما من الممكن لمن شاء أن يعيب على الكتاب تجاهله المقدمات التي قادت إلى انقلاب الرئيس شيراك على سوريا، وتقاربه مع الرئيس الأميركي جورج بوش. وباستطاعته أن يسقط من الحساب المقدمات: يأس الرئيس الفرنسي وحليفه اللبناني من تسهيل تفرده بعمليات توزيع مؤتمري باريس واحد واثنين، من دون تدخل دمشق أو حلفائها. وهي الوجهة التي تبناها كتاب «شيراك العرب» لكريستوف بولتنسكي وآشيرمان عن المرحلة نفسها. 
وباستطاعة المرء أن يلاحظ سبق الرئيس شيراك إلى بلورة مفهوم «الهلال» أو «القوس الشيعي»، قبل أن يطفو على السطح النووي الإيراني في العام 2004، وكان الرئيس الفرنسي يستخدمه في لقاءاته ببوش وكوندليسا رايس لضمهما إلى الحملة من أجل القرار 1559. ومن نافل القول إن سقوطه في مسامعنا بصوت الملك عبد الله الثاني الأردني بعد حرب تموز 2006 ما كان سوى صدى لهواجس الرئيس الفرنسي المبكرة، وانعكاس لتجربته الشخصية وعلاقاته القوية مع حكام الخليج وصدام حسين في العراق. وكان قبل ذلك، الخوف من «وقوع» العراق بيد الشيعة، أحد أسباب معارضته لحرب العراق، كما يعرض الكاتب. 
اعتقد الرئيس الفرنسي جاك شيراك، لوقت طويل، أن الرئيس السوري الشاب، بشار الأسد، الذي كان قد استقبله في الإليزيه قبل توليه السلطة، نصير لإجراء إصلاحات رفضها والده العنيد، ورفض القبول بها حتى وفاته في حزيران 2000. 
عندما خلف بشار والده، اعتقد شيراك أنه «سيكون وصياً عليه»، يشرح مستشار سابق في الإليزيه، و«اجتهد كثيرا لمساعدته، وحاول إقناعه بتليين مواقفه. ونجح بالحصول على تأييد سوريا قرار الأمم المتحدة إعادة المفتشين إلى العراق في تشرين الثاني 2002». 
تملك سوريا، بنظر الإليزيه، ورقة بناءة يمكنها أن تلعبها في المنطقة بعد سقوط صدام حسين: بإمكانها أن تساهم في استقراره، والتخفيف من هيمنتها على لبنان، والتفاوض مع إسرائيل حول اتفاق سلام. 
ولهذه الغاية، أوفد شيراك سراً مطلع تشرين الثاني 2003، مستشاره الدبلوماسي موريس غوردو مونتاني، لرصد نيات الرئيس السوري. الموفد كان مكلفا بالمهمة أيضا من قبل المستشار الألماني غيرهار شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اللذين تشاورا مع شيراك ومستشاره. المقابلة بين غوردو مونتاني وبشار الأسد دامت أكثر من ساعتين، في صبيحة العاشر من تشرين الثاني. 
«لقد تغير العالم حولكم»، قال الفرنسي. «نحترم سيادتكم، وقد بذل رئيس الجمهورية كل ما بوسعه لضمكم إلى المشهد الدولي، وهو مستعد للمتابعة. نحن بحاجة إليكم من أجل التوازن في المنطقة. فلتتخذوا مبادرة، من أي نوع كان، ونحن ندرسها، وندعمكم بإرسال وزراء خارجية فرنسا وروسيا وألمانيا». 
كان بشار الأسد يصغي بانتباه، لكنه كان متوترا ومرتابا: «هل تحمل رسالة من الأميركيين؟». 
«لا»، أجاب غوردو مونتاني. «إني لا أحدثك باسم الأميركيين، لكن باسم قادة الدول الثلاث وحكوماتها». 
لم ينتهز الرئيس السوري الفرصة المتاحة، وخاض في مطولة هجائية للأميركيين، الذين يشتبه في سعيهم لإسقاطه. الموفد غادر من دون الحصول على أي إشارة بالانفتاح الموعود. وواصل جولته على العربية السعودية للقاء ولي العهد عبد الله، ثم لبنان ليلتقي رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني. كان الوزراء المقربون من سوريا يسيطرون على حكومته، والمقربون من الأسد يمسكون بكل الخيوط في بيروت. 
الرئيس الفرنسي المصاب بخيبة كبيرة، ازدادت قناعته تدريجا، بأن نظام دمشق سيبقى عصيا، إلا إذا ضاعف من الضغوط. والحال أن واشنطن كانت هي أيضا قد أصبحت على موجة باريس نفسها. 
الرئيس السوري وانزعاج واشنطن 
كان غضب البيت الأبيض يزداد يوميا، ضد سوريا التي وضعها بعض «المحافظين الجدد» في «محور الشر». ولم تتوقف لائحة المآخذ عن التطاول خلال العام 2003. 
وبحسب وكالات المخابرات الأميركية، منحت دمشق اللجوء لمسؤولين عراقيين بعد سقوط بغداد. والإنذارات الموجهة إليها لم تلق أذنا مصغية. من جهة أخرى، كان العشرات من المقاتلين القادمين من موريتانيا والسودان واليمن، يعبرون سوريا إلى العراق لإشعال الحرب المقدسة ضد الأميركيين. وكان تراخي السلطات السورية، في المناطق الحدودية، أكثر ما يزعج إدارة الرئيس بوش. 
أحد مسؤولي الخارجية الأميركية، دافيد ساترفيلد، صرح عن هذا الانزعاج لدبلوماسيين فرنسيين خلال لقاء مطول كُرس لسوريا، في الرابع عشر من تشرين الثاني 2003: «إن خلايا القاعدة تعبر الأراضي السورية، بدون أن يمنعها النظام السوري، لكنه يعرف أن مخابراتنا تحيط بكل ما يجري». 
موضوع خلاف آخر، اقل بروزا، كان يثير أعصاب الأميركيين: السوريون افرغوا من دون أدنى معاناة ضميرية الحسابات العراقية في مصارفهم! إن قرارا من الأمم المتحدة كان يلزم نظريا الدول التي أودعت لديها هذه الأموال، أن تقوم بتحويلها إلى صندوق لتطوير العراق، مكلف بإعادة بنائه. وبرغم بذلهم عناء الدنيا كلها، لم يستطع الخبراء الأميركيون الحصول من دمشق على المعلومات بشأن هذه الحسابات. وبحسب دافيد ساترفيلد، فقد أطهرت دراسة حسابية حديثة جدا أن 85 في المئة من هذه المبالغ تبخرت خلال أشهر، وانخفضت من ملياري دولار إلى 266 مليون دولار. 
«تركت السلطات السورية لدائنين صغار، أن يستوفوا من هذه الحسابات ديونهم بأنفسهم، باستثناء الشركة الوطنية للنفط»، يشرح ساترفيلد. وبطريقة أخرى، فإن أفرادا معينين أثروا بطريقة غير مشروعة من خلال استيلائهم على ما يقارب ملياري دولار. في 12 تشرين الثاني 2003 وجه كل من المصرف المركزي العراقي، والخزانة الأميركية، تبليغا لسوريا للحصول على ما بقي من الأموال، لكن من دون نتيجة مؤكدة. 
إلى هذه المواضيع المثيرة للغضب، يضاف دعم دمشق «حزبَ الله»، والفصائل الفلسطينية الراديكالية، كحماس والجهاد الإسلامي، أعداء إسرائيل حتى الموت. «من المؤكد أن السلطات السورية لم تكن على علم بالعمليات الإرهابية، لكنها كانت تسهر على أمن هذه العمليات بالقول لمنفذيها: انتبهوا، فإن الأميركيين يراقبونكم»، بهذا باح دافيد ساترفيلد للفرنسيين. 
وفي النهاية، استشاطت واشنطن غضبا من غياب التعاون السوري في مكافحة الشبكات السلفية للقاعدة. «بعد الحادي عشر من أيلول مباشرة، كان تعاونهم مُرضيا، بل مثمرا، خلال عام، ثم تضاءل تدريجا، ليصل إلى حد الصفر منذ ستة أشهر». 
أرسل البيت الأبيض إشارات عدة إلى الرئيس السوري، تعبر عن عدم رضاه، لكن من دون نتائج. «قل لبشار الأسد إنني أحادي شرير»، بذلك توجه بوش لشيراك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2003. وإذا كان الأسد لا يثق بالأميركيين، وهذا ما كرره لغوردو مونتاني ولدبلوماسيين آخرين قابلوه، إلا أنه حاول التفاوض معهم بطريقة غير رسمية، عبر عماد الحاج، رجل الأعمال اللبناني الأميركي. 
علق دافيد ساترفيلد على ذلك «الأسد يماطل ويحاول الظهور بمظهر المحاور الجيد مع واشنطن. لكنه يعرف تماما، المطالب التي يجب أن يلبيها. لا نحتاج إلى قنوات موازية، ولا نلعب هذه اللعبة». 
إن تصلب الإدارة الأميركية سينعكس في تقييمها للرئيس السوري من الآن فصاعدا. وتدريجا سيغدو الأسد أقل قابلية للتعامل معه: «في الحقيقة يتصرف الأسد كنيو ناصري، ويحاول التموضع كبطل العالم العربي، وقد جذب الشباب إليه في الشرق الأوسط. لكن في المحصلة النهائية، غدت علاقاته كريهة مع جيرانه». 
من جهته، قام مجلس الشيوخ الأميركي بتبني عقوبات اقتصادية ضد النظام السوري المتهم بدعم الإرهاب والإبقاء على وجود عسكري في لبنان: «إن تدهور العلاقات السورية الأميركية، قد عبر عتبة جديدة بعد التصويت في مجلس الشيوخ، والمشكلة لدى الإدارة الأميركية، أنها شيطنت النظام الحاكم في دمشق، ولم تعد قادرة على وضع سياسة شاملة وديناميكية تتسع للمواءمة بين العصا والجزرة: وبما أنها لم تعد تملك ما تعرضه على دمشق، فقد توقفت عن الاستجابة والرد على الأحداث». 
التحضير في الخفاء لقرار من مجلس الأمن 
التصعيد هذه المرة لم يكن عسكريا. لكن الحملة الدبلوماسية شقت طريقها وانتظمت. وخلال الأشهر الأولى من 2004، اظهر الإليزيه عن طريق لمسات صغيرة رغبته بالتقارب مع واشنطن من خلال الاتفاق على الملف السوري اللبناني. اللحظة كانت مؤاتية: وما دام الأميركيون يحرصون على تنفيذ فكرتهم لدمقرطة الشرق الأوسط، فليكن، ولنختبر التزامهم بالفكرة في لبنان، حيث لا يزال لفرنسا بعض التأثير. 
جاك شيراك عرض هذه الفكرة، خلال لقاء مع بعض الشيوخ الأميركيين في آذار 2004. 
سألوه رأيه في «الشرق الأوسط الكبير»، فأجاب: «لنكن واقعيين. لن نتقدم في الديموقراطية، إلا إذا بدأنا بدعمها حيث توجد، ولو بطريقة غير كاملة كلبنان. ينبغي إذاً، أن نساعد هذا البلد على التخلص من الوصاية السورية». 
جاك شيراك سيكرر هذه اللازمة، خلال عشاء في الإليزيه مع جورج بوش في الخامس من حزيران 2004: «ستكون هناك انتخابات رئاسية في لبنان في شهر تشرين الأول، إنها فرصة من أجل انطلاقة جديدة للبنان، شرط ألا يؤخذ الرئيس الجديد في طوق سوري. سيحاول السوريون إعادة انتخاب الرئيس الحالي إميل لحود، عن طريق تعديل الدستور. لقد سجلنا باهتمام تصريحات كولن باول، وكوندليسا رايس حول ضرورة إجراء انتخابات خالية من أي تدخل أجنبي، كما سجلنا تبني الولايات المتحدة عقوبات، مشروطا رفعها بانسحاب سوريا من لبنان... فلنعمل معا». 
«لمَ لا»، أجاب بوش على الفور. 
كوندليسا رايس وعدت بأن تتشاور، بسرعة، مع نظيرها موريس غوردو مونتاني، الاتصالات الأسبوعية بينهما تكثفت. ورويدا رويدا بدأ محور باريس ـ واشنطن يتشكل ويظهر إلى العلن، بفضل هذه العقدة اللبنانية السرية، وبفضل هذا الملف بالتحديد. «بما أننا كنا على خلاف في العراق، كان من الأفضل أن نحاول التركيز على شيء آخر، ونعمل فيه معا. كان لبنان مناسبا لنا بامتياز»، كما يتذكر هوارد ليتش السفير الأميركي الأسبق في باريس. 
لم يكن جاك شيراك يرغب بالصراخ فوق السطوح: إنه يسعى، بأي ثمن، إلى إعادة وصل ما انقطع مع جورج بوش، خصوصا أن شعبية هذا الأخير في فرنسا كانت في الحضيض. 
لكن، بما أنه لم يصغ إليه في العراق، أو في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فقد عثر في لبنان على عنوان للمصالحة، يعيده إلى واجهة الأحداث. صديقه رفيق الحريري كان سعيدا بذلك. 
الخطوات التطبيقية بدأت صيف 2004. في بيروت، تولى تنسيقها السفيران، فيليب لوكورتييه، الفرنسي، والأميركي الواصل حديثا من بغداد، جيفري فيلتمان. من جهتهما، باشر سفيرا فرنسا في الأمم المتحدة وواشنطن، الإعداد مع الأميركيين، لمشروع قرار يطرح على مجلس الأمن. القرار كان يطالب بانتخابات حرة، وانسحاب القوات السورية بأسرع وقت ممكن. موفد شيراك التقى كوندليسا رايس ومسؤولين آخرين في 19 و20 آب 2004، قبل أن يتجه إلى سردينيا، المقر الصيفي لرفيق الحريري. جرت قراءة مشروع القرار مرات عدة، بتمعن، على متن يخت رئيس الوزراء اللبناني، الذي لم يكن لشيء أن يهدئ من غضبه من السوريين. وحدث ما كان يخشاه شيراك. قام السوريون بتعديل الدستور اللبناني، وسمحوا لحليفهم إميل لحود بالتمديد ولاية جديدة لمدة ثلاثة أعوام. 
رئيس الوزراء الحريري، الذي استدعي إلى دمشق في 26 آب، كان عليه أن يواجه بشار الأسد الغاضب: «لحود هو أنا»(...) 
المشاورات الأخيرة حول القرار الفرنسي، جرت نهاية آب 2004. وتبادل الدبلوماسيون الفرنسيون والأميركيون في الأمم المتحدة مسوداتهم. موريس غوردو مونتاني على تواصل مباشر مع اللبنانيين، وبطريقة غير مباشرة مع وزير الخارجية السوري، الذي كان يمرر رسائله عبر الإسبان. التعديلات الأخيرة، قدمها مستشار شيراك إلى كوندليسا رايس، وذهب باتصالاته الهاتفية المتتالية، إلى حد أن يقتحم عليها الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري في ماديسون سكوير غاردن، في نيويورك. في الثاني من أيلول تبنى مجلس الأمن القرار 1559 بأكثرية تسعة أصوات، وامتناع ستة من بينها: روسيا، والصين والجزائر. 
«1559»، صفعة حقيقية لسوريا، إذ يطالبها النص بسحب جميع القوات الأجنبية المسلحة، وحل الميليشيات، وإجراء انتخابات رئاسية حرة وفق القواعد الدستورية اللبنانية من دون أي تدخل خارجي. ومن دون أي اعتبار أو حساب لما حدث، نجح بشار الأسد في الغد، بفرض تمديد ولاية الرئيس لحود. لم يكن ليتوقع إنذارا عالميا مشابها، أو أن ينعقد ضده حلف فرنسي أميركي، غير منتظر بعد الخلاف في حرب العراق. ورأى في ذلك استفزازا من قبل الحريري، وخيانة من جاك شيراك، وتحديا من جورج بوش. باختصار، كان ذلك إعلان حرب. 
هدايا صغيرة للدكتورة رايس 
ازداد التوتر في لبنان: في 2 تشرين الأول تعرض لمحاولة اغتيال وزير الاقتصاد السابق مروان حمادة، الذي اقترع ضد التمديد. في 21 استقال رفيق الحريري، وبدأ بتوحيد المعارضة في وجه مؤيدي سوريا في لبنان. ولتأييد صديقه اللبناني، بطريقة عمياء، أوفد جاك شيراك احد مستشاريه في الاليزيه، برنار إيمييه إلى بيروت، كسفير جديد. وكان على هذا أن يبقي عينه على القدر السياسي اللبناني الذي يغلي، بالتنسيق الكامل مع نظيره الأميركي. وضاعف شيراك من نصائحه لتيري رود لارسن، المكلف بمراقبة تنفيذ 1559. 
وأكثر فأكثر، كان يدلل جورج بوش، لرعاية براعم التلاقي الفرنسي الأميركي الهش، الذي بدأت نتائجه الأولى تلوح في الأفق. واستغل فرصة فوزه في الانتخابات الرئاسية 2004، لمهاتفته في التاسع من تشرين الثاني: «أجدد لك تهاني». 
«أشكرك»، أجاب بوش، «أجدد لك تمنياتي بالعمل معا في مواضيع تخدم مصالحنا المشتركة. بيننا الكثير من الخلافات، لكن عندما نعمل معا، لا تتأخر النتائج». 
في الثامن من شباط أوفد الرئيس بوش كوندليسا رايس للقاء شيراك. والملف الرئيسي: لبنان! 
منذ بداية اللقاء، لم يهتم الرئيس شيراك باختيار عباراته «الأقلية العلوية تقود سوريا بيد من حديد، منذ الحرب الباردة، وبوسائل مستمدة من الحكم السوفياتي. لقد حل مكان حافظ الأسد ابن لا يملك لا خبرته ولا ذكاءه. وهو حجر الزاوية في نظام سينهار من دونه، لكن القادة السوريين الحاليين لا يعرفون إلى أي اتجاه يجب أن يتجهوا، لذلك تتعثر حركتهم». 
ويضرب لها مثالا الاستقبال الذي لقيه تيري رود لارسن في دمشق: حار من قبل بعض القادة السوريين، ومهين من جانب متطرفي النظام. وبحسب شيراك، فإن نزوع النظام إلى التصلب يبدو بوضوح على حدوده مع العراق، حيث يستمر عبور مقاتلي القاعدة، كما يتواصل الدعم المالي للفصائل الفلسطينية الإرهابية، رغم النفي الرسمي. «في لبنان، أضاف شيراك، الاتجاه السوري ينحو إلى التصلب، لأن دمشق مصممة على عدم التغيير، سواء في ما يتعلق بمخابراتها، أو بجيشها. وستحاول أن تؤثر على الانتخابات عبر قانون انتخابي مفصل وفق رغباتها، وعبر الضغوط ومحاولة زرع الفرقة في صفوف المعارضة حيث يتواجد دروز وسنة، لا يجب أن ندعهم يخنقون الديموقراطية العربية الوحيدة المتجذرة». 
كان شيراك مصمما: «تجب مواصلة الضغوط، إن القرار 1559 سدد ضربة قوية لدمشق، أن تيري رود لارسن محترف، ويتمتع بخبرة جيدة بالرجال والملفات. ويجدر الانتباه لشيئين: الأول لا يجب الخلط بين الديموقراطية في لبنان، وعملية السلام، وإلا أضفنا إلى أوراق دمشق ورقة أخرى. ينبغي دعم الديموقراطية في لبنان من اجل الديموقراطية وحدها ومن اجل لبنان. 
والشيء الثاني، يجب التهديد بفرض عقوبات مالية قادرة على ضرب نظام الرشوة القائم بين دمشق وبيروت». 
كان شيراك يحض الولايات المتحدة على الذهاب أبعد مما تبتغي، وكان لذلك يحاول أن يجر خلفه الأوروبيين. 
رايس المستمعة بانتباه عبرت عن «اتفاقها الكامل» مع توصيتي شيراك. لكنه عاد إلى الإصرار على «وجوب التذكير كلما سنحت الفرصة، بالقرار 1559 والمطالبة بتطبيقه، إن من شأنه أن يوهن عزيمة المتصلبين في دمشق، ويعين المعتدلين على ضرورة تغيير الاتجاه المتبع. ليس من مصلحتنا على الإطلاق أن نرى قوسا شيعيا في الشرق الأوسط، من إيران إلى حزب الله فالعراق وسوريا». 
هذه الجملة الأخيرة تلخص جوهر قلق شيراك، وقد جرى التعبير عنه في مناسبات عدة، خلال إرهاصات الحرب في العراق: كان على الدوام يخشى من سيطرة الشيعة، والأسد حليفهم. وهو يفضل السنة، من صدام حسين إلى رفيق الحريري. 
الرئيس الفرنسي هنأ نفسه على تعزيز التعاون الفرنسي الأميركي بفضل هذا الملف اللبناني السوري. وبديهي أن لكل منهما أولويته. أولوية باريس: سيادة لبنان، لواشنطن الأولوية هي الحصول على دعم سوريا في الحرب على الإرهاب في العراق. لكن دمشق نقطة الالتقاء، ونظامها في مرمى باريس وواشنطن. بعد هذا اللقاء مع كوندليسا رايس، خطط شيراك لعشاء مع جورج بوش، في 21 شباط 2005 على هامش قمة أوروبا الولايات المتحدة. 
أحداث درامية أخرى كانت ستتكفل بقلب أجندة مواعيده رأسا على عقب.

محمد بلوط – باريس: السفير 08 نوفمبر 2010


«السفير» تنشر فصولاً من كتاب «سر الرؤساء»: لبنان وسوريا واحتلال العراق (2) 

بوش يصادق على خطة شيراك: «صدم سوريا ليس مباشرة.. سنمر إليها من لبنان»
 

صورة 
لارسن 

صورة
فيلتمان

صورة
إيمييه 

لم يسبق لأي كاتب أو صحافي أن دس أنفه في بعض محاضر اجتماعات جورج بوش وجاك شيراك حول لبنان، كما فعل الصحافي الفرنسي فانسان نوزيل في كتابه الجديد «سر الرؤساء». الصحافي ريشار لابيفيير في كتابه «التحول الكبير» الصادر في العام 2008، كان قد وضع أسس معرفتنا القريبة لكواليس القرار 1559، فوق أرضية المصالحة بين جاك شيراك وجورج بوش بعد خلافهما حول العراق. والأرجح أن لابيفيير كان أكثر غنى في التحليل وربط الأحداث، وعرض التفاصيل التي قادت إلى تحويل صيف 2004 موعدا أميركياً فرنسياً مشتركا «للانتقام «من الرئيس بشار الأسد لعدم تعاونه مع الرئيس بوش في تسهيل احتلال أميركا للعراق وإغلاق طرق القاعدة العابرة إلى المثلث السني عبر سوريا، أو رفضه طلبات الرئيس شيراك، الارتقاء بصديقه الشخصي الرئيس رفيق الحريري، في لبنان، إلى الشراكة. 
لكن «سر الرؤساء» يعزز معرفتنا بتلك الفترة، بما قيض «لنوزيل» الاطلاع عليه من أرشيف الإليزيه، ومحاضر اللقاءات الأميركية الفرنسية، والملاحظات على المفكرات الخاصة للرئيس شيراك. وهي رزمة من المعلومات حصل عليها، في سياق الفصول التي خصصها للبنان، من موريس غوردو مونتاني، المستشار الدبلوماسي للرئيس جاك شيراك. 

ويمكن الاكتفاء بالتنافس التقليدي للهيمنة على لبنان تفسيراً للدوافع الأميركية والفرنسية. كما من الممكن لمن شاء أن يعيب على الكتاب تجاهله المقدمات التي قادت إلى انقلاب الرئيس شيراك على سوريا، وتقاربه مع الرئيس الأميركي جورج بوش. وباستطاعته أن يسقط من الحساب المقدمات: يأس الرئيس الفرنسي وحليفه اللبناني من تسهيل تفرده بعمليات توزيع مؤتمري باريس واحد واثنين، من دون تدخل دمشق أو حلفائها. وهي الوجهة التي تبناها كتاب «شيراك العرب» لكريستوف بولتنسكي وآشيرمان عن المرحلة نفسها. 
وباستطاعة المرء أن يلاحظ سبق الرئيس شيراك إلى بلورة مفهوم «الهلال» أو «القوس الشيعي»، قبل أن يطفو على السطح النووي الإيراني في العام 2004، وكان الرئيس الفرنسي يستخدمه في لقاءاته ببوش وكوندليسا رايس لضمهما إلى الحملة من أجل القرار 1559. ومن نافل القول إن سقوطه في مسامعنا بصوت الملك عبد الله الثاني الأردني بعد حرب تموز 2006 ما كان سوى صدى لهواجس الرئيس الفرنسي المبكرة، وانعكاس لتجربته الشخصية وعلاقاته القوية مع حكام الخليج وصدام حسين في العراق. وكان قبل ذلك، الخوف من «وقوع» العراق بيد الشيعة، أحد أسباب معارضته لحرب العراق، كما يعرض الكاتب. 
سنجبر سوريا على الانصياع لمطالبنا 
الاثنين في الرابع عشر من شباط 2005، الثانية عشرة وخمسا (وخمسين) دقيقة، مزقت شاحنة بيضاء محملة بطن من المتفجرات، موكب السيارات التي كانت تقل رفيق الحريري، وهو يعبر الكورنيش وسط بيروت. الانفجار قتل 23 شخصا من بينهم رئيس الوزراء، وأحدث حفرة هائلة في الإسفلت. ورغم كل الاحتياطات الأمنية لحمايته، وصل القتلة إلى الحريري، ونجحوا بتصفيته. 
في الإليزيه جاك شيراك مذهول تحت الصدمة. وقد ذهب بنفسه لإبلاغ نازك الحريري بالخبر السيئ. بعدها مباشرة، قرر الذهاب إلى بيروت لتقديم التعازي لعائلات الضحايا. بعد يومين، في بيروت أدان «الجريمة البشعة، الآتية من زمن ولى». عشرات الآلاف من المتظاهرين يصرخون غضبهم ضد سوريا. المعارضة طالبت بتحقيق دولي، داعية إلى انتفاضة سلمية وديموقراطية من أجل استقلال لبنان. شيراك متأثر إلى حد سالت معه دموعه. إنّـ«هم» قتلوا صديقه. إنّـ«هم» تجرأوا على قتله. في خاطره لا مكان لأي شك: المحرضون على ارتكاب هذه الجريمة المذهلة «هم» في دمشق. الحريري كان على علم بأنه مهدد. وكان مزعجاً للسوريين. «مستفيداً من دعم الغربيين الواسع، كان الحريري يهدد بالتحول إلى زعيم شعبي أبعد من لبنان»، بحسب خبير في الكي دورسيه، «الحريري السني مثل 90 في المئة من السوريين الذين تحكمهم أقلية علوية يقودها الأسد، كان يمثل لنظام دمشق، خطراً يتصاعد يوما بعد يوم». 
في بيروت وخلال عشاء في 18 شباط، تقاسم السفير الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار إيمييه، «الحدس نفسه»، بمسؤولية السوريين عن الهجوم. بعد هذا اللقاء، بعث السفير الفرنسي، ببرقية إلى الاليزيه، والكي دورسيه «إن التورط السوري في العملية، على أعلى المستويات، تبقى الفرضية (الطبيعية) مع، أو ربما من دون المساهمة المباشرة للأجهزة الأمنية اللبنانية». الرئيس المصري حسني مبارك، هاتف مرات عدة الرئيس شيراك، يعتقد هو أيضا أن الهجوم يحمل توقيع السوريين. 
في واشنطن مساعد وزير الدفاع، بول وولفوفيتز، ساند هذه الفرضية. وخلال لقائه في السابع عشر من شباط، السفير الفرنسي في واشنطن، جان دافيد ليفيت، أسر إليه الشخص الثاني في البنتاغون، بأنه لا يخالجه أدنى شك بدور سوريا في اغتيال الحريري: «إنه تعبير عن ضعف وخوف»، من قبل نظام دمشق، الذي يبحث بالترهيب، عن إحكام قبضته، على لبنان. وولفوفيتز، المحافظ الجديد المتصلب، والمناوئ لباريس في الماضي القريب، سيغدو من تلك اللحظة فصاعدا، منفتحا على تعاون فرنسي أميركي على كل الجبهات، سواء في العراق أو إيران، أو لبنان «يجب أن نكون معا على رأس جهد دولي لمساعدة لبنان، إما في الأمم المتحدة، وإما في الجامعة العربية، والتفكير في الإجراءات الإضافية التي ينبغي اتخاذها»، قال الأميركي لليفيت. 
شيراك يتهم الأسد مباشرة 
من المنطقي أن يستأثر اغتيال الحريري بالعشاء الذي جمع الرئيس شيراك بالرئيس بوش، في الحادي والعشرين من شباط، في منزل السفير الأميركي في بروكسيل. وبناء على طلب الفرنسي، كرس الجزء الأول من اللقاء قبل العشاء، للحديث عما جرى في بيروت. بعدها نشرا بيانا مشتركا دعا إلى كشف الحقيقة في «هذا العمل الإرهابي» وتطبيق القرار 1559بكل أبعاده. لكن الرئيس الفرنسي كان المتحدث الوحيد خلال اللقاء المغلق. كان يستشيط غضبا، لم يتوقف عن الكلام، ويريد الثأر لصديقه الحريري. 
قبل اللقاء قرأ شيراك البرقيات التي أرسلها سفيره في لبنان. برنار إيمييه اقترح توزيع الأدوار. للأميركيين الأقل انكشافا وظهورا في بيروت دور «الشرطي الشرير» ضد سوريا: «الأميركيون المتحصنون في مبنى سفارتهم، والذين لا يملكون أي مصالح في لبنان، لن يلقوا صعوبة كبيرة، في لعب دور الشرطي الشرير، وإتباع سياسة عقابية، أما نحن فبوسعنا عندئذ، أن نزودهم بأفكار واقتراحات بعقوبات إضافية، ومالية خاصة، تستهدف أسس ومفاصل النظام السياسي الأمني المافيوي اللبناني السوري. علينا أن نتوقف عند عتبة العمل على تغيير النظام السوري: الخيار الذي يحظى بتفضيل متزايد في واشنطن». 
الأولوية هي لاستعادة سيادة لبنان بمعاقبة سوريا، وليس بقلب نظام الأسد مباشرة. على البطاقات التي دون عليها شيراك أفكاره التحضيرية إلى اللقاء، خط بالحبر الأحمر مرات عدة: «الأهم هو إطلاق لجنة تحقيق دولية، لتحديد الجناة والمحرضين». 
سجل أيضا خوف جميع قادة المعارضة اللبنانية من التعرض للقتل «الواحد تلو الآخر»، و«ضعف وهشاشة فرنسا في لبنان». على صفحة أخرى كتب بالأحمر والأسود: «إنه بهزيمة هذا النظام في لبنان، نستطيع أن نصيبه في المقتل، إن هذه العملية قد ابتدأت». وهكذا قام بتحضير جملة تفصح بقوة عما كان يجول في نفسه، في تلك اللحظة: «لن نجبر سوريا على القيام بما نريده مكرهة، إلا بتخويفها، وإيقاع الأذى بها». بذلك تم تحديد طريقة التعامل. 
أصغى بوش إلى شيراك من دون أن يقاطعه: «ما كان للهجوم ضد رفيق الحريري أن يتم إلا على أيدي أجهزة مخابرات مجربة ومنظمة. ومن يعرف طريقة عمل النظام في دمشق، فليس لديه الشك: القرار بالعملية اتخذه الرئيس الأسد، وأي فرضية أخرى لا معنى لها». 
بعد هذا الاتهام الصدمة، الذي قدمه شيراك من دون أي تحقيق، استعاد حججه المجربة: «يجب أن نكون حازمين. لا يمكن أن نقول إننا نتمنى الديموقراطية، وأن نترك في الوقت نفسه، الأيدي تخنق البلد الوحيد الذي استوطنت فيه الديموقراطية في الشرق الأوسط. يجب أن نرد، لكن بذكاء، وعلينا أن نتجنب مجابهة سوريا وجها لوجه، لأنها ستحتمي، بنجاح، بالتضامن العربي. إن هدفنا هو تحرير لبنان من الهيمنة السورية، لأن سوريا تتعيّش من استغلال لبنان، عبر شبكة فساد منظمة من القمة. إن الأقلية العلوية تشكل آخر الأنظمة الستالينية، ولبنان كعب أخيل سوريا». 
بوش صادق على مطالعة شيراك: «إني موافق على عدم صدم سوريا في جبهتها، وعلى أي حال لم نفكر بمهاجمتها بهذه الطريقة، لكني سأتبعك، سنمر إليها من لبنان، لكن كيف يمكن لنا أن نحقق هدفنا؟». 
في هذه اللحظة شرح الرئيس الفرنسي خطته، التي طبخها في الأيام الأخيرة: «نحتاج إلى لجنة تحقق في عملية الاغتيال، يجب أن تكون قوية ومدعومة من الأسرة الدولية، لأن إدخالها في المشهد اللبناني سيساعد المعارضة. هناك حركة شعبية كبيرة اليوم، لكن قادتها يخشون اغتيالهم. وبعضهم سيُقتل من دون أدنى شك. وبعد ذلك، يجب ألا نخلط بين الملف السوري اللبناني، والعملية السلمية في الشرق الأوسط. وإلا فسنفقد الشيعة، الذين سيلتحقون بالعلويين. لقد تذرعت سوريا على الدوام بتأخر عملية السلام، كي ترفض القيام بأي تحرك في لبنان». 
«سأوصل الرسالة إلى القادة الإسرائيليين»، أجاب بوش، لكن «هل هناك أي خطر من عودة الحرب الأهلية إلى لبنان، في حال انسحاب القوات السورية؟». «إن الأوضاع الحالية تختلف عما كانت عليه قبل 15 عاما، وبأي حال فإن المخابرات السورية أخطر بكثير من القوات الإسرائيلية. إن مراقبة انسحابها ممكن لأنها تنتشر في كل مكان». 
تابع الرئيس الفرنسي كلامه، مكررا ضرورة المطالبة بتطبيق القرار 1559 قائلا بكل ثقة «سيكون ذلك مميتا للنظام السوري». وإذا لم يطبق القرار فيجب أن نقول «إن الانتخابات لن تكون ديموقراطية ولا حرة»، ويجب أن نعود إلى مجلس الأمن «لتقرير عقوبات». لكن «من دون انتظار ينبغي أن ندرس احتمالات فرض عقوبات مالية مباشرة وغير مباشرة. إن النظام السوري بأكمله، ومن القمة، يستند إلى نهب لبنان». 
إن خطة شيراك هائجة، قاسية، تتغذى من أحقاد لا حد لها تجاه الأسد. صداقته الماضية مع الحريري، تشوش رؤيته وأحكامه: كان يعتقد بقوة أن نظام دمشق، سينهار بنفسه بمجرد انسحابه من لبنان. في مواجهته بوش، شديد التأثر والإعجاب والاقتناع. سوريا ليست العراق. وبوش تلقى بعض الدروس بهذا الشأن. وهذه المرة لا حد لمفاجأته بشخصية شيراك الهجومية. ولا علاقة لأجواء هذه القمة بما سبقها من اجتماعات بينهما. الحرب المفتوحة بينهما، خلفها عصر آخر: عصر التحالف الفرنسي الأميركي السري. بوش يعلق: «إني أبصر بوضوح الطريق التي يجب إتباعها. انه مشروع مهم جدا. إنها لحظة عظيمة». 
وزيرا الخارجية والمستشارون الرئاسيون، الذين حضروا اللقاء، تعاهدوا على الاستمرار في الاطلاع معا على التطورات وتبادل المعلومات. كوندليسا رايس اقترحت إبلاغ تيري رود لارسن بما جرى: «كي يساهم في هذه الاستراتيجية، من دون أن يكون على صلة بلجنة التحقيق في الاغتيال». 
الضغوط والانسحاب 
ما هي نتائج اتفاق بروكسيل؟ البيت الأبيض والإليزيه ركبا موجة العداء العالية لسوريا التي كانت تغمر من دون توقف شوارع لبنان، كي يضاعفا الضغوط على دمشق. 
الرئيس السوري، معزولا ومنبوذا، اضطر إلى التراجع. في 6 آذار 2005 أعلن أمام برلمانه عزمه سحب القوات السورية من بلاد الأرز. «لن نستطيع البقاء في لبنان، إذا ما تحول بقاؤنا فيه إلى مصدر للانقسام بين اللبنانيين». 
على الفور، هاتف جورج بوش جاك شيراك، لتقييم مصداقية هذا التصريح: «السوريون سيقدمون تنازلات، سينسحبون جزئيا، لكنهم سيحاولون الحفاظ على القوة الأساسية من كتائبهم في لبنان»، بتقدير الرئيس شيراك، الذي نصح بعمل كل شيء لإقناع «حزب الله»، بأن يأخذ مسافة من سوريا، وكي لا تنتشر الفوضى التي تحوك سوريا خيوطها انطلاقا من المخيمات الفلسطينية. شيراك عرض مجددا توقعاته عن حظوظ بقاء الأسد على قيد الحياة سياسيا: «البعض يتحدث عن إحداث تغيير للنظام في سوريا، إن الكشف عن ذلك علنا سيخدم أهداف لعبة دمشق. إذا ما حصلنا على انسحاب من لبنان، وأفقدنا سوريا السيطرة على لبنان، فسينهار النظام السوري من تلقاء نفسه. هناك قوس شيعي اليوم، يمتد من إيران إلى لبنان، عابرا العراق فسوريا. لكن العلوييين أقلية. في سوريا المستقبل، ستأتي الديموقراطية بالمسلمين السنة والمسيحيين إلى السلطة، ما يدق إسفينا في القوس الشيعي». 
الخوف من التوسع الشيعي أصبح عقيدة جاك شيراك في نظرته إلى الشرق الأوسط. وبتكراره ذلك لجورج بوش، كان يأمل الحصول على دعم البيت الأبيض، حيث يشاطره النظرة والتحليل «المحافظون الجدد». بعد بضعة أسابيع سلم الرئيس الأسد تيري رود لارسن، خطة الانسحاب المفصلة لجنوده وعملاء مخابراته، التي تنتهي في الثلاثين من نيسان 2005. 
من جهته، أقر مجلس الأمن في السابع من نيسان إنشاء لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري، طبقا لتمنيات جاك شيراك. وكلف قاضياً ألمانياً مشهوراً، ديتليف ميليس بقيادتها. بالنسبة للمعارضة اللبنانية شكلت اللجنة والانسحاب السوري نصرا غير مسبوق: طويت صفحة الوصاية السورية المطلقة على لبنان بعد خمسة عشر عاما على فتحها. وكان على انتخابات أيار ـ حزيران أن تؤكد انتصار المعسكر المناهض لسوريا. 
الفرنسيون سيبذلون كل الجهود للحفاظ على الإجماع الذي ولد بعد موت الحريري. شيراك كان يهاتف سعد الحريري مرات عدة في الأسبوع الواحد. وتولى برنار إيمييه دور الوسيط الدائم بين الأحزاب اللبنانية. وعكف الدبلوماسيون الفرنسيون على رعاية قنوات اتصال مع «حزب الله» لإقناع هذا الحزب بالمشاركة في لعبة الانتخابات، والابتعاد عن دمشق. في السادس عشر من نيسان التقى الأمين العام لـ«حزب الله» سرا، برنار إيمييه. الحوار كان بناء رغم إصرار زعيم «حزب الله» على التشبث «بمقاومته» للتدخلات الإسرائيلية، وتأكيده أنه يجب عدم إضعاف سوريا. 
إن مضمون هذه المقابلة الشديدة الحساسية، تم نقله على الفور إلى الأميركيين، بموافقة الإليزيه. وبينما كان البيت الأبيض يعتزم وضع «حزب الله» على لائحة المنظمات الإرهابية، كانت رسالة الإليزيه واضحة: من الأفضل مراعاة «حزب الله» مؤقتا. ومن دون أن يغير رأيه في العمق، قرر البيت الأبيض أن يعمل بنصائح الإليزيه، وأن يتراجع عن وضع الحزب على لائحته الإرهابية. 
وتحضيرا لأحد تنقلاته المنتظمة إلى واشنطن، حرر مستشار جاك شيراك الدبلوماسي، موريس غوردو مونتاني، محضرا كاملا بالمواقف الفرنسية الأميركية في الملف اللبناني. البلدان يتقاسمان التحليل نفسه حول الوضع في لبنان: سيبقى هشا، كما يبقى خطر الهجمات قائما. «إن السفيرين الفرنسي والأميركي ومعاونيهما، مكشوفون»، يشدد غوردو مونتاني، «إن نشاطاتهم الدبلوماسية تلقى انتقادات قوية من قبل الصحافة والأحزاب الموالية لسوريا. وحتى «الأوريان لوجور»، تركز على نشاطهم وتنسيقهم الواسع. يجب أن يسهروا على أمنهم الشخصي والعائلي. وعلينا أن نتخذ جانب الحيطة والحذر. إن ما ساعدنا على انتزاع الانسحاب السوري، هو تدرج في العمل، مع تركيز على إعادة الديموقراطية والسيادة اللبنانية. إن كل توسع في طموحاتنا، أو كل محاولة لحث الخطى بالقوة، سيحطمان في الداخل وحدة المعارضة، وفي الخارج الإجماع العربي الذي سمح بعزل سوريا». 
رأت باريس وواشنطن أن دمشق لم تطبق القرار 1559 بحذافيره: لا بد من أن الاستمرار في الضغط. لكن بحسب مستشار الرئيس الدبلوماسي أن الحكم الجذري الذي يصدره الأميركيون على السوريين، يقوم على أسس بعيدة عن الأحداث الجارية في لبنان. ويمكن تلخيصه: «الأسد ليس إصلاحيا. ولا يمكن أن ننتظر شيئا منه. إن نظامه ليس قابلا للإصلاح. كما أن الأسد ليس بمأمن من انهيار نظامه، والشعب متشوق للتغيير». أما التحليل الفرنسي فمختلف بعض الشيء: «إن الصراع لم يبلغ نقطة الحسم بعد بين الإصلاحيين والمحافظين في سوريا. والأرجح أن يتخذ الأسد جانب الإصلاحيين، لكنه يرسل إشارات مناقضة، لذلك يجب تصديق ما يقوله، والحكم على أفعاله فقط. علينا أن نعيد الاتصال بدمشق، وربما كان ذلك مبكرا اليوم. إلا أنه لا بد منه في النهاية. إن تجاهل سوريا سيدفعها إلى التطرف». 
سلسلة الحجج الحذرة هذه، لا تزال دون ما يبوح به جاك شيراك في اللقاءات الخاصة، عن النهاية التي يتمناها لنظام الأسد. 
شيراك والمحاكمة الدولية 
تسهر واشنطن وباريس على هذا الملف كالسهر على حليب فوق النار. جاك شيراك كان يستعد ليستقبل كوندليسا رايس في الرابع عشر من تشرين الأول 2005. بينما يتهيأ ديتليف ميليس لتقديم النتائج الأولى لتحقيقاته في مقتل الحريري، بينما يعد تيري رود لارسن تقريره عن الانسحاب السوري. 
اللقاء يدور حول لبنان وسوريا: «الرئيس بوش يعتقد أن الوقت قد حان للتركيز على خطة العمل؟»، قالت وزيرة الخارجية الأميركية، «كيف ترى الأوضاع وما هي القرارات التي ينبغي اتخاذها؟». 
اللجوء إليه أسعد الرئيس الفرنسي. لأنه كان يخشى أن تشتت واشنطن جهودها في اتجاهات عدة، أو في خطة واسعة لتأمين المنطقة كلها: «يجب أن نمنح الأولوية المطلقة للبنان، لاستقلاله واستقراره وديموقراطيته. إن النتائج التي حصلنا عليها خلال أشهر، غنية بالدروس: شيئا فشيئا، يتضعضع النظام السوري، ولن يستطيع مقاومة ضغوط مزدوجة: لبنان المستقل المناهض لمشروع سوريا الكبرى من جهة، والتناقضات التي سيفجرها من جهة أخرى هذا المعطى في قلب السلطة الأقلوية. وانطلاقا من هذه الواقعة لا ينبغي السعي إلى تغيير النظام في دمشق، ولو لجأنا إلى ذلك فسنخسر الورقة الأساسية: الدعم الحالي للدول العربية الكبرى، ولا سيما مصر والسعودية... بالتأكيد فإن هذه الدول تتمنى تغييرا من هذا النوع، لكنهم يريدون أن يتحقق ذلك وحده من دون تدخل خارجي. لا يريدون أن يجدوا أنفسهم منخرطين في عملية لإسقاط نظام عربي بالقوة. لذا تجب معالجة القضية اللبنانية، في إطارها اللبناني فحسب». 
نرى بوضوح أن شيراك يثابر على الاقتناع بأن بشار الأسد سيسقط كثمرة ناضجة، يكفي الانتظار فقط. وبنظره فإن التحقيق الذي يقوده ديتلف ميليس، والذي لم يستطع القيام به بحرية في دمشق، سيساهم في زعزعة النظام. أما انتحار وزير الداخلية غازي كنعان في دمشق في الثاني عشر من تشرين الأول 2005، فليس سوى تأكيد لفرضية أن النظام بدأ يهترئ من الداخل. 
«إن تقرير ميليس سيكون قاسيا مع سوريا»، شرح شيراك لرايس. و«حتى لو لم نعرف على أي مستوى تقع المسؤوليات، فسيظهر التقرير أن دمشق لم تتعاون مع التحقيق، وأنها متورطة في اغتيال الحريري. في هذا السياق، لا بد من التمديد لمهمة ميليس، لقد تحول القاضي الألماني إلى تجسيد للعدالة والديموقراطية في لبنان. إن قناعته بالتورط السوري محسومة. وهو لا يصدق أن غازي كنعان قد انتحر، ويتساءل إذا لم تجر تصفيته. وقد طالب بأن يسمح لمحققيه بالذهاب إلى سوريا ومعاينة الجثة، والتأكد من أنها تعود إلى الجنرال كنعان، وجلاء ظروف موته. بالتأكيد لن يسمحوا له بذلك، لكنه مستعد لتمديد مهمته، وهي ضرورة نفسية وسياسية». 
ولشيراك أفكار أخرى لمواصلة التحقيق «يجب أن نقرر طريقة محاكمة المذنبين. محكمة دولية خاصة هي أفضل الحلول، لكننا لن نحصل عليها بالتأكيد. الروس والصينيون والجزائريون سيعارضون. كما أن الكلفة المالية ستردع عن تأليفها. وفي المقابل لا يمكن أن نترك العدالة اللبنانية وحيدة، وقضاتها فريسة للضغوط، أو هدفا للاغتيال إذا ما قضت الحاجة. إن ذلك سيكون قتلا للعدل. هناك حلول كثيرة. هناك نموذج محكمة «لوكربي» وقضاة دوليون يعملون تحت إمرة قاض محلي. يمكن تصور وصفات متعددة، لكن لا بد من الرد بسرعة على انتظار اللبنانيين، ولن يفهم (يقبل) اللبنانيون ألا يحدث شيء». 
وعمليا، أوصى شيراك بأن يتبنّى مجلس الأمن بسرعة قرارا جديدا بهذا الشأن «ينبغي اتخاذ إجراءات تضغط على سوريا، وعلى لبنان أيضا، حيث من الممكن أن يكون الرئيس لحود متورطا، على الأقل من خلال نظام الفساد الذي يحيط به، والذي يشكل هو أحد أعمدته. إذا ما تبنينا بالإجماع قرارا واضحا، يتضمن إنذارات وعقوبات لسوريا، فستكون له نتائج عظيمة، وقد تؤدي إلى سقوط النظام. إن هذا قد يكون نتيجة وليس شرطا مسبقا». 
أظهرت كوندليسا رايس اهتماما بالعرض. ورأت أن تقرير تيري رود لارسن سيخلص إلى أن سوريا لم تحترم القرار 1559 بتسليحها المخيمات الفلسطينية. وبدت لها هذه المسألة بحاجة إلى معالجة سريعة، بالقدر الذي تحتاج إليه تداعيات تقرير ميليس. وقالت: «إن الرئيس المصري مبارك قلق جدا لهذه التطورات، وقد تكون لها نتائج على الأمن في غزة. وهذا ملف يهم مصر عن قرب. محمود عباس غاضب أيضا، فالأسد لا يخفي ما يفعل: وهو يستعرض على الشاشة وإلى جانبه قادة الفصائل المنشقة. إن هذا التصرف يجب ألا يبقى من دون عقاب». 
وهكذا عادت وزيرة الخارجية الأميركية إلى الهجوم على التراخي السوري في أدائه على الحدود مع العراق. «يسقط يوميا جنود أميركيون ومدنيون عراقيون أبرياء برصاص الإرهابيين والانتحاريين، الذين يأتون من العالم العربي بأسره، إلى مطار دمشق، ويعبرون دون مشقة الحدود السورية العراقية. نقوم بعمليات عسكرية، لكن يجب قطع تموينهم ووصول مجموعات الانتحاريين، لا يمكن أن تبقى الأسرة الدولية صامتة، لدينا مشكلة، ونحتاج إلى دعم فرنسا لنغير سلوك سوريا. إن تغيير النظام ليس أولويتنا. إذا استطعنا الحصول على نتائج مع الأسد، فلا بأس، وإلا فيجب أن نتحرك». 
تتمنى كوندليسا رايس الذهاب أبعد من مجرد قرار لمتابعة التحقيق في اغتيال الحريري «لا نستطيع الانتظار عاما أو عامين». 
اعترف شيراك بأن رايس محقة بصدد المساعدة التي يقدمها الأسد للفصائل الفلسطينية المنشقة والمجموعات الانتحارية: «من الواضح أن الأسد يسهل عملية نقلهم، هذا إن لم يدفع لهم...». لكن خشية الرئيس الفرنسي الأولى، هي أن يؤدي خلط القضية إلى انقسام الجبهة الدبلوماسية. وبالنسبة للرئيس الفرنسي، لا بد من الضرب بقوة، ويكفي لذلك قرار واحد: «إن النظام السوري يعاني زعزعة أكثر مما يبدو، وهو هش أكثر مما نتصور، ويطرح الرأي العام السوري أسئلة كثيرة، عن مواقف حكامه، وإذا ما شعر الأسد بأنه مهدد فسيلجأ إلى العنف الإرهابي. إن ذلك في ثقافته. أن الوضع اليوم كان قائما في عهد والده، الذي كان أكثر ذكاء وخبرة. إن هذا الوضع سيدوم ما دام النظام، ينبغي أن ينهار، لكن من تلقاء نفسه فحسب». 
في نهاية هذا الحوار، اقترحت كوندليسا رايس العمل بالتوازي على قرارين: الأول يعاقب سوريا على عدم تعاونها مع ميليس في التحقيق باغتيال الحريري، والآخر يتعلق بأعمال سوريا الأخرى، لكن بعد صدور تقرير رود لارسن. 
كانت الشكوك لا تزال تنتاب جاك شيراك، لكنه وافق على أن النقاش يستحق منحه المزيد من الوقت، من خلال الاستئناس برأي الرئيس الجزائري الذي كان ينشط في كواليس هذه القضية. 
غوردو مونتاني الذي حضر اللقاء بين شيراك وكوندليسا رايس، حذرها «مع مشروعكم لاستصدار قرارين، يجب ألا يتكرر ما حدث في العراق، لنتلافى الخلافات، ليكن تقدمنا مرحلة بعد أخرى». تحتفظ باريس بذكريات سيئة عن خلافاتها مع واشـنطن عام 2003، ولا ترغب بالعودة إلى مواجهتها مجددا. 
صمد التحالف الفرنسي الأميركي. في الأول من تشرين الثاني 2005، أصدر مجلس الأمن قراراً يطالب دمشق بتعاون أفضل مع لجنة ميليس، التي قدمت، كما كان متوقعا تقريرا اتهاميا لسوريا. وبعدها بأسابيع تقدمت الحكومة اللبنانية رسميا بطلب إلى مجلس الأمن، لاستحداث محكمة دولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري واثنين وعشرين من رفاقه. جاء الطلب مدعوما من باريس وواشنطن. تمت الاستجابة له بقرار صدر عن مجلس الأمن في 29 آذار 2006. 
لكن هجوم إسرائيل على لبنان في 13 تموز 2006، بعد أسر حزب الله اثنين من جنودها، سمح لسيد دمشق بأن يتنفس الصعداء. الإليزيه رأى في ذلك مناورة ذكية، قادها بشار الأسد، بدعم من حلفائه في «حزب الله»: «يبحث الأسد عبر التسبب بأزمة إقليمية، عن العودة محاورا ضروريا، والتملص من الضغوط»، كما جاء في أفكار دونها مستشارو شيراك، تمهيدا لمحادثة هاتفية مع بوش. 
القوى العظمى وجدت نفسها مكرهة على محاولة وقف الانفجارات الجديدة. في زيارة باريس، وخلال وجودها في مكتب نظيرها الفرنسي فيليب دوست بلازي، خاطبت كوندليسا رايس، وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني بالهاتف «إنك ترتكبين حماقة كبيرة». وفي الوقت نفسه، كان موريس غوردو مونتاني يحاول تهدئة الأمور، بإكثار المكالمات مع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت. وكان الدبلوماسيون يعكفون على تسطير مشروع قرار لمجلس الأمن، يدعو إلى انتشار الجيش اللبناني، بمساعدة القوات الدولية في جنوب لبنان. القرار تم تبنيه بالإجماع في 11 آب 2006. «كنا على توافق تام مع الأميركيين لمساعدة الحكومة اللبنانية، على استعادة سيادتها وعملنا من أجل ذلك ليل نهار»، يتذكر بيار فيمون رئيس مكتب وزير الخارجية دوست بلازي. 
أُكرهت إسرائيل على التراجع، بعد حملة عسكرية فاشلة في مواجهة «حزب الله» المجهز تجهيزا جيدا. وبعد طوفان النار، أرخى العمل المشترك بين الاليزيه والبيت الأبيض الطوق قليلا عن لبنان. «ما زلت قلقا من موقف سوريا المعادي، يجب أن نضغط على إسرائيل كي توقف طلعاتها الجوية فوق لبنان، التي تعد استفزازا»، قال شيراك لبوش في 27 تشرين الثاني 2006. «إن بلدينا يعملان في لبنان يدا بيد منذ وقت طويل، ويجب أن نواصل ذلك»، أجاب بوش. 
تم تنظيم مؤتمر للمانحين لإعادة إعمار لبنان في كانون الثاني 2007، برعاية باريس وواشنطن، وعلى هامش المؤتمر، وجد شيراك فرصته الأخيرة للتحدث في الخلافات مع كوندليسا رايس حول هذا الملف الحساس. بلاد الأرز تنفست قليلا، لكن قتلة الحريري لا يزالون أحرارا. أما بشار الأسد فلا يزال في مكانه في دمشق. وبخلاف التمنيات التي لم يتوقف شيراك عن تكرارها، لم يسقط نظامه. أكثر ذكاء من أي وقت مضى، قدم الرئيس السوري التنازلات في الوقت المناسب، وانحنى ريثما تعبر العاصفة التي هبت عليه. لا بل قد استطاع، وبالتدرج اختراق العزلة الدولية بدءا من حزيران 2007، عندما بسط له الرئيس الجديد ساركوزي يده، طاويا صفحة الحدة الشيراكية، ذات الفعالية المحدودة جدا. 

محمد بلوط باريس: السفير 
09 نوفمبر 2010

0 تعليقات::

إرسال تعليق